شيخ الإسلام وسلطان العلماء عز الدين ابن عبد السلام هو عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام شيخ الإسلام السلمى الدمشقى الشافعى ( 587 ـ 660 هـ(. درس وأفتى ، وصنف ، وبرع فى المذهب ، وبلغ رتبة الاجتهاد ، وقصده الطلبة من البلاد ، وتخرج به أئمة، وله الفتاوى السديدة. كان ناسكاً ، ورعاً ، آمراً بالمعروف ، نهاءاً عن المنكر ، وكان مع شدته فيه حسن محاضرة بالنادرة والشعر. قال العلامة ابن السبكى فى طبقات الشافعية الكبرى : " قال شيخ الإسلام ابن دقيق العيد : كان ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء . وعن الشيخ جمال الدين ابن الحاجب أنه قال : ابن عبد السلام أفقه من الغزالى . وحكى القاضى عز الديـن الهكارى ابن خطيب الأشمونين فى مصنف له ذكر فيه سيرة الشيخ عز الدين : أن الشيخ عز الدين أفتى مرة بشيء ثم ظهر له أنه خطأ فنادى فى مصر والقاهرة على نفسه من أفتى له فلان بكذا فلا يعمل به فإنه خطأ. وذكر أن الشيخ عز الدين لبس خرقة التصوف من الشيخ شهاب الدين السهروردى ، وأخذ عنه ، وذكر أنه كان يقرأ بين يديه رسالة القشيرى فحضره مرة الشيخ أبو العباس المرسى لما قدم من الإسكندرية إلى القاهرة ، فقال له الشيخ عز الدين : تكلم على هذا الفصل. فأخذ المرسى يتكلم والشيخ عز الدين يزحف فى الحلقة ويقول : اسمعوا هذا الكلام الذى هو حديث عهد بربه. وقد كانت للشيخ عز الدين اليد الطولى فى التصوف وتصانيفه قاضية بذلك. ذكر واقعة التتار وما كان من سلطان العلماء فيها :- وحاصلها أن التتار لما دهمت البلاد عقيب واقعة بغداد - التى سنشرحها إن شاء الله تعالى فى ترجمة الحافظ زكى الدين - وجبن أهل مصر عنهم وضاقت بالسلطان وعساكره الأرض ، استشاروا الشيخ عز الدين رحمه الله فقال : اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر ، فقال السلطان له : إن المال فى خزانتى قليل وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار ، فقال له الشيخ عز الدين : إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك ، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلى الحرام وضربته سكة ونقدا وفرقته فى الجيش ولم يقم بكفايتهم ، ذلك الوقت اطلب القرض وأما قبل ذلك فلا ، فأحضر السلطان والعسكر كلهم ما عندهم من ذلك بين يدى الشيخ ، وكان الشيخ له عظمة عندهم وهيبة بحيث لا يستطيعون مخالفته ، فامتثلوا أمره فانتصروا. ومما يدل على منزلته الرفيعة عندهم أن الملك الظاهر بيبرس لم يبايع واحداً من الخليفة المستنصر والخليفة الحاكم إلا بعد أن تقدمه الشيخ عز الدين للمبايعة ثم بعده السلطان ثم القضاة. ولما مرت جنازة الشيخ عز الدين تحت القلعة وشاهد الملك الظاهر كثرة الخلق الذين معها ، قال لبعض خواصه : اليوم استقر أمرى فى الملك لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس اخرجوا عليه لانتزع الملك مني. ذكر واقعة الفرنج على دمياط :- وكانوا قبل ذلك قد وصلوا إلى المنصورة فى المراكب واستظهروا على المسلمين، وكان الشيخ مع العسكر وقويت الريح ، فلما رأى الشيخ حال المسلمين نادى بأعلى صوته مشيرا بيده إلى الريح : يا ريح خذيهم ( عدة مرار ) فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها وكان الفتح ، وغرق أكثر الفرنج ، وصرخ من بين يدى المسلمين صارخ الحمد لله الذى أرانا فى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم رجلا سخر له الريح. ذكر كائنة الشيخ مع أمراء الدولة من الأتراك :- وهم جماعة ذكر أن الشيخ لم يثبت عنده أنهم أحرار ، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين ، فبلغهم ذلك فعظم الخطب عندهم فيه وأضرم الأمر والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعا ولا شراء ولا نكاحا وتعطلت مصالحهم بذلك. وكان من جملتهم نائب السلطنة فاستشاط غضبا ، فاجتمعوا وأرسلوا إليه فقال : نعقد لكم مجلسا وينادى عليكم لبيت مال المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي. فرفعوا الأمر إلى السلطان ، فبعث إليه فلم يرجع ، فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة حاصلها الإنكار على الشيخ فى دخوله فى هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به. فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار وأركب عائلته على حمار آخر ومشى خلفهم خارجا من القاهرة قاصدا نحو الشام ، فلم يصل إلى نحو نصف بريد إلا وقد لحقه غالب المسلمين ، لم تكد امرأة ولا صبى ولا رجل لا يؤبه إليه يتخلف لا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم ، فبلغ السلطان الخبر وقيل له متى راح ذهب ملكك ؛ فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه فرجع ، واتفقوا معهم على أنه ينادى على الأمراء ، فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه ، فانزعج النائب وقال : كيف ينادى علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض ، والله لأضربنه بسيفى هذا. فركب بنفسه فى جماعته وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول فى يده فطرق الباب فخرج ولد الشيخ أظنه عبد اللطيف فرأى من نائب السلطنة ما رأى فعاد إلى أبيه وشرح له الحال ، فما اكترث لذلك ولا تغير وقال : يا ولدى أبوك أقل من أن يقتل فى سبيل الله ، ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة ، فحين وقع بصره على النائب يبست يد النائب وسقط السيف منها وأرعدت مفاصله ، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له وقال : يا سيدى خبر إيش تعمل ؟ ، قال : أنادى عليكم وأبيعكم. قال : ففيم تصرف ثمننا ؟ قال : فى مصالح المسلمين. قال : من يقبضه ؟ قال : أنا. فتم له ما أراد ، ونادى على الأمراء واحداً واحد ، وغالى فى ثمنهم وقبضه وصرفه فى وجوه الخير . وهذا ما لم يسمع بمثله عن أحد رحمه الله تعالى ورضى عنه. كلام ابن السبكى رحمه الله. وقال الحافظ المناوى فى الكواكب الدرية (2/448) " وكان يحضر السماع ويتواجد. قال الشيخ عبد الله اليافعى : وهذا من أقوى الحجج على من ينكر الرقص من الفقهاء على أهل السماع من الفقراء ". انتهى كلام اليافعي. ولما كان بدمشق سمع من الحنابلة أذى كثيراً. ومن مصنفاته : القواعد الكبرى، والقواعد الصغرى ، ومقاصد الرعاية ، واختصر نهاية المطالب ، وغير ذلك. وكان عالماً ، بارعاً مفنناً ، شاع ذكره وعلا صيته حتى قيل فى المثل : أنت من العوام ولو كنت ابن عبد السلام. وكان من المشهود له بالعلم والصلاح الجلالة والوجاهة والاحترام وهو الذى أرسل النبى صلى الله عليه وآله وسلّم إليه السلام مع الولى الشاذلى. وكان أول الأمر ينكر على الصوفية , فلما اجتمع بالشاذلى صار يمدحهم , ودخل فى عدادهم. قال الإمام السيوطى رحمه الله تعالى فى ترجمة العز : " له كرامات كثيرة ولبس خرقة التصوف من الشهاب السهروردى ، وكان يحضر عند الشيخ أبى الحسن الشاذلى ، ويسمع كلامه فى الحقيقة ويعظمه ". قال ابن شاكر الكتبى : " يحضر السماع ويرقص ويتواجد " . قال سلطان العلماء فى كتابه قواعد الأحكام فى مصالح الأنام : " الضرب الثانى علوم إلهامية يكشف بها عما فى القلوب ، فيرى أحدهم بعينيه من الغائبات ما لم تجر العادة بسماع مثله ، وكذلك شمه ومسه ولمسه ، وكذلك يدرك بقلبه علوما متعلقة بالأكوان. وقد رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، ومنهم من يرى الملائكة والشياطين والبلاد النائية بل ينظر إلى ما تحت الثرى ، ومنهم من يرى السماوات وأفلاكها وكواكبها وشمسها وقمرها على ما هى عليه ، ومنهم من يرى اللوح المحفوظ ويقرأ ما فيه ، وكذلك يسمع أحدهم صرير الأقلام وأصوات الملائكة والجان ، ويفهم أحدهم منطق الطير ، فسبحان من أعزهم وأدناهم وأذل آخرين وأقصاهم ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ". وقال رحمه الله فى نفس الكتاب : فصل فى معرفة الفضائل " الفضائل بالمعارف والأحوال وما يتبعهما من الأقوال والأعمال ولقد نال الأنبياء من ذلك أفضل منال، فورث عنهم العارفون بعض المعارف والأحوال ، وورث عنهم العارفون التقرب بالأقوال والأعمال ، وورث عنهم الفقهاء التقرب بمعرفة الأحكام المتعلقة بالجوارح والأبدان ، وورث عنهم أهل الطريقة الأحكام المتعلقة بالبواطن ، وورث عنهم الزهاد الترك والإقلال ، واختص الأنبياء بمعارف لا تدرك بنظر العقول لا بضرورتها واختصوا بالأحوال المبنية على تلك المعارف ، ولعل بعض الأولياء والأبدال ورثوا أشياء من ذلك ، وكذلك اختص الأنبياء بالمعجزات والكرامات ، وشاركهم الأولياء فى بعض الكرامات والمعارف والأحوال خير من الكرامات وخرق العادات ؛ لتعلق المعارف بالله ، وتعلق الكرامات بخرق العادات فى بعض المخلوقات ، وفرق بين ما تعلق برب الأرض والسماوات وبين ما تعلق بفك اطراد العادات من النظر إلى رب الأرباب ومالك الرقاب ، من النظر إلى من هو ستر وحجاب بين القلوب وبين الملك الوهاب ، وكفى بالغفلة عن الله عقابا " .
_________________ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ
|