الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا معنا اليوم الحكمة السابعة والتسعون بعد المائة من الحكم العطائية لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى :
( العبارة قوت لعائلة قلوب المستمعين , وليس لك منها إلا ما أنت له آكل )
العائل هو الفقير والعائلة جمع له فعبارة العارفين قوت لقلوب الفقراء الطالبين لزيادة إيقان قلوبهم ومشاهدة محبوبهم فلا يزالون في حضانة الشيوخ وعيالهم حتى يكمل إيقانهم وترشد أحوالهم , فحينئذ يستقلون بأنفسهم وعلامة رشدهم أنهم يأخذون النصيب من كل شيء , ولا ينقص من حالهم شئ , يفهمون عن الله في كل شيء , ويعرفون في كل شئ , ويشربون من كل شئ , فإذا كانوا كذلك فقد استقلوا بأنفسهم , وتأهلوا لارشاد غيرهم .
قال بعض الحكماء : من لم يفهم صرير الباب , ولا طنين الذباب ولا نبيح الكلاب , فليس من ذوي الألباب . وأما من لم يبلغ هذا المقام فلا بد أن يلزم العش في حضانة من يرزقه ويطعمه , فإذا طار من العش قبل تربية الجناح اصطادته الكلاب والبيزان , ولعبت به النساء والصبيان فإذا كان في عش الشيخ وكان يطعمه مع غيره فليس له من القوت إلا ما يقدر أن يأكله وإلا قتله , فليس طعام الصبي الصغير كطعام الرجل الكبير , وكذلك عبارة الشيوخ للمريدين كل واحد يأخذ ما يليق بحاله , فالشيوخ يذكرون في الجملة , فيذكرون أحوال البدايات والنهايات والوسط وكل واحد يأخذ ما يليق به :
{ قد علم كل أناس مشربهم }
فلا يتعلق المبتدى بمذاكرة المنتهي فيفسد , كما إذا كل الطفل الصغير طعام الكبير يقف في حلقه , وإذا أكل الكبير طعام الصغير لا يشبعه , هذا معنى قول الشيخ : وليس لك منها إلا ما أنت له آكل : أي ليس لك من قوت العبارة إلا ما أنت قادر على آكل وإلا غصصت به والله تعالى أعلم .
وقد سألني بعض الإخوان عن قوت الروحانية والبشرية . فقلت : قوت البشرية معلوم , وقوت الروحانية على وزان قوت البشرية , فالصبي لا يطيق الطعام الخشن حتى يكبر, كذلك الروح تربى شيئاً فشيئاً , فتطعم أولا ذكر اللسان فقط , ثم ذكر القلب مع اللسان , ثم ذكر القلب فقط , ثم ذكر الروح وهو الفكرة ثم ذكر السر وهو النظرة , ثم تأكل كل شيء وتشرب من كل شيء حتى تسرط الكون بأسره ( أى ابتلعه وسار سيراً سهلاً ) فلو أعطيتها الفكرة أو النظرة الذي هو طعام الرجال أول مرة وهي في مقام الأطفال للفظته وطرحته , فإذا بلغت الروح أن تأكل كل شيء وتشرب من كل شيء , فقد صح لها أن تطير في الملكوت الأعلى وتذهب حيث تشاء .
وقد يختلف الشرب لجماعة من آنية واحدة لاختلاف مقامهم كقضية الرجال الذين سمعوا قائلاً يقول : يا سعتر برى , وذلك أن رجلاً في الصفا بمكة صاح يا سعتر برى لرجل آخر كان اسمه ذلك فسمعه الثلاثة , فكل واحد تعلق بذهنه ما يليق بحاله فسمع أحدهم الساعة ترى برى , وسمع الآخر: اسع تري برى وسمع الثالث : ما أوسع بري فالأول كان مستشرفاً والثاني مبتدياً , والثالث كان واصلاً وكذلك قضية ابن الجوزى كان يقرأ ببغداد اثني عشر علماً فخرج يوماً لبعض شؤنه , فسمع قائلاً يقول :
إذا العشورن من شعبان ولت ... فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار ... فقد ضاق الزمان على الصغار
فخرج هائماً على وجهه إلى مكة , فلم يزل يعبد الله بها حتى مات رحمه الله , ففهم من الشاعر انصراف العمر وضيق زمان الدنيا كله .
قال في لطائف المنن : واعلم أن هذه المفهومات المعنوية الخارجة عن الفهم الظاهر ليست بإحالة اللفظ عن مفهومه , بل هو فهم زائد على الفهم العام يهبه الله لهذه الطائفة من أرباب القلوب , وهو من باطن الحكم المندرج في ظاهره اندراج النبات في الحبة , وذلك أن المدد النوراني والفتح الرباني يتصل بعضه ببعض إلى الطرف الظاهر حيث انتهت القوة انتهى الإدراك , فربما فهموا ما يوافق ظاهر المعنى الباطنية , وربما خالفه من جهة ما , وربما كان الفهم بعكس ظاهره .
وقد كان الشيخ مكين الدين بن الأسمر رضي الله عنه ممن يشهد له الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه بالولاية الكبرى والمكاشفة العظمى فانشد إنسان في مجلسه :
لو كان لي مسعد بالراح يسعدني ... لما انتظرت لشرب الراح إفطاراً الراح شيء شريف أنت شاربه ... فاشرب ولو حمّلتك الراح أوزارا يا من يلوم على صهباء صافية ... خذ الجنان ودعني أسكن النارا
فقال بعض فقهاء الظاهر : لا يجوز قراءة هذه الأبيات , فقال الشيخ مكين الدين : قل دعه فإنه رجل محجوب , يعني أنه لا يفهم إلا الشراب الحسى دون المعنوي وهو جمود , والله تعالى أعلم .
ثم إن العبارة لا تدل على حال المعبر , فقد يكون فوق ما يقول وقد يكون دونما يقول .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
|