الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا معنا اليوم الحكمة المائتان وسبعة من الحكم العطائية لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى :
( ربما وردت الظلم عليك ليعرفك قدر ما منّ به عليك )
لا شك أن نيل الشيء بعد الطلب , ألذ واعز من المساق بغير تعب , والمحبة بعد القطيعة أحلى من المحبة بلا قطيعة , والصفاء بعد الجفاء أصفى من الصفاء بلا جفاء , وفطام النفس عن مألوفاتها وعوائدها أشد معالجة من النفس السلسة المنقادة من غير تعب , فيكون الأجر أو القدر على قدر التعب فهذه حكمة تقديم ورود الغفلة والشهوة على العبد , ثم ينقذه منها ليعلم قدر هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه , فربما أورد عليك أيها الإنسان الحق تعالى الظلم جمع ظلمة وهي الاغيار والأكدار, وحب الشهوات والعوائد فتغرق في بحارها وتسجن في سجون ظلماتها , ثم ينقذك منها في ساعة واحدة , وذلك لتعرف بعد الفتح قدر ما من الله به عليك , فتزداد محبة وسكراً , وبعظم السر عندك محلا وقدرا لنعمة التي من الله بها عليهم وكذلك جنة العارف محفوفة بالمكاره , ليعرف العارف قدر السر الذي كشف به , الخير الذي منحه الله إياه .
واعلم أن هذه الظلم التي ترد على القلوب فتحجبها عن علام الغيوب , هي ناشئة بحكمة الله من الدنيا والنفس والشيطان , فمن زهد في الدنيا وغاب عن نفسه وأطلق يده منها وذكر الله حتى احترق الشيطان وذاب دخل مع الأحباب وفتح له عن علم الغيوب الباب .
قال بعض الحكماء : واعلم أن الصانع البديع سبحانه لما خلق القلب جعله خزانة أسراره , ومعدن أنواره , وموضع نظره من عبده , ولم يخلق الله في الوجود أشرف منه , ثم رمي على باب القلب أخس الأشياء وأقذرها , لتقتضي حكمته اجتماع الأضداد التي لا قدرة لغيره على ذلك , فطرح على باب القلب جيفة وكلبا ينهش فيها وهما الدنيا والشيطان , فمن أراد الدخول لخزانة سر الله لا بد له من تغميض عينه عن هذه القذرة وإعراضه عن الكلب , لأنه لا سبيل له على من أعرض عنه وعن جيفته وكل من التفت عليها سلب النور الذي أراد الله به الدخول لبيت قلبه , وكان له ذلك كالطلسم على الكنز منعه منه لا محالة اهـ
وقيل أن الدنيا بنت الشيطان , وطالب الدينا صهر إبليس والأب لا ينفك عن بنته أبدا ما دامت البنت في عصمة الصهر .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله بعبده خيرا زهده في الدنيا ورغبة في الأخرى وبصره بعيوب , نفسه قيل يا رسول الله أى الناس شر؟ قال الأغنياء يعني البخلاء ثم قال عليه الصلاة والسلام : ومن عظم غنياً لأجل غناه كان عند الله كعابد وثن , ومن أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة سنة " اهـ
وأوحى الله الى موسى عليه السلام : ما أحبني من أحب المال وما أحبني من أحب الدنيا , فإنه لا يسع في قلب واحد حبى وحبها أبدا . يا موسى ما خافني من خاف الخلق , وما توكل على من خاف فوات الرزق , وعزتي وجلالي ما توكل على عبد إلا كفيته وبيدي مفاتح الملك والملكوت , وما اعتصم بي عبد إلا أدخلته الجنة وكفيته كل مهمة , ومن اعتصم بغيري قطعت عنه الأسباب من فوقه , واسخت الأرض من تحته , ولا أبالي كيف أهلكته . يا موسى خمس كلمات ختمت لك بها التوارة , أن عملت بهن نفعك العلم كله , وإلا لم ينفعك شيء منه : الأولى : كن واثقاً برزقى المضمون لك ما دامت خزائنى مملوءة وخزائني مملوءة لا تنفد أبداً . الثانية : لا تخافن ذا سلطان ما دام سلطاني , وسلطاني دائم لا يزول أبداً . الثالثة : لا ترى عيب غيرك ما دام فيك عيب , والعبد لا يخلو من عيب أبداً . الرابعة : لا تدع محاربة الشيطان ما دام روحك في جسدك , فإنه لا يدع محاربتك أبداً . الخامسة : لا تأمن مكري حتى ترى نفسك في الجنة , وفي الجنة أصاب آدم ما أصاب فلا تأمن مكري أبداً اهـ
وهذا كله تشريع لغيره , والأنبياء كلهم مطهرون معصومون وكل ما ورد فيهم من التعليم والتربية فالمراد به غيرهم وبالله التوفيق . ثم من من الله عليه فأخرجه من أسر نفسه , وأطلقه من سجن غفلته فلم يعرف هذه النعمة سلبها من ساعته .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
|