الحمد لله والصلاة والسلام علي سيدنا رسول الله وعلي آله وسلم تسليما كثيرا
معنا اليوم الحكمة التاسعة والأربعون من حكم سيدي ابن عطاء الله السكندري وهي :
( حسن العمل نتائج حسن الأحوال , وحسن الأحوال من التحقق فى مقامات الإنزال )
الأعمال : حركة الجسم بالمجاهدة والأحوال : حركة القلب بالمكابدة والمقامات : سكون القلب بالطمأنينة , مثال ذلك مقام الزهد مثلا فإنه يكون أولا عمله مجاهدة بترك الدنيا وأسبابها , ثم يكون مكابدة بالصبر علي الفاقة حتى يصير حالا , ثم يسكن القلب ويذوق حلاوته فيصير مقاما وكذلك التوكل يكون مجاهدة بترك الأسباب , ثم يكون مكابدة بالصبر علي مرارة تصرفات الأقدار , ثم يصير حالا , ثم يسكن القلب فيه ويذوقه فيصير مقاما , وكذلك المعرفة تكون مجاهدة بالعمل في الظاهرة كخرق العوائد من نفسه , ثم تكون مكابدة بالمعرفة والإقرار عند التعرفات , ثم تصير حالا فإذا سكنت الروح في الشهود وتمكنت صارت مقاما فالأحوال مواهب , والمقامات مكاسب , يعني أن الأحوال مواهب من الله جزاء لثواب الأعمال , فإذا دام العمل واتصل الحال صار مقاماً فالأحوال تتحول وتذهب وتجىء , فإذا سكن القلب فى ذلك المعنى صار مقاماً وهو مكتسب من دوام العمل . وأعلم أن المقام والحال لكل واحد علم وعمل , فالمقام يتعلق به العلم أولاً ثم يسعى فى عمله حتى يكون حالاً , ثم يصير مقاماً وكذلك الحال يتعلق به العلم اولاً , ثم العمل , ثم يصير مقاماً حالاً والله تعالى اعلم . فعلامة التحقق بقامات الإنزال , هو حسن الحال وعلامة حسن الحال هو حسن العمل فإتقان الأعمال وحسنها هو ثمرة ونتيجة حسن الأحوال وحسن الأحوال وإتقانها هو نتيجة التحقق بمقامات الإنزال أى التحقق بالإنزال فى المقامات . أو تقول : حسن الأحوال دليل على التحقق بالمقامات التى ينزل الله عبده فيها وحسن الأعمال دليل على حسن الأحوال . والتحقق بالحال والسكون فى المقام أمر باطنى , ويظهر أثره فى عمل الجوارح .
والحاصل : أن حركة القالب تدل على صلاح القلب أو فساده لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله , ألا وهى القلب " .
فإذا تحقق القلب بالزهد مثلا وصار له حالا أو مقاما , ظهر ذلك علي جوارحه من الثقة بالله والأعتماد عليه , وقلة الحركة عند الأسباب المحركة لقوله صلي الله عليه وسلم : " ليس الزهد بتحريم الحلال ولا بإضاعة المال , إنما الزهد ان تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك "
ولذلك قال أبو حفص رضي الله عنه : حسن أدب الظاهر عنوان حسن أدب الباطن , فإن النبي صلي الله عليه وسلم قال : ( لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ) اه
وأفضل الأعمال التي يقطع بها المريد المقامات وأقربها هو ذكر الله ولذلك ذكره بأثره فقال : لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه , لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره , فعسي أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلي ذكر مع وجود يقظة , ومن ذكر مع وجود يقظة إلي ذكر مع وجود حضور , ومن ذكر مع وجود حضور إلي ذكر مع غيبة عما سوى المذكور وما ذلك علي الله بعزيز . وأنشدوا في ذلك فقالوا : والذكر أعظم باب أنت داخله *** لله فاجعل له الأنفاس حراسا
فبقدر ما يفني في الأسم يفني في الذات وبقدر ما يفتر في الفناء في الأسم يكون متفترا في الفناء في الذات , فيلتزم المريد الذكر علي كل حال ولا يترك الذكر باللسان لعدم حضور قلبه فيه قيل لبعضهم : ما لنا نذكر الله باللسان والقلب غافل ؟ فقال أشكر الله علي ما وفق من ذكر اللسان , ولو أشغله بالغيبة ما كنت تفعل .
فليلزم الإنسان ذكر اللسان حتي يفتح الله في ذكر الجنان , فعسي أن ينقلك الحق تعالي من ذكر مع وجود غفلة إلي ذكر مع وجود يقظة , أي انتباه لمعاني الذكر عند الأشتغال به , ومن ذكر مع يقظة إلي ذكر مع وجود حضور المذكور وأرتسامه في الخيال , حتي يطمئن القلب بذكر الله ويكون حاضرا بقلبه مع دوام ذكره , وهذا هو ذكر الخواص والأول ذكر العوام .
فإن دمت علي ذكر الحضور رفعك إلي ذكر مع الغيبة عما سوا المذكور لما يغمر قلبك من النور , وربما يعظم قرب نور المذكور فيغرق في النور حتي يغيب عما سوى المذكور , حتي يصير الذاكر مذكورا , والطالب مطلوبا والواصل موصولا . ( وما ذلك علي الله بعزيز ) . قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : حقيقة الذكر الإنقطاع عن الذكر إلي المذكور وعن كل شيء سواه لقوله تعالي : ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ) وفي هذا المقام يتحقق المريد بعبادة الفكرة أو النظرة , وفكرة ساعة خير من عبادة سبعين سنة ولذلك قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : أوقاتنا كلها ليلة القدر : أي عبادتنا كلها مضاعفة مع خفائها وتحقيق الإخلاص فيها , إذ لا يطلع عليها ملك فيكتبه , ولا شيطان فيفسده . وفي ذلك قال الحلاج : قلوب العارفين لها عيون *** تري ما لا يري للناظرينا وألسنة بأسرار تناجي *** تغيب عن الكرام الكاتبينا وأجنحة تطير بغير ريش *** إلي ملكوت رب العالمينا
وصل اللهم علي سيدنا محمد وعلي آله وسلم تسليما كثيرا [/color]
|