موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 123 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1, 2, 3, 4, 5, 6, 7, 8, 9  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين أكتوبر 22, 2012 7:08 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث السابع

حدثنا شيخنا المقري الإمام الصالح القاضي أبو الفضل علي الواسطي القرشي رضي الله عنه : قال: قرأت أنا وسديد الدولة محمد بن عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم بن عبد القاهر بن زيد بن رفاعة الشيباني ويعرف بابن الأنباري على أبي عبد الله بن أحمد ابن عمر الحافظ قلنا: أنباك أبوالحسين أحمد بن محمد فأقر به قال: أنبأنا الحسين محمد ابن عبد الله الدقاق عن يحيى بن محمد إسحاق بن شاهين عن خالد بن عبدالله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى عز وجل يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا ، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ، وأن ُتناصحوا من ولاه الله أمركم ، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال "

وفي هذا الحديث الشريف من رقائق أحكام المعرفة بالله ، ما يكفي العارف عن غيره ، فإن الأسرار المطلوبة فيه هي سلم المصطَفين الأخيار إلى الله تعالى.

أي سادة ، إن لله تعالى عبادًا اصطفاهم لمعرفته ، وخصهم بمحبته ، واختارهم لصحبته ، واجتباهم لمؤانسته ، وقربهم لمناجاته ، وحرضهم على ذكره ، وأنطقهم بحكمته ، وأذاقهم من كأس محبته ، وفضلهم على جميع خلقه حتى لم يريدوا به بدلاً ولا سواه كفيلاً ، ولا دونه ناصرًا ومعينًا ووكيلاً ، ولقد سبقوا من دونهم سبقًا لا بكثرة الأعمال ، ولكن بصحة الإرادات ، وحسن اليقين ، مع دقائق الورع ، والانقطاع بالقلب إليه ، وتصفية السر عن كل ما دون الحق ، فأذاقهم الله طعم ُلباب معرفته ، وأنزلهم في حظيرة قدسه ، لا يصبرون عن ذكره ، ولا يشبعون من ِبره ، ولا يستريحون لغيره ، فيا طوبى لهم ، هم الأقلون عددًا ، والأعظمون خطرًا ، بهم يحفظ الله محبته حتى يؤدوها إلى نظرائهم ، فيا طوبى لهم ، هم الزاهدون فيما رغب فيه الغافلون ، والمستأنسون فيما استوحش منه الجاهلون ، والمشتاقون إلى ما هرب عنه الساهون ، هم الذين نظروا بأعين القلوب ، إلى حجب الغيوب ، وجالتْ أرواحهم في الملكوت ، َفهمُتهم في سرهم وسرهم عند ربهم ، به يستمعون ، وبه ينظرون ، وبه يريدون ، وبه يتحركون ، قلوبهم بحبها مستأنسةٌ بأنسها.

قال أبو يزيد رحمه الله : الناس يصيحون من إبليس ، وهو يصيح مني ، قيل له: كيف هذا والمصطفى عليه السلام كان مأمورًا بالصياح منه ، في قوله تعالى : ( وُقلْ رب أَعوُذ ِبك من همزات الشياطين ) قال: لأن الله تعالى أمره في هذه الآية بالاعتصام به ، وتفويض الأمر إليه ، وَفرقٌ بين الصياح من إبليس ، وبين الاعتصام بالله ، وقد قال الله تعالى : ( إِن عبادي َليس َلك عَليهم سلْطان ) .
قال ذو النون : للعارف نار ونور ، نار الخشية ، ونور المعرفة ، فظاهره محترق بنار الخشية ، وباطنه مَنور بنور المعرفة ، فالدنيا تبكي بعين الفناء عليه ، والآخرة تضحك ِبسن البقاء إليه ، فكيف يقدر الشيطان أن يدنو منه ظاهرًا وباطنًا إلا كالبرق الخاطف ، أو كالريح العاصف ، فإن أتاه عارض من قبل العين أحرقته نار العبرة ، وإن أتاه من قبل النفس أحرقته نار الخدمة ، وإن أتاه من قبل العقل أحرقته نار الفكرة ، وإن أتاه من قبل القلب أحرقته نار الشوق والمحبة ، وإن أتاه من قبل السر ، أحرقته نار القرب والمشاهدة ، فتارًة يحترق قلبه بنار الخشية ، وتارة يتشفى بنور المعرفة ، فإذا امتزجت نار الخشية ونور المعرفة هاجت ريح اللطف من سرادقات الأنس والُقربة فيظهر صفاء الحق للعبد ، فتراها تلاشت الأنانية ، وبقيت الألوهية كما هو في الأزل.

قال أبو سليمان: يفَْتح للعارف وهو نائم على فراشه ، ما لا يفَْتح لغيره وهو في صلاته.

قال أبو يزيد رحمه الله: أدنى مقامات العارف أن يمر على الماء ، ويطير في الهواء ، وأعلاها أن يمر على الدارين من غير أن يلتفت إلى من سواه.

قال أبو بكر الواسطي رحمه الله: دوران العارف مع محبوبه على أربعة أوجه: سرور المعرفة وهو ممزوج برؤية حسن العناية ، وحلاوة الخدمة وهو ممزوج بذكر المّنة ، وأنس الصحبة وهو ممزوج بلذائذ القربة ، وخوف المفارقة وهو ممزوج بتحقيق كمال القدرة ، وقال ذو النون: العارف بين البر والذكر ، لا اللهُ يمل من ِبره ، ولا العارف يشبع من ذكره.

سئِلَ بعضهم عن قوله تعالى: ( وأَنَّه هو أَضحك وأَبكى ) فقال: أضحك العارفين بسرور معرفته ثم أبكاهم من خوف مفارقته ، وأمات من شاء بسيف قطيعته ، وأحيا من شاء بروح وصلته ، ليعلم الخلائق أنه فعال لما يريد.

وقيل لعائشة رضي الله عنها: كيف يحاسب المؤمنون العارفون ؟ فقالت : ليس مع العارفين حساب ، ولكن معهم عتاب.

وروي أن سليمان عليه الصلاة والسلام نظر إلى مملكته يومًا ، فأمر الله تعالى الريح حتى كشف عورته ، فقال للريح ، رد علي ثوبي ، فقال الريح ، رد قلبك إلى مكانه.

فطوبى لأهل المعرفة ، عرَفهم أنفسهم قبل أن يعرفوه ، وأكرمهم قبل أن يعرفوا الكرامة ، أولئك أقوام أنفسهم روحانية ، وقلوبهم سماوية ، وهمومهم مرضية ، وصدورهم جزعة ، وقلوبهم خائفة ، وأعيُنهم دامعة ، عقُلوا َفعلموا ، ووجدوا فرحلوا ، وانفتح لهم نور القلب.

لله قوم مصطَفون لنفسه
إختارهم من سالف الأزمان
اختارهم من قبل فطرة َ خلقهم
فيهم ودائع حكمة وبيان


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس أكتوبر 25, 2012 7:22 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الثامن



أخبرنا الشيخ صالح الثقة أبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سلمان ، قال: أنبأنا أبو عبد الله مالك بن أحمد بن علي المالكي ، قال : أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى القرشي ، قال: أنبأنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، قال: أنبأنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ، عن مالك ، عن ابن شهاب الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل وهو يعظ أخاه في الحياء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الحياء من الإيمان ".

والحياء الذي يشمل الوجه من الناس ، أنموذج عن الحياء الذي يشمل القلب من الله تعالى ، والحياء الشامل للوجه وللقلب ، هو من الإيمان بالله وهو طور العارفين بالله سبحانه وتعالى ، الذي جعل قلوبهم عيبة أسراره ، وكذلك فإن قلوب العارفين خزائن الله في أرضه ، وضع فيها ودائع سره ، ولطائف حكمته ، ودقائق محبته ، وأنوار علمه ، وأمانة معرفته ، فكلامهم هو الكشف عما يشاهد القلب وإظهار علوم السر.

وبيان معاملة الضمير من َتمييز الانفصال عن الاتصال ، وبيان الأسباب الشاغلة عن الحق من الأسباب الداعية إلى الحق ، أما الداعي إلى الخلق فالدنيا والنفس والخلق ، وأما الداعي إلى الحق فالعقل واليقين والمعرفة ، كما ورد: " من عرف نفسه عرف ربه" ، يعني من عرف ما لنفسه ، عرف ما لربه.

وكلامهم يدور على خمسة أوجه ، به وله ومنه وإليه وعليه ، وليس في كلامهم أنا وإني ونحن ولي وبي لأن ألفاظهم فردانية ، وحركاتهم صمدانية ، وأخلاقهم ربانية ، وإرادتهم وحدانية ، لا يعرف إشارتهم إلا من له قلب حريق ، فيه خزائن الأسرار ، وجواهر القدس ، وسرادقات الأنوار ، وبحار الوداد ، ومفاتيح الغيب ، وأودية الشوق ، ورياض الأنس ، فكلما أبرز العارف لسان الحكمة من ينبوع المعرفة بإشارات ، استأنس بها قلوب المريدين والمشتاقين.

قال يحيى بن معاذ: القلوب كالقدور ، ومغارُفها الألسن ، فكل لسان يغرف لك ما في قلبه.

وقيل لأبي بكر الواسطي ما تقول في كلام أهل المعرفة ؟ فقال : إن مَثلَ المعرفة ، كمثل سراج في قنديل ، والقنديل معلق في بيت ، فما دام السراج في البيت ، يكون البيت مضيئًا ، وربما يفَْتح الباب فيقع ضوء السراج خارج البيت ويضيء.

كلام أهل المعرفة يقع ضياؤه على قلوب أهل النور فتصير أعينهم دامعة ، وألسنتهم ذاكرة . يقول الله تعالى: ( وإَِذا سمعوا ما أُنْزلَ إَِلى الرسول ) الآية ، مثل نفس العارف كمثل البيت ، ومثل قلبه كمثل القنديل ، دهنه من اليقين ، وماؤه من الصدق ، وفتيله من الإخلاص ، والزجاجة من الصفاء والرضاء ، وعلائقه من العقل ، فالخوف نار في نور ، والرجاء نور في نار ، والمعرفة نور في نور ، فالقنديل معلق بباب الكوة ، إذا فتح العارف فاه بالحكمة التي في قلبه ، هاج في كوة فمه نور من الأنوار التي في قلبه ، فيقع ضياؤه على قلوب أهل النور ، فيتعلق النور بالنور ، وإن بعض القول أشد ضوءًا من النهار ، وبعضها أشد ظلمة من الليل ، وكلام أهل المعرفة كنز من كنوز الرب سبحانه ، معادنه قلوب أهل المعرفة ، أمرهم الله تعالى بالإنفاق منه على أهله في قوله تعالى : ( ادع إَِلى سِبيل ربك ِبالْحكْمة واْلموعظة الحسَنة وجادلْهم ِبالَّتي هي أَحسن ) .

قيل لبعض العارفين: أي شيء أضوأ من الشمس ؟ قال: المعرفة ، قيل : أي شيء أنفع من الماء ؟ قال: كلام أهل المعرفة ، قيل: وأي شيء أطيب من المسك ؟ قال: وقت العارف ، قيل : وما حرفة العارف ؟ قال: النظر إلى صنع الربوبية ، وأعلام لطائف الُقدرة.

قيل لأبي سعيد البلخي : لِم كان كلام السلف أنفع من كلام الخلف ؟ قال: لأن مرادهم كان عز الإسلام ، ونجاُة النفوس ، والشفقة على الإخوان ، ورضا الرحمن ، ومرادنا عز النفس ، وثناء الناس ، وطلب التنعم في الدنيا ، فالعبد إذا أطاع ربه ، رزقه نهلة من عين المعرفة ، وأنطق بها لسانه ، وإذا ترك طاعته لم يسلبها ، ولكن أبقاها في قلبه ، ولم ينطق بها لسانه ، ليكون ذلك حسرًة عليه ، وابتلاه بأنواع المحن ، وما من مؤمَنين يلتقيان فيذكران الله إلا ويزيد الله تعالى في قلوبهما نور المعرفة قبل أن يتفرقا ، وإن الله تعالى أطْلع أهلَ المعرفة على تلاطم أمواج بحار خواطر القلوب ، وأشرفهم على خزائن الأسرار ، وبواطن العلوم التي لا يحصى عددها ، ولا ينقطع مددها ، ولا يدرك قعرها ، ولا ُتفنى عجائبها ، حتى يغوصوا بنور المعرفة في َقعر بواطن إشاراتها المكنونة في معانيها المخزونة ، فيستخرجوا عجائب فوائد ، ولطائف زوائد ، وحقائق إشارات ، تحترق منها قلوب المحبين ، وتستأنس بها أرواح المريدين ، وهي نور من أنوار الهداية ، يهتدي به العبد إلى طريق حسن الرعاية ، إذا أدركه من الحق التوفيق والعناية.

قال يحيى بن معاذ : لقيت الحكماء فوجدت أكثرهم مفاليس ، يفتحون من كيس غيرهم ، وكان لّليث المصري أخ ، وكان بالإسكندرية ، فلما قدم إليه قال: إني كنت مقبلاً على ربي ، قال : فأين فوائد إقبالك على ربك ؟ فسكت ، فقال الليث: العبد إذا أقبل على الله بصدق الوفاء ، يمده الله بفوائد لم تخطر على قلب بشر.

وكان يحيى بن معاذ يتكلم ذات يوم ، فصاح رجل في مجلسه ، ومزق ثوبه ، فقيل له : ما تقول فيه ؟ قال كلام أهل المعرفة كلما نبع من عين سر الوحدانية ، قرع قلب المحترق بنيران الشوق والمحبة ، فتلاشت عن صاحبه صفات الإنسانية ، كلام المتقين بمنزلة الوحي ، وجرت كلمة على لسان بعضهم ، فقيل له : من حدثك بهذا ؟ قال : حدثني قلبي عن فكري عن سري عن ربي ، فإسناد الحكمة وجودها ، وهي ضاّلة المريد ، حيثما وجدها أخذها ، فلا يبالي من أي وعاء خرجت ، وبأي لسان َنطَقت ، ومن أي قلب ُنقَلت ، أو على أي حائط ُ كتبت ، أو من أي كافر سمعت.

وقد ورد : " من أراد أن يؤتيه الله علمًا من غير تعلم ، وهدى من غير هداية ، فليزهد في الدنيا " ، وإن للحكمة أهلاً وزمانًا ، وقد مضي زمنها والأكثرون من أهلها ، وليس علينا إلا أثر المصيبة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، اطلبوا مصابيح كلام العارفين قبل وفاتهم ، نعمة اعرفوا شرفها وكمال فضلها ، وإنما اختار لقمان الحكمة لشرفها ، هي برهان الصديقين ، ونزهة المتقين ، وفردوس العارفين ، وميراث النبيين والمرسلين فاطلبوها قبل ذهابها:

مصابيح الأناِم بكلِّ أرض

هم العلماء أبناء الكراِم


تلألأ علم هم في كلِّ واد

كنور البدر لاح بلا غمام


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة أكتوبر 26, 2012 11:02 am 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث التاسع



أخبرنا العبد الصالح الثقة أبو غالب عبد الله بن منصور بجامع واسط ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسين السلمي ، قال : أنبأنا أبو الحسن بن أبي الفتح الضرير العثماني ، قال : أنبأنا عمر بن محمد المقري ، قال : أنبأنا عبد الرحمن بن أحمد بن الحجاج ، قال: أنبأنا أحمد بن محمد بن أبي الرجاء ، قال : أنبأنا وكيع بن الجراح ، قال حدثنا الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، ويخَْفى عنه كبارها ، فيقال له: عملت كذا وكذا ، وعملت يوم كذا كذا وكذا ، قال: وهو مقر ليس ينْكر ، قال: وهو مشفق من الكبار أن يجاء بها ، فإذا أراد الله به خيرًا ، قال : أعطوه مكان كل سيئة حسنة ، فيقول حين طمع : إن لي ذنوبًا ما رأيتها ها هنا " قال : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. ثم تلا: ( َفأُوَلئِك يبدلُ اللهُ سيئَاتهم حسَنات ) ، وهذا الإشفاق هو شيء من أسرار اليقين بالله ، وحال من سلطانه ، يفرغه في قلوب أهل المعرفة به ، ولهذا الحديث الشريف شأن جليل ، ينبئ عن كرم إلهي فوق تعبير اللسان ، يعرفه العارفون ، ويزلق به الغافلون ، ويزداد خوفًا من الله به الموفقون.

أي سادة ، من أراد أن يتكلم بلسان أهل المعرفة ، فينبغي أن يحفظ أدب كلامه ، فلا يكشف دقائقه إلا عند أهله ، وأن لا يحملَ المريد فوق طاقته ، ولا يمنع كلامه من كان من أهله ، ويكون كلامه مع أهل المعرفة بلسان أهل المعرفة ومع أهل الصفا بلسان الصفا ، ومع أهل المحبة بلسان المحبة ، ومع أهل الزهد بلسانهم ، ومع كل صنف على قدر مراتبهم ومنازلهم ، وقدر عقولهم ، فإن الله تعالى جعل للعارف هذه الألسن ، نعم كلها تتلاشى عند ظهور سلطان الحق ، وينبغي أن لا يحدث بحديث لا يبلغ عقل المستمع إليه ، فيكون ذلك فتنة ، فإن أكثر الناس جاهلون ، اشتغلوا بعلوم الظاهر ، وتركوا علم تصحيح الضمائر ، فلا يحتملون دقائق كلام العارفين ، لأن كلماتهم لاهوتية ، وإشاراتهم قدسية ، وعباراتهم أزلية ، فلذلك ينبغي للمستمع أن يكون معه السراج الأزلى ، والنور الديمومي ، ويقال: لسان الحال أفصح من لسان المقال ، فمن رضي بالحال دون ولي الحال ، صار مخذولاً عن الحال ، ومحجوبًا عن ذي الجلال ، وأي دهشة أشد من دهشة العارف ، إن تكلم عن حاله هلك ، وإن سكت احترق ، فمن ورد قلبه الحضرَة َ كلَّ لساُنه ، ومن غاب قلبه عن الحضرة كثر كلامه.

قال ذو النون رحمه الله: ما رأيت محدثًا في قوم يحدثهم بغفلة إلا كان ذلك قسوة ، وقال بعضهم: سكوت العارف حكمة ، وكلامه نعمة ، ويقال : ليس على تحقيق في المعرفة من يحدث بحديث المعرفة عند أبناء الآخرة ، فكيف أبناء الدنيا ؟ ما تكلمت مع أحد من الناس ، إلا ودعوته إلى الله ثم كلمته.

من لم يكن له حلاوة المعرفة ، ورؤية المنَّة ، وشكر النعمة ، ولذائذ الُقربة ، وخوف المفارقة ، وأُنس الصحبة ، وإخلاص العبادة ، وسرور الهداية ، فليس له أن يتكلم بكلام أهل المعرفة ، وإن تكلم فلا يحمل فوق الطاقة ، ولا يمنع أهل الحاجة ، ولا يضيع أهل الغفلة.

وحكي أن رجلاً جاء إلى عارف قال: حدثني ، فقال : إن مثلي معك كرجل وقع في القاذورات ، فذهب إلى العطار ، وقال : أين الطيب ، فقال العطار : اذهب اشتر الأُشنان ، واغسل نفسك ولباسك ، ثم تعال فتطيب ، وكذلك أنت ، لطخت نفسك بأنجاس الذنوب ، فخذ أُشنان الحسرة ، وطين الندامة ، وماء التوبة والإنابة ، وطهر ظواهرك في إجانة الخوف والرجاء ، من أنجاس الجرم والجفاء ، ثم اذهب إلى حمام الزهد والتقى ، واغسل نفسك بماء الصدق والصفاء ، ثم ائتني حتى أطيبك بعطر معرفتي.

قال بعض الناس لعارف : إني لأعرف كلامكم ، قال: كلام الأخرس لا يعرفه إلا أمه ، ومن كلام عيسى عليه الصلاة والسلام : يا صاحب الحكمة ، ُكن كالطبيب الناصح ، يضع الدواء حيث ينفع ، ويمنع الدواء حيث يضر ، لا تضع الحكمة في غير أهلها ، فتكون جاهلاً ، ولا تمنعها من أهلها ، فتكون ظالمًا ، ولا تكشف سرك عند كل أحد ، فتصير مفتضحًا.

وقال ذو النون رحمه الله: رأيت رجلاً أسود يطوف حول البيت ويقول : أنت أنت أنت ، ولا يزيد على ذلك اللفظ شيئًا ، فقلت : يا عبد الله ، أي شيء عَنيت به ، فأنشأ يقول :

بين المحبين سر ليس يفشيه

خطٌّ ولا قلم عنه فيحيكه


نار تقاِبُله ، أُنس يمازجه

نور يخبره عن بعض ما فيه


شوقي إليه ولا أبغي له بدلاً

هذي سرائر كتمان ُتناجيه


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة أكتوبر 26, 2012 5:43 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث العاشر

أخبرنا الشيخ أبو طالب محمد بن علي ، عن أبي القاسم علي بن أحمد الرزاز ، قال أنبأنا أبو الحسين محمد بن مخلد في سنة ثمان عشرة وأربعمائة ، قال : أنبأنا أبوعلي إسماعيل بن محمد الصفار ، قال : أنبأنا الحسن بن عرفة العبدي ، قال : أنبأنا أبوالنضر هاشم بن القاسم ، عن سليمان بن المغيرة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آتى باب الجنة يوم القيامة فأستفتح ، فيقول الخازن: من أنت ؟ فأقول محمد ، فيقول: ِ بك أمرت أن لا أفتح لأحد َقبَلك ".

وقد علم أهل العلم بالله ، أن الجنة التي هي باب الخير الإلهي الأبدي ، لا ُتفتح إلا بفتح محمد صلى الله عليه وسلم لها ، فهو الفاتح لكل خير دنيوي وأخروي ، والعلم بشأنه هو سر العلم بالله تعالى ، فمن أراد أن يفتح له أبواب الخير الدنيوي والأخروي فعليه أن يتعلق بأذياله صلى الله عليه وسلم ، فإن في نفحاتها علم المعرفة.

أي سادة ، علم المعرفة هو العلم بالله تعالى ، وهو نور من أنوار ذي الجلال ، و َخصلةٌ من أشرف الخصال ، أكرم الله به قلوب العقلاء ، فزينها بحسن جماله ، وعظيم شأنه ، وخص به أهل ولايته ومحبته ، وفضله على سائر العلوم ، وأكثر الناس عن شرفه غافلون ، وبلطائفه جاهلون ، وعن عظيم َخطره ساهون ، وعن غوامض معانيه لاهون ، فلا يدركه إلا أرباب القلوب الموفقون ، وهذا العلم أساس بنيت عليه سائر العلوم ، به ينال خير الدارين ، وعز المنزلين ، وبه يعرف العبد عيوب نفسه ، ومَنن ربه ، وجلالَ ربوبيته ، وكمالَ قدرته ، به يطير سر العبد بجناح المعرفة في سرادقات لطائف القدرة ، ويجول حول منتهى العزة ، ويرتع في روضات القدس ، فلا تتم العلوم كلها دون امتزاج شيء منه بها ، ولا تفسد الأعمال إلا بفقده ، ولم تسكن إليه إلا قلوب نظر اللهُ إليها بالرأفة والرحمة ، وأمطر عليها أمطار الفهم والبلاغة ، وطيبها برياحين اليقين والفطنة ، وجعلها موضع العقل والفراسة ، وطهرها من أدناس الجهالة والغفلة ، ونورها بمصابيح العلم والحكمة ، قال الله تعالى : ( يرَفع اللهُ الذين ءامُنوا منكم والَّذين أُوُتوا العلْم درجات ) ، وكل عارف يخشى الله تعالى ويتقيه على مقدار علمه بالله عز وجل ، لقوله تعالى : إِنَّ ما يخْشى اللهَ من عباده العَلماء ( ، بنوره يعرف وساوس الشيطان الدافعة إلى المعاصي والزلات ، ويحذر به آفات الإرادات ، قال الله تعالى : ( أََفمن شرح اللهُ صدره للإِسلاِم َفهو عَلى ُنور من رِبه ) ، وقال الله تعالى: ( ومن لَّم يجعلُ اللهُ َله نورًا َفما َله من ُنور ) .
وفي الخبر : " إن من العلم كهيئة المكنون المخزون ، لا يعرفها إلا أهل العلم بالله ، ولا ينكرها إلا أهل الغرة" وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الأعمال أفضل ؟ فقال : العلم بالله " .

وروي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب ، أي العباد أكثر حسنة ، وأرفع درجة عندك ؟ قال : أعلمهم بي. وقال الإمام الجليل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه: أعلم الناس بالله أشدهم تعظيمًا لحرمة لا إله إلا الله ، قال أبو الدرداء رضي الله عنه : من ازداد بالله علمًا ازداد وجلاً.

وروي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام: أن يا داود تعلم العلم النافع ، قال: إلهي ، وما العلم النافع ؟ قال : أن تعرف جلالي وعظمتي وكبريائي ، وكمال قدرتي على كل شيء ، فإن هذا الذي يقربك إلي ، وإني لا أعذر بالجهالة من لقيني.
وقيل لمحمد بن الفضل السمرقندي: ما العلم بالله ؟ قال: أن ترى قضاءه في الخلْق مبرمًا ، والضر والنفع والعز والذل منه ، وترى نفسك لله ، والأشياء كلها في قبضته ، وأن لا تختار لنفسك غير اختياره ، وتعمل لله خالصًا.

يا بني اجتهد في تعلم علم السر ، فإن بركته كثيرة أكثر مما تظن ، يا بني من تعلم علم العلانية دون علم السر هلك وهو لا يشعر ، يا بني إن أردت أن يكرمك الله بعلم السر فعليك ببغض الدنيا ، واعرف حرمة الصالحين ، وأحكم أمرك للموت ، قال الله تعالى: ( وُقل رب ِ زدني علْمًا ( ( وعلَّمك ما َلم َتكن تعَلم ) ( وعلَّمَناه من لَّدنَّا علْمًا ) إلا أنه قال في موضع آخر: ( والَّذين جاهدوا فيَنا َلَنهدينَّهم سبَلَنا ) فرب رجل كثير الروايات جاهل بالله.

إن علم المعرفة فضلٌ من الله يؤتيه من اصطفاه من َخلقه ، واجتباه لصحبته.

جاء في الخبر : " العلم علمان ، علم باللسان ، وهو حجة الله على العباد ، وعلم بالقلب ، وهو العلم الأعلى" لا يخشى العبد من الله إلا به وقال صلى الله عليه وسلم : " أشدكم لله خشية أعلمكم بالله " .

وقال سفيان الثوري رحمه الله : العلماء ثلاثة: عالم بأمر الله غير عالم بالله ، فذلك العالم الفاجر الذي لا يصلح إلا للنار ، وعالم بالله غير عالم بأمره ، فذلك ناقص ، وعالم بالله وبأمره به ، فهو العالم الكامل.

قيل لبعض العارفين: ما سبيل معرفة الله ؟ قال : ليس يعرف بالأشياء بل ُتعرف الأشياء به ، كما قال ذو النون: عرفت الله بالله ، وعرفت ما دون الله بنور الله.

وقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: إلهي ، لولا أنت كيف كنت أعرف من أنت ؟ ومثله عن رابعة العدوية قالت لذي النون : كيف عرفت الله ؟ قال: رزقني الحياء ، وكساني المراقبة ، فكلما هممت بمعصية ذكرت جلال الله فاستحييت منه.

مثل المعرفة كشجرة لها ستة أغصان ، أصلها ثابت في أرض اليقين والتصديق ، وفرعها قائم بالإيمان والتوحيد.

فأول أغصانها الخوف والرجاء مقرونين بغصن الفكرة.
والثاني : الصدق والوفاء مقرونين بغصن الإخلاص.
والثالث : الخشية والبكاء مقرونين بغصن التقوى.
والرابع : القناعة والرضاء مقرونين بغصن التوكل.
والخامس : التعظيم والحياء مقرونين بغصن السكينة.
والسادس : الإستقامة والوفاء مقرونين بغصن الود والمحبة.

ويتشعب من كل غصن ما لا نهاية له في العدد من أنواع الخير ، والصدق في المعاملة ، وأنس الصحبة ، وفرائد القربة ، وصفاء الوقت ، وغير ذلك مما لا يصفه الواصفون ، وعلى كل شعبة ثمار شتى ، لا يشبه لون إحداها الأخرى ولا طعمها ، تحتها أنوار التوفيق ، جارية من ينبوع الفضل والعناية ، والناس في ذلك على تفاوت الدرجات ، وتباين الحالات ، فمنهم من أخذ بفرعها غافلاً عن أصلها ، محرومًا من أغصانها ، محجوبًا عن حلاوة ثمارها ، ومنهم من تمسك بفروعها ، ومنهم من أخذ بأصلها وأخذ كلها من غير أن يلتفت إلى كلها ، لانفراده بوليه خالقها ، من لم يكن له نور من سراج التوفيق ، ولو جمع الكتب والأخبار والأحاديث كلها ، لم يزدد إلا بعدًا ونفورًا ، كمثل الحمار يحمل أسفارًا.

يقال إن رجلاً جاء إلى الإمام علي عليه السلام فقال علمني من غرائب العلم ، قال : ما فعلت في رأس العلم ؟ قال: وما رأس العلم ؟ قال : أعرفت ربك ؟ قال نعم ، قال: ما فعلت في حقه ؟ قال ما شاء الله ، قال : فانطلق فأحكم هذا ، فإن أحكمته فأْت أُعلِّمك غرائب العلم . قيل : الفرق بين علم المعرفة وغيرها كالفرق بين الحي والميت.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت أكتوبر 27, 2012 4:52 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الحادي عشر

أخبرنا شيخنا الإمام المقرئ الجليل الشيخ أبو الفضل علي الواسطي قدس الله روحه ، قال : أنبأنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد الواعظ ، قال: أنبأنا أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الرحمن الجمحي ، قال: أنبأنا علي بن عبد العزيز ، عن ابن المبارك ، عن حرملة بن عمران ، عن يزيد بن أبي جندب ، عن أبي الخير ، عن عقبة ابن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المرء في ظل صدقته حتى يقْضى بين الناس ، أو قال: يحكم بين الناس" ، هذا لكونه ترك شيئًا قليلاً مما تحبه نفسه لربه ، فكيف إذا خرج عن نفسه بالكلية ؟

روي أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى داود عليه السلام: بشِّر المذنبين بأني غفور ، وأنذر الصديقين بأني غيور.

وروي أن يوسف عليه الصلاة والسلام : لما أُلْقي في الجب ، كان يقول: من لعب في خدمة مولاه ، َفغيابة الجب مأواه.

وهنا كلمات من طرائف مختصرات القوم ، تنشط بها همم الموفقين ، يقول قائلهم رضي الله عنهم: حقَّ لمن عرف المولى أن لا يشكو من البلوى ، إذا لم يعرف العبد المولى َفكلّ لسان له دعوى ، ليس للعارف دعوى ولا للمحب شكوى ، إذا سبقت من الرب العناية هزمت من العبد الجناية ، إذا سبقت العناية وجبت الولاية ، بالعناية تحصل الولاية والولاية تهدم الجناية ، ليس الشأن في الولاية لكن الشأن في العناية ، لم يدرك الولاية من فاتته العناية ، المصر من أَسر السر ، طرح الخلق وجود الحق ، اطرح الدعوى تجد المعنى ، من كان له باطن صحيح فجميع كلامه مليح ، لا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها فنون الآفات ، لا تغتر بصفاء العبودية فإن فيها نسيان الربوبية ، خل الدارين للطالبين واستأنس برب العالمين ، استَهد بالله فنعم الدليل ، وتوكل عليه فنعم الوكيل ، ما دام قلب العبد بغير الله معلقًا كان باب الصفاء عنه مغلقًا ، الأُنس بالله نور ساطع والأنس بالمخلوق هم واقع ، معدن الأسرار قلوب الأبرار ، قلوب الأبرار حصون الأسرار ، القلب إذا ابُتلي بالمربوب عزلَ عن ولاية المحبوب ، خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي ، توكل ُتكف وسلْ ُتعط ، ليس باللبيب من اختار على الحبيب ، بقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى ، العبد إذا سخط عليه مولاه سخط عليه ما سواه ، وإذا رضي عنه مولاه رضي عنه ما سواه ، عذْر الحبيب عند الحبيب مبرور وذنب الحبيب عند الحبيب مغفور ، من أراد المولى فليتهيأ للبلوى.



هون الدنيا وما فيها عليك

واجعل الحزن لِما بين يديك



الموت ِجسر مهيب ، يوصل الحبيب إلى الحبيب ، ينبغي أن يكون العبد مشغولاً بما يكون غدًا عنه مسؤولاً ، اجعل الُتقى جليسك ، والدعاء أنيسك.



ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ

وكلُّ نعيٍم لا محالة زائلُ



الحب يحرق ، والشوق يقلق ، وهذا سرور الخبر ، فكيف سرور النظر ؟ كل نعمة دون الجنة فانية وكل بلاء دون النار عافية ، التوبة تطهر الحوبة ، الاعتراف يهدم الاقتراف ، هب أن اللهَ قد عفا عن المسيئين ، أليس قد فاتهم ثواب المحسنين ، أَعد للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا ، اطلب ما يعنيك بترك ما لا يعنيك ، الرزق مقسوم والحريص محروم ، العبد حر إذا قنع والحر عبد إذا طمع ، أخرج الطمع من قلبك َتحلّ القيد من ِرجلك ، َقدم إلى الحشر زادك فإن إلى الله معادك ، الدنيا دنية وحبها خطية ، والدنيا ساعة فاجعلها طاعة ، الدنيا كلها غرور والعقبى كلها سرور ، الدنيا معدن الخطا والعقبى معدن العطا ، الدنيا معدن الجفاء والعقبى معدن الوفاء ، أساس التقوى ترك الدنيا ، أخوف الناس آمنهم ، ما أغفلك عما ُ خلقت له ، وما أعجزك عما أُمرت له ، مَنعك طولُ الأمل عن ذكرالأجل ، لا َتعص مولاك بطاعة هواك.

رأس الوفاء َترك الجفاء ، إن أردت المكارم فاجتنب المحارم ، قليلٌ يكفيك خير من كثير يطغيك ، المؤمن كثير الفعال قليلُ المقال ، والمنافق قليلُ الفعال كثير المقال ، اتق الله إذا خلوت يستجب لك إذا دعوت ، غضب اللهِ أشد من ناره ورضواُنه أكبر من جنته ، دع التدبير إلى الملك الخبير ، َطَلب الحلال أشد من َنقْل الجبال ، كل هم وذكر لغير الله فهو حجاب بينك وبين الله ، لا تقع المؤانسة بين العبد وربه حتى تقع الوحشة بينه وبين خلقه ، لا يصل العبد إلى الحق حتى يعتزل عن صحبة الخلْق ، حسبي من سؤالي علمه بحالي.



كلُّ محبوب سوى اللهِ سرفْ

وعناء وبلاء وَتَلفْ


وهموم وغموم وأسفْ

ما خلا الرحمن ما عنه َ خَلفْ



ما رأيتُ مثل الجنة نام طالِبها ، ولا مثل النار نام هاربها.



درت حولَ المشْرَقين

ثم درت المغربين


فوجدت الأمر ُ كلاً

لمليك الَثَقَلين


حبه منية قلبي

ذكره ُقرُةعيني


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد أكتوبر 28, 2012 2:09 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الثاني عشر

أخبرنا الشيخ الجليل المقرئ العارف بالله خالي أبو بكر الأنصاري الواسطي ، قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي ، قال: أنبأنا أبو القاسم منصور ابن النعمي ، قال: أنبأنا أبو نصر عبد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي ، قال: أنبأنا أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي ، قال: أنبأنا أبو حامد أحمد بن محمد بن بلال البزاز ، قال أنبأنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم ، قال: أنبأنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي قابوس ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " .

هذا الحديث الشريف فيه من أسرار العلم بالله العجائب ، أَمر المصطفى صلى الله عليه وسلم بالرحمة لِمن في الأرض من المخلوقين ، لتحصل بذلك الرحمة للعبد من كل من في السماء من العلويين ، فإن السماء طريق َتَنزل الرحمات الربانية ، ومحل أنبوب الإفاضات الرحموتية ، ومقر الملائكة الذين جعلهم الله وسائط أسراره بينه وبين خلقه ، فإذا ألقى الرحمة في سر مَلك الرزق طاب الرزق ، وإذا ألقاها في سر كاتب الأعمال أنساه السيئات ، وإذا ألقاها في سر الرقيب أعان ورفق ، والرحمة حال العارف ، ومعراج قلبه إلى ربه ، وإن عباد الله العارفين ، مظاهر لرحمة رب العالمين في المخلوقين ، وهو سبحانه أرحم الراحمين.

أي بَني ، إذا تحققت بالرحمة للمخلوقين رحمت ، وإذا جالست العارفين نجحت ، وإذا سألت الحكماء الربانيين تعلمت ، أي بَني ، اعلم أن لكل شيء مفتاحًا ومفتاح العلم السؤال ، فإن َقدر المريد على أن يجالس أهل المعرفة ، فيقتبس من علمهم ، وتحقيق رمزهم ، ولطائف إشاراتهم ، َفبخ بخْ ، فإن شرف العلماء الربانيين ، أكبر من أن يدركه أحد غيرالله ، لأنهم أحباء الله ، وأُمناء سره ، فليغتنم حرمتهم ، وليحرك خواطرهم بحسن السؤال ، فإن أمواج خواطر العارفين لا تفنى عجائبها ، وكفى للمرء جهلاً إمسا ُكه عن الَتعلُِّم ، واستكفاؤه بما عنده ، وقد قال الله تعالى ( فاسأَُلوا أَهلَ الذِّكْر إِن كنُْتم لا َتعَلمون ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " جالسوا الكبراء، واسألوا العلماء " .

قال ذو النون : وصف لي رجلٌ بالمغرب ، فارتحلت إليه ، فوقفت عنده أربعين صباحًا ، فلم أجد وقتًا أقتبس به من علمه شيئًا ، لكمال ُشغله بربه ، ولم أترك الحرمة ، فيومًا من الأيام نظر إلي فقال: من أين المرتحل ؟ فأخبرته ببعض حالي ، قال: بأي شيء جئت ؟ قلت: لأقتبس من علمك ، قال: اتق الله ، واستعن به ، وتوكل عليه ، فإنه ولي حميد وسكت ، فقلت ، زدني رحمك الله فإني رجل غريب ، جئتك من بلد بعيد ، لأسألك عن أشياء اختلجت في ضميري ، فقال : أمتعلِّم أم عالِم أم مناظر ؟ فقلت: بل متعلم محتاج ، قال: قف في درجة المتعلمين ، واحفظ الأدب ولا تتعد ، فإنك إن تعدي تفسد عليك النفع ، العقلاء من العلماء والعارفون من الأصفياء الذين سلكوا سبيل الصدق وقطعوا أودية الحزن ذهبوا بخير الدارين ، فقلت: رحمك الله متى يبلغ العبد إلى ما وصفت ؟ قال: إذا كان خارجًا من الأسباب ، قلت: ومتى يكون العبد كذلك ؟ قال: إذا خرج من الحول والقوة . قلت: وما نهاية العارف ؟ قال : أن يصير بالكلية كالمعدوم عند وجوده. قلت: ومتى يبلغ إلى مهيمنة الصديقين ؟ قال: إذا عرف نفسه. قلت : متى يعرف نفسه ؟ قال: إذا صار مستغرقًا في أبحر المنَّة ، وخرج من أودية الأنانية ، وقام على قدٍم ياسينية ، قلت: ومتى يبلغ العبد إلى ما وصفته ؟ قال: إذا جلس على مركب الفردانية ، قلت: وما مركب الفردانية ؟ قال: القيام بصدق العبودية . قلت: وما صدق العبودية ؟ قال : العلم بالله تعالى ، والرضا بالقضاء . قلت: أوصني . قال : أوصيك بالله . قلت : زدني ، قال: حسبك.

قال عبد الواحد بن زيد رحمه الله: رأيت رجلاً في بعض أسفاري ، وعليه ثوب من الشعر ، فسلمت عليه ، قلت: رحمك الله أسألك مسألة ؟ قال: أوجز ، فإن الأيام تمضي ، والأنفاس ُتعد وُتحصى ، والرب مطَّلع يسمع ويرى ، قلت: ما رأس التقوى ؟ قال: الصبر مع الله تعالى ، قلت: ما رأس الصبر ؟ قال: التوكل على الله ، قلت: وما رأس التوكل ؟ قال : الانقطاع إلى الله . قلت: وما رأس الانقطاع إلى الله ؟ قال : الإنفراد لله. قلت: وما رأس الانفراد ؟ قال : التجريد عما دون الله. قلت: ما ألّذ الأشياء ؟ قال : الأُنس بذكر الله . قلت: ما أطيب الأشياء ؟ قال: العيش مع الله. قلت : ما أقرب الأشياء ؟ قال : اللحوق بالله ، قلت : أي شيء أوجع للقلب ؟ قال: فراق الله ، قلت: ما همة العارف ، قال: لقاء الله ، قلت: ما علامة المحب ؟ قال: حب ذكر الله . قلت : ما الأُنس بالله ؟ قال: استقامة السر مع الله ، قلت: ما رأس التفويض ؟ قال : التسليم لأمر الله ، قلت: وما رأس التسليم ؟ قال: ذكر السؤال عند الله ، قلت: ما أعظم السرور ؟ قال: حسن الظن بالله ، قلت: من أعظم الناس ؟ قال: من استغنى بالله ، قلت: من أقوى الناس ؟ قال : من استقوى بالله ، قلت: من المغبون ؟ قال: من رضي بغير الله ، قلت: ما المروءة ؟ قال: ترك النزول بدون الله ، قلت: متى يكون العبد مبعدًا من الله ؟ قال: إذا صار محجوبًا عن الله ، قلت: متى يكون محجوبًا عن الله ؟ قال : إذا كان في قلبه هم غير الله ، قلت: ومن الغمر؟ قال: من أنفق عمره في غير طاعة الله ، قلت: ما الزهد في الدنيا ؟ قال : َترك كل شيء يشغل عن الله ، قلت : من المقِبل ؟ قال: من أقبل على الله ، قلت: ومن المدِبر ؟ قال: من أدبر عن الله . قلت: ما القلب السليم ؟ قال: الذي لم يكن فيه سوى الله ، قلت : أخبرني من أين تأكل ؟ قال: من خزائن الله ، قلت: ما تشتهي ؟ قال: ما يقضي الله ، قلت : أوصني. قال : اعمل بطاعة الله ، وارض بقضاء الله ، واستأنس بذكر الله ، تكن من أصفياء الله.

قال ذو النون المصري: كنت في بعض سياحتي ، فإذا بشيخ وفي وجهه سيما العارفين ، قلت: رحمك الله ، ما الطريق إليه ؟ قال : لو عرفته لوجدت الطريق إليه ، قلت: وهل يعبده من لا يعرفه ؟ قال : أَوهلْ يعصيه من يعرفه ؟ قلت: أليس آدم عصاه مع كمال معرفته ؟ قال : ( َفَنسي وَلم نجد َله عزمًًا( . ثم قال: يا هذا دع الاختلاف والخلاف. قلت: أليس في اختلاف العلماء رحمة ؟ قال: بلى ، إلا في تجريد التوحيد ، قلت: وما تجريد التوحيد ؟ قال: فقدان رؤية ما سواه لوحدانيته. قلت: وهل يكون العارف مسرورًا ؟ قال: وهل يكون العارف محزونًا ؟ قلت: أليس من عرف الله طال همه ؟ قال: بل من عرف الله زال همه ، قلت: وهل ُتغير الدنيا قلوب العارفين ؟ قال: وهل ُتغير العقبى قلوبهم ؟ قلت: أليس من عرف الله صار مستوحشًا من الخلْق ؟ قال: معاذ الله أن يكون العارف مستوحشًا ، ولكن يكون مهاجرًا ومتجردًا ، قلت: وهل عرفه أحد ؟ قال: وهل جهله أحد ؟ قلت: وهل يتأسف العارف على شيء غير الله ؟ قال: وهل يعرف غير الله فيتأسف عليه ؟ قلت: وهل يشتاق العارف إلى ربه قال: وهل يكون غائبًا عن العارف حتى يشتاق إليه ؟ قلت : وما اسم الله الأعظم ؟ قال : أن تقول: الله ، قلت: كثيرًا ما قلت ولم يداخلني الهيبة ، قال: لأنك تقول من حيث أنت لا من حيث هو ، قلت عظني: قال: حسبك من المواعظ علمك بأنه يراك ، فقمت من عنده ، وقلت: ما تأمر ؟ قال: كفى بإطلاعه عليك في جميع أحوالك.

سئل يحيى بن معاذ الرازي ما علامة القلب الصحيح ؟ قال: الذي هو من هموم الدنيا مستريح ، قيل: وما القوت ؟ قال: ذكر حي لا يموت ، قيل : وما صدق الإرادة ؟ قال: ترك ما عليه العادة ، قيل: وما الشوق ؟ قال: ملاحظة ما فوق ، قيل: متى يتم أمر العبد ؟ قال: إذا سكن مع الله بلا هم ، قيل: وما علامة المريد ؟ قال: أن لا يشتغل بالعبيد ، قيل: وما رأس الهدى ؟ قال: صدق التقى ، قيل وما اللذة ؟ قال : الموافقة ، قيل : ومن الغريب ؟ قال: الذي ليس له من حبه نصيب ، قيل: ومتى يبلغ العبد إلى ولاية مولاه ؟ قال: إذا عزل عن قلبه كل من سواه ، قيل: وما الراحة الكبرى ؟ قال: التسليم للمولى ، قيل: وما أفضل الأعمال ؟ قال: ذكر الله على كل حال ، قيل: وما الفاقة العظمى ؟ قال: دوام الأنس بالمولى ، قيل: وما حجاب القلوب ؟ قال : الاستكفاء بالمربوب ، قيل: وما العيش الجميل ؟ قال: العيش مع الجليل ، قيل : وما حقيقة الوفاء ؟ قال: الصدق والصفاء ، قيل: ومن المحبون ؟ قال : العارفون ، قيل ومن العزيز ؟ قال : من تعزز بالعزيز ، قيل ومن الشريف ؟ قال: من آنس اللطيف ، قيل: ومن الغمر ؟ قال: من ضيع العمر ، قيل ما الدنيا ؟ قال: ما شغلك عن المولى.

نعم ، معدن المعرفة القلب لقوله تعالى : ( فإِنَّها من َتقْوى الُقُلوب ) ومعدن المشاهدة الفؤاد ، لقوله تعالى : ( ما َكَذب الُفؤَاد ما رأَى( ومعدن النور الصدر لقوله تعالى : ( أََفمن شرح اللهُ صدره للإِسلاِم َفهو عَلى ُنور من ربه ) ، وما ازداد حبًا لله تعالى إلا ازداد حبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأوليائه.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين أكتوبر 29, 2012 1:44 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الثالث عشر
أخبرنا الشيخ الجليل الولي الأصيل ، َفرد الوقت أبو المكارم الباز الأشهب خالي وسيدي منصور الرباني الأنصاري البطايحي رضي الله عنه برواقه في نهر دقلي ، قال: حدثنا: أبو طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد الباقلاني ، قال : أنبأنا أبو عمرو عثمان بن محمد العلاف قال: أنبأنا أبو بكر أحمد بن سليمان إملاء ، قال: قرأ علي يحيى بن جعفر بن أبي طالب وأنا أسمع ، قال: حدثنا محمد بن عبيد بن الأعمش ، عن شقيق عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، الرجل يحب القوم ولا يلحق بهم ، قال : "المرء مع من أحب" هذا الحديث الشريف ملْزم بمحبة العارفين ، مبشر بالإلحاق بهم إذا صحت المحبة ، وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله ، وإن من سر الحب الخالص ، أن يرَفع العارف إلى مقام السرور والنجوى في المحاضرة عند سواه.

أي بَني اعلم أن العارف بأسرار المريدين ، المتطلع على همم العارفين ، كلّف العباد وفاء صدق العبودية ، ثم بين لهم تحقيق شرائطها ، كيلا يتجاوزوا حد العبودية إلى حد الربوبية ، وحد الفقر إلى حد الغنى ، قال تعالى : ( يا أَيها النَّاس أَنُْتم الُفَقراء إَِلى اللهِ ) الآية ، وجعل لكل شيء سببًا ، فجعل سبب المخْرج من عبودية المخلوقين القيام بصدق العبودية ، قوله تعالى : ( ومن يتَّق اللهَ يجعلْ َله مخْرجًًا ) من عبودية من سواه ، ويرزقه المؤانسة والمحبة والشوق إليه ( من حيث لا يحَتسب ) ومعنى آخر ( ومن يتَّق اللهَ( بحفظ السر عن آفات الالتفات إلى ما سواه ( يجعلْ له مخْرجًا( من حجب الإبعاد ، ويرزقه المشاهدَة والوصلة ( من حيث لا يحَتسب ) وكذلك جعل سبب معرفة العبد ربه معرفة العبد نفسه ، بشاهد : من عرف نفسه ، أي بالعبودية ، عرف ربه بالربوبية ، ومن عرف نفسه بالفناء ، عرف ربه بالبقاء ، ومن عرف نفسه بالجفاء والخطأ ، عرف ربه بالوفاء والعطاء ، ومن عرف نفسه بالافتقار ، قام لله على قدم الاضطرار ، ومن عرف نفسه لمولاه ، قلَّت حوائجه إلى من سواه.

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من عرف الله قام بحقه" أي من عرف الله بالهداية سلَّم نفسه إليه ، ومن عرف الله بالربوبية قام له بأشراط العبودية ، ومن عرف الله بالجزاء أوقع نفسه في العناء ، ومن عرف الله بالكفاية ، اكتفى به عن كل ما سواه.

روي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: ألا من عرفني أرادني وطلبني ، ومن طلبني وجدني ، ومن وجدني لم يختر عَلي حبيبًا سواي.

قال الشيخ أبو بكر الواسطي رحمه الله: من عرف الله أحبه ، ومن أحبه أطاعه ، ومن أطاعه قطع عن قلبه كل ما دونه ، ومن حرم المعرفة ، حرم حلاوة الطاعة ، ومن حرم حلاوة الطاعة ، حرم المؤانسة في الخلوة ، فلا يجد في المعاملة رؤية المنَّة ، ولا يعرف َقدر اللهِ على الحقيقة ، ويغَْلب في الأحوال فيسقط عن استقامة السر مع الحق.

وقال يوسف بن أسباط رحمه الله: من عرف الله وفي قلبه هم سوى الله لم يسجد سجدًة خالصًة لله ، ومن عرف الله ولم يستغن بالله فلا أغناه الله ، ومن قال : الله وفي قلبه شيء سوى الله فلم يقل الله.

نعم من خاف الله في كل شيء أَمَنه اللهُ من كل شيء ، ومن أنس بمولاه استوحش عن كل ما سواه، ومن اعَتز بذي العز عز ، ومن اغتر بغيره فلا َفخْر ولا عز ، ومن انقطع عن الأسباب الشاغلة عن الله اتصل بالأسباب الشاغلة بالله ، ومن ترك عروة العلاقات صار مستأنسًا به في جميع الأوقات ، ومن ذاق حلاوة ذكْر مولاه ظهرت له أسرار الغيوب ، ومن جعل الهموم همًا واحدًا كفاه الله الهموم ، ومن طلب رضاء مولاه لا يبالي بسخط ما سواه ، ومن اكتفى بمقامه حجب عن إمامه ، ومن كان لله قريبًا كان مع غيره غريبًا ، ومن أراد عز الدارين فلينقطع إلى من له ملك الدارين ، ومن ترك حسن الرعاية زلَّ عن سبيل الهداية ، ومن أراد أن يشرب من محبة الله َ شربة فليشرب من بغض غير الله جرعة ، ومن استأنس بكل شيء استوحش من كل شيء ، ومن سكن قلبه إلى شيء فليس من الله في شيء.

قال عليه الصلاة والسلام : " من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء " ، قال الله تعالى في بعض الكتب : من أرادنا أردناه ، ومن أراد مّنا أعطيناه ، ومن أحبنا أحببناه ، ومن اكتفى بنا عما لنا ُ كّنا له وما لنا ، ألا من طلبني وجدني ، ومن طلب غيري لم يجدني " .

قيل: ألا من طلبني بالتوبة وجدني بالمغفرة ، ومن طلبني بشكر النعمة وجدني بالزيادة ، ومن طلبني بالدعاء وجدني بالإجابة ، ومن طلبني بالتوكل وجدني بالكفاية ، ومن طلبني بالُقربة وجدني بالمؤانسة ، ومن طلبني بالمحبة وجدني بالوصلة ، ومن طلبني بالاشتياق وجدني باللقاء والرؤية.

وقال بعضهم: من كان لله كان الله له ، أي من كان في أمر الله كان الله في أمره ، ومن كان في ذكر الله كان الله في ذكره ، ومن كان في حب الله كان الله في حبه ، ومن كان في مرضاة الله يكن الله في مرضاته ، ( ومن يعَتصم باللهِ َفَقد هدي إلى صراط مسَتقيٍم ).

قال صلى الله عليه وسلم: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " ومن حكِم العارفين قول قائلهم: من ابُتلي بمعاملة العبيد فليلبس لهم لباسًا من حديد ، ومن رضي من الدنيا باليسير فقد استراح من شغل كثير ، ومن أصبح على الدنيا حريصًا أصبح من الله بعيدًا ، ومن هَتك ستر الُتقي لم تستره السموات العلى ، ومن نظر في عواقب الأمور سلم من نوائب الدهور ، ومن لم يقنع بالقليل وقع في غم طويل ، ومن سلَّ سيف الُتقى ضرب به عنق الردى ، ومن كان مسرورًا لم يزل مغمورًا ، ومن لم يحفظ لسانه فسد عليه شأنه ، ومن لم يعرف موضع ضره لم يعرف موضع نفعه ، ومن أعرض عن صحبة الفجار عوضه الله صحبة الأبرار ، ومن أخذ عزًا بغير حق أورثه الله ُذلاً بحق ، ومن ضيع أيام حرثه ندم أيام حصاده ، ومن توكل على غير الله يعذبه الله به ، ومن رضي بالله وكيلاً صار له بكل خير دليلا ، ووجد إلى كل خير سبيلا ، ومن عرف حلاوة النجوى لا يجد مرارة البلوى ) ومن كان في هذه أَعمى َفهو في الآخرة أَعمى ) .

وقيل: ثلاث كلمات كان الأخيار من المتقدمين يوصي بعضهم بعضًا في كتبهم بهن: من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه ، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس.



إذا السر والإعلان في المؤمن استو ى

رأى العز في الدارين واستوجب الثنا


وإن خاف ألإعلان سرًا فما له

على فعله فضلٌ سوى الكد والعنا



آخر

من اعتز بالمولى فذاك جليلُ

ومن رام عزًا من سواه ذليلُ


فلو أن نفسًا مذْ براها مليكها

قضت وطرًا في سجدة لقليلُ


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء أكتوبر 30, 2012 5:17 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الرابع عشر

أخبرنا شيخنا الشيخ أبو الفضل علي المقرئ القرشي الواسطي رحمه الله تعالى رحمة واسعة ، قال: أنبأنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودي ، قال: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حموية السرخسي ، قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري ، قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، قال: حدثنا يحيى بن قزعة ، قال: حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن علقمة بن وقاص ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : " العمل بالنية ، وإنما لامرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " ، ومن هذا الطريق ، روى سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه هذا الحديث بنص : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله.." إلى آخر الحديث ، وهو نص عليه مدار الدين ، وأحكام العلم والعرفان واليقين ، وبه عروج قلوب العارفين إلى حضرة قدس رب العالمين.



خذْ طارف السير بلا عائق

لله لا تقصد سوى اللهِ


فكل ما أملَته قائم

بهجرة القلب إلى اللهِ



أَي بَني ، أهل الحجاب يتعجبون من كلام أولي الألباب ، وربما ينتهي التعجب بهم إلى طرف من الإنكار ، لقوله تعالى : ( أََفمن هَذا الحديث َتعجبون ) أي تنكرون فعلهم.

روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت تحت الجدار الذي أخبر الله عنه بقوله : ( وكان َتحَته َكنْز َلهما ) لوح من ذهب ، والذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ؟ وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن ؟ وعجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك ، وعجبت لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله.

قال وهب رحمه الله: بينما كنت أسير في أرض الروم ، إذ سمعت صوتًا من شاهق الجبل يقول: إلهي عجبت لمن عرفك ، كيف يتعرض لسخطك برضاءغيرك ، إلهي عجبت لمن عرفك ، كيف يرجو غيرك ، فاتَّبعت الصوت ، فإذا أنا بشيخ ساجد يقول: سبحانك عجبًا للخليقة كيف يريدون بك بدلاً ، سبحانك عجبًا كيف يشتغلون بخدمة غيرك ، سبحانك عجبًا للخليقة كيف يشتاقون إلى غيرك ؟ سبحانك سبحانك كيف يتلذذون بغيرك وبشيء دونك ، فمضيت وما أشغلته عما رأيت.

قال أبو يزيد رحمه الله: عجبت لأهل الجنة كيف يتلذذون بدونه ، أم كيف يستأنسون بغيره ، وعجبت ممن يسكن إلى حال دون ولي الأحوال ، والعجب لمن أقبل على الخلْق والحق يقول: إلي إلي.

قال أبو عبد الله بن مقاتل رحمه الله: عجبت لابن آدم ، اختاره الله لنفسه مع غناه عنه ، وهو يعرض عنه مع فقره إليه ، وعجبت لمن يشغل نفسه بشيء وهو يعلم أنه قد فرغ منه ، وعجبت ممن يأمر غيره بما لا يفعله ، ويغضب على غيره بما يفعله ، وممن يكره أن يعصى وهو عاص ، وممن يحب أن يطاع وهو غير مطيع لربه ، وممن يلوم غيره على الظن ، ولا يذم نفسه على اليقين.

قال حاتم الأصم رحمه الله: عجبت ممن يستحي من الخلق كيف لا يستحي من الخالق ، ولمن يطلب رضاء المربوبين كيف لا يطلب رضاء الرب ، ولمن يحب أهل الطاعة وهو مقبل على المعصية ، ولمن يعرف جلال الله كيف يعرض عنه ، ولمن يأكل رزق ربه كيف يشكر غيره ، ولمن يشتري المملوك بماله ، كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه وطيب كلامه.

وقال ُخنيس بن عبد الله : عجبت من رجل ليله قائم ، ونهاره صائم ، ويجتنب المحارم ، ولا تلقاه إلا باكياً حزينًا ، ورجل ليله نائم ، ونهاره لاعب ، ويرتكب المحارم ، ولا تلقاه أبدًا إلا ضاحكًا مستبشرًا.

وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: عجبت ممن يتذلل للعبيد وهو يجد من سيده ما يريد ، وعجبت لمن كان قوته رغيفًا يعصي ربًا لطيفًا ، وعجبت لمن يخاف على موت نفسه ، ولا يخاف على موت قلبه ، ولمن يخاف على فوات دنياه ، كيف لا يخاف على فوات دينه.

قال يحيى بن معاذ: إلهي ذكر الجنة موت ، وذكر النار موت ، فيا عجبًا لنفسي تحيا بين موتين ، أما الجنة فلا صبر عنها ، وأما النار فلا صبر عليها ، وقيل: ذكر الوصال موت ، وذكر الفراق موت ، كيف يحيا قلب بين موتين ، موت العارف عجيب ، لأن العارف بين سرور المعرفة وخوف الفرقة ، فكيف الموت مع سرور المعرفة ، أم كيف الحياة مع خوف الفرقة ؟

عجبت لِمن يقولُ ذكرت ربي
وهل أنسى فأذكر من نسيت
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا
ولولا ماء وصلك ما حييت
فأحيا بالمنى وأموت شوقا
فكم أحيا عليك وكم أموت
شربت الحب كأسًا بعد كأس
فما َنفد الشراب وما رويت

يا عجبًا

تغرب أمري عند كلِّ غريب
فصرت عجيبًا عند كلِّ عجيب


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء أكتوبر 31, 2012 6:22 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الخامس عشر

أخبرنا القاضي الإمام المقري الشيخ علي أبو الفضل القرشي الواسطي بداره بواسط ، قال: أنبأنا أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري ، قال: أنبأنا أبو يعقوب ، قال: أنبأنا زاهد بن أحمد ، قال: أنبأنا محمد بن إبراهيم بن نيروز ، قال : حدثنا المطلب بن شعيب بن عبد الله بن صالح ، قال: حدثنا الهقل بن زياد ، عن بكر ابن خنيس ، قال: حدثني عاصم بن عبدالله النخعي ، عن أبي هارون العبدي ، قال : أتينا أبا سعيد الخدري رضي الله عنه فسألناه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: " إنه سيأتيكم بعدي أناس من الآفاق يسألونكم عن حديثي وعن السنَّة فاستوصوا بهم خيرًا فكان إذا رآنا قال مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

هذا الحديث الشريف يجذب العارف إلى طلب حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وسّنته ، ليكون محل نظره النبوي ، في بحبوبة التوصية السارية في عوالم الله تعالى ، وهل لباب المعرفة بالله إلا الأخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته السنية وهذا القامع للنفس.

أي بَني ، إعلم أن معرفة النفس أحد أصول العبودية ، وَقلَّ من يعرفها وعز وجود من يتمنى عرفانها ، وما خلق اللهُ تعالى في الدارين سجنًا أضيق على العارف ولا أوحش ولا أنتن من النفس ، َفمن عرفها على التحقيق وخالف أمرها فكلَّ أرض له َثغر وطرسوس ، ومن غفل عن معرفتها فهو على خطر عظيم ولا يسلم من شرها ، فإن من لا يعرفها كيف يقوم بمخالفتها.

قال أحمد بن حرب: إني لأشتهي أن أموت ولو ساعة حتى أعرف نفسي وأخالفها ، قال محمد بن الفضل: من عرف نفسه لا يتنفس َنَفسًا إلا بدوام جهدها وكثرة عبادتها ، ولا يغتر بصفاوة أوقاتها وحسن أحوالها ولطائف أنفاسها وصدق معاملتها ، لما علم من غوامض آفاتها ومكرها وسوء طبعها وكمال شرها ، وإني تفكرت في جميع عمري ، ونظرت في شأن نفسي ، فما رضيت في عمري من نفسي طرفة عين.

قال الأنطاكي رحمه الله: من لا يعرف نفسه فهو مغرور ، قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: خالطت الناس سبعين سنة ، فما وجدت رجلاً إلا وهو راكب هواه ، حتى أنه إن أخطأ أحب أن يخطِّئ الناس كلهم ، ولأن يضرب ظهري بالسياط ، أحب إلي من أن يقال أخطأ فلان المسلم ، وقال إبراهيم التَّيمي : ما عرضت قولي على عملي إلا وجدته مكذوبا ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرًا ما يقول : اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي.

قال ذو النون: من نظر بعين المعرفة إلى سلطان ربه َفني عنه سلطان نفسه ، ومن نظر إلى عظمة ربه صُغرت عنده عظمة نفسه ، وُقهرت تحت جلال هيبته.

وقيل لمالك بن دينار حين ماتت زوجته أم يحيى: لو تزوجت يا أبا يحيى ، قال: لو استطعت لطلقت نفسي ، ولو أن مناديًا ينادي بباب المسجد: لِيخرج شركم رجلاً ، فو الله ما سبقني أحد إلى الباب إلا رجل له فضلُ قوة في السعي.

وقال أبو يزيد: قلت يا رب كيف الوصول إليك ؟ قال: يا أبا يزيد دع نفسك وتعال.

لقي حكيم حكيمًا فقال: يا أخي إني لأحبك في الله ، فقال : يا أخي والله لو علمت مني ما أعلم من نفسي َلبغضتني الحالة.

وكان بكر بن عبد الله المزني ومطرف بن عبد الله بالموقف ، فقال مطرف : اللهم لا تردهم لأجلي ، وقال بكر: ما أشرف هذه المواضع وأرجاها لولا أنا فيهم ! اللهم لا تحبس المغفرة بشؤمي ولا تردهم لأجلي.

وقال موسى بن القاسم : وقع عندنا زلزلة وريح حمراء ، فذهبت إلى محمد ابن مقاتل ، فقلت: يا أبا عبد الله ادع الله لنا فأنت إمامنا ، فقال: ليتني لا أكون سبب هلاككم ، فقال موسى بن القاسم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في المنام فقال: إن الله دفع عنكم البلاء بدعاء ابن مقاتل.

وكان عطاء السلمي يبكي كلما هبت ريح شديدة ، ويقول: هذه من أجلي يصيب بها الخلائق ، لو مات عطاء لاستراح الخلائق من بلائه ، وكثيرًا ما ينوح على نفسه ، ويقول: يا عطاء لعلك أول مسحوب إلى النار وأنت غافل.

وكان الفضل واقفًا بعرفات ، فنظر إلى جميع الناس وقال: يا له من موقف ما أشرفه لولا أنا فيهم ، ثم بكى ورفع رأسه وأخذ لحيته وقبض عليها وقال: يا سوأتاه على ما كان من نفسي ، فإنها مغرورة وبالثناء مسرورة ، وإن من غاية بلاء النفس ، أن لو مات نصفها لم يصلح النصف الآخر.

وحكي أن أبا يزيد البسطامي قال: نظرت في حال عبادتي فرأيتها مختلطة ، ثم نظرت إلى نفسي وتركيبها فإذا هي منسوبةٌ إلى كل بلاء ، ورأيتها لا تخلو من الشرك ، وعلمت أن الله تعالى لا يقبل الشرك ، فقلت لها: يا مأوى كل شر إلى كم يدعوك الله إلى توحيده ولا تنظرين إليه ؟ فاشتد على قلبي غم هذا الإشراك ، فعمدت وأعددت لها كانون الصياغة ثم سعرت فيه نار الحق ، ووضعت فيه كير اللَّيسية ، ونصبت سندان الوحدانية ، وضربتها بمطرقة الأمر والنهي ، وطال بي العناء ، فلما نظرت إليها وجدتها مشركة ، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون ، إنها لا تنظف بالجفاء ، فلعلها تنظف بالرفق واللين والمداراة ، فرددتها إلى بستان ذكر المنَّة ، ووضعت بين يديها رياحين رؤية اللطف والكرامات ، روحت بمراوح التحنُّن والبر والإحسان ، وطال مني العناء ، فلما فتَّشتها وجدتها مشركة ، فقلت لها: يا مأوى كل شر وبلاء ، لا تصلحي بالجفاء ولا بالرفق ، ثم رددتها إلى قصار الأحذية ، ليضربها على حجر الفردانية ، ويغسلها بماء صفوة الصمدانية ، فلم يزل يضربها رجاء أن تنظف من الإشراك ، وطال مني العناء ، فلما نظرت إليها فإذا هي مشركة ، فقلت: إنا لله ، لعل صلاحها من وجه آخر ، ثم أنزلتها بمنزلة امرأة مستحاضة ، فلم أزل أنظر إليها كالمتحير المضطر ، وأنظر إلى بلائها حتى أيست منها ، وعلمت أن لا يتأّتي مرادي منها ، فطلقتها ثلا َث تطليقات وتركُتها ، وصر ُت وحدي إلى ربي ، وناديته: يا عزيزي أدعوك دعاء من لم يبق له غيرك بالعتق من عبودية ما سواك ، فلما علم الله تعالى صدق الدعاء مني ، واليأس من نفسي ، كان أول إجابة الدعاء أن أنساني نفسي بالكّلية.

قال أبو سليمان: لو أن الخلْق اجتمعوا على أن يضعوني كإيضاعي عند نفسي لم يقدروا على ذلك.

طوبى لعبد أطلعه الله على شر النفس ، وعرف أصل خلقتها وأنواع عوارضها ، ومَقَتها وما أَلَِفها ، وَقهرها ، وحقَّرها ، واتَّهمها ، و وضعها.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء أكتوبر 31, 2012 6:27 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الخامس عشر

أخبرنا القاضي الإمام المقري الشيخ علي أبو الفضل القرشي الواسطي بداره بواسط ، قال: أنبأنا أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري ، قال: أنبأنا أبو يعقوب ، قال: أنبأنا زاهد بن أحمد ، قال: أنبأنا محمد بن إبراهيم بن نيروز ، قال : حدثنا المطلب بن شعيب بن عبد الله بن صالح ، قال: حدثنا الهقل بن زياد ، عن بكر ابن خنيس ، قال: حدثني عاصم بن عبدالله النخعي ، عن أبي هارون العبدي ، قال : أتينا أبا سعيد الخدري رضي الله عنه فسألناه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: " إنه سيأتيكم بعدي أناس من الآفاق يسألونكم عن حديثي وعن السنَّة فاستوصوا بهم خيرًا فكان إذا رآنا قال مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

هذا الحديث الشريف يجذب العارف إلى طلب حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وسّنته ، ليكون محل نظره النبوي ، في بحبوبة التوصية السارية في عوالم الله تعالى ، وهل لباب المعرفة بالله إلا الأخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته السنية وهذا القامع للنفس.

أي بَني ، إعلم أن معرفة النفس أحد أصول العبودية ، وَقلَّ من يعرفها وعز وجود من يتمنى عرفانها ، وما خلق اللهُ تعالى في الدارين سجنًا أضيق على العارف ولا أوحش ولا أنتن من النفس ، َفمن عرفها على التحقيق وخالف أمرها فكلَّ أرض له َثغر وطرسوس ، ومن غفل عن معرفتها فهو على خطر عظيم ولا يسلم من شرها ، فإن من لا يعرفها كيف يقوم بمخالفتها.

قال أحمد بن حرب: إني لأشتهي أن أموت ولو ساعة حتى أعرف نفسي وأخالفها ، قال محمد بن الفضل: من عرف نفسه لا يتنفس َنَفسًا إلا بدوام جهدها وكثرة عبادتها ، ولا يغتر بصفاوة أوقاتها وحسن أحوالها ولطائف أنفاسها وصدق معاملتها ، لما علم من غوامض آفاتها ومكرها وسوء طبعها وكمال شرها ، وإني تفكرت في جميع عمري ، ونظرت في شأن نفسي ، فما رضيت في عمري من نفسي طرفة عين.

قال الأنطاكي رحمه الله: من لا يعرف نفسه فهو مغرور ، قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: خالطت الناس سبعين سنة ، فما وجدت رجلاً إلا وهو راكب هواه ، حتى أنه إن أخطأ أحب أن يخطِّئ الناس كلهم ، ولأن يضرب ظهري بالسياط ، أحب إلي من أن يقال أخطأ فلان المسلم ، وقال إبراهيم التَّيمي : ما عرضت قولي على عملي إلا وجدته مكذوبا ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرًا ما يقول : اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي.

قال ذو النون: من نظر بعين المعرفة إلى سلطان ربه َفني عنه سلطان نفسه ، ومن نظر إلى عظمة ربه صُغرت عنده عظمة نفسه ، وُقهرت تحت جلال هيبته.

وقيل لمالك بن دينار حين ماتت زوجته أم يحيى: لو تزوجت يا أبا يحيى ، قال: لو استطعت لطلقت نفسي ، ولو أن مناديًا ينادي بباب المسجد: لِيخرج شركم رجلاً ، فو الله ما سبقني أحد إلى الباب إلا رجل له فضلُ قوة في السعي.

وقال أبو يزيد: قلت يا رب كيف الوصول إليك ؟ قال: يا أبا يزيد دع نفسك وتعال.

لقي حكيم حكيمًا فقال: يا أخي إني لأحبك في الله ، فقال : يا أخي والله لو علمت مني ما أعلم من نفسي َلبغضتني الحالة.

وكان بكر بن عبد الله المزني ومطرف بن عبد الله بالموقف ، فقال مطرف : اللهم لا تردهم لأجلي ، وقال بكر: ما أشرف هذه المواضع وأرجاها لولا أنا فيهم ! اللهم لا تحبس المغفرة بشؤمي ولا تردهم لأجلي.

وقال موسى بن القاسم : وقع عندنا زلزلة وريح حمراء ، فذهبت إلى محمد ابن مقاتل ، فقلت: يا أبا عبد الله ادع الله لنا فأنت إمامنا ، فقال: ليتني لا أكون سبب هلاككم ، فقال موسى بن القاسم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في المنام فقال: إن الله دفع عنكم البلاء بدعاء ابن مقاتل.

وكان عطاء السلمي يبكي كلما هبت ريح شديدة ، ويقول: هذه من أجلي يصيب بها الخلائق ، لو مات عطاء لاستراح الخلائق من بلائه ، وكثيرًا ما ينوح على نفسه ، ويقول: يا عطاء لعلك أول مسحوب إلى النار وأنت غافل.

وكان الفضل واقفًا بعرفات ، فنظر إلى جميع الناس وقال: يا له من موقف ما أشرفه لولا أنا فيهم ، ثم بكى ورفع رأسه وأخذ لحيته وقبض عليها وقال: يا سوأتاه على ما كان من نفسي ، فإنها مغرورة وبالثناء مسرورة ، وإن من غاية بلاء النفس ، أن لو مات نصفها لم يصلح النصف الآخر.

وحكي أن أبا يزيد البسطامي قال: نظرت في حال عبادتي فرأيتها مختلطة ، ثم نظرت إلى نفسي وتركيبها فإذا هي منسوبةٌ إلى كل بلاء ، ورأيتها لا تخلو من الشرك ، وعلمت أن الله تعالى لا يقبل الشرك ، فقلت لها: يا مأوى كل شر إلى كم يدعوك الله إلى توحيده ولا تنظرين إليه ؟ فاشتد على قلبي غم هذا الإشراك ، فعمدت وأعددت لها كانون الصياغة ثم سعرت فيه نار الحق ، ووضعت فيه كير اللَّيسية ، ونصبت سندان الوحدانية ، وضربتها بمطرقة الأمر والنهي ، وطال بي العناء ، فلما نظرت إليها وجدتها مشركة ، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون ، إنها لا تنظف بالجفاء ، فلعلها تنظف بالرفق واللين والمداراة ، فرددتها إلى بستان ذكر المنَّة ، ووضعت بين يديها رياحين رؤية اللطف والكرامات ، روحت بمراوح التحنُّن والبر والإحسان ، وطال مني العناء ، فلما فتَّشتها وجدتها مشركة ، فقلت لها: يا مأوى كل شر وبلاء ، لا تصلحي بالجفاء ولا بالرفق ، ثم رددتها إلى قصار الأحذية ، ليضربها على حجر الفردانية ، ويغسلها بماء صفوة الصمدانية ، فلم يزل يضربها رجاء أن تنظف من الإشراك ، وطال مني العناء ، فلما نظرت إليها فإذا هي مشركة ، فقلت: إنا لله ، لعل صلاحها من وجه آخر ، ثم أنزلتها بمنزلة امرأة مستحاضة ، فلم أزل أنظر إليها كالمتحير المضطر ، وأنظر إلى بلائها حتى أيست منها ، وعلمت أن لا يتأّتي مرادي منها ، فطلقتها ثلا َث تطليقات وتركُتها ، وصر ُت وحدي إلى ربي ، وناديته: يا عزيزي أدعوك دعاء من لم يبق له غيرك بالعتق من عبودية ما سواك ، فلما علم الله تعالى صدق الدعاء مني ، واليأس من نفسي ، كان أول إجابة الدعاء أن أنساني نفسي بالكّلية.

قال أبو سليمان: لو أن الخلْق اجتمعوا على أن يضعوني كإيضاعي عند نفسي لم يقدروا على ذلك.

طوبى لعبد أطلعه الله على شر النفس ، وعرف أصل خلقتها وأنواع عوارضها ، ومَقَتها وما أَلَِفها ، وَقهرها ، وحقَّرها ، واتَّهمها ، و وضعها.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء أكتوبر 31, 2012 10:25 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث السادس عشر

أخبرنا سيدنا فرد الوقت أبو المكارم الباز الأشهب الشيخ منصور الرباني البطايحي الأنصاري رضي الله عنه برواقه في بلدة نهر دقلي من واسط ، قال: أنبأنا أبو عبد الله مالك بن أحمد بن علي الفرا قراءة عليه ، قال: أنبأنا أبو الحسن أحمد بن موسى بن الصلت ، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، قال: حدثنا عبيد ابن أسباط ، عن أبي سفيان ، عن عبدالملك بن عمير ، عن ربعي ، عن حذيفه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقتدوا باللَذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد " . فقد أمر عليه الصلاة والسلام بتصحيح القدوة بالشيخين العظيمين ، سيدنا أبي بكر الصديق وسيدنا عمر الفاروق رضي الله عنهما ، وبالتحقق بالإهتداء بهدي عمار رضي الله عنه ، فإنه مات على حب الصهر العظيم ، الصنو الكريم ، سيدنا علي رضي الله عنه ، وأكد لزوم التمسك بالعهد ، كما كان محافظًا عليه ابن أم عبد رضي الله عنه ، وفي هذا حكمة الجمع بين حب الصحب والآل ، سر يدركه العارفون الموّفقون.

وقد جعل صحة المتابعة له بإتباع الشيخين رضي الله عنهما ، وحقيقة الاهتداء بهديه بموالاة الأمير رضي الله عنه ، وجمع بين النكتتين بلزوم التمسك بالعهد ، ومتى اقتدى العبد اهتدى ، ومتى اهتدى تمسك بعهد الله ، وهناك وقد عرف ، وهل المعرفة بالله تعالى إلا هذا ، فإن من اهتدى بهدي محمد صلى الله عليه وسلم واقتدى به وتمسك بعهده ، أقبل على الله وأعرض عن غيره.

جاء في الخبر أن الله تعالى قال : " يا دنيا اخدمي من خدمني ، واستخدمي من خدمك" ، وليس من معالي الهمة الاشتغال بما فيه حظ النفس ، وفي َنعت النبي صلى الله عليه وسلم بعلو همته الشريفة ( ما زاغ البصر وما طغى ) ولا يصل العبد إلى الله تعالى ، حتى يقطع مفاوز الدنيا وما فيها من زهراتها ولذاتها وراحاتها وشهواتها ، ويجاوز أودية الخلق وما منهم من جميل معاشرتهم وثنائهم ومحمدتهم ، وأن الله تعالى خلق جميع ذلك ابتلاء لكل من أراد أن يصير مجردًا ، حتى إن التفت إلى شيء منها صار مفتضحًا في دعواه ، وغرق في أودية الحسبان والخسران ، فكم مستدرج بالنعم ، محجوب عن الخالق ، غافل عن الصدق ، جاهل بعرفان النفس ، يصبح ويمسي على الحسبان ، فيبدو له من ذي العرش ما لم يكن يحتسب ، قال الله تعالى : " وبدا َلهم من اللهِ ما َلم يكوُنوا يحَتسبون " وإن من معالي الهمة ما قيل لأبي عبد الله: لو أعطاك الله تعالى الدنيا بجميع ما فيها ، ماذا تفعل بها ؟ فقال: لو أمكنني أن أجعلها لقمة ، وأضعها في فم كافر لفعلت ، قيل: ولم ؟ قال: لأن الله تعالى يبغض الكافر والدنيا جميعًا ، فأفعل ذلك ليقع البغيض إلى البغيض.

ثم حكي من صدق ما ادعاه أن سلطان هراة بعث إليه سبعة أوقار الحنطة ، وكان الشيخ يومئذ بهراة مع أصحابه ، فأطعم الخادم منها أولياءه ، فقال له أبو عبد الله: أطعم الباقي فقراء العامة فقال: لا يمكن ، الأبواب مغلقة ، فقال: اذهب به إلى المجوس الذين هم في جوارنا قال الخادم : فخشيت عقوبة الله تعالى في ترك أمره ، فأعطيته المجوس ، فجاؤوا بكرة إليه وقالوا: ما الحكمة في إعطائك إيانا ونحن مخالفوك ؟ فقال: الدنيا عدو الله ، والكافر عدو الله ، ولا يقرب الحبيب من الحبيب حتى يبعد من عدوه ، قال: فأسلموا جميعًا على يديه.
حكي أن بعض المريدين كان يمشي في البادية فحدثته نفسه ببعض حاجتها ، فإذا هو على شط بئر ، فرمى ركوته في البئر ليستقي الماء فخرجت له الركوُة مملوءًة من الذهب ، فرمى بها في البئر وقال: يا عزيزي لا أريد غيرك.

قال عمار القرشي: كنت في البادية فأردت التلبية وكنت حاجًا ، فأخذت منديل شيخ لي فقددته نصفين ، واتزرت بنصفه وارتديت بالآخر ، فلم تزل نفسي تنازعني ببعض الحاجة ، فإذا البادية كلها فضة ، فمضيت وقلت: إلهي إني أعوذ بك من كل إرادة سواك.

قال عيسى عليه الصلاة والسلام: طوبى لرجل َذكر الله ولم يذكر إلا الله ، وطوبى لرجل خشي الله ولم يخش إلا الله ، وطوبى لعبد سأل الله ولم يسأل إلا الله.

وحكي أن الإمام بن الإمام سيدنا زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما ، قال: كنت عند أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، أقرأ في بعض الكتب ، وكان في يده سكين ، فرأيت حرفًا خطأ ، فقلت: ناولني السكين لأصلح هذا الحرف ، فناولني فلما قضيت الحاجة رددته عليه ، فقال لي: يا علي لا َتعد إلى هذه مرة أخرى فتقع إلى ُذلّ السؤال وخساسة الهمة.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لثوبان رضي الله عنه : " يا ثوبان لا تسأل الناس" فكان ثوبان ربما يسقط السوط من يده ، فلا يقول لأحد ناولني إياه حتى ينزل ويرفعه.

وسأل رجل من سفيان رحمه الله كسرة فأعطاه دينارًا ، فقيل له في ذلك فقال: إن كان لا يعرف هو قدر نفسه فلا أدع كرم نفسي ، وإن كان هذا ترك الهمة فأنا لا أدع الجود.

همم العارفين متصلة بمحبة الرحمن ، وقلوبهم ناظرة إلى مواضع العز من العزيز ، لا راحة لهم في دار الدنيا دون الخروج منها ، وكان كثيرًا ما يرى حبيب العجمي رضي الله عنه يوم التروية بالبصرة ويوم عرفة بعرفات ، فقيل له في ذلك فقال: هو أقل ما أطار إليه الهمة أهلُ الهمة.

ودخل علي كرم الله وجهه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أعرابيًا في المسجد يقول: إلهي أريد منك شويهة ، ورأى أبا بكر الصديق في زاوية أخرى يقول: إلهي أريدك ، فشتان ما بين الهمتين ، فكلٌّ يطير بهمته ، فإذا بلغ طيرانه إلى غاية همته وقف فلم يجاوزها قال الله تعالى : " ُقلْ ُكلٌّ يعملُ عَلى شاكَلته " أي على نيته وهمته.

وقيل لأبي يزيد: سمعنا أنك تمر على الماء وتطير في الهواء ، فقال : المؤمن أعز على الله من السماوات السبع ، فأي عجب أن يبلغ مقام طير أو حوت ، ُقرئَ بين يدي ابن المبارك قوله تعالى : " أُوَلئِك يسارعون في الخيرات " فقال : ليس أنه يسبق بدن بدنًا ، ولا عملٌ يسبق عملاً ، ولكن همةٌ تسبق همة في جميع الخيرات والإرادات.

قال بعض العارفين: مساكين أهل الغفلة ، يشتغلون بكثرة الأعمال ويعظمونها ويفتخرون بها ، ولو أن أهل المعرفة عملوا أعمال أهل السموات والأرض من الأزل إلى الأبد كان ذلك أصغر وأحقر في أعينهم من خردلة في السماء والأرض.

قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تستكثروا طاعتكم ، ولا تستقلوا ذنوبكم " و روي أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يمر على شاطئ البحر ، فقال إلهي قد اصطكت ركبتاي ، وانحنى ظهري ، حبيبي فما أنت صانع بي ؟ فأمر الله تعالى ضفدعًا أن يجيبه ، فقال يا بن عمران : أَتمن على ربك بعبادتك إياه وقد اصطفاك وكلمك وقربك وناجاك ، فوالذي خلقني ويراني إني على صخرة منذ ثلاثمائة وستين سنة ، أسبحه ليلا ونهارًا لا أفتر منها لحظة ، ومنذ ثلاثة أيام لم آكل ، وكل ساعة ترتعد فرائصي من هيبته.

وقال أبو سعيد أبو الخير كنت في البادية فنالني جوع شديد ، فطالبتني نفسي أن أسأل الله طعامًا ، فقال ليس هذا من دأب المتوكلين ، فطالبتني أن أسأله اصطبارًا ، فلما هممت به ثانيًا سمعت هاتفًا يقول:

أيجهلُ أننا منه قريب
وأّنا لا ُنضيع من أتانا
يريد أبو سعيد سؤالَ صبر
كأّنا لا نراه ولا يرانا


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس نوفمبر 01, 2012 5:47 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث السابع عشر

أخبرنا شيخنا القاضي العدل الثقة المقري الإمام الشيخ علي أبو الفضل القرشي الواسطي رضي الله عنه ، قال : أنبأنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح العشاري ، قال: أنبأنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص ، قال: أنبأنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد ، قال: أنبأنا مالك بن الخليل أبو غسان ، قال : أنبأنا ابن عدي ، عن أشعث ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب هم الذين لا يكَْتوون ولا يسَترُقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ".

جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم التطير المرتبة الثالثة ، بعد ترك الاكتواء والاسترقاء ، وهذه مرتبة الخلَّص من أهل الانمحاق عنهم وعن كونهم في مراد الله تعالى رحمهم الله ما أقلهم في كل عهد ، فإن رتبتهم التحقق بالتوكل على الله تعالى توكلاً تنطوي فيه الأسباب والمرادات ، وأولئك هم العارفون بالله حقاً رضي الله عنهم.

يا هذا لو أن العالم فريقان ، فريقٌ يروحني بمراوح من َند ، وفريقٌ يقرض جسمي بمقارض من نار ، لا ازداد هؤلاء عندي ولا نقص هؤلاء.
أي بني: اعلم أن من عرف الله حق معرفته ، تلاشت همته تحت سرور وحدانيته ، ولا شيء من العرش إلى الثرى أعظم من سرور العارف بربه ، والجنة بكل ما فيها في جنب سروره بربه أصغر من خردلة ، لِما علم أنه أكبر من كل كبير ، وأعظم من كل عظيم ، فمن وجده فأي شيء لا يجد ، وبأي شيء يشتغل بعده ، وهل رؤية غيره إلا من خساسة النفس ، ودناءة الهمة ، وقلة المعرفة به ، وهل يكون لباس أجملُ من لباس الإسلام ، أو تاج أجلّ من تاج المعرفة ، أو بساط أشرف من بساط الطاعة ، قال الله تعالى : " ُقلْ ِبَفضل اللهِ وِبرحمته َفِبَذلِك َفيَلفْرحوا ".

قال إبراهيم بن أدهم في بعض مناجاته: إلهي إنك تعلم أن الجنة وما فيها لا تزن عندي جناح بعوضة بعدما وهبت لي معرفتك ، وآنستني بك ، وفرغتني للتفكر في عظمتك ، ووعدتني النظر إلى وجهك.

نعم إن أدنى منازل العارف أن الله تعالى لو أدخله النار ، وأحاط به العذاب ، لم يزدد قلبه إلا حبًا وأنسًا به وشوقًا إليه ، قال ابن سيرين لو ُخيرت بين الجنة وركعتين تخيرت الركعتين ، لأن في الركعتين رضاء الله تعالى ، والقرب منه ، وفي الجنة هوى النفس ، ومحبة الناس.
قيل : لما أُلقي الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار و : " قاُلوا حرُقوه وانْصروا ءالِهَتكم " ، قال: حسبي ربي ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير ، قال تعالى : " يا َنار ُكوني بردًًا وسلامًا عَلى إِبراهيم " ، وروي أن الله تعالى أوحى إليه : يا إبراهيم أنت خليلي وأنا خليلك ، فلا تشغل قلبك بدوني فتنقطع الخلَّة بينك وبيني ، لأن الصادق في دعوى ُخلَّتي من إذا أُحرق بالنار لم يتحول قلبه عني إلى غيري إجلالاً لحرمتي ، وَذكر الله تعالى ذلك في كتابه بقوله : " إِذْ َقالَ َله ربه أَسلم َقالَ أَسَلمت لِرب العاَلمين " ، فعرف صدقه في التسليم حين أُلقي في النار .

قال أبو عبد الله بن مقاتل في مناجاته : إلهي لا تدخلني في النار فإنها تصير بردًا علي من حبي لك ، قال أيوب السختياني : إنما يخاف النار من نسي مولاه فيقال لهم : " َفُذوُقوا ِبما َنسيُتم لَِقاء يومكم هَذا" مع ثواب أعماله ، قال أبو حفص : إني لأخاف على معرفة قوم يكون على جباههم مكتوبًا " عتقاء الله" بعد إخراجهم منها يسألون الله رفع تلك العلامة عنهم ، ولو كنت أنا لسألته أن يكتب ذلك على جميع أعضائي ، ويكفيني فخرًا أني من عتقائه.

وأنا أقول : إنما الحاصل للمريد في الجنة من الجنة هو الرب تعالى ، وقربه ونظره ، واستماع كلامه ، أما ترى امرأة فرعون إذ قالت : " رب ابن لِي عندك بيَتًا في الجنَّة " كما يقال : الجار قبل الدار.

قال إبراهيم بن أدهم : إني لأستحي أن يكون غاية همتي مخلوقًا ، وقد قال الله تعالى لبعض أنبيائه: من أرادنا لم يرد سوانا.

قال بعض المشايخ : رأيت شابًا في المسجد الحرام ، قد أثَّر فيه الضر والجوع ، فأدركتني الرحمة عليه ، وكان معي مائة دينار في صرة ، فدنوت منه وقلت: يا حبيبي اصرف هذا في بعض حوائجك ، فلم يلتفت إلي ، فألححت عليه ، فقال: يا شيخ هذه حالةٌ لا أبيعها بالجنة وما فيها ، وهي دار الجلال ومعدن القرار والبقاء ، فكيف أبيعها بثمن بخس.

قال أبو موسى الدبيلي خادم أبي يزيد: سمعت شيخًا ببسطام يقول: رأيت في منامي كأن الله تعالى يقول: كلكم تطلبون مني غير أبي يزيد فإنه يطلبني ويريدني وأنا أريده.

قال أبو عبد الله : اتخذ اللهَ جليسًا وأنيسًا ، والزم خدمة مولاك تأتك الدنيا وهي راغمة ، وتطلبك الآخرة وهي عاشقة ، وقال : يا طالب الدنيا دع الدنيا تطلبك ، ويا طالب الآخرة أو لم يكف بربك أنه على كل شيء قدير ؟ قال أبو سعيد الخراز : كنت بالموقف ، فهممت أن أسأل الله شيئًا فهتف بي هاتف : بعد الله تسأل غير الله.

وكتب رجل إلى أخ له: أما بعد : فاضرب بالدنيا وجه عشاقها وبالآخرة وجه طلابها ، واستأنس برب العالمين ، والسلام ، قال أبو عبد الله النساج : لا تستكثر الجنة للمؤمن ، فإنه قد وافى لله تعالى بما هو أكثر قدرًا من الجنة وهو المعرفة.

وصلى رجلٌ من العارفين على جنازة فكبر خمسًا ، فقيل له في ذلك فقال : كبرت أربعًا على الميت ، وواحدة على الدارين ، وحكي أنه ُقرئَ بين يدي أبي يزيد " منكم من يريد الدنْيا ومنكم من يريد الآخرَة" قال : فأين من يريد المولى ؟

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بماذا بلغت هذه المنزلة حتى سبقتنا ؟ فقال : بخمسة أشياء ، أولها: وجدت الناس صنفين ، طالب دنيا وطالب عقبى فكنت أنا طالب المولى ، والثاني : منذ دخلت الإسلام ما شبعت من طعام الدنيا ، والثالث: ما رويت من شراب الدنيا ، والرابع : إذا استقبلني عملان ، عمل للدنيا والآخر للعقبى ، اخترت عمل الآخرة على عمل الدنيا ، والخامس : صحبت النبي عليه الصلاة والسلام ، فأحسنت صحبته ، فقال له علي: هنيئًا لك يا أبا بكر.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس نوفمبر 01, 2012 5:51 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث السابع عشر

أخبرنا شيخنا القاضي العدل الثقة المقري الإمام الشيخ علي أبو الفضل القرشي الواسطي رضي الله عنه ، قال : أنبأنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح العشاري ، قال: أنبأنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص ، قال: أنبأنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد ، قال: أنبأنا مالك بن الخليل أبو غسان ، قال : أنبأنا ابن عدي ، عن أشعث ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب هم الذين لا يكَْتوون ولا يسَترُقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ".

جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم التطير المرتبة الثالثة ، بعد ترك الاكتواء والاسترقاء ، وهذه مرتبة الخلَّص من أهل الانمحاق عنهم وعن كونهم في مراد الله تعالى رحمهم الله ما أقلهم في كل عهد ، فإن رتبتهم التحقق بالتوكل على الله تعالى توكلاً تنطوي فيه الأسباب والمرادات ، وأولئك هم العارفون بالله حقاً رضي الله عنهم.

يا هذا لو أن العالم فريقان ، فريقٌ يروحني بمراوح من َند ، وفريقٌ يقرض جسمي بمقارض من نار ، لا ازداد هؤلاء عندي ولا نقص هؤلاء.
أي بني: اعلم أن من عرف الله حق معرفته ، تلاشت همته تحت سرور وحدانيته ، ولا شيء من العرش إلى الثرى أعظم من سرور العارف بربه ، والجنة بكل ما فيها في جنب سروره بربه أصغر من خردلة ، لِما علم أنه أكبر من كل كبير ، وأعظم من كل عظيم ، فمن وجده فأي شيء لا يجد ، وبأي شيء يشتغل بعده ، وهل رؤية غيره إلا من خساسة النفس ، ودناءة الهمة ، وقلة المعرفة به ، وهل يكون لباس أجملُ من لباس الإسلام ، أو تاج أجلّ من تاج المعرفة ، أو بساط أشرف من بساط الطاعة ، قال الله تعالى : " ُقلْ ِبَفضل اللهِ وِبرحمته َفِبَذلِك َفيَلفْرحوا ".

قال إبراهيم بن أدهم في بعض مناجاته: إلهي إنك تعلم أن الجنة وما فيها لا تزن عندي جناح بعوضة بعدما وهبت لي معرفتك ، وآنستني بك ، وفرغتني للتفكر في عظمتك ، ووعدتني النظر إلى وجهك.

نعم إن أدنى منازل العارف أن الله تعالى لو أدخله النار ، وأحاط به العذاب ، لم يزدد قلبه إلا حبًا وأنسًا به وشوقًا إليه ، قال ابن سيرين لو ُخيرت بين الجنة وركعتين تخيرت الركعتين ، لأن في الركعتين رضاء الله تعالى ، والقرب منه ، وفي الجنة هوى النفس ، ومحبة الناس.
قيل : لما أُلقي الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار و : " قاُلوا حرُقوه وانْصروا ءالِهَتكم " ، قال: حسبي ربي ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير ، قال تعالى : " يا َنار ُكوني بردًًا وسلامًا عَلى إِبراهيم " ، وروي أن الله تعالى أوحى إليه : يا إبراهيم أنت خليلي وأنا خليلك ، فلا تشغل قلبك بدوني فتنقطع الخلَّة بينك وبيني ، لأن الصادق في دعوى ُخلَّتي من إذا أُحرق بالنار لم يتحول قلبه عني إلى غيري إجلالاً لحرمتي ، وَذكر الله تعالى ذلك في كتابه بقوله : " إِذْ َقالَ َله ربه أَسلم َقالَ أَسَلمت لِرب العاَلمين " ، فعرف صدقه في التسليم حين أُلقي في النار .

قال أبو عبد الله بن مقاتل في مناجاته : إلهي لا تدخلني في النار فإنها تصير بردًا علي من حبي لك ، قال أيوب السختياني : إنما يخاف النار من نسي مولاه فيقال لهم : " َفُذوُقوا ِبما َنسيُتم لَِقاء يومكم هَذا" مع ثواب أعماله ، قال أبو حفص : إني لأخاف على معرفة قوم يكون على جباههم مكتوبًا " عتقاء الله" بعد إخراجهم منها يسألون الله رفع تلك العلامة عنهم ، ولو كنت أنا لسألته أن يكتب ذلك على جميع أعضائي ، ويكفيني فخرًا أني من عتقائه.

وأنا أقول : إنما الحاصل للمريد في الجنة من الجنة هو الرب تعالى ، وقربه ونظره ، واستماع كلامه ، أما ترى امرأة فرعون إذ قالت : " رب ابن لِي عندك بيَتًا في الجنَّة " كما يقال : الجار قبل الدار.

قال إبراهيم بن أدهم : إني لأستحي أن يكون غاية همتي مخلوقًا ، وقد قال الله تعالى لبعض أنبيائه: من أرادنا لم يرد سوانا.

قال بعض المشايخ : رأيت شابًا في المسجد الحرام ، قد أثَّر فيه الضر والجوع ، فأدركتني الرحمة عليه ، وكان معي مائة دينار في صرة ، فدنوت منه وقلت: يا حبيبي اصرف هذا في بعض حوائجك ، فلم يلتفت إلي ، فألححت عليه ، فقال: يا شيخ هذه حالةٌ لا أبيعها بالجنة وما فيها ، وهي دار الجلال ومعدن القرار والبقاء ، فكيف أبيعها بثمن بخس.

قال أبو موسى الدبيلي خادم أبي يزيد: سمعت شيخًا ببسطام يقول: رأيت في منامي كأن الله تعالى يقول: كلكم تطلبون مني غير أبي يزيد فإنه يطلبني ويريدني وأنا أريده.

قال أبو عبد الله : اتخذ اللهَ جليسًا وأنيسًا ، والزم خدمة مولاك تأتك الدنيا وهي راغمة ، وتطلبك الآخرة وهي عاشقة ، وقال : يا طالب الدنيا دع الدنيا تطلبك ، ويا طالب الآخرة أو لم يكف بربك أنه على كل شيء قدير ؟ قال أبو سعيد الخراز : كنت بالموقف ، فهممت أن أسأل الله شيئًا فهتف بي هاتف : بعد الله تسأل غير الله.

وكتب رجل إلى أخ له: أما بعد : فاضرب بالدنيا وجه عشاقها وبالآخرة وجه طلابها ، واستأنس برب العالمين ، والسلام ، قال أبو عبد الله النساج : لا تستكثر الجنة للمؤمن ، فإنه قد وافى لله تعالى بما هو أكثر قدرًا من الجنة وهو المعرفة.

وصلى رجلٌ من العارفين على جنازة فكبر خمسًا ، فقيل له في ذلك فقال : كبرت أربعًا على الميت ، وواحدة على الدارين ، وحكي أنه ُقرئَ بين يدي أبي يزيد " منكم من يريد الدنْيا ومنكم من يريد الآخرَة" قال : فأين من يريد المولى ؟

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بماذا بلغت هذه المنزلة حتى سبقتنا ؟ فقال : بخمسة أشياء ، أولها: وجدت الناس صنفين ، طالب دنيا وطالب عقبى فكنت أنا طالب المولى ، والثاني : منذ دخلت الإسلام ما شبعت من طعام الدنيا ، والثالث: ما رويت من شراب الدنيا ، والرابع : إذا استقبلني عملان ، عمل للدنيا والآخر للعقبى ، اخترت عمل الآخرة على عمل الدنيا ، والخامس : صحبت النبي عليه الصلاة والسلام ، فأحسنت صحبته ، فقال له علي: هنيئًا لك يا أبا بكر.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة نوفمبر 02, 2012 7:26 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الثامن عشر

أخبرنا ابن العم الولي الصالح السيد سيف الدين عثمان ، قال: حدثني أبوك السيد علي بن يحيى الرفاعي صاحب المشهد المنور ببغداد ، قال: حدثني ابن عمي السيد حسن بن عسلة ، قال: حدثني النقيب الجليل السيد يحيى بن ثابت ، قال: حدثني أبي السيد ثابت ، عن أبيه السيد علي الحازم أبي الفوارس عن أبيه السيد أحمد ابن علي أبي الفضائل ، عن أبيه السيد رفاعة الحسن المكي نزيل إشبيلية ، عن أبيه السيد أبي القاسم محمد البغدادي نزيل مكة ، عن أبيه السيد الحسن القاسم أبي موسى الرئيس ، عن أبيه السيد الحسين عبد الرحمن الرضي المحدث القطيعي ، عن أبيه السيد أحمد الأكبر ، عن أبيه السيد موسى ، عن أبيه الأمير الكبير السيد إبراهيم المرتضى ، عن أخيه الإمام الأعظم قبلة أهل الباطن علي الرضا صاحب طوس ، عن أبيه الإمام الشهيد موسى الكاظم ، عن أبيه الإمام السعيد جعفر الصادق ، عن أبيه الإمام محمد الباقر ، عن أبيه الإمام زين العابدين علي السجاد ، عن أبيه الإمام المظلوم الشهيد السعيد الحسين صاحب كربلاء ، عن أبيه أمير المؤمنين يعسوب نحل الموحدين الإمام علي كرم الله وجهه ، عن ابن عمه سيد المخلوقين وحبيب رب العالمين نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أدبني ربي فأحسن تأديبي" ، هذا الحديث الشريف ملزم بالتحقيق بآدابه صلى الله عليه وسلم ، فإن من زلَّ عنها هوى ومن فارقها ضلَّ وغوى ، وبها َتعرج همم المقربين وُتزهر أسرار العارفين ، ولا وجه يلتحق به العارف بربه إلا طريق الأدب المحمدي ، وسلَّم كل هذا: الذكر المتواصل.

أي بَني ، اذكر الله تعالى ، واعلم أن الله تعالى أَعَلى درجة الذكر وعظَّم رتبته ورفع شأنه وشرفه وفضله ، ثم قسمه على اللسان والأركان والجنان ، فينبغي أن يكون الذاكر على حذر أن يلتفت إلى الذكر ، ويكون شريف الهمة والإرادة ، لطيف الفطنة في الإشارة ، صحيح النية والإرادة ، لا يريد بذكره غيره ، ولا يلتمس منه فراغه عنه إلى ما دونه ، لأن الوصول إلى الكل تحت الرضا به عن غيره ، والحرمان من الكل تحت الاشتغال بغيره ، ويجب على الذاكر أن يذكره على غاية من التعظيم والحرمة ، لا على العادة والغفلة ، فيصير بذلك محجوبًا عن المذكور ، عقوبة لترك التعظيم والحرمة ، لأن حفظ الحرمة في الذكر خير من الذكر ، وما من عبد ذكره على التحقيق إلا نسي في جنب ذكره ما سواه ، وكان الله له عوضًا من كل شيء ، وربما يريد العارف أن يذكره فيهيج في سره أمواج التعظيم والهيبة ، فيكلُّ لسانه ويطير فؤداه من إجلال الوحدانية ، ثم يبدو له شعاع الشوق والمحبة من حجب القلب والألفة ، فتنتهي همته إلى سرادقات الألوهية وميادين الربوبية بإذن الله ، فحينئذ يكشف له عما ستر عن غيره من عجائب غيبه ولطائف صنعه وكمال قدرته وأنوار قدسه ، فعند ذلك يعرف العبد أن الله تعالى يفعل ما يشاء بمن يشاء لمن يشاء متى يشاء كيف شاء ، بيده المن والعطاء والإرادة ، لا راد لفضله ولا معقِّب لحكمه ، فيشتغل به ، ويصير فانيًا تحت بقائه ، وهذا معنى ما روي في بعض الأخبار ، أن الله تعالى قال في بعض الكتب : من يذكرني ولا ينساني حركت قلبه لمحبتي ، إذا تكلم لي ، وإذا سكت سكت لي ، قال الله تعالى : " الذين ءامُنوا وَتطْمئِن ُقُلوبهم ِبذكْر اللهِ ".

وقال يحيى بن معاذ : الذكْر أكبر من الجنة ، لأن الذكر نصيب الله والجنة نصيب العبد ، وفي الذكر رضاء الله ، وفي الجنة رضاء العبيد ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن الله يتجلى للذاكرين عند الذكر وتلاوة القرآن ، ولا يرونه لأنه أعز من أن يرى ، وأظهر من أن يخفى ، فتفردوا بالله سبحانه ، واستأنسوا بذكره ، وما نزلت بأحد نازلة إلا وفي كتاب الله لها دليل من الهدى والبيان.

قال أبو عبد الله النساج : إن لله تعالى في الدنيا جنة ، من دخلها كان آمنًا " طوبى َلهم وحسن مآب" قيل: ما هي ؟ قال : الأنس بذكره ، قال الله تعالى في بعض كتبه : أوليائي وأحبائي تنعموا بذكري ، واستأنسوا بي ، فإني نعم الرب لكم في الدنيا والآخرة.

قيل لأبي بكر الواسطي هل تشتهي طعامًا ؟ قال : نعم ، قيل: أي شيء ؟ قال: لقمة من ذكر الله ، بصفاء اليقين ، على مائدة المعرفة ، بأنامل حسن الظن بالله ، من جفنة الرضا عن الله سبحانه.

وروي أن الله تعالى قال للخليل عليه الصلاة والسلام : أتدري لم اتخذتك خليلاً ؟ قال: لا ، قال: لأنك لا يغُْفلُ قلبك عني ، وعلى كل حال لا أراك تنساني.

إلهي لولا أنك أمرتنا بذكرك ، فمن كان يجتريء أن يذكرك ، إجلالاً وإعظامًا لك سبحانك ؟ عجبًا للذاكرين ، كيف تثبت قلوبهم في أبدانهم عند ذكر عظمتك.

وروي أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام : يا موسى إني لم أقبل صلاة ولا ذكرًا إلا ممن يتواضع لعظمتي ، ويلزم قلبه خوفي ويقطع عمره بذكري ، يا موسى إن مَثله في الناس كمثل الفردوس في الجنان ، لا يتغير طعمها ولا ييبس ورُقها ، َفأَجعلُ له عند الخوف أمنًا وعند الظلمة نورًا ، وأجيبه قبل أن يدعوني ، وأعطيه قبل أن يسألني.

وروى كعب الأحبار أن الله تعالى قال : " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيه أفضل مما أعطي سائلي "، وقال عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: طوبى لمن ذكر الله ، ولم يذكر إلا الله ، وطوبى لمن يخشى الله ولم يخش إلا الله.

وروي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما قال : " يا أَسَفي عَلى يوسف " أوحى الله تعالى إليه : إلى متى تذكر يوسف ، أيوسف خلقك أو رزقك أو أعطاك النبوة ، فبعزتي لو كنت ذكرتني واشتغلت بي عن ذكر غيري ، لفرجت عنك من ساعتك ، فعلم يعقوب أنه مخطئ في ذكره يوسف فأمسك لسانه عن ذكره.

وقالت رابعة البصرية رضي الله عنها : ما أوحش الساعة التي لا أذكرك فيها.

وقال موسى عليه الصلاة والسلام ذات يوم : إلهي أقريب أنت فأناجيك ، أم بعيد فأناديك ، فقال الله تعالى: أنا جليس لمن ذكرني ، وقريب ممن أنس بي ، أقرب إليه من حبل الوريد.

قيل لذي النون: متى يكون ذكر العبد للهِ صافيًا ؟ قال: إذا كان به عارفًا ، وممن دونه متبرئًا ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ذكر الله طعام الروح ، والثناء عليه شراب الروح ، والحياء منه لباس الروح ، وما تلذذ المتلذذون بمثل ذكره ، وما تنعم المتنعمون بمثل أنسه ، إن الله تعالى قال في الكتب : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ ، ومن ذكرني من حيث هو ، ذكرته من حيث أنا" ، وقال : إن الخلائق صاحوا من إبليس ، وإن إبليس صاح من الذاكرين ، وتلا " إِن الذين اتََّقوا إَِذا مسهم طائِفٌٌ من الشيطان َتَذكَّروا َفإَِذا هم مبصرون " قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من مؤمن إلا وعلى قلبه شيطان ، إذا ذكر الله خنس ، وإذا نسي الله وسوس ، ذكر الله شفاء لا يضر معه داء ، وذكر الناس داء لا ينفع مع دواء ، فاجعل ذكر الله قبلة همك ، وإضاءة مسجد فكرتك ، واعلم أن حقيقة الاستئناس بذكر الحبيب هو نسيان غيره.

من شغله ذكر الله تعالى َفني عن ذكر ما سواه ، وصار مدهوشًا تحت لطائف صنعه ، وتلاشت ُكليته تحت جمال حسن غايته ، واستغرق في بحار ذكر امتنانه :

للناس عيدان معدودان في سنة
وللمريد جميع العصر أعياد
فالذكر عادُته ، والحمد را حُته
والقلب في ملكوت الرب أواد


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة نوفمبر 02, 2012 7:32 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الثامن عشر

أخبرنا ابن العم الولي الصالح السيد سيف الدين عثمان ، قال: حدثني أبوك السيد علي بن يحيى الرفاعي صاحب المشهد المنور ببغداد ، قال: حدثني ابن عمي السيد حسن بن عسلة ، قال: حدثني النقيب الجليل السيد يحيى بن ثابت ، قال: حدثني أبي السيد ثابت ، عن أبيه السيد علي الحازم أبي الفوارس عن أبيه السيد أحمد ابن علي أبي الفضائل ، عن أبيه السيد رفاعة الحسن المكي نزيل إشبيلية ، عن أبيه السيد أبي القاسم محمد البغدادي نزيل مكة ، عن أبيه السيد الحسن القاسم أبي موسى الرئيس ، عن أبيه السيد الحسين عبد الرحمن الرضي المحدث القطيعي ، عن أبيه السيد أحمد الأكبر ، عن أبيه السيد موسى ، عن أبيه الأمير الكبير السيد إبراهيم المرتضى ، عن أخيه الإمام الأعظم قبلة أهل الباطن علي الرضا صاحب طوس ، عن أبيه الإمام الشهيد موسى الكاظم ، عن أبيه الإمام السعيد جعفر الصادق ، عن أبيه الإمام محمد الباقر ، عن أبيه الإمام زين العابدين علي السجاد ، عن أبيه الإمام المظلوم الشهيد السعيد الحسين صاحب كربلاء ، عن أبيه أمير المؤمنين يعسوب نحل الموحدين الإمام علي كرم الله وجهه ، عن ابن عمه سيد المخلوقين وحبيب رب العالمين نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أدبني ربي فأحسن تأديبي" ، هذا الحديث الشريف ملزم بالتحقيق بآدابه صلى الله عليه وسلم ، فإن من زلَّ عنها هوى ومن فارقها ضلَّ وغوى ، وبها َتعرج همم المقربين وُتزهر أسرار العارفين ، ولا وجه يلتحق به العارف بربه إلا طريق الأدب المحمدي ، وسلَّم كل هذا: الذكر المتواصل.

أي بَني ، اذكر الله تعالى ، واعلم أن الله تعالى أَعَلى درجة الذكر وعظَّم رتبته ورفع شأنه وشرفه وفضله ، ثم قسمه على اللسان والأركان والجنان ، فينبغي أن يكون الذاكر على حذر أن يلتفت إلى الذكر ، ويكون شريف الهمة والإرادة ، لطيف الفطنة في الإشارة ، صحيح النية والإرادة ، لا يريد بذكره غيره ، ولا يلتمس منه فراغه عنه إلى ما دونه ، لأن الوصول إلى الكل تحت الرضا به عن غيره ، والحرمان من الكل تحت الاشتغال بغيره ، ويجب على الذاكر أن يذكره على غاية من التعظيم والحرمة ، لا على العادة والغفلة ، فيصير بذلك محجوبًا عن المذكور ، عقوبة لترك التعظيم والحرمة ، لأن حفظ الحرمة في الذكر خير من الذكر ، وما من عبد ذكره على التحقيق إلا نسي في جنب ذكره ما سواه ، وكان الله له عوضًا من كل شيء ، وربما يريد العارف أن يذكره فيهيج في سره أمواج التعظيم والهيبة ، فيكلُّ لسانه ويطير فؤداه من إجلال الوحدانية ، ثم يبدو له شعاع الشوق والمحبة من حجب القلب والألفة ، فتنتهي همته إلى سرادقات الألوهية وميادين الربوبية بإذن الله ، فحينئذ يكشف له عما ستر عن غيره من عجائب غيبه ولطائف صنعه وكمال قدرته وأنوار قدسه ، فعند ذلك يعرف العبد أن الله تعالى يفعل ما يشاء بمن يشاء لمن يشاء متى يشاء كيف شاء ، بيده المن والعطاء والإرادة ، لا راد لفضله ولا معقِّب لحكمه ، فيشتغل به ، ويصير فانيًا تحت بقائه ، وهذا معنى ما روي في بعض الأخبار ، أن الله تعالى قال في بعض الكتب : من يذكرني ولا ينساني حركت قلبه لمحبتي ، إذا تكلم لي ، وإذا سكت سكت لي ، قال الله تعالى : " الذين ءامُنوا وَتطْمئِن ُقُلوبهم ِبذكْر اللهِ ".

وقال يحيى بن معاذ : الذكْر أكبر من الجنة ، لأن الذكر نصيب الله والجنة نصيب العبد ، وفي الذكر رضاء الله ، وفي الجنة رضاء العبيد ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن الله يتجلى للذاكرين عند الذكر وتلاوة القرآن ، ولا يرونه لأنه أعز من أن يرى ، وأظهر من أن يخفى ، فتفردوا بالله سبحانه ، واستأنسوا بذكره ، وما نزلت بأحد نازلة إلا وفي كتاب الله لها دليل من الهدى والبيان.

قال أبو عبد الله النساج : إن لله تعالى في الدنيا جنة ، من دخلها كان آمنًا " طوبى َلهم وحسن مآب" قيل: ما هي ؟ قال : الأنس بذكره ، قال الله تعالى في بعض كتبه : أوليائي وأحبائي تنعموا بذكري ، واستأنسوا بي ، فإني نعم الرب لكم في الدنيا والآخرة.

قيل لأبي بكر الواسطي هل تشتهي طعامًا ؟ قال : نعم ، قيل: أي شيء ؟ قال: لقمة من ذكر الله ، بصفاء اليقين ، على مائدة المعرفة ، بأنامل حسن الظن بالله ، من جفنة الرضا عن الله سبحانه.

وروي أن الله تعالى قال للخليل عليه الصلاة والسلام : أتدري لم اتخذتك خليلاً ؟ قال: لا ، قال: لأنك لا يغُْفلُ قلبك عني ، وعلى كل حال لا أراك تنساني.

إلهي لولا أنك أمرتنا بذكرك ، فمن كان يجتريء أن يذكرك ، إجلالاً وإعظامًا لك سبحانك ؟ عجبًا للذاكرين ، كيف تثبت قلوبهم في أبدانهم عند ذكر عظمتك.

وروي أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام : يا موسى إني لم أقبل صلاة ولا ذكرًا إلا ممن يتواضع لعظمتي ، ويلزم قلبه خوفي ويقطع عمره بذكري ، يا موسى إن مَثله في الناس كمثل الفردوس في الجنان ، لا يتغير طعمها ولا ييبس ورُقها ، َفأَجعلُ له عند الخوف أمنًا وعند الظلمة نورًا ، وأجيبه قبل أن يدعوني ، وأعطيه قبل أن يسألني.

وروى كعب الأحبار أن الله تعالى قال : " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيه أفضل مما أعطي سائلي "، وقال عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: طوبى لمن ذكر الله ، ولم يذكر إلا الله ، وطوبى لمن يخشى الله ولم يخش إلا الله.

وروي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما قال : " يا أَسَفي عَلى يوسف " أوحى الله تعالى إليه : إلى متى تذكر يوسف ، أيوسف خلقك أو رزقك أو أعطاك النبوة ، فبعزتي لو كنت ذكرتني واشتغلت بي عن ذكر غيري ، لفرجت عنك من ساعتك ، فعلم يعقوب أنه مخطئ في ذكره يوسف فأمسك لسانه عن ذكره.

وقالت رابعة البصرية رضي الله عنها : ما أوحش الساعة التي لا أذكرك فيها.

وقال موسى عليه الصلاة والسلام ذات يوم : إلهي أقريب أنت فأناجيك ، أم بعيد فأناديك ، فقال الله تعالى: أنا جليس لمن ذكرني ، وقريب ممن أنس بي ، أقرب إليه من حبل الوريد.

قيل لذي النون: متى يكون ذكر العبد للهِ صافيًا ؟ قال: إذا كان به عارفًا ، وممن دونه متبرئًا ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ذكر الله طعام الروح ، والثناء عليه شراب الروح ، والحياء منه لباس الروح ، وما تلذذ المتلذذون بمثل ذكره ، وما تنعم المتنعمون بمثل أنسه ، إن الله تعالى قال في الكتب : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ ، ومن ذكرني من حيث هو ، ذكرته من حيث أنا" ، وقال : إن الخلائق صاحوا من إبليس ، وإن إبليس صاح من الذاكرين ، وتلا " إِن الذين اتََّقوا إَِذا مسهم طائِفٌٌ من الشيطان َتَذكَّروا َفإَِذا هم مبصرون " قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من مؤمن إلا وعلى قلبه شيطان ، إذا ذكر الله خنس ، وإذا نسي الله وسوس ، ذكر الله شفاء لا يضر معه داء ، وذكر الناس داء لا ينفع مع دواء ، فاجعل ذكر الله قبلة همك ، وإضاءة مسجد فكرتك ، واعلم أن حقيقة الاستئناس بذكر الحبيب هو نسيان غيره.

من شغله ذكر الله تعالى َفني عن ذكر ما سواه ، وصار مدهوشًا تحت لطائف صنعه ، وتلاشت ُكليته تحت جمال حسن غايته ، واستغرق في بحار ذكر امتنانه :

للناس عيدان معدودان في سنة
وللمريد جميع العصر أعياد
فالذكر عادُته ، والحمد را حُته
والقلب في ملكوت الرب أواد


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 123 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1, 2, 3, 4, 5, 6, 7, 8, 9  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 5 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط