الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا
معنا اليوم الحكمة المائة من الحكم العطائية لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى :
( نعمتان ما خرج موجود عنهما ولا بد لكل مكون منهما نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد )
أما نعمة الإ يجاد : فهي الإظهار من عالم الغيب إلى عالم الشهادة أو من عالم الأمر إلى عالم الخلق أو من عالم الأرواح إلى عالم الأشباح أو من عالم القدرة إلى عالم الحكمة أو من عالم التقدير إلى عالم التكوين
وأما نعمة الإمداد فهي : قيامه تعالى بالأشياء بعد وجودها وإمداده إياها بما تقوم به بنيتها
وهاتان النعمتان عامتان وأختص الإنسان بما أجتمع فيه من الضدين وهما النور والظلمة واللطافة والكثافة
فلو بقيت أيها الأنسان على ما كنت عليه من العدم في عالم القدم لم تتمتع بنعمتين نعمة الأشباح ونعمة الأرواح ولو تجلى فيك بوجهة واحدة لكنت ناقصاً في شهود المعرفة لأن مزية الآدمي في المعرفة أعظم إذ بقدر المجاهدة يكون الترقي في المشاهدة لما فيه من الكثافة واللطافة فكلما لطف من كثافة ترقي في مشاهدة ربه ولما فيه من النور والظلمة فكلما أنتفت الظلمة قوي النور بخلاف غيره من الجن والملائكة غير المقربين قال الله تعالى في حق الملائكة :
( وما منا إلا له مقام معلوم )
فما مثل الآدمي إلا كياقوتة سوداء وهي أعظم اليواقيت كلما صقلتها أشرقت وزاد نورها وجمالها , ومثل الملائكة كالزجاج إذا صقل مرة كفاه ولا يزيد نوره على أصله .
فلو بقيت أيها الإنسان على ما كنت عليه من العدم أو من اللطافة بعد قبضة القدم لم يكن لك مزية على غيرك . ومما يدلك على أن تجلي الآدمي أعظم أختصاصه بالجنة والنظر قال تعالى :
( وترى الملائكة حافين من حول العرش )
والكلام إنما هو مع الخواص , فخواص الآدمي , أعني الأنبياء أعظم من خواص الملائكة وخواص الملائكة أعني المقربين أعظم من خواص الآدمي أعني العارفين والعارفون أعظم من عوام الملائكة وعوام الملائكة أعظم من عوام بني آدم والله تعالى أعلم .
فأنعم الحق سبحانه عليك أيها الإنسان أولاً بنعمة الإيجاد وأصحبك الرأفة والوداد لتظهر مزيتك وتكمل نعمتك ثم أنعم عليك ثانياً بنعمة الإمداد حسية ومعنوية .
أما المدد الحسي : فغذاء البشرية من أول النشأة إلى منتهاها وأما المدد المعنوي : فغذاء الروح من قوت اليقين والعلوم والمعارف والأسرار.
ثم أن هذا المدد المعنوي من حيث هو ينقسم على ثلاثة أقسام : منه ما لا يزيد ولا ينقص وهو مدد الملائكة قال تعالى فيهم : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) ومنه ما يزيد وينقص وهو مدد عوام بني آدم . ومنه ما يزيد ولا ينقص وهو مدد خواصهم كالرسل والأنبياء وأكابر الأولياء ومن تعلق بهم ممن دخل تحت حضانتهم ولزم عشهم من الفقراء والمريدين السائرين فمددهم في الزيادة على الدوام وهذا المدد ثابت للروح قبل إتصالها بالبشرية فلذلك أقرب بالربوبية في عالم الذر
قال في التنوير : إعلم أن الحق سبحانه تولاك بتدبيره على جميع أطوارك وقام لك في كل ذلك بوجود أبرارك فقام لك بحسن التدبير يوم المقادير يوم قال :
( الست بربكم قالوا بلى )
ومن حسن تدبيره لك أن عرفك به فعرفته , وتجلى لك فشهدته وأستنطقك وألهمك الأقرار بربوبيته فوحدته
ثم أنه جعلك نطفة مستودعة في الأصلاب , تولاك بتدبيره هنالك حافظاً لك وحافظاً لما أنت فيه موصلاً لك المدد بواسطة ما أنت فيه من الأباء إلى أبيك آدم , ثم قذفك في رحم الأم فتولاك بحسن التدبير, وجعل الرحم قابلة لك أرضاً يكون نباتك , ومستودعاً تعطي فيها حياتك ثم جمع بين النطفتين وألف بينهما فكنت عنهما لما بنيت عليه الحكمة الإلهية من أن الوجود كله مبني على سر الإزدواج ثم جعلك بعد النطفة علقة مهيئة لما يريد سبحانه أن ينقلها إليه , ثم بعد العلقة مضغة ثم فتق سبحانه في المضغة صورتك , وأقام فيها بنيتك , ثم نفخ فيك الروح بعد ذلك ثم غذاك بدم الحيض في رحم الأم فأجري عليك رزقه من قبل أن يخرجك إلى الوجود , ثم أبقاك في رحم الأم حتى قويت أعضاؤك وأشتدت أركانك ليهيئك إلى البروز إلى ما قسم لك أو عليك وليبرزك إلى دار يتعرف فيها بفضله وعدله إليك ثم لما أنزلك إلى الأرض علم سبحانه أنك لا تستطيع أن تتناول خشونات المطاعم وليس لك أسنان ولا أرحى تستعين بها على ما أنت طاعم فأجري الثديين بالغذاء اللطيف ووكل بهما مستحث الرحمة التي جعلها في قلب الأم , فكلما وقف اللبن على البروز أستحثته الرحمة التي جعلها لك في الأم مستحثاً لا يفتر ومستنهضاً لا يقصر, ثم أنه شغل الأب والأم بتحصيل مصالحك والرأفة عليك والرحمة والنظر بعين المودة منهما إليك وما هي إلا رأفته ساقها للعباد في مظاهر الآباء والأمهات تعريفاً بالوداد وفي حقيقة الأمر ما كفلتك إلا ربوبيته وما حضنتك إلا إلوهيته ثم ألزم الأ ب القيام بك إلى حين البلوغ. وأوجب عليه ذلك رأفة منه بك ثم رفع قلم التكليف عنك إلى أوان تكمل الأفهام , وذلك عند الإحتلام ثم إلى أن صرت كهلاً لم يقطع عنك نوالاً ولا فضلا , ثم إذا إنتهيت إلى الشيخوخة , ثم إذا قدمت عليه ثم إذا حشرت إليه ثم إذا أقامك بين يديه ثم إذا سلمك من عقابه ثم إذا أدخلك دار ثوابه ثم إذا كشف عنك وجود حجابه وأجلسك مجالس أوليائه وأحبابه قال سبحانه : ( إن المتقين في جنات ونهر * في مقعد صدق عند مليك مقتدر )
فلإى إحسانه تشكر ؟ ولإي إياديه تذكر
وأسمع قوله سبحانه :
( وما بكم من نعمة فمن الله )
تعلم أنك لم تخرج عن إحسانه , ولن يعدوك وجود فضله وامتنانه اهـ كلامه في التنوير
وهو شرح لهذه الحكمة لإشتماله على النعمتين إيجاداً وإمداداً .
ومن نعمة الإمداد المعنوي نعمة الإسلام والإحسان , وحفظ ذلك وإدامته علينا في كل وقت وحين , وزيادة الترقي في المعرفة واليقين إلى يوم الدين , فالحمد لله رب العالمين
ثم المقصود بالنظر إلى هاتين النعمتين هو الإنسان وإن كانتا عامتين في جميع الأكوان إذ هو المطلوب بشكرها والتحدث بذكرها ولذلك خصه بالخطاب : { أنعم عليك أولاً بالإيجاد , وثانياً بتوالي الإمداد } توالي الإمداد هو تتابعه وإتصاله سواء كان حسياً أو معنوياً ففي كل ساعة ولحظة أنت مفتقر إلى أمداده قلباً وقالباً .
فالحمد لله رب العالمين
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا
|