ولما قضى الرحمن ما هو كائن , جرى حكمه المقدور والوعد سابق قضي بهبوطٍ من جنان لآدم , وذلك أمر الله والأمر صادق , ولما هبطا من الجنة نزل آدم بالأماكن الهندية , ونزلت حواء بغيرها فمكث آدم يبكى ثلثمائة عامٍ , فأنبت الله من دموعه الأشجار الطيبية , وبكت حواء فأنبت الله من دموعها أصول الأزهار العظام , ولما اجتمع آدم بحواء على عرفات فاضت عليهما بركاته الربانية , ووقع الصفاء والوفاء بينهما وطال السلام , ثم أرسل الله لهما نهراً فاغتسل آدم وغشى حواء فولدت له أربعين من الذرية , في عشرين بطنٍ في كل بطنٍ ذكر وأنثى ووضعت شيئاً وحده تعظيماً لنور النبى وإكرام , ولما ولد شيث انتقل النور المحمدى إلى ظهره وكان يتلألأ فى جبينه كالطوالع القمرية , فكان يفتخر على إخوته للإجلال والإعظام , ولما انقضى أجل آدم وأدركته المنية , أوصى شيثاً على أولاده وأوصاه أن لا يُودَعُ هذا النور إلا فى المطهرات من النساء فامتثل أمر أبيه وبالعمل بالوصية قام , ثم أوصى أولاده بوصية أبيه آدم المرضية , أن لا يودَعَ هذا النور إلا فى المطهرات من النساء السليمة من الشكوك والظنون والأوهام , ولم تزل هذه الوصية تنتقل من أشرف الأصلاب الطيبة الخيرية , إلى أعظم البطون وأطهر الأرحام , إلى أن جاء هذا النور صلى الله عليه وسلم إلى ظهر نوح الذى أنجاه الله ومن معه فى الفلك المشحون من الأمواج الجبالية , فحاز نوح ببركته مراتب الهنا ونال المنى والمرام , ولما وصل نور محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى ظهر إبراهيم صاحب الملة الحنيفية , أنجاه الله ببركته من نار عدوه حيث قال لها : كونى برداً وسلاماً على إبراهام , ولما انتقل من ظهر إبراهيم إلى ظهر إسماعيل جاءه الفداء من الدار الجنانية , نزل به جبريل عليه السلام لما أُمِرَ أبوه بذبحه فى المنام , ولم يزل نور محمدٍ صلى الله عليه وسلم ينتقل من الأصلاب الطاهرة الزكية إلى الأرحام الفاخرة الفخام , إلى أن جاء فى ظهر جده عبد المطلب المعدود من الأمة التوحيدية , فحمى ببركته من أصحاب الفيل البيت الحرام.
( اللهُمَّ عطِّرْ قبرَهُ بالتَّعظيم والتَّحيَّة * واغْفِرْْ لَنَا ذُنُوبناَ والآثام )
بَدَتْ شمُوسُ الْهُدى مِنْ حُسْنِ قَامَتِهِ
وَأَشْرَقَ الْكَوْنُ مِنْ أَنْوَارِ غُرَّتِهِ
وَالْكَائِنَاتُ لِأَجْلِ المصْطَفى خُلِقَتْ
دُنْيَا وأُخْرَى جَمِيعاً مِنْ مَلاَحتِهِ
هُوَ أَوَّلُ الْخَلْقِ سِرُّ الْعَالمينَ بهِ
كَذَا جَمِيعُ البَرَايَا مِنْ بِدَايَتِهِ
لوْلاَهُ مَا أَوْجَدَ اللهُ الوُجُودَ وَلاَ
قَدْ كَانَ مَا كَانَ إِلاَّ مِنْ كَرَامَتِهِ
حَازَتْ بهِ الْأَنْبِيَا مَجْداً وَمَكْرُمَةً
وَنَالَتِ الرُّسُلُ عِزَّا مِنْ هِدَايَتِهِ
عَلاَ بهَ آدَمُ أَسْنَى الْعُلاَ رُتَبَاً
وللْقَبُّولِ جَنى فى ظِلِّ حُرْمتِهِ
لَهُ ملاَئِكَةُ الرَّحمنِ قَدْ سَجَدَتْ
سجُود عِزٍّ وَتَشْرِيفٍ لهيْبَتِهِ
مُذْ لاَحَ فى ظَهْرِهِ نُورُ النَّبي وَمَا
بَدَا السُّجُودُ له إِلاَّ لِلَمْعَتِهِ
إِدْرِيسُ لمَّا دَعى لَوْلاَهُ مَا أرْتَفَعَتْ
عِنْدَ المُّهَيْمِنِ أَقْدَارُ لِرُتْبَتِهِ
وَيُونُسُ الْفَضْلِ لمَّا بِالْحَبِيبِ دَعَا
أَنْجَاهُ مَوْلَى الوَرى مِنْ سِجْنِ غُمَّتِهِ
بِهِ تَوَسَّلَ نُوحُ فاسْتُجِيبَ لَهُ
وَقَدْ نَجَا مَعَهُ مَنْ فى سَفينَتِهِ
نَجَّى مِنَ النَّار إِبْرَاهيمَ ساعَةَ إذْ
أَلْقَاهُ نمْرُوذهُ أسْنى حِمَايَتِهِ
وللذَّبِيحِ فِداً مِنْ عنْدِ خَالِقِنَا
جاءَ الْأَمِينُ بهِ فَخْراً لِصَفْوَتِهِ
يَعْقُوبُ نَادى بهِ من كُرْبةٍ نَزَلَتْ
عَافَاهُ رَبُّ السَّما مِنهَا بِبَهْجتِهِ
وَرَدَّ يُوسُفَ مَولاَهُ عَلَيْهِ كَذَا
الْإِبْصَارُ عَادَ لَهُ مِنْ بَعْدِ ظُلمتِهِ
أَيُّوبُ مِنْ ضُرِّّهِ لَمَّا اسْتَجَارَ بهِ
أَبْرَاهُ رَبُّ الوَرى مِنْ دَاءِ بَلْوَتِهِ
داوُدُ مِنْ سرِّهِ لانَ الحَدِيدُ لَهُ
وأُوتي الْحُكْمُ تَشْرِيفاً لحكْمتِهِ
بهِ سلَيمانُ نَالَ الْمُلْكَ مُنْفَرِداً
إِنْساً وَجِنّاً وَرِيحاً طَوْعَ خِدْمَتِهِ
مُوسى عَلَى الطُّورِ نَاجَاهُ الْكَرِيمُ وما
كَانَ الخِطَابُ لَهُ إِلاَّ بحَضْرَتِهِ
وَقَدْ كَفى الله عيسى مَكْرَ مَا مَكَرتْ
بهِ اليَهُودُ لَهُ رَفْعُ برِِفعتِهِ
لوْلاَهُ لوْلاَهُ مَا قَدْر سَما وعَلا
وَمَا ارْتَقَى الرُّسْلُ إِلاَّ مِنْ مَزِيَّتِهِ
وَالْأَنْبِيَاءُ بِهِ جلَّتْ مَرَاتِبَهُمْ
وَمَا حَوَوْا مَجْدَهُمْ إِلاَّ بِقُدْرَتِهِ
بجاهه يَا إلهى وَجْهَهُ أَرِنَا
وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِتَعْزِيز بِطَلْعَتِهِ
وَاسْمَحْ لَنَا بالرِّضَا وَانْعِمْ بِمَرْحَمَةٍ
فُؤَادَنَا أَرْوِيهِ مِنْ صافى مَوَدَّتِهِ
وَاغْفِرْ لَنَا مَا مَضَى وَاُسْتُرْ فضَائِحنَا
وَتُبْ عَلَيْنَا وَوَفَّقْنَا لِسُنَّتِهِ
وَارْحَمْ بِفَضْلِكَ عَبْداً مَالَهُ عمَد
سِوَاكَ يَا عَالِماً أَسْرَارَ حَالَتِهِ
فَهُوَ الْمنَاوِىُّ أَوْزَارُ لَهُ كثرَتْ
يَرْجُو رِضَاكَ لِتَعْفُو عَنْ خَطِيئتِهِ
وَوَالِدَيْهِ وَأوْلاَدٍ وَإخْوَتِهِ
وَالآلِ وَالصَّحْب جَمْعاً مَعَ قَرَابَتِهِ
واخْتمْ بِخْيرٍ لِكلِّ الْمُسْلِمِيِنَ وَلا
تَحْرِمْهُمْ يَوْمَ حَشْرٍ مِنْ شَفَاعَتِهِ
وذلك أن أبرهة بنى كنيسة وزينها بأنواع الزمرد واليواقيت النفيسية , وزعم أنها كبيت مكة وأراد أن تحجها العرب في كل عام , فأغاظه نفر من القبائل الحجازية , فاشتد غضبه لذلك فلما أصبح أصبح وهو فى كربة وإغتمام , فجمع جنداً يزيد عن ستين ألفاً من الفئة الجاهلية , وبعث معهم فيلاً وأرسلهم إلى مكة طالبين البيت العتيق للإنهدام , فلما وَصلوا إلى مكة عجز الفيل فتخلفوا عن دخول البلدة المحمية , فإذا وجهوه إلى أي جهة توجه وإذا وجهوه إلى مكة برك فلم يستطيع القيام , فلما رأوا ما حل بهم من سوء نيتهم القبيحية , أخذوا ما لعبد المطلب من الأنعام , فجاءه الخبر فدار نور محمد صلى الله عليه وسلم فى جبينه كالدائرة الهلالية حتى أصبحت به أماكن مكة كالمصابيح يزول منها الظلام , فتوجه عبد المطلب إلى أمير القوم ومعه بعض من السادة القرشية , وسأل الأمير في رد ماله فردَّ عليه ما أخذه الأقوام , ثم قال له : لما لم لم تسأل عن البيت ، فقال : المال مالى وللبيت رب يحميه بحمايته القوية فلما قصدوا هدمه أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارةٍ من سجيل حتى شربوا كؤوس الحمام , وبقى واحد منهم فتوجه إلى ملكهم وقص عليه قصتهم المحكية , فكان طائره على رأسه فأسقط الحجر عليه فمات وخص الله ملكهم بالبرص والجذام , وما زال فى عقوبةٍ إلى أن عجل الله بروحه إلى الطبقات السعيرية , وألقاه في نار ذات عذاب شديد وانتقام , ونصر الله عبد المطلب ببركة نور محمد سيد البرية , فعلا قدره واشتهر فضله بين الأنام.
( اللهُمَّ عطِّرْ قبرَهُ بالتَّعظيم والتَّحيَّة * واغْفِرْْ لَنَا ذُنُوبناَ والآثام )