msobieh كتب:
الفصل السادس
واللب هو الجبل الأعظم والمقام الأسلم، كالقطب لا يزول ولا يتحرك، وبه قوام الدين،
والأنوار كلها راجعة إليه حافّة حوله، ولا تتم هذه الأنوار ولا ينفذ سلطانها إلا بثبوته، ولا توجد إلا بوجوده.
وهو معدن نور التوحيد ونور مشاهدة التفريد، وبه يصحّ من العبد حقيقة التجريد وضياء التمجيد
وإن هذا اللب نور مقرون وزرع مغروس وعقل مطبوع،
ليس كالمركّبات في النفس التي هي داخلة فيها، إنما هو نور مبسوط كالأشياء الأصلية.
وهذا اللب الذي هو العقل مغروس في أرض التوحيد،
ترابها نور التفريد، سُقي من ماء اللطف من بحر التمجيد حتى امتلأ عروقه من أنوار اليقين
وتولى الله غرسه وباشر ذلك بقدرته من غير واسطة.
فغرسه في جنة الرضى،
ثم عصمه بسور الصون وأرساه في أزليته وأبديته وأوليته
حتى لا تكاد تقترب منه بهيمة النفس بشهواتها أو بجهلها أو سباع مفاوز الضلالة أو شيء من الذوات التي هي طبائع النفس مثل كبرها وحمقها وآفاتها.
والرب جل جلاله صاحب هذا البستان ووليه الذي هو أزْيَن من جميع الجنان،
لأنه بستان الإيمان تولى الله غرسه وسقيه وتربيته حتى أثمر الشجر نور الإيمان بتوفيق الرحمن ولطائف ثمرات الإحسان.
قال الله تعالى: {وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلْإِيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِى قُلُوبِكُمْ } (الحجرات، 7).
فهذا تفسير اسم اللب:
فإنه لام وباء فابتدأ بلام مثل لام اللطف والباء مشدّدة واحدة في الكتابة لكنها من الحروف المضاعف،
فهي في الحقيقة اثنان:
باء البر في البداية وباء البقاء بالبركة عليه.
وهذا النور لا يوجد لسبب من الأسباب إلاّ بفضل مفتّح الأبواب.
فأصل ما رزق الله تعالى العبد من أصول الدين هو فضل الله بلا علة،
ثم جعل فروعه بعلة العبودية. وبمجاهدة العبد مقرونة بمعونة الربوبية وهداية الألوهية
ولا يوفق بلطف التدبير وحسن التقدير حتى يكون أول شيء فضله في الأزل فيتيسر على العبد أعمال الخير.
واعلم أن اللب لا يكون إلاّ لأهل الإيمان،
الذين هم من خاصة عباد الرحمن،
الذين أقبلوا إلى طاعة المولى واعرضوا عن النفس الدنيا،
فألبسهم لباس التقوى، وصرف عنهم أنواع البلاء،
فسمّاهم الله أولي الألباب، وخصّهم بالخطاب،
وعاتبهم بأنواع العتاب،
ومدحهم في كثير من الكتاب،
فقال الله تعالى: {فَٱتَّقُوا ٱللَّهَ يَـٰأُولِى ٱلْأَلْبَـٰبِ} (المائدة، 100)،
وقال: {وَٱتَّقُونِ يَـٰأُولِى ٱلْأَلْبَـٰبِ } (البقرة، 197)،
وقال: {أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقْتَدِهْ } (الأنعام، 90)،
وقال: {وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُولُوا ٱلْأَلْبَـٰبِ } (البقرة، 269)،
وقال: {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَٰحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا ٱلْأَلْبَـٰبِ} (إبراهيم، 52)،
وقال: {لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا ٱلْأَلْبَـٰبِ} (ص، 29).
فمدح الله تعالى أولى الألباب وبيّن مراتبهم وسرائرهم مع ربهم وفضائلهم في فقههم وفهمهم وحلمهم حتى أعجز أمثالنا عن إدراك أحوالهم لأنه خصهم بنور اللب ما لم يفعل ذلك بغيرهم.
وأما عند عامة أهل الأدب ومن لهم معرفة بشيء من اللغة فإن اللب هو العقل.
ولكن بينهما فرق كما بين نور الشمس ونور السراج فكلاهما نور،
وهذا شيء ظاهر لكن لا تكاد ترى عاقلين يستوي سلطان علقهما ونورهما بل يتفاضل أحدهما على الآخر بزيادة خصّ هذا العقلُ بها ما لم يبن ذلك في الآخر.
فما ظنك بمن خصّه الله تعالى بمعرفته وأكرمه بلطائف برّه وأفاض عليه من بحار خيره ما لم يفض منها على غيره.
والعقل في الاسم الواحد، وسلطانه ناقص وزائد وهو متبوع متفرع،
يقوي بقوة أركانه ويزداد بزيادة سلطانه.
وأول مقام العقل هو عقل الفطرة، وهو الذي يخرج به الصبي والرجل من صفة الجنون،
فيعقل ما يقال له لأنه يُنهى ويؤمر، ويميز بعقله بين الخير والشر، ويعرف به الكرامة من الهوان، والربح من الخسران، والأباعد من الجيران، والقرابة من الأجانب.
ومنه عقل الحجة وهو الذي به يستحق العبد من الله تعالى الخطاب،
فإذا بلغ الحلم يتأكد نور العقل الذي وُصف بنور التأييد، فيؤيد عقله، فيصل لخطاب الله تعالى.
ومنه عقل التجربة، وهو أنفع الثلاثة وأفضلها، لأنه يصير حكيماً بالتجارب، يعرف ما لم يكن بدليل ما قد كان.
وهو ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم :
“لا حكيم إلا ذو تجربة ولا حليم إلا ذو عثرة”
ومنه عقل موروث، وصفته أن يكون الرجل كبيراً عاقلاً حكيماً عليماً حليماً وقوراً، قد ابتلى بولد سفيه أو تلميذ سفيه لا ينتفع من صحبته فيموت هذا العاقل فيورث اللهُ تبارك وتعالى ببركة عقلَه ونوره وضياءه ونفعه ووقاره وسكينته وسمته لهذا السفيه،
فيتغير حاله في الوقت فيصير وقوراً عاقلاً على سبيل سلفه هذا إنما يعاينه الإنسان بوفاة الكبير العاقل،
وتَغيُّر الحال في السفيه الجاهل.
وليس يورث غير عقله، ولكن يدركه بركة دعائه ونور علمه، ويتفضل الله تبارك وتعالى بإتمام ذلك بمنه وكرمه.
وهذه الوجوه منافعها على المِقدار ويصلح الإنسان بهذه الوجوه من العقل لصحبة الناس وينتفعون به.
ولعل هذه الوجوه تجمع فيمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر مثل الفلاسفة وحكماء الهند والروم غيرهم،
لأن هذه الأنواع من العقل إنما هي لتأييد النفوس ومعاملة أهل الدنيا على سبيل المراءاة
وأما النافع منها تمام النفع فهو العقل الموزون المطبوع بنور هداية الله تعالى. وهو اللب الذي وصفتُه حديثاً ويُسمَّى عقلا.
والعقل يعبَّر به عن العلم على وجه المجاز في سعة اللغة، ولكنْ أولو الألباب هم العلماء بالله،
وليس كل عاقل عالما بالله وأما كل عالم بالله فهو عاقل، قال الله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَّا ٱلْعَـٰلِمُونَ } (العنكبوت 43).
والعقل له أسماء أخر، يُسمّى حلماً، ونُهى، وحِجْراً، وحِجى،
قال الله تعالى: {إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَـٰتٍ لِّأُولِى ٱلنُّهَىٰ } (طه، 54، 128)،
وقال : {هَلْ فِى ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } (الفجر، 5).
وقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : “لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنهــى ثم الذين يـلونهم”.
وقــد قيل إن العقل يعقل النفـس عن متابعـة الهـوى كــما يمنع العـقال الدابة من مرتعها ومرعــاهـا.
والعــقل اسـم متبدل، وهو اسم عام، ولا يستعمل تصريف هذه الأسماء إلا منه، يقال عقل، يعقل عقلاً فهو عاقل وذلك معقول عنه.
وقال الله تعالى: {إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَـٰتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (الروم، 24). وهو أن يعقل عن الله أمره ونهيه ومواعظه ووعده ووعيده
ويفهم مراده في الأشياء على قدر ما يوفّقه ويكشف له من تعظيم أمره واجتناب مناهيه.
وهذه كلهــا لا توجد إلا بلطف الله وحســن نظره إليه، فيفضِّله على غيره باللب الموصوف والنور المعروف.
وهو فقيه في أصول الدين وفروعه، وليس كل من يكون فقيـــهاً في الفروع فقيــهاً في الأصول،
لأن الفقه في علم الأحكام كثير وهو فقيه بالتفقه وحامل الفقه والعلم،
والفــقه اسم للعلم يعــبّر بهــذه اللــفظة عنــه، يقال فلان يتفقه ويتعلم.
وأما الفقه في حقيقته فهو فقه الــقـلب،
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “رب حامل فقه لا فقه لــه ورب حامل إلى من هو أفْقه منه”.
وقال الحــكيم: “ليس بفقيه من لـم يعدّ البلاء نعمــة والرضــاء مصيبة” ،
وقال الحسن: “إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصيــر بذنبه والمواظب على طاعة ربــــه” ،
وقد بيّــنتُ في صدر الكتاب أن فقه المتعلم موضعه في باطــن الصدر،
ويزداد نوره بالتعلم والاستعمال، ويتفرّع لـه أنوار الفقه والفهم، فيستنبط بنور فقهـه مسائل،
ويقيس ما لم يعلم بما يشبهـهـا ويشاكلهــا ويقرب من معناهــا.