msobieh كتب:
واعلم أن مدار تأكد وجوب الثواب والعقاب بالقلب، وفعله بالنفس تبعة، قال الله تعالى: { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } (البقرة، 225) وإنما هذا في أحكام الآخرة. وأما حكم الدنيا، فالنفس بالنفس تؤاخذ في أفعالها، وأما فيما بين العبد وبين ربه فإن الحكم بما في القلب.
قال الله تعالى في شأن عمار بن ياسر: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُۥ مُطْمَئِنٌّ بِٱلْإِيمَـٰنِ } (النحل، 106}، فبين الله عذره أنه لم يضره ذلك لا طمأنينة قلبه على صدق الإيمان. ويثاب العبد لعمله بالأركان إذا صحت نية قلبه على ذلك بنور الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “يثاب الناس على قدر نياتهم”،”وإنما الأعمال بالنيات”، و”لا عمل لمن لا نية له”.
فالصدر موضع يصدر إليه علم العبارة، والقلب معدن العلم، والذي تحت علم العبارة، وهو علم الحكمة والإشارة. وعلم العبارة حجة الله على الخلق، يقول الله لهم: ما عملتم فيما علمتم؟
وعلم الإشارة محجة العبد إلى الله بهداية الله تعالى له، إنه منّ عليه بكشف قلبه بمشاهدة غيبه ورؤية ما وراء حجبه، كأنّه يرى ذلك كله بعينه، حتى لو كشف له الغطاء لما زاد في نفسه، فالقلب موضع علم الإشارة.
ومعنى علم العبارة أن يعبّر باللسان، ومعنى علم الإشارة أن يشير بقلبه إلى ربوبيته ووحدانيته وعظمته وجلاله وقدرته وجميع صفاته وحقائق صنعته وفعله.
ومعدن نور الإيمان ونور القرآن معدن واحد، وهو القلب، وكلا النورين شكلان، قال الله تعالى: { مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلَا ٱلْإِيمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَـٰهُ نُورًا } (الشورى، 52) فجمع بين النورين بالهاء كناية الواحد. ومعنى الإشارة أنه مُذ أشار إلى ربه بالربوبية لم يكفر به ولم يشكر غيره ولا يرجو أحداً سواه.
واعلم أن نور القلب على سبيل الكل لا يتجزأ ولا يتبعض لأنه أصل يجيء كله إذا جاء ويذهب كله إذا ذهب.
وكذلك ظلمة الكفر، لأنها أصل كل مصيبة إلا أن تذهب، وربما يضعف ويتهيأ ويتبعض سلطانها مثل السراج إذ هو سراج واحد إن زاد ولاية نوره أو نقصت.
وأما نور الصدر وظلمته فإنه يزيد وينقص، لأن هذا فرع وهو بالنفس يقام ، وعُيّن به الإسلام. ومنه يدخل النقصان في هذه الوجه من الدين، وربما يزيد فيه، والدليل على ذلك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن النساء فقال “ناقصات عقل ودين”
وإنما المراد منه فرع الدين في أيام الحيض والنفاس. فبان لك أن أنوار الصدور على وجوه، والعمل بها على المواقيت والمقادير. فمن أراد علماً منه ازداد في صدره نوره على مقدار ذلك، وينقص أيضاً نوره بترك استعماله، لأن حامل هذا النوع من العلم هي النفس، فكما أنها تزيد وتنقص فكذلك أفعالها وصفاتها تزيد وتنقص.
وأما أنوار القلب فإنها في الأصل كاملة، ومَثَلُها كَمَثَل الشمس التي هي كاملة، ولكن الهواء إذا كان فيه علة مثل الغيم والضباب وشدّة الحرّ وشدة البرد حجبت هذه الأشياء نورَها، فانتقصت ولاية شعاعها، وقل سلطان حرها، فإذا ارتفعت تلك العلل نفذت ولاية نورها، وبلغت شعاعها واشتد سلطانها، ولم تكن في ذاتها ناقصة ولكن منافعها قد انقطعت للعلل التي وصفتُها.
فكذلك نور الإيمان ونور المعرفة ونور التوحيد إذا أخذتها ظلمات الغفلة وغيوم النسيان وحجب العصيان وامتلأ الصدر من غبار الشهوات وضباب أضرار النفس واليأس من روح الله، وانتقصت ولاية هذه الأنوار عن النفس وبقيت بذاتها وتحت هذه الحجب ووراء هذه الأستار، فإذا ارتفعت هذه العلل من الصدر بمنة الله وتوفيقه وصحت توبة العبد إلى الله تعالى، كُشف الغطاء وخُرقت الحجب وظهرت منافعها على النفس وانتشرت ولايتها.
فمن تفكر بتوفيق الله في هذه النكتة واستمسك بالسنة، أزال الله تعالى كثيراً من الشبهات من قلبه، وقلع عن صدره عروق ريبه، وهداه الله تعالى إلى مشاهدة حقائق غيبه. وهذا شيء واضح لمن يسَّر الله عليه سبيل الفقه والفهم.
وأما نور الأحكام وهو نور الإسلام في الصدر فإنه يزداد بصحة المعاملة وصدق المجاهدة، وينقص نوره بالإعراض عن إقامة شرائعه وترك استعماله، فَمَثَله كَمَثَل القمر، فإنه يزيد وينقص.
الإسلام اسم جامع لأصل الدين وفروعه، وقد أكمل الله هذا الدين بفروعه وأحكامه في نيف وعشرين سنة، إلا أنه نسخ من أحكامه بعضها فبدل بعضها.
وأما الإيمان والمعرفة والتوحيد فلا يجوز النسخ فيها ولا تبديل شيء منها. وكفى العاقل الموفق إذا تفكر فيها أن يعرف الفرق بين ما حملته النفس وبين ما حمله القلب.
ولكن المؤمن هو من الله في مزيد من البر في كل لحظة وساعة، فتعلو مراتبه من جهة مشاهدة لطائف الله تعالى،
ويكشف له من حجب الغيب من ساعة إلى ساعة ما لم يكن كشف له قبل ذلك.
وكذلك العبد تضعف أحواله أحياناً، وتشغل مراتب قلبه من جهة الغفلة والأصول على حالها.
ومَثَلها أيضاً كمثل السراج يكون في شيء فيُرخَى عليه الستور، فهو على حاله من الداخل لكنْ ضياؤه ومنفعته حُجِبَت وولايتُه عن الانتشار انقطعت.
ومَثَلها أيضاً كمثل المرآة تُلفّ في ثوب،
فهي في الأصل كما كانت إلاّ أن منفعة الظاهر قد انقطعت،
فافهم، رحمك الله، أن الكتاب المنزل، كما كان جبريل عليه السلام تولى إنزاله بعلم الله تعالى، فمعدنه قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى:{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } (البقرة، 97)، وقال: { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلْأَمِينُ {١٩٣} عَلَىٰ قَلْبِكَ} (الشعراء، 193-194).
يتبع بمشيئة الله
يا جمال قلب سيدنا النبي عليه واله الصلاة والسلام