كتاب التوهم ( توهم حال أهل النار ، وتوهم حال أهل الجنة ) للحارث المحاسبي أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي توفي سنة 243 هـ تحقيق المستعصم بالله أبي هريرة مصطفى بن علي بن عوض جعفر كلمة عن المؤلف
الحارث بن أسد المحاسبي
نعته الذهبي في السير بقوله : الزاهد العارف شيخ الصوفية أبو عبد الله الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي صاحب التصانيف الزهدية . قال الخطيب : له كتب كثيرة في الزهد وأصول الديانة والرد على المعتزلة والرافضة . قال الجنيد : خلف له أبوه مالاً كثيراً فتركه ، وقال : لا يتوارث أهل ملتين وكان أبوه واقفياً . قال أبو الحسن بن مقسم : أخبرنا أبو علي بن خيران قال : رأيت المحاسبي معلقاً بأبيه ، يقول : طلق أمي فإنك على دين وهي على غيره . قال الجنيد : قال لي الحارث : كم تقول عزلتي أنسي ! لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت لهم أنساً ، ولو أن النصف الآخر نأوا عني ما استوحشت . قلت : المحاسبي كبير القدر وقد دخل في شيء يسير من الكلام فنقم عليه ، وورد أن الإمام أحمد أثنى على حال الحارث من وجه وحذر منه . قال سعيد بن عمرو البرذعي : شهدت أبا زرعة الرازي وسئل عن المحاسبي وكتبه فقال : إياك وهذه الكتب ، هذه كتب بدع وضلالات ، عليك بالأثر تجد غنية ، هل بلغكم أن مالكاً والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس ما أسرع الناس إلى البدع . قال ابن الأعرابي : تفقه الحارث وكتب الحديث وعرف مذاهب النساك ، وكان من العلم بموضع إلا أنه تكلم في مسألة اللفظ ومسألة الإيمان ، وقيل هجره أحمد فاختفى مدة . ومات سنة ثلاث وأربعين ومئتين . ( أ. هـ الذهبي باختصار ) . وقال ابن حجر في لسان الميزان : الزاهد المشهور . وفي التقريب قال : مقبول . ويعني بهذا اللفظ أن أحاديثه إذا تفرد بها لا تقوم مقام الحجة ، وإنما تصلح للاعتبار والشواهد . قلت : وكتابه هذا بعيد عن شأن الصوفية وعلم الكلام ، وإنما هو موعظة .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهار ، العظيم الجبار ، الكبير المتعال ، الذي جعلنا للبلوى والاختبار ، وأعد لنا الجنة والنار ، فعظم لذلك الخطر ، وطال لذلك الحزن لمن عقل وادَّكر ، حتى يعلم أين المصير ، وأين المستقر ، لأنه قد عصى الرب وخالف المولى ، وأصبح وأمسى بين الغضب والرضا ، لا يدري أيهما قد حل ووقع له ، فعظم لذلك غمّه ، وطال لذلك حزنه ، واشتد كربه ، حتى يعلم كيف عند الله حاله . فإلى الله فارغب في التوفيق ، وإياه فسل العفو عن الذنوب ، وبه فاستعن في كل الأمور . فعجبتُ كيف تقرُّ عينك ، أو كيف يزايل الوجل والإشفاق قلبك ، وقد عصيتَ ربك واستوجبتَ بعصيانك غضبه وعقابه ، والموت لا محالة نازلٌ بك ، بكربه وغصصه ونزعه وسكراته ، فكأنك قد نزل بك وشيكاً سريعاً . فتوهم نفسك وقد صُرعتَ للموت صرعةً لا تقوم منها إلا إلى الحشر إلى ربك ، فتوهَّم نفسك في نزع الموت وكربه وغصصه وسكراته وغمه وقلقه ، وقد بدأ الملَك يجذب روحك من قدمك ، فوجدتَ ألم جَذْبه من أسفل قدميك ، ثم تدارك الجذب واستحثَّ النزع ، وجُذبت الروح من جميع بدنك ، فنشطتْ من أسفلك متصاعدةً إلى أعلاك ، حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه ، وعمت آلام الموت جميع جسمك ، وقلبك وجلٌ محزون مرتقب منتظر للبشرى من الله عز وجل بالغضب أو الرضا ، وقد علمتَ أنه لا محيص لك دون أن تسمع إحدى البشريين من الملَك الموكَّل بقبض روحك . فبينا أنت في كربك وغمومك وألم الموت بسكراته وشدة حزنك لارتقابك إحدى البشريين من ربك ، إذ نظرتَ إلى صفحة وجه ملك الموت بأحسن الصورة أو بأقبحها ، ونظرتَ إليه مادًّا يده إلى فيك ليخرج روحك من بدنك ، فذلتْ نفسك لمَّا عاينتَ ذلك وعاينتَ وجه ملك الموت ، وتعلق قلبك بماذا يفجأك من البشرى منه ، إذا سمعت صوته بنغمته : أبشر يا ولي الله برضا الله وثوابه ، أو أبشر يا عدو الله بغضبه وعقابه ، فتستيقن حينئذ بنجاتك وفوزك ، ويستقر الأمر في قلبك ، فتطمئن إلى الله نفسك ، أو تستيقن بعطبك وهلاكك ، ويحل الإياس قلبك ، وينقطع من الله عز وجل رجاؤك وأملك ، فيلزم حينئذ غاية الهمِّ والحزن أو الفرح والسرور قلبَك ، حين انقضتْ من الدنيا مدتك ، وانقطع منها أثرُك ، وحُملتَ إلى دار من سلف من الأمم قبلك . فتوهم نفسك حين استطار قلبك فرحاً وسروراً ، أو مُلئ حزناً وعَبرة ، بفترة القبر وهول مطلعه ، وروعة الملكين وسؤالهما فيه عن إيمانك بربك ، فمثبت من الله جل ثناؤه بالقول الثابت أو متحيِّر شاكٌّ مخذول . فتوهم أصواتهما حين يناديانك لتجلس لسؤالهما إياك ليوقفاك على مسائلتهما ، فتوهم جلستك في ضيق لحدك ، وقد سقطت أكفانك على حقويك ، والقطنة من عينيك عند قدميك . فتوهم ذلك ثم شخوصك ببصرك إلى صورتهما وعظم أجسامهما ، فإن رأيتَهما بحسن الصورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة ، وإن رأيتَهما بقبح الصورة أيقن قلبك بالهلاك والعطب . فتوهم أصواتهما وكلامهما بنغماتهما وسؤالهما ، ثم هو تثبيت الله إياك إن ثبَّتك ، أو تحييره إن خذلك . فتوهم جوابك باليقين أو بالتحيُّر أو بالتلديد والشك ، وتوهم إقبالهما عليك إن ثبتك الله عز وجل بالسرور وضربهما بأرجلهما جوانب قبرك بانفراج القبر عن النار بضعفك . ثم توهم النار وهي تتأجج بحريقها ، وإقبالها عليك بالقول ، وأنت تنظر إلى ما صرف الله عنك فيزداد لذلك قلبك سروراً وفرحاً ، وتوقن بسلامتك من النار بضعفك . ثم توهم ضربهما بأرجلهما جوانب قبرك ، وانفراجه عن الجنة بزينتها ونعيمها وقولهما لك : يا عبد الله ، انظر إلى ما أعدَّ الله لك ، فهذا منزلك وهذا مصيرك . فتوهم سرور قلبك وفرحك بما عاينت من نعيم الجنان وبهجة ملكها ، وعلمك أنك صائر إلى ما عاينت من نعيمها وحسن بهجتها . وإن تكن الأخرى فتوهم خلاف ذلك كله من الانتهار لك ، ومن معاينتك الجنة وقولهما لك : انظر إلى ما حرمك الله عز وجل ، ومعاينتك النار وقولهما لك : انظر إلى ما أعدَّ الله لك ، فهذا منزلك ومصيرك . فأعظم بهذا خطراً ، وأعظم به عليك في الدنيا غمًّا وحزناً ، حتى تعلم أي الحالتين في القبر حالك ، ثم الفناء والبلاء بعد ذلك ، حتى تنقطع الأوصال ، فتفنى عظامك ، ويبلى بدنك ، ولا يبلى الحزن أو الفرح من روحك ، متطلعاً للقيام عند النشور إلى غضب الله عز وجل وعقابه ، أو إلى رضا الله عز وجل وثوابه ، وأنت مع توقع ذلك معروضة روحك على منزلك من الجنة أو مأواك من النار ، فيا حسرات روحك وغمومها ، ويا غبطتها وسرورها . حتى إذا تكاملت عدة الموتى ، وخلت من سكانها الأرض والسماء ، فصاروا خامدين بعد حركاتهم ، فلا حسَّ يُسمع ، ولا شخص يُرى ، وقد بقي الجبار الأعلى كما لم يزل أزلياً واحداً منفرداً بعظمته وجلاله ، ثم لم يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق معك للعرض على الله عز وجل بالذل والصغار منك ومنهم . فتوهم كيف وقع الصوت في مسامعك وعقلك ، وتفهَّم بعقلك بأنك تُدعى إلى العرض على الملك الأعلى ، فطار فؤادك وشاب رأسك للنداء ، لأنها صيحة واحدة بالعرض على ذي الجلال والإكرام والعظمة والكبرياء . فبينا أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض عن رأسك ، فوثبت مغبراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك ، قائماً على قدميك ، شاخصاً ببصرك نحو النداء ، وقد ثار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة وهم مغبرون من غبار الأرض التي طال فيها بلاؤهم. فتوهم ثورتهم بأجمعهم بالرعب والفزع منك ومنهم . فتوهم نفسك بعُريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق ، عراة حفاة ، وهم صموت أجمعون بالذلة والمسكنة والمخافة والرهبة ، فلا تسمع إلا همس أقدامهم والصوت لمدة المنادي ، يتبع إنشاء الله
_________________ أيا ساقيا على غرة أتى يُحدثني وبالري يملؤني ، فهلا ترفقت بى ، فمازلت في دهشة الوصف ابحث عن وصف لما ذُقته ....
|