اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm مشاركات: 335 مكان: مصر المحروسه
|
ذكر فتح مدينة بيت المقدس ذكر فتح مدينة بيت المقدس قال الواقدي: وأما ما كان من المسلمين فإنهم أقاموا على دمشق شهرًا فجمع أبو عبيدة أمراء المسلمين وقال لهم: أشيروا علي بما أصنع وأين أتوجه فاتفق رأي المسلمين إما إلى قيسارية وإما إلى بيت المقدس. فقال: فما الذي ترون منهما. فقالوا: أنت الرجل الأمين وما تسير إلى موضع إلا ونحن معك. فقال معاذ بن جبل: اكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فحيث أمرك فسر واستعن بالله. فقال: أصبت الرأي يا معاذ فكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يعلمه أنه قد عزم على قيسارية أو إلى بيت المقدس وأنه منتظر ما يأمره به والسلام وأرسل الكتاب مع عفرجة بن ناصح النخعي وأمره بالمسير فسار حتى وصل المدينة فأرسل الكتاب لعمر رضي الله عنه فقرأه على المسلمين واستشارهم في الأمر. فقال علي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين مر صاحبك أن يصير إلى بيت المقدس فيحدقوا بها ويقاتلوا أهلها فهو خير الرأي وأكبره وإذا فتحت بيت المقدس فاصرف جيشه إلى قيسارية فإنها تفتح بعدها إن شاء الله تعالى كذا أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: صدقت يا أبا الحسن فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام أبي عبيدة. أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه وقد ورد علي كتابك وفيه تستشيرني في أي ناحية تتوجه إليها وقد أشار ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير إلى بيت المقدس فإن الله سبحانه وتعالى يفتحها على يديك والسلام عليك ثم طوى الكتاب ودفعه إلى عرفجة وأمره أن يعجل بالمسير فسار حتى قدم على أبي عبيدة فوجده على الجابية فدفع الكتاب إليه فقرأه على المسلمين ففرحوا بمسيرهم إلى بيت المقدس فعندها دعا أبو عبيدة بخالد بن الوليد وعقد له راية وضم إليه خمسة آلاف فارس من خيل الزحف وسرحه إلى بيت المقدس ثم دعا بيزيد بن أبي سفيان وعقد له راية على خمسة آلاف وأمره أن يلحق بخالد إلى بيت المقدس وقال له: يا ابن أبي سفيان ما علمتك إلا ناصحًا فإذا أشرفت على بلد إيلياء فارفعوا أصواتكم بالتهليل والتكبير واسألوا الله بجاه نبيه ومن سكنها من الأنبياء والصالحين أن يسهل فتحها على أيدي المسلمين فأخذ يزيد الراية وسار يريد بيت المقدس فسار ثم دعا شرحبيل بن حسنة كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم وعقد له راية وضم إليه خمسة آلاف فارس من أهل اليمن وقال له: سر بمن معك حتى تقدم بيت المقدس وانزل بعسكرك عليها ولا تختلط بعسكر من تقدم قبلك ثم دعا بالمرقال بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وضم إليه خمسة آلاف فارس مع جمع من المسلمين وسرحه على أثر شرحبيل بن حسنة وقال له: انزل على حصنها وأنت منعزل عن أصحابك ثم عقد راية خامسة فسلمها للمسيب بن نجية الفزاري وأمره أن يلحق بأصحابه وضم إليه خمسة آلاف فارس من النخع وغيرهم من القبائل وعقد راية سادسة وسلمها إلى قيس بن هبيرة المرادي وضم إليه خمسة آلاف فارس وسيره وراءهم ثم عقد راية سابعة وسلمها إلى عروة بن مهلهل بن زيد الخيل وضم إليه خمسة آلاف فارس وسيره وراءهم فكان جملة من سرحه أبو عبيدة إلى بيت المقدس خمسة وثلاثين ألفًا وسارت السبعة أمراء في سبعة أيام في كل يوم أمير وذلك كله يرهب به أعداء الله فبقي كل يوم ينزل عليهم أمير بجيشه. فكان أول من طلع عليهم بالراية خالد بن الوليد فلما أشرف عليهم كبر وكبر أصحابه فلما سمع أهل بيت المقدس ضجيج أصواتهم انزعجوا وتزعزعت قلوبهم وصعدوا على أسوار بلدهم فلما نظروا إلى قلة المسلمين استحقروهم وظنوا أن ذلك جميع المسلمين فنزل خالد ومن معه مما يلي باب أريحاء وأقبل في اليوم الثاني يزيد بن أبي سفيان وفي اليوم الثالث شرحبيل بن حسنة وأقبل في اليوم الرابع المرقال وأقبل في اليوم الخامس المسيب بن نجية وأقبل في اليوم السادس قيس بن هبيرة فنزل وأقبل في اليوم السابع عروة بن مهلهل بن زيد الخيل فنزل مما يلي طرف الرملة. قال عبد الله بن عامر بن ربيعة الغطفاني: ما نزل أحد من المسلمين على بيت المقدس إلا وكبر وصلى ما قدره الله عليه ودعا بالنصر والظفر على الأعداء ويقال إن خالدًا كان هو وأبو عبيدة. قال: فلما مضى العسكر أقام أبو عبيدة وخالد وبقية المسلمين والذراري والسواد والغنم وما أفاء الله على المسلمين من المواشي والأموال فلم يبرحوا من مكانهم. قال: وأقام العسكر على بيت المقدس ثلاثة أيام لا يبارزهم حرب ولا ينظرون رسولًا يأتي إليهم ولا يكلمهم أحد من أهلها إلا أنهم قد حصنوا أسوارهم بالمجانيق والطوارق والسيوف والدرق والجواشن والزرد الفاخرة قال المسيب بن نجية الفزاري: ما نزلنا ببلد من بلاد الشام فرأينا أكثر زينة ولا أحسن عدة من بيت المقدس وما نزلنا بقوم إلا وتضعضعوا لنا وداخلهم الهلع وأخذتهم الهيبة إلا أهل بيت المقدس نزلنا بإزائهم ثلاثة أيام فلم يكلمنا منهم أحد ولا ينطقون غير أن حارسهم شديد وعدتهم كاملة فلما كان في اليوم الرابع قال رجل من البادية لشرحبيل بن حسنة: أيها الأمير كأن هؤلاء القوم صم فلا يسمعون أو بكم فلا ينطقون أو عمي فلا يبصرون ازحفوا بنا إليهم فلما كان في اليوم الخامس وقد صلى المسلمون صلاة الفجر كان أول من ركب من المسلمين من الأمراء لسؤال أهل بيت المقدس يزيد بن أبي سفيان فشهر سلاحه وجعل يدنو من سورهم وقد أخذ معه ترجمانًا يبلغه عنهم ما يقولون فوقف بازاءسورهم بحيث يسمعون خطابه وهم صامتون. فقال لترجمانه: قل لهم أمير العرب يقول لكم: ماذا تقولون في إجابة الدعوة إلى الإسلام والحق وكلمة الإخلاص وهي كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى يغفر لكم ربنا ما سلف من ذنوبكم وتحقنون بها دماءكم وإن أبيتم ولم تجيبونا فصالحوا عن بلدكم كما صالح غيركم ممن هو أعظم منكم عدة وأشد منكم وإن أبيتم هاتين الحالتين حل بكم البوار وكان مصيركم إلى النار. قال: فتقدم الترجمان إليهم وقال لهم: من المخاطب عنكم. فكلمه قس من القساوسة عليه مدارع الشعر وقال: أنا المخاطب عنهم ماذا تريد. فمال الترجمان: إن هذا الأمير يقول كذا وكذا ويدعوكم إلى إحدى هذه الخصال الثلاث: إما الدخول في الإسلام أو أداء الجزية وإما السيف. قال: فبلغ القس من وراءه ما قال الترجمان. قال فضجوا بكلمة كفرهم وقالوا: لا نرجع عن دين العز. . . والقبول وأن قتلنا أهون علينا من ذلك فبلغ الترجمان ذلك ليزيد. قال: فمشى إلى الأمراء وأخبرهم بجواب القوم. قال لهم: ما انتظاركم بهم. فقالوا: إن الأمير أبا عبيدة ما أمرنا بالقتال ولا بحرب القوم في بالنزول عليهم ولكن نكتب إلى أمين الأمة فإن أمرنا بالزحف زحفنًا فكتب يزيد بن أبي سفيان إلى أبي عبيدة يعلمه بما كان من جواب القوم فما الذي تأمر. فكتب إليهم أبو عبيدة يأمرهم بالزحف وأنه واصل في أثر الكتاب فلما وقف المسلمون على كتاب أبي عبيدة فرحوا واستبشروا وباتوا ينتظرون الصباح. قال الواقدي: ولقد بلغمي أن المسلمين باتوا تلك الليلة كأنهم ينتظرون قادمًا يقدم عليهم من شدة فرحهم بقتال أهل بيت المقدس وكل أمير يريد أن يفتح على يديه فيتمتع بالصلاة فيه والنظر إلى آثار الأنبياء قال: فلما أضاء الفجر أذن وصلت الناس صلاة الفجر قال فقرأ يزيد لأصحابه {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا} [المائدة: 12]. الآية فيقال إن الأمراء أجرى الله على ألسنتهم في تلك الصلاة أن قرأوا هذه الآية كأنهم على ميعاد واحد فلما فرغوا من الصلاة نادوا: النفير النفير يا خيل الله اركبي. قال: فأول من برز للقتال حمير ورجال اليمن وبرز المسلمون للحرب كأنهم أسود ضارية ونظر إليهم أهل بيت المقدس وقد انشرحوا لقتالهم فنشطهم ورشقوا المسلمين بالنشاب فكانت كالجراد فجعل المسلمون يتلقونها بدرقهم فلم تراى الحرب بينهم من الغد إلى الغروب يقاتلون قتالًا شديدًا ولم يظهروا فزعًا ولا رعبًا ولم يطمعوهم في بلدهم فلما غربت الشمس رجع الناس وصلى المسلمون ما فرض الله عليهم وأخذوا في إصلاح شأنهم وعشائهم فلما فرغوا من ذلك أوقدوا النيران واستكثروا منها لأن الحطب عندهم كثير فبقي قوم يصفون وقوم يقرأون وقوم يتضرعون وقوم نائمون مما لحقهم من التعب والقتل فلما كان الغد بادر المسلمون إليهم وذكروا الله كثيرًا وأثنوا عليه وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدمت رماة النبل وأقبلوا يرمون ويذكرون الله وهم يضجون إلى الله قال الواقدي: ولم يزل المسلمون على القتال عدة أيام وأهل بيت المقدس يظهرون الفرح وأنه ليس على قلوبهم من هم ولا جزع فلما كان اليوم الحادي عشر أشرفت عليهم راية أبي عبيدة يحملها غلامه سالم ومن ورائها فرسان المسلمين وأبطال الموحدين وقد أحدقوا بأبي عبيدة وخالد عن يمينه وعبد الرحمن بن أبي بكر عن يساره وجاءت النسوان والأموال وضج الناص ضجة واحدة بالتهليل والتكبير فأجابتهم القبائل ووقع الرعب في قلوب أهل بيت المقدس فانقلب كبارهم وعظماؤهم وبطارقتهم إلى البيعة العظمى عندهم وهي القمامة فلما وقفوا بين يدي جاثليقهم وكانوا يعظمونه ويبجلونه فلما سمعوا تلك الضجة دخلوا عليه ووقفوا بين يديه وخضعوا له وقالوا: يا أبانا قد قدم أمير القوم إلينا ومعه بقية المسلمين وهذه الضجة بسببه فلما سمع بتركهم وجاثليقهم تغير لونه وتغير وجهه وقال: هي هي. قالوا: ما ذلك أيها البترك والأب الكبير. قال: وحق الإنجيل إن كان قدم أميرهم فقد دنا هلاككم والسلام. قالوا: وكيف ذلك قال: لأنا نجد في العلم الذي ورثناه عن المتقدمين أن الذي يفتح الأرض في الطول والعرض هو الرجل الأسمر الأحور المسمى بعمر صاحب نبيهم محمد فإن كان قد قدم فلا سبيل لقتاله ولا طاقة لكم بنواله ولا بد لي أن أشرف عليه وأنظر إليه وإلى صورته فإن كان إياه عمدت إلى مصالحته وأجبته إلى ما يريد وإن كان غيره فلا نسلم إليه قط لأن مدينتنا لا تفتح إلا على يد من ذكرته لكم والسلام ثم إنه وثب قائمًا والقسوس والرهبان والشمامسة من حوله وقد رفعوا الصلبان على رأسه وفتحوا الإنجيل بين يديه ودارت البطارقة من حوله وصعد على السور من الجهة التي فيها أبو عبيدة فنظر إلى المسلمين وهم يسلمون عليه ويعظمونه ثم يرجعون إلى القتال كأنهم الأسد الضارية فناداهم رجل ممن كان يمشي بين يدي البترك. فقال: يا معاشر المسلمين كفوا عن القتال حتى نستخبركم ونسألكم. قال فأمسك الناس عن القتال فنادهم رجل من الروم بلسان عربي فصيح: اعلموا أن صفة الرجل الذي يفتح بلدنا هذا وجميع الأرض عندنا فإن كان هو أميركم فلا نقاتلكم بل نسلم إليكم وإن لم يكن إياه فلا نسلم إليكم أبدًا. قال الواقدي: فلما سمع المسلمون ذلك أقبل نفر منهم إلى أبي عبيدة وحدثه بما سمعوه. قال فخرج أبو عبيدة إليهم إلى أن حاذاهم فنظر البترك إليه وقال: ليس هو هذا الرجل فأبشروا وقاتلوا عن بلدكم ودينكم وحريمكم فلما سمعوا قوله رفعوا أصواتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم وأقبلوا يقاتلون القتال الشديد وعاد البترك إلى القمامة ولم يخاطب أبا عبيدة بكلمة واحدة بل أمر قومه بالحرب والقتال وعاد أبو عبيدة إلى أصحابه. فقال خالد: ما كان منك أيها الأمير. فقال: لا علم لي غير أني خرجت إليهم كما رأيت وأشرف علي شيطان من شياطينهم الذي يضلهم فما هو غير أن نظر لي وتأملني حتى ضخوا ضجة واحدة وولى عني ولم يكلمني. فقال خالد: يوشك أن يكون لهم في ذلك تأويل ورأي فنقف عليه ونعلم نبأه ثم قال: شدوا عليهم الحرب والقتال فشد عليهم المسلمون. قال الواقدي: وكان نزول المسلمين على بيت المقدس في أيام الشتاء والبرد وظنت الروم أن المسلمين لا يقدرون عليهم في ذلك الوقت. قال: وزحف المسلمون إليهم وبرزت النبالة من أهل اليمن وصمم أصحاب القسي ورشقوهم بالنبل وكانوا غير محترزين من النبل لقلة اكتراثهم به حتى رأوا النبل ينكسهم على رؤوسهم من وراء ظهورهم وهم لا يشعرون. قال مهلهل: لله در عرب اليمن فلقد رأيتهم يرمون بالنبل الروم فيتهافتون من سورهم كالغنم فلما رأوا ما صنع بهم النبل احترزوا منه وستروا السور بالحجف والجلود وبما يرد النبل. عال ونظرت الروم إلى ضرار بن الأزور وقد اقبل نحو الباب الأعظم وعليه بطريق كبير وعلى رأسه صليب من الجوهر وحوله غلمان وعليهم الطوارق وبأيديهم القسي الموترة والعمد وهو يحرض القوم على القتال. قال عوف بن مهلهل فنظرت إلى ضرار وقد قصد نحوه وهو يختفي ويستتر إلى أن قرب من البرج الذي عليه البطريق ثم أطلق إليه نبلة قال عوف: فنظرت إلى النبلة مع علو هذا الجدار وقد خرجت من قوس ضرار والبرج عال رفيع. فقلت: وما تكون هذه النبلة مع علو هذا الجدار وما الذي تصنع في هذا العلج وعليه هذه اللامة اللامعة فأقسم بالله لقف وقعت هذه النبلة في فيه فتردى إلى أسفل برجه فسمعت للقوم ضجت عقيمة وجولة هائلة فعلمت أنه قتل قال ولم يزل أبو عبيدة ينازل بيت المقدس أربعة أشهر كاملة وما من يوم إلا ويقاتلهم قتالًا شديدًا والمسلمون صابرون على البرد والثلج والمطر فلما نظر أهل بيت المقدس إلى شدة الحصار وما نزل بهم من المسلمين قصدوا القمامة ووقفوا بين يدي بتركهم وسجدوا بين يديه وعظموه وقالوا له: يا أبانا قف دار علينا حصار هؤلاء العرب ورجونا أن يأتينا مدد من قبل الملك ولا شك أنه اشتغل عنا بنفسه من أجل هزيمة جيشه وأنهم أشهى منا للقتال وأنهم من يوم نزلوا علينا لم نخاطبهم بكلمة واحدة ولم نجبهم احتقارًا منا لهم والآن قد عظم علينا الأمر وإنا نريد منك أن تشرف على هؤلاء العرب وتنظر ما الذي يريدون منا فإن كان أمرهم قريبًا أجبنا إلى ما يريدون ويطلبون وإن كان صعبًا فتحنا الأبواب وخرجنا إليهم فإما أن نقتل عن آخرنا وإما أن نهزمهم عنا فأجابهم البترك إلى ذلك واشتمل بلباسه وصعد معهم على السور وحمل الصليب بين يديه واجتمع القسوس والرهبان حوله وبأيديهم الأناجيل مفتحة والمباخر حتى أشرف على المكان الذي فيه أبو عبيدة فنادى منهم رجل بلسان فصيح العربية: يا معاشر العرب إن عمدة دين النصرانية وصاحب شريعتها قد أقبل يخاطبهم فليدن منا أميركم فأخبروا أبا عبيدة بمقالهم فقال: والله إني لأجيبه حيث دعاني ثم قام أبو عبيدة وجماعة من الأمراء والصحابة ومعه ترجمان فلما وقف بإزائه قال لهم الترجمان: ما الذي تريدون منا في هذه البلدة المقدسة. ومن قصدها يوشك أن الله يغضب عليه ويهلكه فأخبره الترجمان بذلك. فقال: قل لهم نعم إنها شريفة ومنها أسري بنبينا إلى السماء ودنا من ربه كقاب قوسين أو أدنى وأنها معدن الأنبياء وقبورهم فيها ونحن أحق منكم بها ولا نزال عليها أو يملكنا الله إياها كما ملكنا غيرها. قال البترك: فما الذي تريدون منا. قال أبو عبيدة: خصلة من ثلاث: أولها أن تقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله فإن أجبتم إلى هذه الكلمة كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا. قال البترك: إنها كلمة عظيمة ونحن قائلوها إلا أن نبيكم محمدًا ما نقول إنه رسول. قال أبو عبيدة: كذبت يا عدو الله إنك لم توحد قط وقد أخبرنا الله في كتابه أنكم تقولون المسيح ابن الله: لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. قال البترك: هذه خصلة لا نجيبكم إليها فما الخصلة الثانية. فقال أبو عبيدة: تصالحوننا عن بلدكم أو تؤدون الجزية إلينا عن يد وأنتم صاغرون كما أداها غيركم من أهل الشام. قال البترك: هذه الخصلة أعظم علينا من الأولى وما كنا بالذي يدخل تحت الذل والصغار أبدًا. فقال أبو عبيدة: ما نزال نقاتلكم حتى يظفرنا الله بكم ونستعبد أولادكم ونساءكم ونقتل منكم من خالف كلمة التوحيد وعكف على كلمة الكفر. فقال البترك: فإنا لا نسلم مدينتنا أو نهلك عن آخرنا وكيف نسلمها وقد استعددنا بآلة الحرب والحصار وفيها العدة الحسنة والرجال الشداد ولسنا كمن لاقيتم من أهل المدن الذين أذعنوا لكم بالجزية فإنهم قوم غضب عليهم المسيح فأدخلهم تحت طاعتكم ونحن في بلد من إذا سأل المسيح ودعاه أجاب دعوته فقال أبو عبيدة: كذبت والله يا عدو الله {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} [المائدة: 75] فقال: أنا أقسم بالمسيح أنكم لو أقمتم علينا عشرين سنة ما فتحتموها أبدًا وإنما تفتح لرجل صفته ونعته في كتبنا ولسنا نجد صفته ونعته معك أبدًا فقال أبو عبيدة: وما صفة من يفتح مدينتكم. قال البترك: لا نخبركم بصفته لكن نجد في كتبنا وما قرأناه من كلمنا أنه يفتح هذه البلدة صاحب محمد اسمه عمر يعرف بالفاروق وهو رجل شديد لا تأخذه في الله لومة لائم ولسنا نرى صفته فيكم قال: فلما سمع أبو عبيدة ذلك من كلام البترك تبسم ضاحكًا وقال: فتحنا البلد ورب الكعبة. ثم أقبل عليه وقال له: إذا رأيت الرجل تعرفه. قال: نعم وكيف لا أعرفه وصفته عندي وعدد سنينه وأيامه. قال أبو عبيدة: هو والله خليفتنا وصاحب نبينا. فقال البترك: إن كان الأمر كما ذكرت فقد علمت صدق قولنا فاحقن الدماء وابعث إلى صاحبك يأتي فإذا رأيناه وتبيناه وعرفنا صافته ونعته فتحنا له البلد من غير هم ولا نكد وأعطنا الجزية. فقال أبو عبيدة: فإني أبعث إليه بأن يقوم علينا أفتحبونا القتال أم نكف عنكم. فقال البترك: معاشر العرب ألا تدعون بغيكم. . أنخبركم بأننا قد صدقناكم في الكلام طلبًا لحقن الدماء وأنتم تأبون إلا القتال. قال أبو عبيدة: نعم لأن ذلك أشهى إلينا من الحياة نرجو به العفو والغفران من ربنا. قال فأمر أبو عبيدة بالكف عنهم وانصرف البترك. قال الواقدي : فجمع أبو عبيدة الأمراء والمسلمين إليه وأخبرهم بما قال البترك فرفع المسلمون أصواتهم بالتهليل والتكبير وقالوا: افعل أيها الأمير واكتب إلى أمير المؤمنين بذلك فلعله يسير إلينا وبفتح هذا البلد علينا فقال شرحبيل بن حسنة: اصبر حتى نقول لهم إن الخليفة معنا ويتقدم خالد إليهم. فإذا نظروا إليه فتحوا الباب وكفينا التعب وكان خالد أشبه الناس بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما أصبح الصباح. قال له الترجمان: قد جاء الخليفة وكان قد قال أبو عبيدة لخالد فركبوا جميعًا وقالوا: قد جاء الرجل الذي تطلبونه فعرفوا البترك فأقبل إلى أن وقف على السور وقال له: قل له يتقدم بحيث نراه عيانًا فتقدم خالد فتبينه وقال: وحق المسيح كأنه هو ولكن باقي العلامات ما هي فيه فبحق دينك من أنت. فقال: أنا من بعض أصحابه فقال البترك: يا فتيان العرب كم يكون هذا الخداع فيكم وحق المسيح لئن لم نر الرجل الموصوف ما نفتح لكم ولا يرجع أحد منا يكلمكم ولو أقمتم علينا عشرين سنة ثم ولى ولم يتكلم فقال المسلمون عند ذلك: اكتبوا إلى أمير المؤمنين وعرفوه بذلك فعسى أن يأتي ويتشوف بهذه البقعة فكتب أبو عبيدة كتابًا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله أبي عبيدة عامر بن الجراح. أما بعد السلام عليك فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم واعلم يا أمير المؤمنين أنا منازلون لأهل مدينة إيلياء نقاتلهم أربعة أشهر كل يوم نقاتلهم ويقاتلوننا ولقد لقي المسلمون مشقة عظيمة من الثلج والبرد والأمطار إلا أنهم صابرون على ذلك ويرجون الله ربهم فلما كان اليوم الذي كتبت إليك الكتاب فيه أشرف علينا بتركهم الذي يعظمونه وقال: إنهم يجدون في كتبهم أنه لا يفتح بلدهم إلا صاحب نبينا واسمه عمر وأنه يعرف صفته ونعته وهو عندهم في كتبهم وقد سألنا حقن الدماء فسر إلينا بنفسك وانجدنا لعل الله أن يفتح هذه البلدة علينا على يديك ثم إنه طوى الكتاب وختمه وقال: يا معاشر المسلمين من ينطلق بكتابي هذا وأجره على الله فأسرع بالإجابة ميسرة بن مسروق العبسي وقال: أنا أكون الرسول وأرجع مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن شاء الله تعالى. قال أبو عبيدة: فخذ الكتاب بارك الله فيك فأخذه ميسرة واستوى على ناقة له كوماء ولم يزل سائرًا إلى أن دخل المدينة فدخلها ليلًا وقال: والله لا نزلت عند أحد من الناس فأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها ودخل المسجد وسلم على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم أتى مكانًا في المسجد فنام وكان له ليال عدة لم ينم فأخذته عيناه فما استيقظ إلا على أذان عمر وكان يغلس في الأذان فلما أذن دخل المسجد وهو يقول: الصلاة رحمكم الله. قال ميسرة: فقمت وتوضأت وصليت خلف عمر صلاة الفجر فلما انحرف عن محرابه قمت إليه وسلمت عليه فلما نظر إلي صافحني واستبشر وقال: ميسرة ورب الكعبة. ثم قال: ما وراءك يا ابن مسروق. قلت: الخير والسلامة يا أمير المؤمنين ثم ناولته الكتاب فقرأه على المسلمين فاستبشروا به فقال: ما ترون رحمكم الله فيما كتب به أبو عبيدة. فكان أول من تكلم عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إن الله قد أذل الروم وأخرجهم من الشام ونصر المسلمين عليهم وقد حاصر أصحابنا مدينة إيلياء وضيقوا عليهم وهم في كل يوم يزدادون ذلًا وضعفًا ورعبًا فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف ولقتالهم مستحقر فلا يلبثون إلا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطون الجزية فلما سمع عمر ذلك من مقال عثمان جزاه خيرًا وقال: هل عند أحد منكم رأي غير هذا. فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نعم عندي غير هذا الرأي وأنا أبديه لك رحمك الله فقال عمر: وما هو يا أبا الحسن. قال: إن القوم قد سألوك وفي سؤالهم ذلك فتح للمسلمين وقد أصاب المسلمين جهد عظيم من البرد والقتال وطول المقام وإني أرى أنك إن سرت إليهم فتح الله هذه المدينة على يديك وكان في مسيرك الأجر العظيم في كل ظمأ ومخمصة وفي قطع كل واد وصعود جبل حتى تقدم إليهم. فإذا أنت قدمت عليهم كان لك وللمسلمين الأمن والعافية والصلاح والفتح ولست آمن أن ييأسوا منك ومن الصلح ويمسكوا حصنهم ويأتيهم المدد من بلادهم وطاغيتهم فيدخل فلا يتخلفون عنه والصواب أن تسير إليهم إن شاء الله تعالى. قال ففرح عمر بن الخطاب بمشورة على رضي الله عنه وقال: لقد أحسن عثمان النظر في المكيدة للعدو وأحسن علي المشورة للمسلمين فجزاهما الله خيرًا ولست آخذ إلا بمشورة علي فما عرفناه إلا محمود المشورة ميمون الغرة ثم إن عمر رضي الله عنه أمر الناس بأخذ الأهبة للمسير معه والاستعداد فأسرع المسلمون إلى ذلك واستعدوا وتأهبوا وأمر عمر أن يكونوا خارج المدينة ففعلوا ذلك وأتى عمر المسجد فصلى فيه أربع ركعات ثم قام إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه وعلى أبي بكر رضي الله عنه واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب وخرج من المدينة وأهلها يشيعونه ويودعونه. قال الواقدي: وخرج عمر من المدينة وهو على بعير له أحمر وعليه غرارتان في إحداهما سويق وفي الأخرى تمر وبين يديه قربة مملوءة ماء وخلفه جفنة للزاد وخرج ومعه جماعة من الصحابة قد شهدوا اليرموك وعادوا إلى المدينة منهم الزبير وعبادة بن الصامت وسار عمر نحو بيت المقدس فكان إذ نزل منزلًا لا يبرح منه حتى يصلي الصبح فإذا انفتل من الصلاة أقبل على المسلمين وقال: الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام وأكرمنا بالإيمان وخصنا بنبته عليه الصلاة والسلام وهدانا من الضلالة وجمعنا بعد الشتات على كلمة التقوى وألف بين قلوبنا ونصرنا على عدونا ومكن لنا في بلاده وجعلنا إخوانا متحابين فاحمدوا الله عباد الله على هذه النعمة السابغة والمنن الظاهرة. فإن الله يزيد المستزيدين الراغبين فيما لديه وبتم نعمته على الشاكرين. ثم يأخذ الجفنة فيملؤها سويقًا ويصف التمر حولها ويقرب للمسلمين ويقول: كلوا هنيئًا مريئًا فيأكل ويأكل المسلمون معه ثم يرحل فلم يزل كذلك في مسيره. قال عمرو بن مالك العبسي: كنت مع عمر بن الخطاب حين سار إلى الشام فمر على ماء لجذام وعليه طائفة منهم نزول والماء يدعى ذات المنار فنزل بالمسلمين عليه فبينما هو كذلك وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله إذ أقبل إليه قوم من جذام فقالوا: يا أمير المؤمنين إن عندنا رجلًا له امرأتان وهما أختان لأب وأم. قال: فغضب عمر وقال علي به فأتي بالرجل إليه فقال له عمر: ما هاتان المرأتان. قال الرجل: زوجتاي قال: فهل بينهما قرابة. قال: نعم هما أختان قال عمر: فما دينك ألست مسلمًا. قال: بلى قال عمر: وما علمت أن هذا حرام عليك والله يقول في كتابه: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء: 23] فقال الرجل ما علمت وما هما علي حرام فغضب عمر وقال: كذبت والله إنه لحرام عليك ولتخلين سبيل إحداهما وإلا ضربت عنقك. قال الرجل: أفتحكم علي قال: أي والله الذي لا إله إلا هو فقال الرجل: إن هذا دين ما أصبنا فيه خيرًا ولقد كنت غنيًا عن أن أدخل فيه قال عمر: ادن مني فدنا منه فخفق رأسه بالدرة خفقتين وقال له: أتتشاءم بالإسلام يا عدو الله وعدو نفسه وهو الدين الذي ارتضاه الله لملائكته ورسله وخيرته من خلقه خل يا ويلك سبيل إحداهما وإلا جلدتك جلدة المفتري فقال الرجل: كيف أصنع بهما وإني أحبهما ولكن أقرع بينهما فمن خرجت القرعة عليها كنت لها وهي لي وإن كنت لهما جميعًا محبًا فأمر عمر فاقترع فوقعت القرعة على إحداهما فأمسكها وأطلق سبيل الثانية ثم أقبل عليه عمر وقال له: اسمع يا ذا الرجل وع ما أقول لك إنه من دخل في ديننا ثم رجع عنه قتلناه فإياك أن تفارق الإسلام وإياك يبلغني أنك قد أصبت أخت امرأتك التي فارقتها فإنك إن فعلت ذلك رجمتك. قال الواقدي: وسار عمر حتى مر على حي من بني مرة. فإذا بقوم منهم قد أقاموا في الشمس يعذبون فقال لهم عمر: ما بال هؤلاء يعذبون. فقيل: عليهم خراج فهم يعذبون قال: فما يقولون. قال: يقولون: ما نجد ما نؤدي فقال عمر: دعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فإني سمعت رسولالله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تعذبوا الناس في الدنيا يعذبهم الله يوم القيامة) فخلى سبيلهم. ثم سار حتى إذا كان بوادي القرى أخبروه أن شيخًا على الماء وله صديق يوده فقال له صديقه هل لك أن تجعل لي في زوجتك نصيبًا أكفيك رعي إبلك والقيام عليها ولي فيها يوم وليلة ولك فيها يوم وليلة. قال له الشيخ: قد فعلت ذلك ورضي. فلما أخبر عمر بذلك أمر بهما فأحضرا. فقال: ويلكما ما دينكما. قالا: الإسلام. قال عمر: فما الذي بلغني عنكما قالا: وما هو. فأخبرهما عمر بما سمعه من العرب فقال الشيخ: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين. فقال عمر: أما علمتما أن ذلك حرام في دين الإسلام. قالا: لا والله ما علمنا ذلك. فقال عمر للشيخ: وما دعاك أن صنعت هذا القبيح. قال: أنا شيخ كبير ولم يكن لي أحد أثق به ولا أتكل عليه فقلت: يا هذا أتكفيني الرعي والسقي وتعينني على دوابي وأنا أجعل لك نصيبًا في امرأتي والآن علمت أنه حرام فلا أفعله فقال عمر: خذ بيد امرأتك فلا سبيل لي عليها ثم قال للشاب: إياك أن تقرب منها فإنه إن بلغني ذلك ضربت عنقك ثم ارتحل عمر يريد بيت المقدس حتى دنا من أول الشام وأشرف عليه. قال أسلم بن برقان مولى عمر فلما أشرفنا على الشام وأشرف عليه المسلمون نظرنا إلى طائفة من خيل المسلمين. فقال عمر للزبير: أسرع وانظر ما هذه الخيل فأسرع الزبير إليها فلما قرب منها وإذا هي خيل من اليمن قد بعث بها أبو عبيدة يأخذون له خبر عمر رضي الله عنه قال الزبير: فسلموا علي وقالوا: يا فتى من أين أقبلت فقلت: من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: كيف خلفت أهلها. قلت: بخير قالوا: فما فعل عمر هل قدم علينا أم لا. قال الزبير: من أنتم. قالوا: نحن من عرب اليمن قد وجهنا أبو عبيدة لنأخذ له خبر عمر قال: فرجع الزبير إلى عمر وحدثه قال: أصبت يا أبا عبد الله فأقبل علينا جمع آخر فسلموا علينا وسألونا عن عمر. فقال لهم: ها أنا عمر فما تريدون. قالوا: يا أمير المؤمنين قد ذرفت العيون وطالت الأعناق بطول قدومك فلعل الله أن يفتح بيت المقدس على يدك. قال الواقدي: ثم رجعوا على أعقابهم حتى أشرفوا على عسكر المسلمين وأبي عبيدة ونادوا بأصواتهم: أبشروا يا مسلمون بقدوم عمر قال فارتج الناس وهموا أن يركبوا لاستقباله بأجمعهم. فقال أبو عبيدة: عزيمة على كل رجل أن لا يخرج من مركزه ثم سار أبو عبيدة في أناس من المهاجرين والأنصار حتى أشرف بمن معه على عمر قال: ونظر عمر إلى أبي عبيدة وهو لابس سلاحه متنكب قوسه وهو راكب على قلوصه مغطى بعباءة قطوانية وخطام قلوصه من شعر فلما نظر أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنه أناخ قلوصه وأناخ عمر بعيره وترجل كلاهما ومد أبو عبيدة يده فصافح عمر وتعانقا جميعًا وسلم بعضهما على بعض وأقبل المسلمون يسلمون على عمر ثم ركبا جميعًا وجعلا يسيران أمام الناس وهما يتحادثان ولم يزالا كذلك حتى نزلا ببيت المقدس فلما نزل صلى عمر رضي الله عنه بالمسلمين صلاة الفجر ثم خطبهم خطبة حسنة فقال في خطبته: الحمد لله الحميد المجيد القوي الشديد الفعال لما يريد ثم قال: إن الله تعالى قد أكرمنا بالإسلام وهدانا بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام وأزاح عنا الضلالة وجمعنا بعد الفرقة وألف بين قلوبنا من بعد البغضاء فاحمدوه على هذه النعمة تستوجبوا منه المزيد فقد قال الله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [إبراهيم: 7] ثم قرأ: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدا} [الإسراء: 97] قال فلما تلا عمر ذلك قام قس من النصارى كان حاضرًا بين يديه. فقال: إن الله لا يضل أحدًا فلما كررها قال عمر: انظروا إن عاد إلى قوله فاضربوا عنقه فعرف القس ما قال عمر فأمسك ومضى عمر في خطبته. فقال: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله عز وجل الذي يبقى ويفنى كل شيء سواه الذي بطاعته ينفع أولياءه وبمعصيته يفني أعداءه أيها الناس أدوا زكاة أموالكم طيبة بها قلوبكم وأنفسكم لا تريدون بها جزاء من مخلوق ولا شكورًا افهموا ما توعظون به فإن الكيس من أحرز دينه وإن السعيد من اتعظ بغيره ألا إن شر الأمور مبتدعاتها وعليكم بالسنة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم فألزموها فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة وألزموا القرآن فإن فيه الشفاء والثواب أيها الناس إنه قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي فيكم وقال: ألزموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب حتى يشهد من لم يستشهد ويحلف من لم يحلف فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة وتعوذوا من الشيطان ولا يخلون أحد منكم بامرأة فإنهن من حبائل الشيطان ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن والصلاة الصلاة فلما فرغ من خطبته جلس فجعل أبو عبيدة يحدثه بما لقي من الروم وعمر باهت فتارة يبكي وتارة يهدأ فلم يزل كذلك إلى أن حضرت صلاة الظهر. فقال الناس: يا أمير المؤمنين اسأل بلالًا أن يؤذن لنا وكان بلال مقيمًا ببلد فلما بلغه أن عمر قد وصل سار مع أبي عبيدة حتى سلم على عمر فعظم قدره فلما حضرت صلاة الظهر وسأل المسلمون عمر أن يسأل بلالًا. فقال له: يا بلال إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون أن تؤذن لهم وتذكرهم أوقات نبيهم صلى الله عليه وسلم فقال بلال: نعم فلما قال: الله كبر خشعت جلودهم واقشعرت أبدانهم قال: فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله بكى الناس بكاء شديدًا حتى كادت قلوبهم أن تتصدع عند ذكر الله ورسوله فلما فرغ بلال من آذانه وجلس قال بلال: يا أمير المؤمنين إن أمراء المسلمين وأجناد الشام يأكلون لحوم الطيور والخبز النقي وما لا يلحق ضعفاء الناس وما لا تناله أيديهم وإن الكل يفنى وماله إلى التراب ومصيرنا إليه. فقال له يزيد بن أبي سفيان: إن سعر بلادنا هذه رخيص وإنا لنصيب ما قاله بلال ههنا مثل ما كنا نقوت به أنفسنا مدة من الزمان في الحجاز. فقال عمر: إن الأمر كما ذكرت فكلوا هنيئًا مريئًا ولست أبرح من مكاني حتى تجمعوا إلي من في المنازل وأن تكتبوا إلى فقراء المسلمين ممن في المدن والقرى فأفرض لكل أهل بيت ما يجزيهم من البر والشعير والعسل والزيت وما يحتاجون إليه ولا بد لهم منه ثم قال عمر: هذا لكم من أمرائكم غير ما يأتيكم مني من بيت مال المسلمين فإن قطعت عنكم أمراؤكم فأمروني حتى أعزلهم عنكم ثم أمرهم بالرحيل فلما هم بالركوب على بعيره وعليه مرقعة من صوف وفيها أربع عشرة رقعة بعضها من أدم. قال الواقدي: بلغني ممن أثق به أنها كانت مرقعة من صوف. فقال له المسلمون: يا أمير المؤمنين لو ركبت بدل بعيرك جوادًا ولبست ثيابًا بيضًا. قال ففعل. قال الزبير: أحسب أنها كانت من ثياب مصر تساوي خمسة عشر درهمًا وطرح على عاتقه منديلًا من كتان ليس جديدًا ولا بالخلق دفعه إليه أبو عبيدة وقدم إليه برذون أشهب من براذين الروم فلما صار عمر على ظهره جعل البرذون يهملج به فلما نظر عمر إلى البرذون وفعاله نزل عنه مسرعًا وقال: أقيلوا عثرتي أقال الله عثرتكم يوم القيامة فقد كاد أميركم أن يهلك بما دخل قلبي من العجب والكبر وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر). ولقد كاد أن يهلكني ثوبكم الأبيض وبروذنكم المهملج ثم إن عمر رضي الله عنه نزع ما كان عليه ثم عاد إلى لبس مرقعته. قال الواقدي: كنا يومًا نقرأ فتوح الشام وفتوح بيت المقدس عند قبر أبي حنيفة وكان الفتوح يقرأ على عبادة بن عوف الدينوري وكان من أهل الفضل وكان يسجع كلامه. فلما وصل إلى ما ذكرناه من لبس عمر لمرقعته. قال: قد سمح خاطري بما أنا قائله. قال الواقدي: قلت: قل ولا تخف الصدق فتهوى في النار وإن الصدق أمانة والكذب خيانة. قال: لما لبس عمر مرقعته وجعل يتميز في شمائل فقره والكائنات تتعجب من زهده وصبره عندما تزينت له الدنيا بملابسها وتراءت له في حلل أمنيتها بواسطة حدثان مشيئتها وقد جعلت أشباح شهواتها على قمة رأس مرآتها وأقبلت رافلة في حلة مراودته مطلقة عند الطمع في طلب زوال مجاهدته معرضة بملابس جمالها على سوق معارضته في سناء قبلة مرآة تبهرجها في عين مشاهدته واقفة على قدم الاستدراج إلى ترك خدمته جاعلة ودادها ذريعة إلى وصلته وعمر قد أمسك عرى طاعته بيد عصمته فلما نصبت له حبائل بلاها ولم تره وقع في أشراك هواها أسمعت في معناها قد شغفها حبًا إنا لنراها وقالت: يا عمر قد وليت أرضي فلا بد من القيام بفرضي فالولاية لا تقوم إلا بالملابس الهنية والمآكل الشهية والظلم في الرعية فقال عمر: اذهبي فلست من رجالك ولا ممن يقع في حبالك ولا في أوحالك. أما علمت أني قد تجردت لمعاندتك ولا حاجة لي في مشاهدتك وها أنا على قدم تجردت لإقامة دعوة سيد الأمم حتى أفتح بلاد الروم والعجم ثم أظهر في وجهها صارم اجتهاده من معنى قوله {وجاهدوا في الله حق جهاده} التوبة: 86. قال الواقدي: فاستحسنت هذا الكلام وألحقت ما قاله في هذا الموضع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحرًا) قال: وإن عمر سار يريد العقبة ليصعد منها إلى بيت المقدس فلقيه قوم من المسلمين وعليهم ثياب الديباج مما أخذوه من اليرموك فأمر عمر أن يحثوا التراب في وجوههم وأن تمزق عليهم ولم يزل على ذلك حتى أشرف على بيت المقدس فلما نظر إليها قال: الله أكبر اللهم افتح لنا فتحًا يسيرًا واجعل لنا من لدنك سلطانًا نصيرًا ثم سار واستقبلته العشائر والقبائل وأصحاب العقود وسار عمر حتى نزل بالموضع الذي كان فيه أبو عبيدة وضربت له خيمة من شعر وجلس فيها هناك على التراب. ثم قام يصلي أربع ركعات. قال الواقدي: وعلت للمسلمين ضجة عظيمة وصياح مزعج بالتهليل والتكبير فسمع أهل بيت المقدس الضجة والجلبة فقال لهم البترك: يا ويلكم ما شأن العرب قد ارتفعت لهم جلبة من غير شيء فأشرفوا عليهم وانظروا ما شأنهم. قال الواقدي: فأشرف عليهم رجل ممن يعرف العربية فقال: يا معاشر العرب أخبرونا ما قصتكم قالوا: إن أمير المؤمنين عمر قد قدم علينا من مدينة نبينا وهذه الضجة من فرح المسلمين به. قال: فرجع وأعلم البترك فأطرق إلى الأرض ولم يتكلم فلما كان الغد وصلى عمر بالناس صلاة الفجر. قال لأبي عبيدة: يا عامر تقدم إلى القوم وأعلمهم أني قد أتيت. قال: فخرج أبو عبيدة وصاح بهم وقال: يا أهل هذه البلدة إن صاحبنا أمير المؤمنين قد ورد فما تصنعون فيما قلتم.
من كتاب فتوح الشام للواقدى
يتبع انشاء الله
|
|