موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 21 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة 1, 2  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: فتح مصر
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد نوفمبر 25, 2007 2:17 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
فتح مصر
قال عبد الله بن عباس
‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه ثم حوله إلى يساره‏.‏

حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره وحدثنا جعفر بن

محمد عن أبيه قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن

والحسين رضي الله عنهم جميعًا يتختمون في اليسار‏.‏

قال الراوي‏:‏ فلما طبع الكتاب بخاتمه قال‏:‏ أيها الناس أيكم ينطلق بكتابي هذا إلى صاحب مصر

وأجره على الله‏.‏
قال‏:‏ فوثب إليه حاطب بن أبي بلتعة القرشي البدرى رضى الله عنه وقال‏:‏ أنا يا رسول الله‏.‏

فقال له‏:‏ ‏(‏بارك الله فيك يا حاطب‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فأخذت الكتاب من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وودعته وأصحابه وسرت إلى منزلي وشددت راحلتي وودعت أهلي واستقمت على الطريق إلى نحو مصر‏.‏
فلما بعدت عن المدينة بثلاثة أيام أشرفت على ماء لبني بدر فأردت أن أورد ناقتي الماء وإذا على الماء رجلان ومعهما ناقتان ومعهما رجل آخر راكب على جواد أدهم فلما رأيتهم وإذا بالفارس أتى إلي وقال لي‏:‏ من أين أقبلت وأين تريد‏.‏
فقلت‏:‏ يا هذا لا تسأل عما لا يعينك فتقع فيما يحزنك ويخزيك أنا رجل عابر سبيل وسالك طريق‏.‏
فقال‏:‏ ما إياك أردنا ولا نحوك قصدنا نحن قوم لنا دم وثأر عند محمد بن عبد الله وقد جئت أنا وهذان الرجلان وتحالفنا على أن ندهمه على غفلة فلعلنا نجد منه غزة فنقتله‏.‏
قال حاطب‏:‏ والله لقد أمكنني الله منهم فلأجعلن جهادي فيهم ولو بالخديعة فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ الحرب خدعة‏.‏
فبينما أنا أخاطب الفارس وإذا بالراكبين قد وصلا إلي وقالا لي بغلظة وفظاظة‏:‏ ويحك لعلك من أصحاب محمد فقلت لهما‏:‏ لقد كاد أن يتبدل لكما الطريق عن سبيل التحقيق وإني رجل مثلكما أطلب ما تطلبون وأنا قاصد يثرب وقد عولت علي صحبتكم لأكون معكم ولكن سمعت في طريقي هذا ممن أثق به أن محمدًا أنفذ رسولًا من أصحابه إلى مصر بكتاب فلعله في هذا الوادي فإن وقعنا به قتلناه‏.‏
فقال صاحب الفرس‏:‏ أنا أسير معك ثم إنه تقدم أمامي وتركنا صاحبيه واقفين ينتظران قال حاطب‏:‏ فلما بعدت به عن أصحابه وغبنا عنهما قلت‏:‏ ما اسمك‏.‏
قال‏:‏ اسمي سلاب بن عاصم الهمداني قلت‏:‏ يا سلاب اعلم أنه لا يقدر أن يدخل على يثرب إلا من كان له جنان وقلب وغدر ومكر لأن بها سادات الأرض وأبطالها مثل عمر وعلي ولكن كيف سيفك‏.‏
قال‏:‏ سيفي ماض قلت‏:‏ أرني إياه فاستقه من غمده وسلمه إلي فأخذت السيف من يده وهززته وقلت‏:‏ سيف ماض ثم قلت‏:‏
سيوف حداد يا لؤي بن غالب مواض ولكن أين للسيف ضارب
فقال‏:‏ ما معنى هذا الكلام قلت‏:‏ يا ابن عاصم إن سيفك هذا من ضرب قوم عاد من ولد شداد وما ملكت العرب سيفًا مثله ولا أمضى من هذا السيف ولكن وجب علي إكرامك وأريد التقرب إليك بحيلة أعلمك إياها تقتل بها عدوك‏.‏
فقال‏:‏ بذمة العرب أفعل ذلك‏.‏
فقال حاطب‏:‏ إذا كنت في مقام حرب وقتال وخصمك بين يديك وتريد قتله فهز هذا السيف حتى يهتز هكذا وتلتئم مضاربه واضربعدوك بحرفه فإنه أسرع للقتل والقطع وملت بالسيف على عنقه وإذا برأسه طائر عن بدنه فنزلت إليه وأمسكت الجواد لئلا ينفلت فينذر أصحابه وتركته مربوطًا إلى شجرة وأسرعت إلى صاحبيه وإذا هما ينتظراننا فلما رأياني أقبل أحدهما إلي فقال‏:‏ ما وراءك وأين سلاب فقلت‏:‏ أبشر بأخذ الثأر وكشف العار واعلم بأننا وجدنا رجلين من أصحاب محمد وهما نائمان وقد وجهني سلاب بأن يمضي أحدكما حتى نتمكن منهما ويقف أحدكما ههنا فإن هذأ الوادي ما خلا ساعة من أصحاب محمد‏.‏
فقال‏:‏ نعم الرأي الذي أشرت به وسار معي فلما غيبته عن صاحبه قلت‏:‏ ما اسمك‏.‏
قال‏:‏ عبد اللات قلت‏:‏ كن رجلًا وإياك الخوف فإنك إن رأيتنا ولد هجمنا على الرجلين فاستيقظ‏.‏
فقال‏:‏ لا بد أن أفعل ذلك فقلت له‏:‏ إني أرى غيرة ولا شك أن تحتها قوما ممن صبأ إلى دين محمد فجعل يتأمل كأنه الوالد الحيران فعاجلته بضربة على غفلة فرميت رأسه عن بدنه وعدت إلى الثالث فلما رآني وحدي تيقن بالشر فقارعني وقارعته وصدمني وصدمته إلا أن الله أعانني عليه فقتلته وأخذت الراحلتين والفرس وأسلابهما ووضعت الجميع عند رجل من أصحابي وكان رفيقًا لي من زمن الجاهلية وهو من عبد شمس ثم توجهت أريد مصر ولم أزل إلى أن أتيتها فلما وصلت إلى باب الملك قالوا‏:‏ من أين جئت‏.‏
قلت‏:‏ أنا رسول إلى ملككم فقالوا‏:‏ من عند من قلت‏:‏ من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعوا بذلك أحاطوا بي وأوصلوني إلى قصر الشمع بعد أر استأذنوا لي وأوقفوني على باب الملك فأمرهم بإحضاري بين يديه فعقلت راحلتي وسرت معهم عند المقوقس وإذا هو في قبة كثر الجوهر في حافتها ولمع الياقوت من أركانها والحجاب بين يديه‏.‏
فأومأت بتحية الإسلام فقال حاجبه‏:‏ يا أخا العرب أين رسالتك‏.‏
قال‏:‏ فأخرجت الكتاب فأخذه الملك من يدي بيده‏.‏
قال‏:‏ فباسه ووضعه على عينيه وقال‏:‏ مرحبًا بكتاب النبي العربي ثم قرأه وزيره الباكلمين فقال له‏:‏ اقرأه جهرًا فإنه من عند رجل كريم فقرأه الوزير إلى أن أتى إلى آخره‏.‏
فقال الملك لخادمه الكبير‏:‏ هات السفط الذي عندك فأتى به ففتحه واستخرج نمطًا ففتح ذلك النمط وإذا فيه صفة آدم وجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وفي آخره صفة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
فقال لي‏:‏ صف صاحبك حتى كأنني أراه‏.‏
قال حاطب‏:‏ ومن يقدر أن يصف عضوًا من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
فقال‏:‏ لا بد من ذلك‏.‏
قال‏:‏ فوقفت بعدما كنت جالسًا وقلت‏:‏ إن صاحبي وسيم قسيم معتدل القامة بعيد الهامة بين كتفيه شامة وله علامة كالقمر إذا برز صاحب خشوع وديانة وعفة وصيانة صادق اللهجة ووضح البهجة أشم العرنين واضح الجبين سهل الخدين رقيق الشفتين براق الثنايا بعينيه دعج وبحاجبيه زجج وصدره يترجرج وبطنه كطي الثوب المدبج له لسان فصيح ونسب صحيح وخلق مليح قال‏:‏ والملك ينظر في النمط فلما فرغت قال‏:‏ صدقت يا عربي هكذا صفته فبينما هو يخاطبني إذ نصبت الموائد وأحضروا الطعام فأمرني أن أتقدم فامتنعت فتبسم وقال‏:‏ وقد علمت ما أحل لكم وحرم عليكم ولم أقدم لك إلا لحم الطير‏.‏
فقلت‏:‏ إني لا آكل في هذه الصحاف الذهب والفضة فإن الله قد وعدنا بها في الجنة قال‏:‏ فبدلوا طعامي في صحاف فخار فأكلت‏.‏
فقال‏:‏ أي طعام أحب إلى صاحبك‏.‏
فقلت‏:‏ الدباء يعني القرع فإذا كان عندنا شيء منه آثرناه على غيره‏.‏
فقال‏:‏ ففي أي شيء يشرب الماء فقلت‏:‏ في قعب من خشب‏.‏
قال‏:‏ أيحب الهدية قلت‏:‏ نعم فإنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت‏)‏‏.‏ قال‏:‏ أيأكل الصدقة‏.‏
قلت‏:‏ لا بل يقبل الهدية ويأبى الصدقة وقد رأيته إذا أتي بهدية لا يأكل منها حتى يأكل صاحبها‏.‏
فقال الملك‏:‏ أيكتحل‏.‏
قلت‏:‏ نعم في عينه اليمنى ثلاثًا وفي اليسرى اثنتين وقال‏:‏ ‏(‏من شاء اكتحل أكثر من ذلك أو أقل‏)‏ وكحله الإثمد وينظر في المرآة ويرجل شعره ويستاك‏.‏
فقال المقوقس‏:‏ إذا ركب ما الذي يحمل على رأسه فقلت‏:‏ راية سوداء ولواء أبيض وعلى اللواء مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله‏.‏
فقال‏:‏ أله كرسي يجلس عليه أو قبة‏.‏
قلت‏:‏ نعم له قبة حمراء تسع نحو الأربعين‏.‏
قال‏:‏ فما الذي يحب من الخيل‏.‏
قلت‏:‏ الأشقر الأرتم الأغر المحجل في الساق وقد تركت عنده فرسًا يقال لها المرعد‏.‏
قال‏:‏ فلما سمع كلامي انتخب من خيله فرسًا من أفخر خيول مصر الموصوفة وأمر به فأسرج وألجم فأعده هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فرسه المأمون وأرسل معه حمارًا يقال له عفير وبغلة يقال لها دلدل وجارية اسمها بريرة وكانت سوداء وجارية بيضاء من أجمل بنات القبط اسمها مارية وغلام اسمه محبوب وطيب وعود وند ومسك وعمائم وقباطي وأمر وزيره أن يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا يقول فيه‏:‏ باسمك اللهم من المقوقس إلى محمد‏.‏
أما بعد‏:‏ فقد وصل إلي كتابك وفهمته وأنت تقول‏:‏ إن الله أرسلك رسولًا وفضلك تفضيلًا وأنزل عليك قرآنًا مبينًا فكشفنا يا محمد خبرك فوجدناك أقرب داع إلى الله وأصدق من تكلم بالصدق ولولا أنني ملكت ملكًا عظيمًا لكنت أول من آمن بك لعلمي أنك خاتم النبيين وإمام المرسلين والسلام عليك ورحمة الله وبركاته مني إلى يوم الدين‏.‏
قال‏:‏ وسلم الكتاب والهدية إلي وقبلني بين عيني وقال‏:‏ بالله عليك قبل بين عيني محمد عني هكذا ثم بعث معي من يوصلني إلى بلاد العرب وإلى مأمني‏.‏
قال‏:‏ فوجدنا قافلة من بلاد الشام وهي تريد المدينة فصحبتها إلى أن وردت المدينة فأتيت المسجد وأنخت ناقتي ودخلت وسلمت
أنعم صباحًا يا وسيلة أحمد نرجو النجاة غدًا بيوم الموقف
إني مضيت إلى الذي أرسلتني أطوي المهامه كالمجد المعنف
حتى رأيت بمصر صاحب ملكهم فبدا إلي بمثل قول المنصف
فقرأ كتابك حين فك ختامه فأطل يرعد كاهتزاز المرهف
قال البطارقة الذين تجمعوا ماذا يروعك من كتاب مشرف
قال اسكتوا يا ويلكم وتيقنوا هذا كتاب من نبي المصحف
قالوا وهمت فقال لست بواهم إني قرأت بيان لفظ الأحرف
وبكل سطر من كتاب محمد خط يلوح لناظر متوقف
هذا الكتاب كتابه لك جامعًا يا خير مأمول بحبك نكتفي
قال الراوي‏:‏ ورجعنا إلى الفتوح قال‏:‏ حدثني أحمد بن عبيد عن عبد الله بن عمر السلمي عن محمد الزهري عن عبد الله بن زيد الهذلي عن أبي إسحق الأموي وهو المعتمد عليه في فتوح مصر وأرض ربيعة والفرس‏.‏

و للحديث بقيه أن شاء الله


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: فتح مصر
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء نوفمبر 28, 2007 9:09 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
قال الراوي‏:‏ ورجعنا إلى الفتوح قال‏:‏ حدثني أحمد بن عبيد عن عبد الله بن عمر السلمي عن

محمد الزهري عن عبد الله بن زيد الهذلي عن أبي إسحق الأموي وهو المعتمد عليه في فتوح

مصر وأرض ربيعة والفرس‏.‏
حدثنا عمر بن حفص ولم ينفرد بهذه الرواية سواه وكان أصحاب السير قد اشتغلوا بوقائع وأرض

مصر فيما بعد وكان قد ارتحل عنهم فتركوه لأجل الزيادة والنقصان فيه وإنما انفرد ابن إسحق لأنه

انفرد عن مشايخ ثقات قد وثق بهم من آل مخزوم اجتمع بهم في الرملة بعد الفتوح أحدهم

نوفل بن ساجع المخزومي وكان عمه خالد بن الوليد وكان من المعمرين شهد تبوك مع النبي

صلى الله عليه وسلم وشهد بعدها الحديبية وشهد يوم اليمامة ومسيلمة وكان مع عمرو بن

العاص بأرض مصر في جميع فتوحها والثاني فهد بن عاصم بن عمرو بن سهل بن عمرو

المخزومي وغيرهما من الثقات ممن شهد فتوح أرض مصر والوقائع كلها قالوا جميعًا ومنهم من

قال‏:‏ إن عمرو بن العاص لما انفصل من ساحل الشام وكتب الله سلامة المسلمين وسار متوجهًا

يريد أرض مصر فلما كان بمكان يقال له رفح قال له يوقنا‏:‏ يا عمرو أنت تريد أن تدهم مصر على

حين غفلة من أهلها وأنا ممن يمكنني ذلك لأن ثواب الله أجل غنيمة فإن قلبي ملوث بحب الدنيا


وإني كنت ممن أشرك بالله سواه وأنا أجتهد في الخلاص وأقاتل من كنت أنصره على الكفر

وعبادة الصلبان والسجود للصور من دون الله وقد أخذت الإسلام بنية وقبول لأنه الحق وأريد أن

أتقدم إلى أرض مصر فلعلي أجد لكم بالحيلة سبيلًا‏.‏

فقال عمرو‏:‏ وفقك الله وأعانك وحفظك وصانك‏.‏

قال‏:‏ فسار يوقنا ليلًا من رفح يطلب الفرماء ولم يقرب من العريش ولا القاربا وكلها حصون عامرة
وقد سكنها أقوام من العرب المختلطة وكانوا يؤذون المال إلى الملك المقوقس بن راعيل

وسنذكر فتوحها فيما بعد إن شاء الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ وإن يوقنا أشرت على الفرماء وكان بها وال من قبل المقوقس اسمه الرندبان والفرماء على جانب بحيرة تنيس من الشرق فرأى يوقنا خيامًا منصوبة وقبابًا مضروبة فلما رأوا يوقنا ومع الصائح فركب من كان هناك وكانت الأخبار ترد عليهم كل وقت بما صنع الصحابة فلما بلغهم أن قيسارية فتحت اغتموا لذلك لأنه كان فلسطين بن هرقل قد تزوج بابنة المقوقس أومانوسة وكان قد جهزها أبوها وأرسلها مع غلمانها وأموالها إلى بلبيس ثم إنها وجهت حاجبها تميلاطوس إلى الفرماء في ألفي فارس لحفظ ذلك المكان‏.


الاستعداد حدثنا أبو إسحق أخبرنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن أسامة بن

زيد بن أسلم‏.‏

قال ابن إسحق‏:‏ حدثني رجل من القبط رأيته وقد دخل في دين الإسلام فقربت إليه وسألته فأخبرني أنه من قبط مصر من جند المقوقس فقلت له‏:‏ كيف كان من أمركم لما سمعتم بقدوم المسلمين من الشام وكسر جيوش هرقل‏.‏



قال‏:‏ لما بلغنا ذلك بعث المقوقس رسله إلى جميع أطراف بلاده مما يلي الشام بأن لا يتركوا أحدًا من الروم ولا غيرهم يدخل أرض مصر كل ذلك لئلا يتحدثوا بما صنع المسلمون بجنود هرقل فيدخل الرعب في قلوب قومه فلأجل ذلك أنه لما دخل يوقنا أرض مصر لم يعلم به أحد فلما ركبوا إلى لقائه ورأوا حشده وعسكره وكانوا بزي الروم سألوه عن مكانه وكان قد أخبر في طريقه من حصن كيفا وأعلموه بابتعاد فلسطين عن زوجته أرمانوسة‏.‏
وأن أباها قد جهزها وهي على مدينة بلبيس‏.‏


فقال يوقنا‏:‏ ومتى تزوجها قالوا‏:‏ تزوجها والمسلمون على حصن حلب‏.‏
فقال لهم‏:‏ إنه قد ركب في البحر وترث قيسارية وقد أرسلني حتى آخذها في المراكب من دمياط ومضى يوقنا يقول‏:‏ أنا قد جئت رسولًا من الملك فلسطين إلى الملك المقوقس حتى يرسل معي أبنته إلى زوجها كلما سمعوا كلامه قالوا‏:‏ إن الملكة في بلبيس وقد أنفذها إليه وما منعها من السير إلا خوف العرب وهروب فلسطين من قيسارية فسار يوقنا حتى قرب من بلبيس فنزل هناك وسار حاجبها إليها وعرفها بما قاله يوقنا‏.‏


فقالت‏:‏ علي به فأتى إليه الحاجب وأموه بالمسير فركب وركبه أصحابه وهم بأحسن زي وأتوا إلى عسكر أرمانوسة وإذا به عسكر كبير أكثر من عشرة آلاف قال‏:‏ فترجل يوقنا وترجل قومه ووقفوا على باب قصرها واستأذنوا عليها فأذنت لهم بالدخول فلما وقفوا بين يديها خضعوا لها فأمرت لهم بكراسي فوضعت لهم فأمرتهم بالجلوس فجلسوا ووقفت الحجاب والمماليك والخدم فقالت الملكة أرمانوسة له من غير ترجمان‏:‏ كم لكم عن الملك‏.‏
فقال‏:‏ شهر‏.‏
فقالت‏:‏ أكان رحل من المراكب أم قبل رحيله‏.‏
فقال يوقنا‏:‏ بل قبل رحيله وحين ركب منهزمًا ولما وصلت إلى غزة بلغني أنه سار وقد قال لي في السر بيني وبينه‏:‏ لا طاقة لنا بقتال هؤلاء العرب فإن أبي هرقل ترك أنطاكية وذهب وقد قاتلتهم بجميع جنوده واستنصر عليهم بجميع دين النصرانية وأنفذ إليهم ما هان الأرمني إلى اليرموك في ألف ألف فهزموه وقتلوه وإني أريد أن آخذ خزائني وأطلب القسطنطينية ثم إنه وجهني إليك أيتها الملكة لتركبي في المركب إليه‏.‏
قال‏:‏ فلما سمعت ذلك أطرقت برأسها إلى الأرض ثم رفعت رأسها وقالت‏:‏ إني لا أقدر أن أصنع شيئًا إلا بأمر الملك أبي وإني مرسلة إليه‏.‏
قال‏:‏ فقام يوقنا وصقع لها ودعا ثم خرج من عندها فوجد غلمانه قد ضربوا خيامه فنزل بها وأرسلت إليه العلوف والضيافة‏.


قال ابن إسحق الأموي رضي الله عنه‏:‏ ولقد بلغني أنه لما جن الليل أتت إليها الجواسيس وأعلموها بفتح قيسارية ومدائن الساحل جميعها وبتوجه عمرو بن العاص إلى مصر وبحديث يوقنا صاحب حلب وحذروها منه وعرفوها بجميع الأخبار مفضلة وأنه هم الذي فتح طرابلس وصور وجبلة‏.‏


قال‏:‏ فلما سمعت ذلك دخل في قلبها الرعب وعلمت أنه محتال فطلبت حاجبها وقالت له‏:‏ مر العسكر بلبس السلاح وأن يكونوا مستيقظين فقد جرى من الأمر كذا وكذا ثم إنها أوقفت مماليكها وغلمانها وقالت لهم‏:‏ إذا دخل هذا الرجل وخواصه فاقبضوا عليهم فإذا نحن ملكناهم انخذل عسكر المسلمين فلما رتبت هذا أرسلت تطلب يوقنا فذهب حاجبها إليه وقال له‏:‏ أيها البطريق الكبير إن الملك تطلبك لتوصيك بما تقوله لأبيها فقال له‏:‏ السمع والطاعة ها أنا راكب وأصحابي فذهب القاصد‏.‏


فقال يوقنا لأصحابه‏:‏ اعلموا أن الملكة شعرت بنا والقوم قد عولوا على قتلنا فإن حصلنا في أيديهم قتلونا لا محالة وتضرب بنا الأمثال لمن يأتي بعدنا فموتوا كرامًا ولا تلقوا بأيديكم إلى القتل بأيدي الكفار وكونوا نصرة لدين الإسلام وما عسى نرجو من هذه الدنيا الغدارة التي ما صفت لأحد إلا وغيرته بالكدر فاعمروا دار البقاء وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده فلعلكم ترضونه بذلك‏.‏
قال‏:‏ فأخذ القوم على أنفسهم واشتدوا وركبوا وتوكلوا على الله في جميع أمورهم‏.‏
حدثنا ابن إسحق قال‏:‏ لقد بلغني أن الملكة أقامت تنتظر قدومهم لتقبض عليهم فاستبطأتهم فبعثت رسولًا ثانيًا تستحثهم‏.‏


فقال له يوقنا‏:‏ ارجع إلى صاحبتك وقل لها ما جرت بذلك عادة الملوك يبعثون يطلبون الرسل إلا لأمر يحدث وقد كنت عندها فما الذي تريده نصف الليل مني‏.‏
فعاد الرسول وأخبرها بما قاله فركبت من وقتها وتقدمت وتقدمها حاجبها وأمرت الجيش كله أن يركب ودارت بيوقنا وأصحابه ولم تحدث بشيء إلى الصباح فأقبل صاحب الملكة إليهم وقال‏:‏ ما حملكم أن تركتم دين آبائكم وهجرتم دين المسيح وأمه وقد جئتم تحتالون علينا ألا وإن المسيح قد غضب عليكم‏.‏

فقال يوقنا‏:‏ إن المسيح عبد من عبيد الله لا يقدر على شيء لأنه مأمور ومكلف وقد أنطقه الله بذلك وهو في المهد فقال‏:‏ ‏{‏إني عبد الله‏}‏ ‏[‏مريم 30‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏أوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا‏}‏ ‏[‏مريم 31‏]‏ ‏{‏السلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًا‏}‏ ‏[‏مريم 33‏]‏ ومن يؤمر بالصلاة والزكاة ويموت فليس بإله إنما هو عبد الله مكلف بالعبادة مثل واحد منا وأن الله لا يتشبه بأحد منا وأن الله لا يشبه شيء ولا يتشبه بأحد ولقد أضلكم من صدكم عن ذلك وزاغ بكم عن طريق الحق بقوله‏:‏ على الله والمسيح ولقد كنا مثلكم نسجد للصلبان ونعظم القربان ونسجد للصور ونجعل مع الله إلهًا آخر إلى أن تبين لنا دين محمد صلى الله عليه وسلم فشفانا بعد العمى وشرح صدورنا للهدى ودين الإسلام هو الدين الواضح وكنا نقول مثل قولكم إن المسيح ابن الله وإن إبراهيم وإسحق كانا نصرانيين فكذبنا الله بقوله في كتابه‏:‏ ‏{‏ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين‏}‏ ‏[‏آل عمران 67‏]‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏ ‏[‏آل عمران 85‏]‏ وها نحن قد جئناكم لنجاهدكم إما أن تقولوا‏:‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله وإما الجزية وإما القتال قال‏:‏ فلما سمع الحاجب كلامه قال لقومه‏:‏ دونكم وهؤلاء قد جاؤوا يريدون قتلكم وأخذ أموالكم وأولادكم وحريمكم قال‏:‏ فاحملوا على يوقنا وأصحابه وعمل السيف بينهم بقية يومهم فلما كان من الغد ركبوا وداروا بهم وتصايحت عليهم القبط وقتلوا هم من القبط خلقًا كثيرًا ولكنهم صبروا لأمر الله وقالوا‏:‏ والله لا نسلم أنفسنا أو نموت كلنا فقد حصل لنا ما كنا نطلب من رضا ربنا قال ابن إسحق‏:‏ حدثنا سيف بن شريح عن يونس بن زيد عن عبد الله بن عمر بن حفص عن عبد الله بن الحرث‏.‏

قال‏:‏ لما أخبرت الجواسيس أرمانوسة بقصة يوقنا أنفذت كتابًا إلى أبيها المقوقس تعلمه بذلك وأنها مغلوبة معهم وأن العرب متوجهون مع رجل يقال له عمرو بن العاص وأنا منتظرة جوابك‏.‏
قال‏:‏ فلما وصل الكتاب إليه دعا أرباب دولته وقال لهم‏:‏ قد تم من الأمر علي كذا وكذا فما تشيرون به علي‏.‏


قالوا‏:‏ أيها الملك نوى لك من الأمر أن تنقذ جيشًا إلى الملكة ينصرها على عدوها وتنفذ إلى جلب له ملك البرية تستنصر به على هؤلاء العرب وتنفذ إلى مازع بن قيس ملك البجاوة ينفذ لك جيشًا وتنفذ إلى من بالإسكندرية يأتون وإلى من بالصعيد يأتون فإذا اجتمعت إليك هذه الأمم فالق بهم العرب ولا تأمن لهم فيطمعوا فيك‏.‏


فقال‏:‏ يا أهل دين النصرانية اعلموا أن الملك محتاج إلى سياسة ومن ملك عقله ملك رأيه ومن ملك رأيه أمن من حوادث دهره وليست الغلبة بالكثرة وإنما هي بحسن التدبير والله القد كان قيصر أكثر مني جهدًا وأوسع بلادًا وأعظم عدة وقد جمع من بلاد الروم إلى اليونانية ومن أقاليمه ومن القسطنطينية ومن سائر البلاد وبلاد الأندلس واستنصر بنا وبغيرنا فما أغنى عنه جمعه شيئًا ولا قدر أن يرد القضاء والقدر عنه واعلموا أن العقل أساس الأدمي المخاطب المكلف المفضل به على سائر ما خلق على الأرض فمن ملك عقله ملك أمره ومن لم يجد منه حالًا كان بجهله أرضيًا ولن تنال الحكمة إلا بالعقل‏.


قال الحكيم ماسوسي‏:‏ إن الحكمة مرقى جليل وطالبها نبيل وتاركها ذليل لأنها غذاء الأرواح وقوت القلوب واعلموا أني لست أتكلم إلا بالصدق وأنتم تعلمون أن محمدًا في أيامه بعث إلينا يدعونا إلى دينه فاستدليت على صدق قوله بكتابه وما ظهر من معجزاته وقد سمعتم أنه لما بعث ما سمع أحد بذكره إلا وخاف منه وقد سمعتم أن القمر انشق له والذراع المسموم كلمه وقال‏:‏ يا رسول الله إني مسموم فلا تأكلني وقد كلمه الضب والحجر والشجر والمدر وعرج به إلى السماء وركب أوج الماء وأول من تغلب عليه قومه وحاربه عشيرته حين أنكروا قوله وفعله فنصر عليهم وقهرهم وقد تبين لهم الحق فاتبعوه ونصروه وهم هؤلاء الذين فتحوا الشام وما أنكرت من أمرهم شيئًا فإنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون حدود الله التي أمر بها وما في كتابهم شيء إلا وفي الإنجيل مثلها وقد أضلكم بولس وأغواكم حين غر بكم وبدل شرعكم وسماكم باسم لا يليق بكم وكيف وقد عاد بكم من الطريق الواضح وأحل لكم جميع ما حرم عليكم من قبل وهذا هو عين المحال وداعية العمى أن تتعدوا ما قال نبيكم وكيف نبغي لروح الله عيسى ابن مريم أن يكلمكم بما لم يرسله الله إليكم‏.


ثم إن بولص قال لكم‏:‏ إنه أحل لكم الخنزير وشرت الخمر وارتكاب المعاصي ما ظهر منها وما بطن فأطعتم أمره وصدقتم قوله وحاشا المسيح أن يفعل ذلك وما كان أحد من الأنبياء إلا على ما جاء به محمد وهؤلاء الحكماء الأولون ما منهم إلا من يتكلم بوحدانية الله تعالى وهذا الحكيم دمونا الذي صنع في براري أخيم أرصادًا وجعلها مثلًا للأمم الآتية وذكر فيها من بأتي من الأمم والأجيال إلى آخر الزمان وصور الحكماء منفردة به والنسر يعقد رأس الحمل والنسر يقيم في كل برج ثلاثة آلاف سنة كما قدر بالمقدار الحكيمي‏.‏
وكان قد صور صورة وكتب على رأسها بقلم اليونانية أربعة أسطر‏.‏
الأول‏:‏ من خاف الوعيد سلم مما يريد‏.‏
الثاني‏:‏ من خاف ما بين يديه صان دموعه بما في يديه‏.‏
الثالث‏:‏ إن كنت تريد الجزيل فلا تنم ولا تقيل‏.‏
الرابع‏:‏ بادر قبل نزول ما تحاذر فمن كان هذا كلامهم فكيف صنع سواهم وهذه فريضة هؤلاء القوم المحمديين‏.‏
قال‏:‏ فأطرقوا برؤوسهم إلى الأرض غيظًا على الملك‏.‏
قال‏:‏ وما تكلم المقوقس بهذا الكلام حتى أوقف عنده من مماليكه ألف غلام فوق رأسه بالسيف لأنه كان قد سمع ما جرى لقيصر وهرقل مع بطارقته لما جمعهم ونصحهم فوثبوا عليه وأرادوا قتله‏.‏


أما المقوقس فإنه استوثق بمماليكه حتى لا يطمع فيه‏.‏
قال‏:‏ فلما تكلم بذلك قال له وزيره‏:‏ أيها الملك رأيك راجح وأنا أول من يؤمن بما تقول‏.‏
فقال الوزير‏:‏ اكتب إلى ابنتي كتابًا تأمرها فيه أن تتلطف بالقوم وتعطيهم الأمان وتنفذهم إلينا حتى نخلع عليهم وتطيب قلوبهم ويكونوا معنا يقاتلون من يريد قتالنا وما أراد بذلك إلا أن يسلم مثل يوقنا وأصحابه إذ هم على الحق‏.

قال‏:‏ فكتب الوزير إلى الملكة كتابًا بما قاله أبوها فلما وصل الكتاب إليها وقرئ عليها أمرت أصحابها أن يرجعوا عن قتل يوقنا ومن معه فرجعوا وأرسلت إلى يوقنا تعلمه بكتاب أبيها وأرسلت إليه الكتاب فلما قرأه قال لرسولها‏:‏ امض إليها حتى أستخبر الله تعالى في ذلك‏.

فقال يوقنا لأصحابه‏:‏ إن الله قد كشف حجاب الغفلة عن قلب هذا الملك وقد ظهر له ما ظهر لنا من الحق فما الذي ترون من الرأي قالوا‏:‏ نحن نسمع من رأيك‏.‏
فقال‏:‏ دعوني هذه الليلة‏.‏
قال‏:‏ فلما جن عليه الليل قام يصلي وأمر أصحاب أن لا ينزلوا عن خيولهم مخافة من غدر القوم فبينما هو يصلي وإذا بشخص قد دخل فارتاع منه ثم تأمله فإذا هو عمر بن أمية الضمري ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه يوقنا فرح وكان قد رآه مرارًا فقال له‏:‏ مرحبًا يا عمرو من أين‏.‏


فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعثني إلى عمرو بن العاص لأحثه على المسير إلى مصر فوجدته قد وصل وها هو منك قريب وقد أرسلني إليك لأعرفه خبرك فأخبره بما وقع له وقال له‏:‏ امض يا عمرو ودعه يعجل بالمجيء يعيننا على هؤلاء القوم وحدثه بجميع ما جرى علينا‏.‏
فرجع عمرو مسرعًا إلى عمرو بن العاص وأعلمه بقصة يوقنا‏.‏

قال‏:‏ فترك عمرو بن العاص الأثقال ومعها من يحفظها وركب وسار بجرائد الخيل وترك مع الأثقال عامر بن ربيعة العامري فما كان قبل طلوع الفجر إلا وهو عند يوقنا فدار بالقوم فلما أحس بهم يوقنا كبر هو ومن معه ورفع الجميع أصواتهم بالتهليل والتكبير ووضعوا السيف في القبط فما طلعت الشمس إلا وقد قتل من القبط أكثر من ألف وأسر منهما خلق كثير وولى الباقي منهزمين وأخذت أرمانوسة ابنة الملك وجميع ما معها من الأموال والرجال والجواري والغلمان‏.‏


فقال عمرو بن العاص لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل يزيد بن أبي سفيان وهاشم

بن سعيد الطائي والقعقاع بن عمرو التميمي وخالد بن سعيد وعبد الله بن جعفر الطيار وصفوان

وأمثالهم‏:‏ أن الله سبحانه وتعالى قد قال‏:‏ ‏{‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 60‏]‏ وهذا

الملك قد علمتم أنه كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث هدية ونحن أحق بمن كافأ عن

نبيه صلى الله عليه وسلم هديته وكان يقبل الهدية ويشكر عليها وقد رأيت أن ننفذ إلى

المقوقس ابنته وما أخذنا معها ونحن نتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمعته

يقول‏:‏ ‏(‏ارحموا عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر‏)‏ فاستصوبوا رأيه فبعث بها مكرمة مع جميع ما معها

مع قيس بن سعد رضي الله عنه‏.‏


و للحديث بقيه أن شاء الله


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت ديسمبر 15, 2007 6:23 pm 
غير متصل

اشترك في: الجمعة إبريل 28, 2006 11:18 pm
مشاركات: 4147
مكان: الديار المحروسة
ربنا يبارك فيك يامحمدي معلومات جديده ولماذا لا تكتب فى كتب الفتح الاسلامي التى تباع هل هي معلومات سريه وما الهدف من اسرارها

اول مرة اقرء تاريخ الفتح الاسلامي بهذا التفصيل زيد علينا يامحمدي ربنا يبارك فيك

_________________
صورة


أنا الذى سمتنى أمى حيدره

كليث غابات كريه المنظره

أوفيهم بالصاع كيل السندره


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: فتح مصر
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد ديسمبر 16, 2007 10:18 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
ذكر فتح مصر
قال ابن إسحق الأموي رضي الله عنه‏:‏ لما ورد المنهزمون على الملك وأخبروه بما تم عليهم وعلى ابنته‏.‏

ضاق صدره وبقي متفكرًا فيما يصنع وليس له نية في القتال مع الصحابة فبينما هو متفكر إذ جاءه البشير بقدوم ابنته وما معها فخف عنه بعض ما كان يجده فلما دخل عليه قيس رفع مجلسه فوق الملوك والحجاب وأرباب دولته وكانوا قد اجتمعوا يهنئونه بابنته فلما حضر قيس بن سعد سأله الملك عن أشياء لعل أصحابه أن تلين قلوبهم إلى الإسلام‏.‏
فقال‏:‏ يا أخا العرب أخبرني عن صاحبكم ما الذي كان يركب من الخيل قال‏:‏ الأشقر الأرتم المحجل في الساق وكان اسمه المترجل‏.‏
فقال‏:‏ لقد بلغنا أنة كان لا يركب إلا الجمال‏.‏
فقال قيس‏:‏ إن الله أكرم الإبل وشرفها قال لها‏:‏ كوني فكانت وأخرج ناقة من الصخر وخص بها العرب من دون غيرهم من بني آدم وكان يركبها لكونها قد جعلها الله مباركة تقنع بما تجد وتصبر على الحمل الثقيل والسير الشديد وتصبر على الماء أيامًا وقد ذكرها ربنا في قوله في كتابه العزيز فقال‏:‏ ‏{‏وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏والبدن جعلناها لكم من شعائر الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏‏.‏
ولما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزواته غزوة بدر كان معه مائة ناضح من الإبل وكانمعه فرسان يركب أحدهما المقداد بن الأسود الكندي ويركب الآخر مصعب بن عمير وإنا لقينا قريشًا في عددها وعديدها فهربوا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يتعاقبون في الطريق وكان عليه الصلاة والسلام وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب وغيرهم يتعاقبون شامخًا وكان أيها الملك يركب الحمار الذي أهديته إليه ويردف وراءه معاذ بن جبل وعلى الحمار ركاب من نيف وخطامه ليف واعلم يا ملك القبط أنه كان يخصف نعله ويرفع ثوبه ويقول‏:‏ ‏(‏من رغب عن سنتي فليس مني‏)‏ وكان قميصه من القطن قصير الطول والكفين ليس له أزرار ولقد أهدى إليه ذو يزن جبة اشتراها له قومه بثلاثة وثلاثين بعيرًا فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وأهدى له جبة من الشام فلبسها حتى تخرقت وخفين فلبسهما حتى تخرقا وكان له رداء طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعات ونصف وكان له ثوب خز يلبسه للوفد إذا قدموا عليه وكان أفصح الناس إذا تكلم بكلمة يرددها ثلاثًا وكلما رأى قومًا سلم عليهم ورأيته كلما تحدث تبسم في حديثه وكان إذا اجتمع إليه أصحابه وأراد أن ينهض‏.‏
قال‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك قلنا‏:‏ يا رسول الله إن هذه الكلمات اتخذتهن عادة‏.‏
قال‏:‏ أمرني بهن جبريل وأخرجت لنا زوجته لما قبض كساء وإزارًا غليظين وقالت‏:‏ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذين‏.‏
فقال المقوقس‏:‏ هذه والله أخلاق الأنبياء فطوبى لمن اتبعه فإن أمته هي الأمة الموصوفة في الإنجيل فقال بعض من حضر‏:‏ أيها الملك ما تكون أمة عند الله أفضل من هذه الأمة وهم نحن فغضب الملك من قوله وقال‏:‏ وبأي شيء أنتم أفضل عند الله أبأكلكم الحرام وارتكابكم الآثام وصنعكم المنكرات وتجنبكم الحسنات وظلمكم في الرعية وميلكم إلى الدنيا أين أنتم من قوم عبر عليهم الإسكندر فرآهم ليس بينهم قاض ولا حاكم ولا أمير قائم عليه ولا فيهم من يختص بالغنى دون أخيه بل هم سواء في كل ما هم فيه أكلهم وشربهم واحد غير متناف ولا متضاد وملبسهم غير متناف ولا متباعد فتعجب الإسكندر منهم وسأل الأكابر منهم عما رآه من أحوالهم‏.‏
فقالوا‏:‏ أيها الملك إنا وجدنا جمجمة وعليها مكتوب‏:‏ يا ابن آدم ما خلقت إلا من التراب وقد خلوت بما قدمت إما صالحًا فيسرك وإما طالحًا فيضرك فتندم حيث لا ينفعك الندم ولم يكن لك إلى الدنيا مرجع فطوبى للكيس العاقل الذي ليس ببليد ولا غافل يتزود إلى ما إليه يصير ولا يلقي الاتكال على التقصير فبادر إلى الخير قبل الموت واغتنم حياتك قبل الفوت وكأنك بالحي وقد هلك وترك كل ما ملك فلما قرأنا هذا اعتبرنا أيها الملك بهذه الموعظة البالغة ولبسنا أثوابها السابغة فقال‏:‏ ما بال مساجدكم شاسعة نائية وقبوركم دانية فقالوا‏:‏ أما مساجدنا فبعيدة ليكثر الأجر بكثرة الخطا وقبورنا قريبة لنذكر الموت فننتهي عن الخطأ فقال‏:‏ ما لي أرى أبوابكم بغير غلاق‏.‏
قالوا‏:‏ لأننا ما فينا خائن ولا سارق‏.‏
فقال‏:‏ ما لي لا أرى فيكم أميرًا ولا حاكمًا‏.‏
فقالوا‏:‏ لأننا ما فينا معتد ولا ظالم‏.‏
فقال‏:‏ ما لي لا أرى فيكم معسرًا ولا فقيرًا‏.‏
قالوا‏:‏ لأن رزق الله فينا الكبير والصغير ثم إنهم أخرجوا له جمجمتين عظيمتين فقالوا‏:‏ أيها الملك هذه جمجمة رجل عادل سالم وهذه جمجمة رجل ظالم وكلاهما صار إلى هذا المصير ولم يغن عنهما الجمع والتدبير‏.‏
أما العادل فمسرور ريان وأما الظالم فنادم حيران فاز المتقي وخسر الشقي فاختر ما تراه قبل الحين أيها الملك لأنك قد ملكت النواصي ونفذ أمرك في الداني والقاصي واستخلفك الله في الأرض وأمرك بالقيام بالنفل والفرض فتذكر مرجعك ورمسك واعمل لنفسك واعلم أنه لا ينفعك جدك إذا قبضت روحك وأشتمل عليك لحدك فاترك أوامر الشيطان ودواعيه وخذ بأوامر الرحمن ونواهيه ولا يغريك النعيم فتبوء بالإثم العظيم اذكر أيها الملك ما فعل الشيطان بأبيك حين نصب له مكيدته وأدار عليه حيلته فنصب له فخ العداوة وغره فيه بحبة البر‏.‏
فقال قيس‏:‏ أيها الملك أتدري من أولئك‏.‏
قال‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ هم قوم مؤمنون قال الله عنهم في كتابه‏:‏ ‏{‏وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعملون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 181‏]‏‏.‏ وقد رآهم نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة عرج به فلما عاد أخبر أصحابه بهم قالوا‏:‏ يا رسول الله أهم قوم مؤمنون بما أنزل عليك فأراد أن يعلمهم أن أمة محمد أفضل منهم فأنزل الله ‏{‏وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 81‏1]‏ فقال المقوقس لقيس بن سعد‏:‏ يا أخا العرب ارجع إلى أصحابك وأخبرهم بما سمعت وبما رأيت وانظر فيما يستقر عندكم وبينكم‏.‏
فقال قيس‏:‏ أيها الملك لا بد لنا منكم ولا ينجيكم منا إلا الإسلام أو أداء الجزية أو القتال‏.‏
فقال المقوقس‏:‏ أنا أعرض ذلك عليهم واعلم أنهم لا يجيبون لأن قلوبهم قاسية من أكل الحرام‏.‏
حدثنا ابن إسحق رضي الله عنه حدثنا عبد الله بن سهل عن علي بن حاطب عن سليمان بن يحيى قال‏:‏ إن الملك المقوقس كان من عادته أنه في شهر رمضان لا يخرج إلى رعيته ولا يظهر لأحد من أرباب دولته ولا أحد منهم يعلم ما كان يصنع وكانت مخاطبته لقيس بن سعد في أواخر شعبان سنة عشرين من الهجرة فخرج قيس من عنده ومضى إلى عمر بن العاص وحدثه بما كان منه‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ وكان ولي عهد الملك ولده أسطوليس وكان جبارًا عنيدًا وأنه لما سمع ما تحدث به أبوه رأى ميله إلى الإسلام وعلم أنه لا يقاتلهم وربما أسلم وسلم إليهم ملكه صبر إلى أن دخل أبوه إلى خلوته التي اعتاد أن يدخلها ويختلي فيها كل سنة فجمع أرباب الدولة في الخفية لئلا يدري به أحد فيعلم أباه وقال لهم‏:‏ اعلموا أنكم قد ملكتم هذا الملك وأن أبي يريد أن يسلمه إلى العرب لأنني فهمت من كلامه ذلك‏.‏
فقالوا‏:‏ أيها الملك أنت تعلم أن هذا الأمر مرجعه إليك وأنت ولي عهده فاعمل أمرًا يعود صلاحه عليك وعلينا‏.‏
قال‏:‏ فطلب صاحب شراب أبيه وأعطاه ألف دينار ووعده بكل جميل وأعطاه سمًا وقال له‏:‏ ضعه في شرابه‏.‏
قال‏:‏ ففعل الساقي ما أمر به وسقى الملك فمات فأتى الساقي إلى أرسطوليس وأعلمه أن أباه قد مات فذهب إليه ودفنه في الخفية وقتل الساقي وجلس على سرير الملك كأنه نائب عن أبيه إذا غاب كعادته في كل عام ولم يعلم أحد بموته هذا ما كان منه وأما عمرو بن العاص فإنه ارتحل من بلبيس ونزل على قليوب وبعث إلى أهل البلاد والقرى وطيب خواطرهم وقال لهم‏:‏ لا يرحل أحد من بلده ونحن نقنع بما توصلونه إلينا من الطعام والعلوفة فأجابوا إلى ذلك وارتحل من قليوب ونزل على بحر الحصى فارتجت بنزولهم إليها ووقع التشويش فيهم وعلا الضجيج وأغلقوا الدروب والدكاكين ووقف أهل كل درب على دربهم بالسلاح ليحموا حريمهم‏.‏
قال‏:‏ أما عمرو بن العاص فإنه أمر أهل اليمن ومن معه من العربان أن يحدقوا بالبلد وأن أهل ثم إن عمرًا أراد أن يرسل إلى صاحب مصر رسولًا وكان عنده غلام له من أهل الرملة وكان اسمه وردان وكان يعرف سائر الألسن فقال له عمرو‏:‏ يا وردان إنني أريد أن أرسلك إلى هؤلاء القبط فإنك تعرف بلسانهم ولا تظهر لهم أنك تعرفه فقال‏:‏ سمعًا وطاعة فقال‏:‏ أريد أن أكتب معك كتابًا وهم أن يكتب وإذا برسول أرسطوليس قد أقبل وقال‏:‏ يا معاشر العرب إن ولي عهد الملك يريد منكم أن تبعثوا له رجلًا منكم ليخاطبه بما في نفسه فلعل الله أن يصلح فات بينكم‏.‏
فقال عمرو ليزيد بن أبي سفيان ولهاشم الطائي ولعبد الله بن جعفر الطيار وللنعمان بن المنذر ولسعيد بن وائل‏:‏ اعلموا أني قد ضربت على ملوك الروم ولست أرى من يتكلم مثلي وما يسير إلى هؤلاء إلا أنا فإني أريد أن أرد القوم وأنظر حالهم وما هم فيه من القوة وأن لا يخفى علي شيء من أمرهم فقالوا‏:‏ يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوي الله عزمك وما عندنا إلا النصيحة للدين والنظر في مصالح المسلمين فافعل ما أردت تعان‏.‏
فمال لشرحبيل‏:‏ قد قلدتك أمور المسلمين فكن مكاني حتى أمضي إلى القوم وآتيكم بما فيه‏.‏
فقال له شرحبيل‏:‏ الله يوفقك ويسددك‏.‏
قال‏:‏ فلبس عمرو ثوبًا من كرابيس الشام وتحته جنة صوف وتقلد بسيفه وركب جواده وسار ومعه غلامه وردان وسار الثلاثة إلى قصر الشمع وإذا هم بالمواكب مصطفة والعساكر واقفة وهم بالدروع والجواشن والعدد وقد أظهروا ما أمكنهم من القوة فلما وصلوا إلى قصر الملك أخبروا أرسطوليس أن رسولك أتى بواحد من العرب فأمرهم بإحضاره فدخل عمرو راكبًا وهو متقلد بسيفه فأراد الحجاب أن ينزلوه عن جواده فأبى وأن يأخذوا سيفه فأبى وقال‏:‏ ما كنت بالذي أنزل عن حصاني ولا أسلم سيفي‏.‏
فإن أذن صاحبكم أن أدخل على حالتي وإلا رجعت من حيث أتيت فإننا قوم قد أعزنا الله بالإيمان ونصرنا بالإسلام فما لنا أن ننزل لأهل الشرك والطغيان وأنتم طلبتمونا ونحن لم نطلبكم فأعلموا الملك بما قاله‏.‏
فقال أرسطوليس‏:‏ دعوه يدخل كيف شاء فخرجوا إليه وقالوا له‏:‏ ادخل كيف أردت فدخل عمرو وهو راكب حتى وصل إلى قبة الملك ورأى السريرية والحجاب وقوفا والبطارقة وهم في زبنة عظيمة فلما رأى عمرو ذلك تبسم وقرأ ‏{‏فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 36‏]‏‏.‏
قال‏:‏ وقال قصر الملك قد بناه الريان بن الوليد بن أرسلاووس وهو الذي استخلف يوسف على مصر بعد العزيز‏.‏
ثم خرب وأقام خرابًا خمسمائة سنة وما بقي إلا أثره فلما بعث عيسى وانتشرت دعوته ورفعه الله إليه وافترقت منه فرقًا وادعوا فيه ما ادعوا من الإلهية وتقول الكذب ولي مصر رجاليس بن مقراطيس بنى ذلك القصر الخراب وهو في وسط قصر الشمع وإنما سمي قصر الشمع لأنه لا خلو من شمع الملوك فلما بناه أحضر الحكماء الذين كانوا قد بنوا في برية أخميم كان المقدم عليهم قربانس‏.‏
فقال لهم‏:‏ إني قرأت كثيرًا من الكتب التي أنزلت على الأنبياء من الله وقرأت صحف موسى ورأيت أن الله يبعث نبيًا قوله حق ودينه صدق أخلاقه طاهرة وشريعته ظاهرة وقد بشر به المسيح فما تقولون فيه فقال قربانس حكيم‏:‏ إن الذي قرأته هو الصحيح‏.‏
قال‏:‏ فثم من يخالف ذلك‏.‏
قالوا‏:‏ نعم‏.‏
قال الحكيم‏:‏ أريد أن أصنع تمثالًا من الحكمة ونجعله بيتًا للعبادة ونجعل على هيكلها تماثيل يكون وجوهها مما يلي التمثال بأعلى قصرك‏.‏
فإذا جاء وقت مبعث هذا النبي يحول كل تمثال وجهه عن صاحبه‏.‏
وأما الذي يجعل على الكنيسة‏.‏
فإنه عند مبعث النبي العربي يقع على وجهه ويكون موضع عبادة القوم وإقامة شرعهم‏.‏
قال‏:‏ فأخذوا في عمل الحكمة وأقاموا التماثيل على ما ذكرنا فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حول كل شخص وجهه عن صاحبه وسقط الذي كان على سطح الكنيسة وهو الجامع اليوم‏.‏
وأما التمثال العالي فبقي على حاله بأعلى القصر فلما دخل عمرو بجواده سمعوا من التمثال صوتًا عظيمًا‏.‏
ثم إنه سقط على وجهه فارتاع له الملك وأرباب دولته وصكوا وجوههم ودخل الرعب في قلوبهم وقالوا بلسانهم‏:‏ ما وقع هذا التمثال إلا عند دخول هذا العربي وما جرى هذا إلا لأمر عظيم ولا شك أنه هو الذي يقلع دولتنا ويأخذ ملكنا فأمروا عمرًا أن ينزل عن جواده فنزل وترتجل وجلس حيث انتهى به المجلس وأمسك عنان جواده بيده ويده اليسرى على مقبض سيفه ونظر إلى زينتهم وزخرفة قصرهم فقرأ ‏{‏ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفًا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابًا وسررًا عليها يتكئون وزخرفًا وأن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏:‏ 35‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ اعلموا أن الدنيا دار زوال وفناء والآخرة هي دار البقاء‏.‏
أما سمعتم ما كان من نبيكم عيسى وزهده وورعه كان لباسه الشعر ووساده الحجر وسراجه القمر وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله أوحى إلى عيسى أن نح على نفسك في الفلوات وعاتبها في الخلوات وسارع إلى الصلوات واستعمل الحسنات وتجتب السيئات وابك على نفسك بكاء من ودع الأهل والأولاد واصبح وحيدًا في البلاد وكن يقظان إذا نامت العيون خوفًا من الأمر الذي لا بد أن يكون‏)‏‏.‏ فإذا كان روح الله وكلمته خوف بهذا التخويف فكيف يكون المكلف الضعيف وأول من تكلم في المهد‏.‏
قال‏:‏ إني عبد الله فإذا كان أقر لله بالعبودية فلم تنسبون إليه الربوبية تعالى الله ما اتخذ صاحبة ولا ولدًا ولا أشرك في حكمه أحدًا جل عن الصاحبة والأولاد والشركاء والأضداد لا صاحبة له ولا ولد ولا شريك له ولا وزير ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انتهاء ولا يحويه مكان ليس بجسم فيمس ولا بجوهر فيحس لا يوصف بالسكون والحركات ولا بالحلول والكيفيات ولا تحتوي عليه الكميات ولا المنافع ولا المضرات‏.‏
ثم إنه قرأ ‏{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 93- 95‏]‏‏.‏
فقال له الوزير‏:‏ أصح عندكم معاشر العرب أن المسيح تكلم في المهد‏.‏
قال‏:‏ نعم‏.‏
قالوا له‏:‏ فهذه فضيلة قد انفرد بها عن جميع الأنبياء فقال عمرو‏:‏ قد تكلم في المهد أطفال منهم صاحب يوسف وصاحب جريج وصاحب الأخدود وغيرهم فقالوا‏:‏ يا عربي أتكلم نبيكم بغير العربية‏.‏
قال‏:‏ لا قال الله في كتابه‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏ قالوا‏:‏ أبعث الله منكم أنبياء غير نبيكم‏.‏
قال‏:‏ نعم‏.‏
قالوا‏:‏ من‏.‏
قال‏:‏ صالح وشعيب ولوط وهود‏.‏
قال‏:‏ فلما سمعوا كلام عمرو وفصاحته وجوابه الحاضر قالوا بالقبطية للملك‏:‏ إن هذا العربي فصيح اللسان جريء الجنان ولا شك أنه المقدم على قومه وصاحب الجيش فلو قبضت عليه لانهزم أصحابه عنا‏.‏
قال‏:‏ وغلام عمرو وردان يسمع ذلك فقال الملك‏:‏ إنه لا يجوز لنا أن نغمر برسول لا سيما ونحن استدعيناه إلينا فقال وردان بلسان آخر ما قالوه ففهم عمرو كلامه‏.‏
ثم إن الملك قال‏:‏ يا أخا العرب ما الذي تريدون منا‏.‏
وما قصدنا أحد إلا ورجع بالخيبة وإنا قد كاتبنا النوبة والبجاوة وكأنكم بهم قد وصلوا إلينا‏.‏
فقال عمرو‏:‏ إننا لا نخاف من كثرة الجيوش والأمم وإن الله قد وعدنا النصر وأن يورثنا الأرض ونحن ندعوكم إلى خصلة من ثلاث‏:‏ إما الإسلام‏.‏
وإما الجزية‏.‏
وإما القتال‏.‏
فقالوا‏:‏ إنا لا نبرم أمرًا إلا بمشورة الملك المقوقس وقد دخل خلوته ولكن يا أخا العرب ما نظن أن في أصحابك من هو أقوى منك جنانًا ولا أفصح منك لسانًا‏.‏
فقال عمرو‏:‏ أنا ألكن لسانًا ممن في أصحابي ومنهم من لو تكلم لعلمت أني أقاس به‏.‏
فقال الملك‏:‏ هذا من المحال أن يكون فيهم مثلك فقال‏:‏ إن أحب الملك أن آتيه بعشرة منهم من يسمع خطابهم‏.‏
فقال الملك‏:‏ أرسل فاطلبهم فقال عمرو‏:‏ لا يأتون برسالة وإنما إن أراد الملك مضيت وأتيت بهم‏.‏
فقال الملك لوزرائه‏:‏ إذا حضروا قبضنا عليهم والأحد عشر أحسن من الواحد ووردان يفهم ذلك ثم إن الملك قال لعمرو‏:‏ امض ولا تبطئ علي فوثب عمرو قائمًا وركب جواده فقال الملك بالقبطية‏:‏ لأقتلنهم أجمعين فلما خرج من مصر قال له وردان ما قاله الملك فلما وصل إلى الجيش أقبلت الصحابة وسلموا عليه وهم يقولون‏:‏ والله يا عمرو لقد ساءت بك الظنونا فأقبل يحدثهم بما وقع له معهم وبما قالوه وبما قاله وردان فحمدوا الله على سلامته وكان أقبل الليل فلما أصبح صلى عمرو بالناس صلاة الفجر وأمرهم بالتأهب للقتال وإذا برسول الملك قد أقبل وقال له‏:‏ إن الملك ينتظرك أنت والعشرة فقال عمرو‏:‏ إن الغدر يهلك أصحابه وأهله وإن على الباغي تدور الدوائر يا ويلكم ينفذ صاحبكم يطلب منا رسولًا فلما أتيته أراد أن يقضي علي وقال كذا وكذا فأنت يا ويلك ما الذي يمنعني عنك إذا أردت قتلك ولسنا نحن ممن يخون ويغدر ارجع إليه وقل له‏:‏ إني فهمت ما قاله وما بقي بيننا وبينه إلا الحرب‏.‏
قال ابن إسحق رحمه الله ورضي عنه‏:‏ هكذا وقع له مع القبط وكان عمرو إذا ذكر ذلك يقول‏:‏ لا والذي نجاني من القبط‏.‏
قال‏:‏ وعاد الرسول وأخبر الملك بما قاله عمرو فعند ذلك قال‏:‏ أريد أن أدبر حيلة أدهمهم بها فقال الوزير‏:‏ اعلم أيها الملك أن القوم متيقظون لأنفسهم لا يكاد أحد أن يصل إليهم بحيلة ولكن بلغني أن القوم لهم يوم في الجمعة يعظمونه كتعظيمنا يوم الأحد وهو عندهم يوم عظيم وأرى لهم من الرأي أن تكمن لهم كمينًا مما يلي الجبل المقطم‏.‏
فإذا دخلوا في صلاتهم يأتي إليهم الكمين ويضع فيهم السيف‏.‏
قال‏:‏ فأجابه الملك إلى ذلك وأقاموا ينتظرون ليلة الجمعة‏.‏
قال‏:‏ وأما عمرو فإنه أرسل يوقنا إلى القرى التي صالحوها ليأتيه منها بما يأكلونه ويعلفون به خيلهم قال‏:‏ فركب يوقنا إلى القرى التي صالحوها وسار في عسكره وبني عمه إلى ما يأتي به ومضى نحو الجرف وكان معهم جواسيس الملك في عسكرهم فأتوا إلى الملك وأخبروه بما جرى من المسلمين فعندها دعا بابن عمه ماسيوس وهو المقدم على جيوش مصر وقال له‏:‏ اختر من جيوشنا أربعة آلاف وامض بهم واكمن وراء عسكر المسلمين من جهة الجبل وإياك أن يظهر عليكم أحد وليكن لكم ديدبان‏.‏
فإذا دخل القوم في صلاتهم فاحملوا عليهم وضعوا فيهم السيف‏.‏
قال‏:‏ ففعل ماسيوس ما أمره به الملك ومضى في الليل من نحو مغارة السودان ولم يعلم بهم أحد فلما كان وقت صلاة الجمعة أتاهم الديدبان وأعلمهم أنهم دخلوا في الصلاة وكانوا قد أخذوا بغالًا ودواب وحملوها برًا وشعيرًا وكان قد قال لهم‏:‏ إذا أردتم أن تحملوا عليهم فقدموا الحمول أمامكم فإنهم يأمنون ويحسبون أنها هي التي مضى صاحبهم يأتي بها قال‏:‏ ففعلوا ذلك‏.‏
حدثنا ابن إسحق حدثنا عمارة بن وهب عن سعيد بن عامر عن سليمان بن ناقد عن عروة عن جابر عن محمد بن إسحق قال‏:‏ هكذا دبر عليهم القبط وكان بين القوم وبينهم نصف ميل وليس عند المسلمين خبر ما صنع المشركون وكان سعيد بن نوفل العدوي يقول لعمرو‏:‏ أيها الأمير ما الذي يمسكنا عن قتال هؤلاء القبط‏.‏
فيقول‏:‏ والله ما تأخري جزع وإنما قد علمتم قصد هذا الملك المقوقس وما عليه من الدين والعقل وهو مقر بنبوة نبينا وقد دخل إلى خلوته التي سنها لنفسه في هذا الشهر المعظم وقد بقي منه خمسة أيام ويظهر ونبعث إليه رسولًا ونرى ما يكون جوابه‏.‏
فإما الصلح وإما القتال‏.‏
قال‏:‏ فبينما هم يتحادثون في ذلك إذ أتاهم رسول من عند أرسطوليس بن المقوقس وقال لهم‏:‏ معاشر العرب إن ولي عهد الملك يسلم عليكم ويقول لكم إني لا أقدر أن أحدث أمرًا حتى يخرج الملك من خلوته وقد بقي له خمسة أيام وهو يدبر في رعيته بما يشاء‏.‏
فقال له عمرو‏:‏ قد علمنا ذلك ولولا الملك وما نعلم منه أنه يحب نبينا وأنه مؤمن به ما أمهلناكم طرفة عين فمضى الرسول‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ وما بعث هذا اللعين هذا الرسول إلا ليطمئن المسلمون وليقضي الله أمرًا كان مفعولا وإذا جاء القدر لا ينفع الحذر وإذا أراد الله أمرًا هيأ أسبابه‏.‏
قال الراوي‏:‏ فكان المسلمون قد اطمأنت قلوبهم بذلك الخبر وقربت الصلاة فقام عمرو وخطبهم خطبة بليغة حقر فيها وأنذر فلما فرغ أقيمت الصلاة وأقاموا مواليهم يرقبون مخافة العدو أن يكبسهم في صلاتهم‏.‏
قال صابر بن قيس ونحن لا نرى أحدًا من أهل مصر لا فارسًا ولا راجلًا قال‏:‏ فاصطففنا خلف عمرو للصلاة وليس يبين لنا عدو نخافه فلما أحرمنا وقرأ عمرو ركعنا وأومأنا للسجود إذ أشرفت الدواب والبغال وعلى ظهورها الأحمال والعسكر من ورائها وهم أهل الكمين الذي أكمنه أعداء الله وهم على عدد أصحابنا الذين مع يوقنا فلما رآهم موالينا ظنوا أنهم أصحابنا وقد أقبلوا بالعلوفة فرفعوا أصواتهم بالفرح وقالوا‏:‏ جاء يوقنا وأصحابه ولم يكلمهم العدو حتى أتونا ونحن في الصلاة ووضعوا السيف فينا ونحن ساجدون السجدة الأخيرة ونحن بين يدي الله تعالى‏.‏
قال‏:‏ وإذا بالسيوف تقرقع في لحومهم وما أحد منهم قام من سجوده وكان القتل في آخر صف من المصفين والصف الذي يليه وهم من اليمن ومن بجيلة ومن وادي القرى ومن الطائف ومن وادي نخلة ثم قال ابن عتبة‏:‏ وكنت قد شهدت وقائع الشام وحضرموت واليرموك فوالله ما قتل منا في وقعة من الوقائع مثل ما قتل منا يوم بحر الحصى في أرض مصر بالحيلة التي دبرها عدو الله علينا وقال‏:‏ والله ما منا من انحرف عن صلاته ولا حول وجهه عن ربه وقد أيقنا بالهلاك عن آخرنا حتى أشرف علينا يوقنا بأصحابه فلما نظروا ما حل بالمسلمين صاحوا ورموا ما على رؤوسهم من العمائم وقال يوقنا لبني عمه‏:‏ والله من قصر منكم عن عدوه فالله يطالبه به يوم القيامة وما أرى إلا أن الأعداء قد غدروا وكبسوا المسلمين فدوروا من حولهم وضعوا السيوف فيهم واحذروا أن ينفلت منهم أحد فحملوا وأطبقوا على القيط فدفعوهم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل القتال بينهم حتى فرغ عمرو من الصلاة هو ومن معه وثاروا ثوران الأسد وركب عمرو ومعاذ وسعيد بن زيد وجميع الصحابة وحملوا في العدو وطحنوهم طحنًا‏.‏
قال جابر بن أوس‏:‏ وحلنا بينهم وبين الوصول إلى مصر فوالله ما نجا منهم أحد وبقوا كأنهم طيور وقعت عليهم شبكة صياد فلما وضعت الحرب أوزارها هنأ المسلمون بعضهم بعضًا بالسلامة وشكروا الله على ما أولاهم من نصره وأثنوا على يوقنا خيرًا وافتقدوا قتلاهم فكانوا أربعمائة وستة وثلاثين قد ختم الله لهم بالشهادة‏.‏
قال‏:‏ واتصل الخبر إلى أرسطوليس بقتل ابن عمه ومن معه وأنهم لم ينج منهم أحد فصعب عليه ذلك وأيقن بهلاكه فدعا ببطارقته وأرباب دولته وشاورهم في أمره فقالوا‏:‏ أيها الملك أنت تعلم بأن الدنيا ما دامت لأحد ممن كان قبلك حتى تدوم لك وما زالت الملوك تنكسر وتعود وما أنت بأكثر ممن انهزم من ملوك الأرض وقد سمعنا أن داونوس بن أردين بن هرمز بن كنعان بن يزحور الفارسي هزمه الإسكندر الرومي سبعين مرة فاخرج إلى لقاء القوم واضرب معهم مصاف ولا تيأس وهؤلاء القسوس والرهبان والشمامسة والمطران والبترك يدعون لك بالنصر‏.‏
قال‏:‏ فعول على لقاء المسلمين وفتح خزائن أبيه وأنفق على الجند وأعطاهم السلاح وطلب شباب مصر وأمرهم بالخروج وبعث يستنجد بملك النوبة وملك البجاوة وأقام مدة ينتظر قدومهم‏.‏
قال‏:‏ حدثهم محمد بن إسحق القرشي عن عقبة بن صفوان عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه قال‏:‏ لما كان من أمر المسلمين ما ذكرنا مما قدره الله عليهم من كبسة عدوهم كتب بذلك عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
من عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سلام عليك وإني أحمد الله إليك وأصلي على نبيه‏.‏
أما بعد فقد وصلت إلى مصر سالمًا وجرى لنا على بلدة بلبيس مع ابنة المقوقس كذا وكذا ونصرنا الله عليهم ورحلنا إلى بحر الحصى وقد كنا صالحنا قومًا من أهل قرى بلاد مصر ببلاد يقال لها الجرف حتى يعينونا بالعلوفة والميرة ويجلبوا إلينا الطعام وإني أرسلت عبد الله يوقنا ليشتري لنا منهم طعامًا ومضى في خيله وسرت بنفسي رسولًا إلى مخاطبة القوم فهموا بالقبض علي ونجاني الله منهم وأنهم أكمنوا لنا كمينًا من الليل وأشغلونا برسول والكمين كان من الليل فلما استوت صفوفنا للصلاة كبسوا علينا ونحن في الصلاة فلم نشعر حتى بذلوا فينا السيف وقتلوا منا أربعمائة وستة وثلاثين رجلًا والأعيان منهم ستون ختم الله لهم بالشهادة ونحن الآن في بحر متلاطم أمواجه من كثرة القوم والعساكر فأنجدنا يا أمير المؤمنين وأدركنا بعسكر ليعيننا على عدونا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏
وختم الكتاب وأعطاه عبد الله بن قرط فسار من ساعته وجد في السير إلى أن وصل المدينة فقدمها في العشر الأوسط من شوال سنة اثنتين وعشريات من الهجرة فأناخ مطيته بباب المسجد ودخل فرأى عمر بن الخطاب عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
قال ابن قرط‏:‏‏.‏
فدفعت الكتاب إليه فنظر إلي وقال‏:‏ عبد الله‏.‏
قلت‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ من أين أتيت‏.‏
قلت‏:‏ من مصر من عند عمرو بن العاص‏.‏
قال‏:‏ مرحبًا بك يا ابن قرط ثم فك الكتاب وقرأه وقال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال‏:‏ من ترك الحزم وراء ظهره تباعدت عنه فسيحات الخطا ووالله ما علمت عميرًا إلا حازم الرأي مليح التدبير ضابط الأمر حسن السياسة ولكن إذا نزل القضاء عمي البصر‏.‏
ثم إنه كتب كتابًا إلى أبي عبيدة وذكر له ما جرى لعمرو بن العاص بمصر وأمره أن ينفذ إليه جيشًا عرمرمًا وأنفذ الكتاب مع سالم مولى أبي عبيدة قال عبد الله بن قرط‏:‏ فأقمت في المدينة يومين واستأذنته في المسير فزودني من بيت المال وكتب إلى عمرو يقول‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص‏.‏
أما بعد‏:‏ فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي وأسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد بلغني ما جرى لكم بمصر من غدر عدوكم كما سبق في أم الكتاب وكان يجب عليك يا ابن العاص أن لا تطمئن إلى عدوك ولا تسمع منه حيلة وما كنت أعرفك إلا حسن الرأي والتدبير ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا فاستعمل النشاط في أمرك ولا تأمن لعدوك واستعمل الحذر فإن الإمام ما يكون إلا على حذر والله يعيننا وإياك على طاعته وقد أنفذت إلى أبي عبيدة أن يرسل إليكم جيشًا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏
وختمه وسلمه لعبد الله بن قرط‏.‏
قال‏:‏ فأخذته وسرت وأنا أجد السير حتى أتيت مصر ودفعت الكتاب لعمرو بن العاص فقرأه على المسلمين ففرحوا بذلك وأقاموا ينتظرون إخوانهم‏.‏
كبسة الجيش حدثني ابن إسحق حدثني سهل بن عبد ربه عن موسى عن عبد الرزاق‏.‏
قال‏:‏ لما كبس ابن المقوقس جيش المسلمين ورجعت دائرة السوء عليه وقتلوا عن آخرهم وبلغه الخبر بكى على ابن عمه وحلف بما يعتقده من دينه أنه لا بد له أن يأخذ بثأرهم ثم إنه أمر أرباب دولته أن يجتمعوا بالكنيسة المعلقة في داخل قصر الشمع فاجتمعوا فجلس على سرير عند المذبح وقام فيهم خطيبًا‏.‏
فقال‏:‏ يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية اعلموا أن ملككم عقيم وبلدكم عظيم وهذه بلاد الفراعنة ممن كان قبلكم وقد ملكها عدة ملوك ممن احتوى على الأقاليم وملكها مثل الملك المعظم من آل حمير ومثل مستفان والبستق والملحان وهو بأني هذه الأهرام ونمروذ بن كنعان ولقمان بن عاد وذي القرنين الملك العظيم وانقضى ملكهم منها ورجع إلى سبأ وأرضها وحضرموت وقصر عمان ثم تولى هذه الأرض القبط من آبائكم وأجدادكم أطسليس وبلينوس والريان بن الوليد وهو الذي استخلص يوسف لنفسه والوليد وهو المكنى بفرعون وبعدهم طبلهاوس ثم جدي راعيل ثم أبي المقوقس وجميع ملوك الأرض تحسدنا على ملك مصر وهؤلاء العرب الطماعة وليس في العرب أطمع منهم فإني أراكم قد كسلتم وفشلتم عن لقائهم فطمعوا فيكم وفي ملككم كما طمعوا في ملك الشام وانتزعوه من أيدي القياصرة فقاتلوا عن أموالكم وحريمكم وأولادكم وأما أنا فواحد منكم واعلموا أن الملك المقوقس قد أمرني بلقاء هؤلاء العرب وقال‏:‏ إنه لا يظهر إليهم حتى أرى ما يظهر من قومي وأرباب دولتي فما تقولون وما الذي اجتمع عليه رأيكم‏.‏
فقالوا‏:‏ أيها الملك إنما نحن عبيد هذه الدولة وغلمانها فإنها قد استعبدت رقابنا بنعمتها وإحسانها ونحن نقاتل لمحبتها فإما أن نرزق النصر من المسيح وإما أن نموت فنستريح‏.‏
قال‏:‏ فشكر قولهم وخلع على أكابرهم وقال لهم‏:‏ اخرجوا واضربوا خيامكم ظاهر البلد مع القوم وطاولوهم بالمبادرة إلى أن يأتي إلينا نجدة من ملك النوبة والبجاوة فأجابوا إلى ذلك وأمروا غلمانهم بأن يضربوا الخيام خارج البلد فضربوها مما يلي النور والرصد‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ وفي ليلتهم تلك جاءتهم الأخبار بأنه وقع بين ملك النوبة وملكالبجاوة حرب وأنه ما يجيبكم منهم أحد وأخرجوا للملك أرسطوليس سرادقًا معظمًا وسط جيش القبط‏.‏
قال‏:‏ وأخذ المسلمون على أنفسهم وأقبلوا يحرضون بعضهم ويحرسون قومهم بالنوبة فكان عمرو في أول الليل يطوف حول العسكر ومعاذ إذا انتصف الليل ويزيد بن أبي سفيان في آخر الليل والنور على عسكرهم والإيمان لائح عليهم وأصواتهم مرتفعة بالقرآن وبذكر الله وبالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحق‏:‏ فلما وصل كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة وقرأه على المسلمين قال لخالد بن الوليد‏:‏ يا أبا سليمان ما ترى من الرأي‏.‏
فقال‏:‏ إذا كان أمير المؤمنين أمرك أن تنجد عمرو بن العاص فأنجده‏.‏
فقال أبو عبيدة‏:‏ إن الطريق إلى مصر بعيد وإن أنا أرسلت جيشًا كبيرًا خفت عليه من بعد الطريق ومن المشقة فقال خالد‏:‏ كم جهدك أن ترسل‏.‏
قال‏:‏ أربعة آلاف فارس‏.‏
فقال خالد‏:‏ إن الله كفاك ذلك‏.‏
قال‏:‏ وكيف ذلك يا أبا سليمان‏.‏
قال‏:‏ إن عزمت على ما ذكرت فابعث أربعة من المسلمين فهم مقام أربعة آلاف فارس‏.‏
فقال أبو عبيدة‏:‏ من الأربعة‏.‏
قال خالد‏:‏ أنا أحد الأربعة والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر ومالك بن الحرث فلما سمع أبو عبيدة ذلك تهلل وجهه وقال‏:‏ يا أبا سليمان افعل ما تراه فدعاهم خالد وأعلمهم بما عزم عليه فقالوا‏:‏ سمعًا وطاعة‏.‏
فقال‏:‏ خذوا على أنفسكم فنحن نسير هذه الليلة‏.‏
قال‏:‏ فلما صلى أبو عبيدة بالناس صلاة المغرب قدم الثلاثة إلى قبة خالد فركبوا وودعوا أبا عبيدة والمسلمين وأخذوا معهم دليلًا يدلهم على الطريق إلى وادي موسى والشوبك وأخذوا معهم ما يحتاجون إليه وساروا يريدون مصر فما زالوا يجذون إلى أن قربوا من عقبة أيلة وإذا هم بخيل ومطايا تزيد على ألف فأسرعوا إليهم فإذا هم من ثقيف وطي ومرداس قد وجههم عمر بن الخطاب إلى مصر مع رفاعة بن قيس وبشار بن عون‏.‏
قال‏:‏ فلما رأوهم سلموا عليهم ورحبوا بهم واستبشروا بالنصر لما رأوا خالدًا وعمارًا والمقداد ومالكًا وارتفعت أصواتهم بالتهليل والتكبير وساروا بأجمعهم‏.‏
قال‏:‏ حدثنا يوسف بن يحيى عن دارم عن منصور بن ثابت قال‏:‏ كنت في جملة الوفد الذي وجهه عمر رضي الله عنه مع رفاعة وبشار والتقينا بخالد بن الوليد وأصحابه عند عقبة أيلة وسرنا معهم حتى وصلنا أرض مصر وقربنا وبقي بيننا وبينها يومان فبينما نحن نسير في بعض الليالي وكانت ليلة مظلمة لا يكاد الرجل أن يرى من شدة الظلام إذ سمعنا حسًا بالبعد منا فوقفنا‏.‏
فقال خالد‏:‏ أيكم يأتينا يا فتيان العرب بخبر هؤلاء الذين في هذا الجيش‏.‏
قال نصر بن ثابت‏:‏ وكنت راكبًا فقفزت من ظهر الراحلة وسعيت على قدمي وأخفيت حسي إلى أن تبين لي جيش كبير فتحققت أمرهم فإذا هم جيش من العرب المتنصرة وهم يزيدون على ثلاثة آلاف وهم ركبان المطايا والخيل‏.‏
فقلت‏:‏ والله لا عدت إلى أصحابي إلا بالخبر اليقين‏.‏
قال‏:‏ فاتبعت أثرهم لأسمع ما يقولون وما يتحدثون فمشيت معهم قليلًا فأسمعهم يقولون‏:‏ أذل الصليب أعداءنا فإنا قد أصابنا التعب ولحقنا الجهد ومن وقت خروجنا من مدين لم نجد أحدًا ومصر قد قربنا منها فانزلوا لنأخذ راحة ونريح مطايانا ونعلق على خيلنا وإذا بمقدمهم يقول‏:‏ وحق المسيح ما بغيتنا إلا في الخلع والأموال من ملك عصر ولكن إذا عولتم على الراحة فانزلوا‏.‏
قال فنزل القوم على ماء يعرف بالغدير وأقبلوا يجمعون الشيح ويصنعون لهم الزاد وعلقوا على خيولهم وتركوا إبلهم ترعى‏.‏
قال نصر بن ثابت‏:‏ فعلمت أن القوم من متنصرة العرب فتركتهم وأتيت إلى أصحابي وحدثتهم بذلك فحمدوا الله كثيرًا وأثنوا عليه وقالوا لخالد‏:‏ ما الذي ترى فقال‏:‏ أرى أن تركبوا خيولكم الآن وتستعدوا للحرب ونسير إليهم ونكبسهم فإنهم قد أتوا لنصرة صاحب مصر وما أتوه إلا بمكاتبه لهم يستنجد بهم على أصحابنا قال فلبسوا سلاحهم وركبوا الخيل وتركوا مواليهم مع المطايا والرجال وساروا خيلًا ورجالًا إلى أن قربوا من نيران القوم فصبروا حتى خمدت وناموا فتسللوا عليهم كتسلل القطاة‏.‏
فقال خالد‏:‏ دوروا بالقوم ولا تدعوا أحدًا منهم ينفلت من أيديكم فيثير عليكم عدوكم قال فداروا بهم كدوران البياض بسواد الحدق وأعلنوا بالتهليل والتكبير ووضعوا فيهم السيف فما استيقظ أعداء الله إلا والسيف يعمل فيهم ووقعت الدهشة في القوم وهم في أثر النوم فقتل بعضهم بعضًا ووقف ابن قيس ومعه جماعة على البعد منهم وبشار ورفقته وكل من انهزم أخذوه فلما أصبحنا رأينا القتلى منهم ألفًا وأسرنا منهم ألفًا فعرضوهم على خالد فقال‏:‏ حدثوني من أين جئتم وإلى أين مقصدكم‏.‏
فقالوا‏:‏ إنا قوم من متنصرة العرب وكلنا كنا أصحاب الشام فلما هزمتم الملك هرقل رحلنا من أرض الشام ونزلنا أرض مدين ونحن على خوف منكم وكاتبنا صاحب مصر وهو المقوقس لعله أن يأذن لنا أن نكون من أصحابه ونكون له عونًا عليكم فلما أجابنا إلى ذلك بعثنا الخيل العربية إلى ولي عهده وصاحب الأمر من بعده فلما كان في هذه الأيام جاءتنا خلعة ورسالة بالدخول إلى مصر فرحلنا إليهم فوقعتم بنا فلما سمع خالد منهم ذلك قال‏:‏ من حفر لمسلم قليبًا أوقعه الله فيه قريبًا ثم عرض عليهم الإسلام فأبوا فأمر بقتلهم فقتلناهم عن آخرهم وقسمنا رحالهم وما كان معهم ووجدنا معهما الخلع التي وجهها إليهم ابن المقوقس ففرقها خالد على المسلمين وفيها خلعة سنية وكانت لمقدم القوم فأعطاها رفاعة وساروا حتى قربوا من الجبل المقطم فرأوا جيش القبط فأرسل خالد رجلًا من قبله وهو نصر بن ثابت وقال له‏:‏ امض إلى هذا الملك وقل له‏:‏ إن العرب أصحاب مدين قد أتوا لنصرتك‏.‏
قال فمضى الرجل إلى أن وصل إلى عسكر القبط فأخذه الحرس وقالوا له‏:‏ من أنت قال‏:‏ أنا مبشر الملك بقدوم العرب المتنصرة إلى نصرته‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ فأخذوا نصر بن ثابت وأتوا به إلى سرادق الملك‏.‏
قال فلما وقفت بين يديه ناداني الحجاب أن أسجد للملك ففعلت وأنا أسجد لله تعالى حتى لا ينكروا علي وكان قد صح عندهم أنه من امتنع من السجود فهو مسلم‏.‏
قال فلما رفعت رأسي قال لي الوزير‏:‏ يا أخا العرب أوصل أصحابك إلى نصرة الملك فقلت‏:‏ نعم وهاهم في دير الجبل المقطم‏.‏
قال فلما سمع الملك ذلك أمر من حجابه أناسًا أن يمضوا إلى لقائهم
وسرت في جملتهم وأخذوا معهم الجنائب وأظهروا زي الفراعنة وخلع على نصر بن ثابت عوض بشارته وساروا إلى لقاء المتنصرة‏.


و للحديث بقيه أن شاء الله


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: فتح مصر
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء ديسمبر 19, 2007 9:33 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
قال‏:‏ حدثنا عسكر بن حسان عن رفاعة بن موسى عن موسى بن عون عن جده نعيم بن مرة‏.‏
قال كنت فيمن وجه عمر بن الخطاب من أهل نخلة وكان خالد يحبني ويقربني لأن أبي كان يسافر له ببضاعة إلى سوق بصرى‏.‏
قال‏:‏ فلما رأى خالد أصحاب الملك قد أتوا قال لي خالد‏:‏ يا ابن مرة أريد أن أوصيك‏.‏
فقلت‏:‏ بماذا‏.‏
فال‏:‏ اعلم أنا العدو قد أرسل يلاقينا وهو يظن أننا من متنصرة العرب ولا شك أن عمرو بن العاص ومن معه تجفل قلوبهم منا وأريد أن فتزل عن فرسك وتكمن خلف هذه الحجارة فإذا خلا لك الطريق فانسل نحو عسكر المسلمين وحدثهم بأمرنا وما قد عزمنا عليه من غدر القوم‏.‏
فإذ عمرو لا يطمئن لغيرك وأقرئه سلامي وقل له يكن على أهبة فإذا سمع تكبيرنا يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير فإن ذلك مما يزيد في رعب أعدائنا فقال‏:‏ نعم‏.‏
قال وفعلت كما أمرني خالد ونزلت عن فرسي وأسلمتهما لغلامي دارم ومضيت نحو الجبل وكمنت بين الأحجار‏.‏
قال الراوي‏:‏ وإن خالد أمر أصحابه بلبس الخلع التي أرسلها لهم ابن المقرقس فلبسوها فوق دروعهم ولبس رفاعة بن قيس وبشار بن عون أحسنها وغير خالد زيه والمقداد وعمار ومالك الأشتر‏.‏
قال فلما وصل مقدم جيش القبط‏.‏
قال خالد لرفاعة وبشار‏:‏ ترجلوا له وأصقعوا بين يديه وصلبوا على وجوهكم فليس عليكم في ذلك حرج واحلفوا بالمسيح والسيدة مريم وإياكها والغلط بأن تذكروا محمد صلى الله عليه وسلم فيظن القوم بنا واجعلوا الجهاد نصب أعينكم وتوكلوا على الله في جميع أموركم قال ففعلوا ما قال لهم خالد وترجلوا عند رسول القبط قال‏:‏ حدثنا نصر بن عبد الله عن عامر بن هبار وقال‏:‏ يا عم اعلم أن الله إذا أراد أمرًا هيأ أسبابه وذلك أننا لما أشرفنا على أول ديار مصر نزلنا على دير يقال له دير مرقص وإن ديرًا عامرًا بالرهبان فلما نزلنا عليه أشرف عليه أهله وقالوا‏:‏ من أنتم‏.‏
قلنا‏:‏ نحن من أصحاب الملك هرقل ملك الشام وقد جئنا لنصرة صاحبكم فإنه قد أرسل إلينا يستنفرنا لأجل هؤلاء العرب‏.‏
قال ففرحوا بنا ودعوا لنا وكان كبيرهم والمقدم عليهم في دينهم شيخًا كبيرًا وكان من قسوس الشام وكان من أعلم القوم بدينهما وأعرف الناس بآل غسان وكانت الضيحا قد أقطعها هرقل للملك جبلة بن الأيهم وكان قد جعل على جبايتها ولد هذا القس وكان اسمه نونلس وأن المسلمين لما فتحوا بعلبك وحمص هرب هذا القس بأمواله وأولاده إلى طرابلس وركب البحر في مركب وتوصل إلى مصر وبلغ خبره المقوقس فأحضره وسأله عن حاله فحدثه بأمره فخلع عليه وجعله قيمًا في الكنيسة المعلقة التي في قصر الشمع وصار من أصحاب سكناه في دير مرقص ولا يدخل مصر إلا في أمر مهم فلما نزل عمرو بمن معه عليهم وقتل ابن المقوقس أباه احتاج إلى رأي البترك فأرسل إليه وأنزله في الكنيسة وولى البترك مكان هذا القس نونلس بن لوقا فكان في الدير فلما نزل خالد بن الوليد ومن معه على الدير قال عامر بن المبارك الثعلبي‏:‏ فأشرف علينا وتأملنا وكان أعرف الناس بخالد بن الوليد لأنه رآه في مواطن كثيرة من الشام وكان صاحب حمص قد أرسله رسولًا إلى أبي عبيدة ليصالحوهم‏.‏
قال فجعل يتفقدهم وينظر في وجوههم ثم قال‏:‏ وحق المسيح ما أنتم من آل غسان وما أنتم إلا من عرب الحجاز وقد جئتم لتحتالوا علينا فإني رأيت إمامكم الذي فتح الشام وقتل ملوكها وسوف أكاتب الملك بقصتكم ليقبض عليكم فقالوا‏:‏ ما عندنا خبر من الذي تقوله وقد خيل لك ذلك‏:‏ أما علمت أن المسلمين ما خلوا لنا حالًا وقد نهبونا وأصبحنا بالذل بعد العز والفقر بعد الغنى وقد كتب إلينا ملك مصر بأن نجيء إليه فأرسل إلينا بالخلع وطيب قلوبنا‏.‏
قال عامر‏:‏ فضحك اللعين من قولي وقال لي‏:‏ إن آل غسان أكثرهم يعرف بكلام الروم وحق ديني ما أنتم منهم وقد صح قولي‏:‏ إنكم مسلمون‏.‏
فقلنا له‏:‏ يا ويلك لو كنا من الذين تقول عنهم ما كنا نأتيكم بالنهاروكنا نكمن ونسير في الليل حتى نصل إلى أصحابنا وإنك استحقرت المسيح إذ جعلتنا من أصحاب محمد فقد وقعت في ذنب عظيم ثم إننا بالقرب منهم‏.‏
فقال أصحابه‏:‏ يا أبانا ليس هؤلاء القوم ممن ذكرت فلو كانوا مسلمين ما جسروا أن يدخلوا أرض مصر في ضوء النهار ولا يقربوا العمران‏.‏
فقال‏:‏ وحق ديني أنا أعرف الناس بهم وإنهم مسلمون بلا شك فامتنعوا منهم ولا تخرجوا لهم طعامًا ولا ماء وسأنفذ خبرًا للملك بذلك فيكون منهم على حذر‏.‏
قال عامر بن هبار‏:‏ وكان من لطف لله بنا أن الرهبان الذين بالدير لما سمعوا كلامه قال بعضهم لبعض‏:‏ يجب علينا أن نأخذ لنا منهم صلحًا فنكون آمنين من غائلتهم ولا نبرح من ديرنا هذا‏.‏
فقال أكبرهم‏:‏ إن أنتم فعلتم ذلك فإننا لا نعلم من ينصر الفريقين أصحابنا أم العرب فان كان النصر لأصحابنا خفنا من هذا القس أن يعلم بنا الملك أننا صالحنا المسلمين بغير أمره فإنه يقتلنا وإن هذا اللعين تعلمون أنه على غير منصبنا وهو في كل يوم يكفرنا لأنه نسطوري ونحن يعقوبية فإن أنتم أردتم صلح هؤلاء العرب فدونكم وهذا القس فاقبضوا عليه وسلموه لهم وخذوا منهم أمانًا‏.‏
قال‏:‏ ففعلوا وقبضوا عليه وأشرفوا علينا وقالوا لنا‏:‏ بحق ما تحقدون من دينكم أنتم من أصحاب محمد أم لا‏.‏
فإنا قد قبضنا على هذا اللعين ونريد أن فسلمه لكم وأنكم تعطوننا أمانًا فإنا قوم لا نعرف حربًا ولا قتالًا‏.‏
فقال لهم مالك الأشتر‏:‏ يا هؤلاء أما ما زعمتم من صلحنا فإنا نصالحكم وما كان أمرنا بالذي يخفى ولا نرضى بالكذب فإنه أشنع شيء عندنا ولا سيما أن الإسلام يمنعنا من استعماله ولو أن السيف على رأس أحدنا إذا سئل عن دينه أجاب به وتكلم بوحدانية الله تعالى ونحن من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولكم الأمان وهذا أمان الله ورسوله‏.‏
قال‏:‏ فلما سمع الرهبان من مالك ذلك نزلوا وفتحوا الباب وسلموا لنا القس‏.‏
فقال له خالد‏:‏ يا عدو الله أردت أمرًا وأراد الله خلافه ثم إنه عرض عليه الإسلام فأبى وقال‏:‏ أنا هربت منكم من الشام ثم أوقعني المسيح لي أيديكم وما أظن إلا أن المسيح مسلم فافعل ما أردت فضربوا عنقه‏.‏
قال عامر بن هبار‏:‏ وخرج إلينا أهل الدير بأجمعهم ومعهم الطعام والعلوفة فأكلنا وأقمنا عندهم إلى الليل‏.‏
فقال شيخهم الذي أشار عليهم بقبض القس الرومي لخالد‏:‏ أيها السيد إني قد تفرست فيك الشجاعة فبألله من أنت من أصحاب محمد فقال‏:‏ أنا خالد بن الوليد المخزومي‏.‏
فقال‏:‏ أنت وحق ديني الذي فتحت بلاد الشام وأذللت ملوكها وبطارقتها وإن صفتك عندي ثم إنه دخول الدير وأتى ومعه سفط ففتحه وإذا فيه بين أوراقه ورقة وفيها صفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وزيه وصورته وصورة أبي عبيدة وصورة خالد بن الوليد والسيف في يديه مشهور‏.‏
قال‏:‏ ما زلت أسمع أخبارك كلها فلم عزلك عمر بن الخطاب وولى غيرك فقال خالد‏:‏ اعلم أن عمر هو الإمام وهو الخليفة ومهما أمرنا فلا نخالفه فإن الله أمرنا بذلك في كتابه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏ فطاعته فرض علينا لأنه يحكم بالعدل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإنا قد وجهنا إليه خمس الغنائم من الفتوح كلها من الأموال فما ازداد في الدنيا إلا زهدًا ولا إثر الدنيا على الآخرة بل مجلسه على التراب ولبسه المرقعة ويمشي في سوق المدينة متواضعًا راجلًا فالتواضع لباسه والتقوى أساسه والذكر شعاره والعدل في الرعية دثاره وما زال يعطف على اليتيم ويرفق بالأرملة والمسكين ويرفد أبناء السبيل فظ في دين الله غليظ على أعداء الله قائم بشعائر الله لا يستحي من الحق ولا يداهن الخنق‏.‏
فقال القس‏:‏ أكانت له الهيبة على عهد نبيكم‏.‏
قال خالد‏:‏ نعم سمعت سعد بن أبي وقاص يقول‏:‏ استأذن عمر فأذن له فدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك‏.‏
فقال عمر‏:‏ أضحك الله سنك يا رسول الله‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏عجبت من هؤلاء اللواتي كن ضدي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب‏)‏‏.‏
فقال عمر‏:‏ أنت أحق أن يهبنك وقال لهن‏:‏ يا عدوات أنفسكن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن‏:‏ نعم أنت فظ غليظ دون رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غيره‏)‏‏.‏ قال فلما سمع القس ذلك قال‏:‏ بركة نبيكم عادت على إمامكم وعليكم‏.‏
فقال خالد‏:‏ وما يمنعك من الدخول في ديننا‏.‏
فقال‏:‏ حتى يشاء صاحب هذه الخضراء ثم قال لخالد‏:‏ أريد أن أعطيكم من صلبان هذا الدير حتى تكمل حيلتكم‏.‏
قال وأخرج لهم صلبانا كثيرة فأخذها خالد ودفعها لرفاعة بن قيس وبشار بن عون وتزيوا بزي الذين قتلوهم من آل غسان وارتحل خالد بعدما وكل بالدير عشرة من أهل وادي القرى لئلا يخرج أحد بأخبارهم ويقربوا للملك بذلك‏.‏
قال وعدنا إلى سياق الحديث فلما أشرف أصحاب ابن المقوقس عليهم رأوهم وقد لبسوا خلع الملك وعلقوا الصلبان وشدوا الزنانير ورفعوا صليبًا من فضة كان قد أخرجه لهم القس فلما صقعوا للحجاب ركبوا وساروا حتى وصلوا إلى سرادق الملك فترتجلوا وأخذوا لهم إذنًا فأذن لهم فدخلوا ودخل أولهم رفاعة وبشار ومن معه وخدموا الملك وسجدوا له ولم يدخل خالد ومن معه ووقفوا مع بقية العرب خارج السرادق وإن الملك لما رآهم قال لهم‏:‏ يا معاشر العرب أنتم تعلمون محبتنا لكم وتقريبنا لكم وقد طلبتم أن تكونوا لنا عونًا على هؤلاء العرب فإن نصحتم لنا في دولتنا شاركناكم في مملكتنا وقاسمناكم في ملكنا ونعمتنا‏.‏
فقال له فاعة‏:‏ أبشر أيها الملك سوف ترى ما نبذله في محبتك يوم الحرب‏.‏
قال فخلع عليه وخرج من عنده وأمر لهم بخيام ضربت في عسكرهم‏.‏
قال‏:‏ حدثنا عامر بن أوس عن جرير بن صاعد عن نوفل بن غانم عن سهل بن مسروق‏.‏
قال لما قدم الجيش الذي وجه عمر بن الخطاب مع رفاعة وبشار وكان من أمرهم ما ذكرناه ونظر إليهم عمرو بن العاص ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلوا ينظرون إليهم وإلى زيهم‏.‏
فقال معاذ لعمرو‏:‏ ما هؤلاء من المتنصرة وإن نفسي تأبى ذلك‏.‏
فقال عمرو‏:‏ والله يا أبا عبد الرحمن لقد نظرت بنور الله وإنني نظرت فيهما واحداُ واحدًا ورأيتهم بزي وادي القرى وزي الطائف‏.‏
فقال شرحبيل بن حسنة‏:‏ وأنا نظرت أعجب من ذلك إني رأيت خالد بن الوليد في جملتهم ولاحت لي عمامته وقلنسوته وثيابه التي كانت عليه يوم دخول طرابلس‏.‏
فقال يزيد بن أبي سفيان‏:‏ أنا والله رأيت مالكًا الأشتر النخعي وعرفته بطول قامته وركبته على فرسه ثم قالوا‏:‏ لا بد أن ينكشف لنا خبرهم على جليته فهم في الحديث إذ قد أتاهم نعيم بن مرة فلما رأوه تهللت وجوههم فرحًا وسرورًا فلما وصل إليهم وسلم عليهم وحدثهم بالحديث كله سجدوا لله شكرًا وقال بعضهم لبعض‏:‏ أيقظوا هممكم وكونوا على يقظة مات أمركم فإذ سمعتم التكبير في عسكر العدو فبادروا إليهم‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ ولله في خلقه تدبير وذلك أنه لما جن الليل جمع أرسطوليس بن المتوقس أرباب دولته وقال لهم‏:‏ قد ضاق صدري من هؤلاء العرب وقال لهم‏:‏ قد غلا السعر عندنا لأن أهل البلاد قد أجلت من خوفهم وإن خيلهم تضرب إلى الريف من هذا الجانب وإلى الصعيد من هذا الجانب والنوبة والبجاوة ما يأتينا منهما أحد للفتنة التي هي بينهم والرأي عندي أن نحارب هؤلاء العرب صبيحة عيدهم‏.‏
قالوا‏:‏ أيها الملك هذا هو الرأي‏.‏
فقال‏:‏ أخرجوا السلاح وفرقوه على من ليس معه سلاح‏.‏
‏.‏
هذا ما جرى عنده وليس عنده خبر بما جرى في قصره بعد‏.‏
نتائج المعركة قال ابن إسحق‏:‏ وكان عن حسن تدبير الله تعالى لعباده المؤمنين أنه كان للمقوقس أخ شقيق واسمه أرجانوس وكانا متحابين وكان المقوقس لا يقطع أمرًا دونه وكانا إذا ركبا لا يفترقان وإذا جلسا يجلسان معًا على السرير وكان المقوقس قد دخل في خلوته التي ذكرنا وكان أخوه من محبته قد رتب هناك من يعرفه لما يخرج من خلوته فلما كان في هذه النوبة استبطأه فأتى إلى ابن أخيه فرآه على السرير‏.‏
فقال له‏:‏ ما فعل الملك إنه في خلوته إلى الآن وقد رأى أن طالعه ضعيف مع هؤلاء العرب وقد أمري أن أكون مكانه حتى يرى ما يريد من قتالهم أو صلحهم قال‏:‏ فكتم أرجانوس الأمر في نفسه وعلم أن أخاه قد قتل وكان أرجانوس ممن يعتقد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلم أن دعوته تطرف المشرق والمغرب وأن الملوك تضمحل في أيام أصحابه وسينزلون على البلاد فترك أرجانوس الأمر موقوفًا ولم يبد ما في نفسه لأحد فنما خرج ابن أخيه مع العسكر جمع أرجانوس الذين تركهم ابن أخيه لحفظ البلد في قصر المشع - قال لهم‏:‏ اعلموا أن العقل هو عمدة قوى ابن آدم لأن الله قد خصه به دون سائر المخلوقات وإن أخي قد قتله ولده لا محالة وقد كان محبًا لكم ومشفقًا عليكم وأعلموا أن هؤلاء العرب قد كان قدامهم من ملكه أعظم من ملككم وما ثبت بين أيديهم وليس بين دولتكم وبين أن تزول وتضمحل إلا أن يلتقي الجيشان وإن ظافر بكم هؤلاء العرب قتلوكم ونهبوكم وسكنوا في مساكنكم وايتموا أولادكم‏.‏
فقالوا‏:‏ أيها الملك فما يكون عندك من الرأي وما تفعل قال‏:‏ إني أرى من الرأي أن تستيقظوا لأنفسكم وتغلقوا أبواب هذا القصر ولا تدعوا أحدًا يدخل عليكم من جند الملك ولا هو نفسه فإنهم لا يقدرون أن يقاتلوكم والعرب من ورائهم وأنه يعدي الجانب الغربي ويمضي إلى إسكندرية ونعقد لنا صلحًا مع هؤلاء العرب على أنفسنا وأولادنا وحريمنا ونسلم لهم بعد ذلك‏.‏
فمن أراد يتبعهم ومن أراد يعطيهم الجزية‏.‏
قال‏:‏ فاستصوبوا رأيه وعلموا إنه نطق بالحق كان أرجانوس له في سرايته ألف مملوك‏.‏
قال‏:‏ فاحتوى على قصر الملك وأخذ الخزائن والأموال ومخلق أبواب قصر الشمع وفعل ما فعل وليس عند ابن أخيه خبر إلى أن ذهب من الليل نصفه أو أكثر فجاء إليه بعض خدمه وأخبره بما فعل عمه فأيقن بتلفه وخروج ملك مصر منه‏.‏
قال فبينما هو في حيرة في أمره إذ كبر خالد بن الوليد ومن معه في وسط عسكره فسمع عمرو وأصحابه التكبير فكبروا ووقعت الخذلة على الكفار وحملت فيهم المسلمون ووضعوا فيهم السيوف فلما نظر أرسصوليس إلى ما نزل به والكبسة التي وقعت بعسكره لم يكن له دأب إلا أن ركب وأحدقت به مماليك أبيه وأرباب دولته وطلبوا بالهزيمة وقصدوا البحر وعدوا الجانب الغربي وطلبوا إسكندرية فجازوا على مدينة مريوط وفيها الموبذان الساقي ومعه ثلاث آلاف من عسكره فلما أن صاح الصائح في مصر بأن الملك انهزم وما ثبت أحد من عسكر القبط وولوا والسيف يعمل فيهم وغرق منهم في البحر خلق كثير ونصر الله المسلمين وانهزموا‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ حدثني من أثق به أنه قتلى في تلك الليلة من عسكر القبط خمسة آلاف وغنم المسلمون أثقالهم وما كان فيها من الأموال فلما أقبل الصباح اجتمع خالد بالمسلمين وسلم بعضهم على بعض وهنوهم بالسلامة ودخلوا مصر وملكوا دورها وأحاطوا بقصر الشمع فأشرف عليهم أرجانوس بن راعيل أخو المقوقس وقال لهم‏:‏ يا فتيان العرب اعلموا أن الله قد أمدكم بالنصر وقد فعلت في حقكم كذا وكذا ولولا حيلتي على ابن أخي لما انهزم منكم وقد ظفرتم الآن ونحن نسلم إليكم على شرط أنكم لا تتعرضون لنا ولا تمدون أيديكم لنا بسوء ومن أراد منا أن يبقى على دينه يؤذي الجزية ومن أراد أن يتبعكم يتبعكم‏.‏
فقال له معاذ بن جبل‏:‏ قد نصرنا الله على الكفار بصدق نياتنا وصلح أعمالنا واتباعنا للحق وإنا ما قلنا قولًا إلا وفيناه ولا استعملنا الغدر ولا المكر وأنتم لكم الأمان على أنفسكم وأموالكم وحريمكم وأولادكم ومن بقي منكم على دينه فلن نكرهه ومن اتبع ديننا فله ما لنا وعليه ما علينا فلما سمع أرجانوس ذلك نزل إليهم بالمفاتيح فأمنوه وأمنوا من كان معه في القصر وجمعوا أكابر مصر ومشايخها وقالوا لهم‏:‏ إن الله قد نصرنا عليكم وقد انهزم ملككم منا وأنتم الآن في قبضتنا وقد صرتم مماليكنا ومن أسلم منكم قبلناه ومن أبى استعبدناه فقالوا‏:‏ أيها الملك ما هكذا بلغنا عنكم‏.‏
قال‏:‏ وما الذي بلغكم عنا‏.‏
قالوا‏:‏ سمعنا عنكم أن الله قد أسكن الرحمة في قلوبكم وأنتم تعفون عمن ظلمكم وتحسنون إلى من أساء إليكم وأنت تعلم أننا قوم محكوم علينا ولو كان الأمر إلينا لاتبعناكم فارفقوا بنا وانظروا في أحوالنا فقال عمرو لأصحابه وللأمراء‏:‏ ما ترون من الرأي في أمر هؤلاء القوم فقال شرحبيل بن حسنة‏:‏ اصنع ما أمر الله به من العدل فيهم وأحسن إليهم وطيب خواطرهم فإننا إذا قصدنا غير هذه المدينة وسمع أيها الأمير عنك أهل المدينة الأخرى ما فعلته مع أهل مصر يسلمون بغير منازعة ولا حرب فقال معاذ بن جبل وخالد بن الوليد والمقداد وعمار ومالك وربيعة ويزيد‏:‏ القول الذي قاله كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعمول به فقال عمرو لأهل هصر‏:‏ قد أمناكم على أنفسكم وأولادكم وحريمكم منة منا عليكم وقد وضعت عنكم جزية هذه السنة وفي السنة الآتية نأخذ منكم الجزية من كل محتلم أربعة دنانير ومن أسلم منكم قبلناه قال فلما سمع أرجانوس ابن راعيل كلام عمرو قال‏:‏ لقد أنصفت وإن الله بهذا نصركم وقد وقفت الآن على صحة دينكم وأنا أشهد أن الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله واشهدوا على أن كل ما تركه أخي من الأموال والأصول والثياب والمتاع هو هبة مني إليكم بما فعلتم مع أهل بلدي‏.‏
قال فلما نظر أهل مصر إلى أرجانوس وقد أسلم دخل أكثرهم في الإسلام وعمد عمرو إلى الكنيسة وعملها جامعًا وهو المعروف به إلى يومنا هذا وجمح الأموال التي أخذها من وراء القبط المنهزمين ومن منازلهم وما كان في قصر الملك وأخرج الخمس وأعطى كل ذي حق حقه ثم كتب كتابًا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعث الخمس والكتاب مع علم بن سارية وسلم المال والكتاب له وسير معه مائة فارس وأمره بالمسير إلى المدينة فاستلم الخمس وسار حتى قدم المدينة وسلم المال والكتاب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما قرأه سجد لله شكرًا وأمر بالمال إلى بيت المال‏.‏

فقال علم بن سارية‏:‏ يا أمير المؤمنين إن عمرًا يسلم عليك ويقول لك‏:‏ إن القبط كانوا استسنوا سنة في نيلهم في كل سنة وذلك أنهم كانوا إذا أبطأ عليهم الوفاء في النيل يأخذون جارية من أحسن الجواري ويزينونهما بأحسن زينة ويرمونها في البحر فيأتي الماء ويفي النيل وقد قرب ميقات ذلك ولا يفعل عمرو شيئًا إلا بإذنك‏.‏
قال فكتب عمر بن الخطاب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد‏:‏ فإن كنت مخلوقًا لا تملك ضرًا ولا نفعًا وأنت تجري من قبل نفسك وبأمرك فانقطع ولا حاجة لنا بك وإن كنت تجري بحول الله وقوته فاجر كما كنت والسلام‏.‏
وأمره أن يدفعه لعمرو بن العاص يرميه فيه وقت الحاجة إليه ثم إنه كتب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد‏:‏ فالسلام عليك وإني أحمد الله إليك وأصلى على نبته وإذا وصل إليك كتابي فاطلب أعداء الله حيث كانوا وإياك أن تلين جانبك لهم وانظر في أحوال الرعية واعدل فيهم ما استطعت واطلب العفو بالعفو عن الناس وأجر الناس على عوائدهم وقوانينهم وقرر لهم واجبًا في دواوينهم وأعل رسوم العافية بالعدل فإنما هي أيام تمضي ومدة تنقضي فأما ذكر جميل وإما خزي طويل ثم إنه سلم الكتاب إلى علم بن سارية فسار هو ومن معه إلى أن قدموا مصر وسلم الكتاب إلى عمرو فأما كتابه فقرأه على المسلمين وأما كتاب النيل فإنهم قد كانوا عدوًا ليالي الوفاء وتوقف النيل عن الوفاء وقد يئس الناس من الوفاء في تلك السنة فمضى عمرو إلى النيل وخاطبه ورمى فيه كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏
قال فلما رماه فيه هاج البحر وزاد فوق الحد ببركة عمر بن الخطاب وانقطعت عن أهل مصر تلك السنة السيئة ببركة عمر رضي الله عنه‏.‏
حدثنا محمد بن يحيى بن سالم عن عدي بن يحيى بن عوف قال‏:‏ لما بلغنا أن عمرو افتتح مصر وأتى إلى الكنيسة المعظمة عندهم وجد في مذبحها بيتًا مغلقًا وإذا فيه صورة من الفضة وأمام الصورة شخص آخر وفي يده أعلام وهي على صفة الصورة التي وجدها النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة لما فتح مكة فدعا عمرو بالقسوس وقال لهم‏:‏ ما هذه الصورة‏.‏
قالوا له‏:‏ هذه صورة إبراهيم وأبيه آزر فتبسم عمرو وقال‏:‏ ‏{‏ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين‏}‏‏.‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 67‏]‏‏.‏ فقال معاذ بن جبل‏:‏ لما قدمت من اليمن سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجهه قترة فيقول له إبراهيم‏:‏ ألم أقل لك لا تعصني فيقول آزر‏:‏ اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم‏:‏ يا رب أنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون فأفي خزي أخزى من هذا فيقول الله‏:‏ حرمت الجنة على الكافرين ثم يقول له‏:‏ يا إبراهيم انظر إلى ما تحت قدميك فينظر إلى الريح وقد أخذت أباه فتلقيه في النار‏)‏‏.‏
قال ثم أمر عمر بالصورتين فكسرتا وعبر عسكر المسلمون إلى الجانب الغربي وقد تقدم خالد فترجل إلى نحو الإسكندرية وتقدم على مقدمته عبد الله يوقنا وسار يومًا وليلة هو وبنو عمه وهم بزي الروم‏.‏
فتوح مدينة مريوط قال ابن إسحق‏:‏ كان قد بلغ الموبذان الذي مع الثلاثة آلاف وهم في مدينة مريوط وقد حصنها ما حصل فلما قدم عليه يوقنا قال اسه الموبذان‏:‏ ما الذي أقدمك علينا‏.‏
فقال يوقنا‏:‏ إن المسلمين وجهوني إليك وهم يحرضونك على خلاص نفسك ويأمرونك بتسليم هذه المدينة إليهم ولك الأمان على نفسك وأهلك ومالك ومن أردت ولك الخيار في المقام تحت يد الإسلام أو الانفصال فإن اخترت المقام فلا مانع يمنعك وإن أردت المسير أوصلناك إلى أي موضع أردت فلما سمع الموبذان ذلك قهقه ضاحكًا‏.‏
وقال‏:‏ وحق ديني إن الغدر شعاركم والمكر دثاركم فلا فلح من آمن لكم وأما أنا فلا أخون الملك في بلده وأنا وهو في أرض واحدة وسوف أبعث إليه بأن أقدم إليه وأساعده عليكم جزاء بما عملتموه من الخديعة وستعلمون على من تدور الدائرة ومن يكون المغبون في الآخرة وأنتم يا معشر الروم قد كفرتم بالمسيح وجحدتم السيدة أم النور وخرجتم من ملة الحواريين وأردتم هؤلاء العرب الجياع الأكباد العراة الأجساد ولمن يغنوا عنكم شيئًا ووحق المسيح لأبعثن بكم إلى الملك فيقتلكم على كفركم وكان يوقنا قد ترك جماعته ومضى في عشرين رجلًا منهم لعله يعلم عليه حيلة فلما دخل عليه أنزله في دار الضيافة فوضعوا سلاحهم فلما أكلوا الطعام وتحادثوا وكان قد فطن بهم وأمر غلمانه أن يكونوا على حذر وأن يهجموا عليهم فيقبضوهم يريد بذلك أن يرسلهم إلى الملك إلى الإسكندرية ورماهم في بيت مظلم في دار إمارته وأقام ينتظر غفلة من عسكره وكانوا قد أحاطوا بالبلد ووكل بهم جارية اسمها زينا وهي أخت مارية التي أرسلها المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
وكانت أختها شقيقتها وسلم إليها المفاتيح لمعزتها عنده وقال لها‏:‏ احفظي عليهم لأرى ما أنظر فيهم قال فلما جن الليل واشتغل عدو الله الموبذان بالشراب قال فصبرت رينا إلى أن غرق في سكره هو ومن معه وناموا وأمنت على نفسهما مالت إلى الباب وفتحت على يوقنا وأصحابه وقالت لهم‏:‏ أبشروا لا خوف عليكم فإن الله قد جعل رحمتكم في قلبي وأنا أخت مارية التي أهداها المقوقس لنبيكم وإني أريد منكم أن توصلوني عند أختي مارية‏.‏
فقال لها يوقنا‏:‏ أبشري بما يسرك ولكن أخاف عليك من عدو الله فما ترين‏.‏
فقالت‏:‏ والله مما جئتكم حتى سكر ونام‏.‏
فقال يوقنا‏:‏ فعرفينا الطريق التي نسلكها إلى قومنا‏.‏
قالت‏:‏ إن هذا المكان فيه سرب يخرج إلى ظاهر البلد وهو مبنى من قديم الزمان وبابه الخارج مبني عليه قبة على أعمدة وتحتها قبر بين المقابر فكل من رآه يظن أنه قبر وإن الذي بنى هذه المدينة امرأة يقال لها فمعمان بنت عاد وصنعت هذه المقابر التي وراء التل وهي كأنها قصور مشيدة وكان فيها أناس يسكنوها‏.‏
لقال يوقنا‏:‏ افعلي بنا ما يقربك إلى الله تعالى ورسوله ولعلك أن تنزلينا من هذا السرب حتى نذهب إلى أصحابنا ونأتي بهم من هذا ما دام الموبذان سكران وهو نائم فقالت‏:‏ سأفعل ذلك إن شاء الله تعالى غير أني أريد أن أفتح لكم باب السرب قبله حتى لا تتعوقوا‏.‏
قال الراوي‏:‏ وقد مضت رينا أخت مارية وأشرفت على الموبذان‏.‏
فإذا هو ومن معه صرعى من الخمر فتركتهم وعادت إلى باب السرب لتفتحه وإذا هي تسمع وراءه حسًا ففزعت ووقفت تسمع‏.‏



قال‏:‏ حدثني عبد الرزاق بن يحيى عن سليم أن بن عبد الحميد عن سفيان الأعمش عن أوس بن ماجد وكان ممن شهد فتوح مصر والإسكندرية‏.‏
قال‏:‏ لما نزل خالد بن الوليد على مريوط بجيشه تفقد يوقنا وقال لأصحابه‏:‏ إنه من وقت أن بعثته برسالتي إلى مريوط للموبذان ما عاد قالوا‏:‏ أيها الأمير إنه من وقت ما دخل إليه ما خرج ونحن في انتظاره فعلم خالد أن يوقنا مقبوض عليه فبات مهمومًا من أجله وإن خالد صاحب همة وعزيمة لا ينام من خوفه على المسلمين وكان معه جواسيس قد أخذهم معه من كل أقليم وقد اصطفاهم لنفسه وهو يحسن إليهم وأينما ذهب يكونوا معه ليأتوه بالأخبار فبينما هو في غم بسبب يوقنا وإذا هو بواحد منهم قد دخل عليه وأعلمه أن ولد الموبذان قد أتى من إسكندرية من عند ارسطوليس ومعه خلع وهدايا لأبيه ومعه خمسمائة فارس وقد بلغه أنكم محاصرون أباه فترك العسكر وما معه بالبعد وانفرد ومعه خادمان وأتى وما نعلم ما يريد‏.‏
قال فلما سمع خالد ذلك قام وأخذ معه غلامه همامًا وأربعة ممن يعتد بهم وأبعد وقعد على سفح التل من نحو إسكندرية ونظروا إلى التل وإذا بولد الموبذان ومعه الخادمان قصدوا إلى وراء التل عند تلك المقابر التي وصفتي رينا ليوقنا وقصدوا القبة فمشى خالد وراءهم وفرق جماعته من أربع جهات القبة وكبسهم وإذا هم قد فتحوا طبقًا في وسط القبة فأخذهم خالد فلما رآهم الموبذان ارتعدت فرائصه وخاف فقال خالد‏:‏ إن صدقتموني أمنتكم وإن لم تصدقوني رميت رقابكم‏.‏
فقال الغلام‏:‏ أنا أصدقك أنا ولد الموبذان وكنت عند الملك في إسكندرية وقد أنفذ معي خمسمائة فارس عونًا لأبي وحفظًا لهذه المدينة فنحن في الطريق وإذ قد جاءتني الجواسيس بأنكم نازلون على البلد فأوقفت العسكر وأتيت إلى هذه القبة فقال له خالد‏:‏ وما الذي تريد من هذه القبة ألكم فيها سلاح أم مطلب فيه مال‏.‏
قال‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ فما تريد منها‏.‏
قال الغلام‏:‏ إن أمنتني قلت لك الحق‏.‏
فقال له خالد‏:‏ قد أمنتك على نفسك فقبل يده وقال‏:‏ يا مولاي أريد أمانًا لأبي ومن يلوذ به فأعطاه فقال‏:‏ اعلم أن هذه القبة على سرب والسرب ينتهي إلى دار الإمارة ودار الإمارة في وسط هذه المدينة قال فلما سمع خالد ذلك تهلل وجهه فرحًا وسرورًا وقبض على الغلام وعلى الخادمين وأمرهما مع واحد آخر ممن معه أن يفتحوا السرب ففتحوه فأرسل همامًا إلى العسكر وأمره بأن يأتي بهم في السرب وأن يأتوا معهم بالنار والزيت والقناديل وأن يسرع بذلك وكان ذلك التل عاليًا والذين في المدينة لا ينظرون ما وراءه فلما أقبل همام بما طلبه خالد أوقدوا المسارج ونزلوا في السرب وابن الموبذان أمامهم فوصلوا إلى الباب وإذا برينا عند الباب تريد فتحه ليوقنا ومن معه فلما سمعت حسهم قالت‏:‏ من أنتم‏.‏


فقال خالد لابن الموبذان‏:‏ كلمها فقال‏:‏ أنا فلان بن الموبذان افتحي ولا تعلمي أبي‏.‏
قال فلم يبق لها بد أن تفتح الباب ففتحت فصعد خالد ومن معه فقبضوا على رينا‏.‏
فقالت لهم‏:‏ يا قوم دعوني فإني أردت أن أخلص أصحابكم وجئت لأفتح لهم هذا الباب وأنزلهم إليكم وتملكوا هذه المدينة من ههنا وقد أتى بكم رب العالمين وأنا رينا أخت مارية زوجة نبيكم فلما سمع خالد فرح وقال لها‏:‏ وأين أصحابنا فأتت بهم عندهم فحلوا وثاقهم وأتوا إلى دار الإمارة فوجموا الموبذان لا يشعر بنفسه من الخمر فوكل به جماعة وأمر الباقي أن يملكوا السور وقبضوا على الحرس ونزلوا إلى الأبواب وكان لها بابان فكسروا أقفالها وفتحوهما وأرسل إلى بقية العسكر فدخلوا المدينة والكل في حالك الليل فلما أصبح الصباح استيقظ الموبذان ومن معه وإذا بالمسلمين حولهم وكل من في المدينة قد أسر‏.‏


فقال له خالد‏:‏ يا عبد الله لولا أني أعطيت ولدك الأمان كنت قتلتك شر قتلة ولكن خذ أهلك وانصرف فإننا قوم إذا قلنا قولا نعمل به وفهم الموبذان أن ولده قد دلهم على السرب فلما خرج الموبذان بأهله قال ولده لخالد‏:‏ يا مولاي إن أنا مضيت معه قتلني ولست أريد بغيركم بدلًا وأنا أقول‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله فقال له خالد‏:‏ إن قصر أبيك وما فيه لك وعرض خالد الإسلام على أهل مريوط فأسلم أكثرهم ثم إن خالدًا قال ليوقنا رحمه الله‏:‏ أبشر من الله بالرضوان والغفران والثواب فبصبرك على الشدائد فتح الله علينا هذه المدينة فقال‏:‏ والله ما فتحها إلا بفضله وببركة نبيه صلى الله عليه وسلم فكتب إلى عمرو بن العاص يبشره بفتح مريوط ونحن معولون على الدخول إلى إسكندرية وأرسل الكتاب إليه‏.‏


قال ابن إسحق‏:‏ وأقام خالد بمريوط لأجل ذي الكلاع الحميري لأنه مرض معه وكان مرضه شديدًا فجلسوا عنده شهرًا ولم يفارقه خالد فقدر الله بالوفاة فحزنوا عليه حزنًا شديدًا عظيمًا فكان ذو الكلاع ملك حمير وكان قبل دخوله في الإسلام يركب له اثنا عشر ألف مملوك سود سوى غيرهم‏.‏


قال أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه‏:‏ واغد رأيته بعد تلك الحشمة يمشي في سوق المدينة وعلى كتفه جلد شاة لما قدم عليه من اليمن إلى الجهاد في أيام أبي بكر الصديق رضي الله كنه فلما مات رثاه ولده تنوخ بما رثى به حمير أباه سبأ بن يشجب في الزمن المتقدم وهو‏:‏ عجبت ليومك ماذا فعل وسلطان عزك كيف انتقل وسلمت ملكك ذا طائعًا وسلمت للأمر لما نزل فيرمك يوم رفيع النزال ودورك في الدهر دور رحل فلا يبعدنك فكل امرئ سيدركه بالسنين الأجل لئن صحبت نائبات الزمان وشت مع الدهر وجه الأمل لقد كنت بالملك ذا قوة لك الدهر بالعز عان وجل بلغت من الملك أقصى المدى نقلت وعزك لم ينتقل فطحطحت آفاقه والمدى وجئت من العرب حول الدول حويت من الدهر إطلاقه ونلت من الملك ما لم ينل وحملت عزمك ثقل الأمور فقام بها حازم واستقل صحبت الدهور فهنأتها وما مر عيشك فيما فعل تؤمل في الدهر أقصى المنى ولم تدر بالأمر حين نزل فزالت لعزمك شم الجبال ولم يك حزمك فيها هبل

و للحديث بقيه أن شاء الله


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: فتح مصر
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت ديسمبر 22, 2007 3:33 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
فتح مصر


فتوح إسكندرية
قال‏:‏ وعول خالد على المسير إلى إسكندرية‏.‏

حدثنا زياد بن أوس الطائي عن معمر بن الرشيد قال‏:‏ لما نزل خالد بعد رحيله عن مريوط قال له عيونه‏:‏ إنه لما انهزم ابن المقوقس وأتى إلى إسكندرية وبلغه فتح مصر صعب عليه قال‏:‏ وكانت إسكندرية عامرة كان فيها الخلق كثيرًا والمراكب فأرسل مراكب وعمرها بالرجال وأمرهم أن يكبسوا سواحل بلاد الشام على المسلمين فقالوا‏:‏ سمعًا وطاعة ومضوا إلى ساحل الرملة فوجدوا بالليل نيرانًا كثيرة فسألوا من كان خبيرًا بالبلاد فقالوا‏:‏ هذه نيران المسلمين النازلين ههنا فقالوا‏:‏ هذه حاجتنا التي جئنا في طلبها فنزلوا وقصدوها وإذا بها حلل من حلل دوس بني عم أبي هريرة وكان معهم طائفة من بجيلة وفي جملتهم ضرار بن الأزور وهو مريض وأخته خولة معه تمرضه وكان أبو عبيدة أمرهم بالنزول هناك لأجل كثرة المرعى وهم آمنون مطمئنون من الروم وغيرهم لأن دولة الروم قد انصرمت وأيامهم قد ولت فما فطن القوم إلا وقد كبسهم القبط في حندس الليل ووضعوا فيهم السيف فقتلوا منهم رجالًا وأخذوا منهم أسارى ومن جملتهم ضرار وأخته وأخذوا ما قشروا على حمله وأتوا بهم المراكب وكان جملة من أسروه من الرجال والنساء والأولاد والعبيد ألف قال ابن إسحق‏:‏ وكان أبو عبيدة قد استوطن طبرية لكونها في وسط البلاد وهي قريبة من الأردن والشام والسواحل وإن أبا هريرة قد أتى ليزور قومه في تلك الأيام وشمال عن حال ضرار وكانوا يحبونه لشجاعته فأتى أبو هريرة ومعه حليف له من بني بجيلة فأصبحا تلك الليلة في الحي وإذا بهم قد أخذهم القبض وبيوتهم مطروحة والرجال مقتولة وآثارهم منبوذة ووجدوا من الذين انهزموا أناسًا مجروحين فسألوهم فقالوا‏:‏ ما عندنا خبر حتى كبسنا قوم نصارى وما نعلم من أي الطوائف هم ولم نفق حتى وقعوا فينا بالسيوف فقتلوا ما ترون وأسروا الباقين وأخذوهم في مراكبهم‏.‏

فقال أبو هريرة‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وساروا إلى ساحل البحر فلم يروا لهم أثرًا فلما عولوا على الرجوع إذا بلوح من ألواح المراكب تلعب به الأمواج وعليه شخص فوقفوا له حتى أقبل وخرج الرجل وإذا به أمير دوس وحيان ابن عم أبي هريرة فلما رآه ترجل له وعانقه وهنأه بالسلامة وقال له‏:‏ يا ابن عم ما وراءك فقال‏:‏ هجم العدو علينا ليلًا وأسرونا وساروا فلما توسطنا البحر بعث الله بريح لغرقت مركبنا وقد نجاني الله على هذا اللوح‏.‏
فقال له‏:‏ ومن أعداؤكم‏.‏
قال‏:‏ من قبط مصر وإني سمعتهم يذكرون إسكندرية كثيرًا‏.‏
قال‏:‏ فرجع أبو هريرة يطلب طبرية وأتى ابن عمه إلى مكان الحلة حتى يلم شعث الناس ويداوي المجروحين فجمع ما تركوه وأتى بهم إلى الرملة‏.‏

وأما أبو هريرة فأتى أبا عبيدة وأخبره بما جرى فاسترجع وبكى وقال‏:‏ أعوذ بالله من الساعات الرديئة ثم قال‏:‏ والله لئن وصلوا إلى إسكندرية ما يبقيهم صاحبها طرفة عين ويموت ضرار ويمضي دمه هدرًا وكتب إلى عمرو بن العاص يعلمه بذلك ويحذره من صاحب الإسكندرية وأنه أسر ألفًا ومائة من جملتهم ضرار وأخته وكانت تداويه وهي عنده فإذا وصل إليك كتابي هذا فاجتهد في خلاصهم وإن وقع في أيديكم أحد من القبط ففادوهم به ودفع الكتاب لزيد الخيل وأمره أن يسير إلى مصر فلما قدم زيد الخيل إلى مصر دفع الكتاب لعمرو بن العاص فلما قرأه صعب عليه وكان يحب ضرارًا فأرسل الكتاب إلى خالد بن الوليد وكتب إليه يحثه بالمسير إلى الإسكندرية وأنه يفتقد حال الأسرى فلما وصل الكتاب إلى خالد وقرأه صعب عليه أمر ضرار وأخته خولة‏.


حدثنا ابن إسحق قال‏:‏ حدثنا عاصم بن منصور عن أحمد المروزي عن سلمة عن عبد الله بن المبارك عن عبد العزيز عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ لما أخذت النصارى حلل دوس وضرارًا وأخته وعصفت عليهم الريح وغرق أحد المراكب ووصل الباقي إلى إسكندرية أوقفوهم أمام ابن المقوقس فأراد قتلهم فقال له أرباب دولته‏:‏ أيها الملك لا تعجل عليهم واعلم أن العرب متوجهة إلي ولا بد لنا من قتالهم فإن أسر أحد منا ممن يعز عليك يكون عندنا من نفادي به ولعل أن نصالح العرب فاستصوب رأيهم وقال‏:‏ ادفعوا هؤلاء الأسرى إلى دير الزجاج وأرسل معهم ألفي فارس يوصلونهم إلى الدير فجاءت عيون خالد وأخبروه بما وقع فقام وأخذ معه أصحابه وسار يطلب دير الزجاج فوصل خالد إلى الدير قبل وصول الأسارى ومن معهم فلما أحدقوا بالدير أشرف عليهم راهب كبير السن وكان اسمه فباحًا وكان تلميذًا لبحيرا راهب بصرى وكان مؤمنًا بالله وبأنبيائه‏.‏
فقال له خالد‏:‏ يا راهب كيف ترى الدنيا‏.‏
قال‏:‏ تنحف البدن وتجدد الأمل وتقرب المنية وتقطع الأمنية‏.‏
قال‏:‏ فما حال أهلها‏.‏
قال‏:‏ من نال منها شيئًا نفضته ومن فاته منها شيء حسرته‏.‏
قال‏:‏ فما خير الأصحاب فيها‏.‏
قال‏:‏ العمل الصالح والتقي‏.‏
قال‏:‏ فما شر الأصحاب فيها‏.‏
قال‏:‏ اتباع النفس والهوى‏.‏
قال خالد‏:‏ صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ ‏(‏الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ كيف طابت لك الوحدة‏.‏
قال‏:‏ ألفتها‏.‏
قال‏:‏ فهل نلت منها فائدة‏.‏
قال‏:‏ نعم الراحة من مداراة الناس‏.‏
قال‏:‏ فما أحسن هذا الاعتقاد لو كان في دين الإسلام والتوحيد قال فما أعرف غيره‏.‏
قال‏:‏ فما تقول في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ سيد الرسل وخاتم الأنبياء وصفي الأصفياء وحجة الجبار على الورى‏.‏
قال‏:‏ فلم لا تكون في بلاد الإسلام فهي أصلح لك من ههنا قال‏:‏ قلبي ملوث بحب الدنيا‏.‏
قال خالد‏:‏ أعندك خبر بالعرب الأسرى الذين أرسلهم الملك هنا‏.‏
قال‏:‏ لا والله ولكن مر بي البارحة بطريق وأسقف واستقيا ماء من بئر هذا الدير فسألتهما من أين أتيتما‏.‏
فقالا‏:‏ من الإسكندرية وإننا رسل الملك كيماويل صاحب أرض برقة وأنه أرسلنا إلى ملك القبط يسأله أن يرسل له أسرى من عرب المسلمين حتى يراهم ويسمع كلامهم فأجاب أنه يرسل منهم جماعة وإذا ماضون نعلم صاحب برقة بذلك‏.‏
فقال لخالد‏:‏ لعلكم من المسلمين الذين فتحوا بلاد الشام قال خالد‏:‏ نحن هم‏.‏
فقال الراهب‏:‏ إن أخباركم عندي في كل وقت وأعلمك أني رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وهو في قافلة قريش وأنا عند بحيرا فلما مات بحيرا انتقلنا إلى هذا الدير واعلموا أنه ما بقي من أرض الكنائس ولا بأرض العقبة ولا بأرض الرمادة أحد ولا ديار من راهب ولا قس إلا وقدم لزيارتي ويسألني عنكم وعن نبيكم ويقولون لي‏:‏ أنت كنت على طريقهم ورأيت نبتهم وشرحت لهم دينكم وأوصلتهم إلى ما ظهر من معجزات نبيكم صلى الله عليه وسلم ولقد جرى بيني وبين راهب منهم بالقرب مناظرة وقال لي‏:‏ إن النبي الذي بشر به عيسى المسيح ابن مريم ليس هذا فقلت له‏:‏ بلى هو والله النبي العربي‏.‏
فقال لي‏:‏ إننا سمعنا في العلم أن الرسول الذي يظهر من أرض الحجاز يعرج به إلى السماء وما سمعنا أن هذا عرج به فقلت‏:‏ بلى والله أنا سمعت بأنه عرج به إلى السماء وخاطب العلي الأعلى وأصبح فأعلم بذلك قريشًا ثم قال لخالد‏:‏ اعلم أن في وسط هذا الجبل ديرًا يقال له دير المسيح وقد استوى عليه بطريق ومعه جماعة وهو يقطع الطريق على قوافل العرب وأنه منذ زمان قطع الطريق على قافلة وفيها لشخص من بلادكم وهو مسلم فأخذ القافلة وعزى أهلها وأطلقهم وقبض على ذلك المسلم وأخذ ماله ووضعه عنده في العذاب الشديد والرجل يستجير فلا يجار ويقول له‏:‏ ما أطلقك حتى تكفر بالرحمن وتسجد للصلبان ثم إنه يأتيه بصورة من نحاس وعلى رأسه عمامة سوداء ويقول له هذه صفة نبيكم وينصبه قباله ويصمت فضلة كأسه على رأس هذه الصورة وذلك الرجل يستجير من فعاله‏.‏
قال‏:‏ فلما سمع خالد ذلك أخذ معه شرحبيل بن حسنة وعامر بن ربيعة ويزيد بن أبي سفيان وهاشم بن سعيد والقعقاع ورفاعة وترك بقية العسكر محيطة بالدير ومضوا إلى وسط الجبل فوجدوا الدير فوصلوا إليه وإذا بالبطريق قد أقبل ومعه وحش مذبوح وقد قصد إلى شجرة بالقرب من الدير وتحتها عين فنزل على العين وصاح بغلمانه فأتوا إليه وأضرموا النار وجعلوا يشوون له وهو يأكل ويشرب الخمر وقال لهم‏:‏ هاتوا المحمدي فأتوه برجل قد ركبه الذل وغلبه القهر فلما رآه قال له‏:‏ أنت قد غلبتني بتجلدك على العذاب وحق ديني لا أرفع عنك العقوبة حتى ترجع عن دينك إلى ديني فقال له‏:‏ اصنع ما بدا لك فإني أعلم أن الكل بمشيئة الله وبإرادته وإني صابر على مر البلاء وما أرجع عن دين محمد المصطفى‏.‏
قال فهم أن يقوم إليه يضربه فصاح به خالد بن الوليد وحمل عليه وطعنه فأخرج السنان من ظهره وقتلوا غلمانه وخلصوا المسلم ونزلوا على العين ولم يكن لأهل الدير شرب إلا من تلك العين فأشرف عليهم الرهبان من أهل الدير وقالوا‏:‏ ما نحن أهل سيف حتى نقاتلكم وقد نهاكم نبيكم عن قتل الرهبان فقال خالد‏:‏ سلموا لنا مال هذا البطريق وعياله وأطفاله ونحن نترككم في ديركم ففتحوا لهم وسلموا لهم جميع موجوداته وأخذوا الأسير وساروا وسأله خالد بن الوليد من أين أنت فقال‏:‏ أنا أمية بن حاتم أخو عدي وقد أخذني هذا في أواخر أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإني كنت طالب برقة مع قافلة ومعي بضاعة نأخذها وأخذني وكان أمر الله قدرًا مقدورًا قال‏:‏ فرجعوا عند أصحابهم ولم يأتوا القبط فما لحقوا أن ينزلوا عن خيولهم إلا والراهب صاح وقال لهم‏:‏ استعدوا للقاء عدوكم فإنهم قربوا منكم فتجهزوا للقاء العدو وإذا بهم قد أقبلوا وضجيج الأطفال وبكاء الناس وأنين الرجال وصراخ المأسورات وصياح القبط عليهم يسوقونهم من ورائهم وزئير الفرسان وهفيف الصلبان والعربيات تنادي بالويل والهوان وخولة بنت الأزور على مقدمة الأسارى وهي تقول‏:‏
جل المصاب وزاد الويل و الحرب وكل دمع من الأجفان ينسكب
ومادت الأرض مما قد بليت به حتى توهمت أن الأرض تنقلب
لهفي على بطل قد كان عدتنا فيه العفاف وفيه الدين والأدب
قد كان ناصرنا في وقت شدتنا أعني ضرار الذي للحرب ينتدب
فيه الحمية والإحسان عادته فيه التعصب والإنصاف والحسب
لو كان يقدر أن يرقى مراكبه كان العدو فني والحرب تلتهب
أو كان خالد فينا حاضرًا وطنًا لزال عنا الذي نشكو وننتحب
لو كان يسمع صوتي صاح بي عجلًا مهلًا فقد زال عنك البؤس والعطب

قال‏:‏ فلما سمع خالد نداءها قال‏:‏ لبيك يا بنت الأزور قد جاءك انفرج وذهب عنك الحرج فأطبقوا على القبط فما كان ببعيد حتى قتلوا منهم سبعمائة وأسروا ألفًا وثلثمائة وخلصوا الأسرى وسلموا على ضرار وهنئوه بالسلامة وودعوا الراهب بعدما كتب له خالد كتابًا بأن له من طعام الإسكندرية صاعًا ولكل من سكن الدير من أهله وقبيلته ثم إنهم ساروا طالبين الإسكندرية وهم سائقون الأسرى من القبط بين أيديهم‏.‏

قال وكان الملك أرسطوليس لما سمع بأن العرب قد أتوه أخرج عسكره وضرب خيامه خارج باب السدرة‏.‏
قال فلما قدم المسلمون وقع الصايح بقدومهم ووقع الخوف في قلب الملك وعسكره وقالوا له‏:‏ أيها الملك ما الذي تدبر في أمر هؤلاء العرب قال‏:‏ وما عسى أن أدبر والخوف قد ملأ قلوبكم وهم طمعوا فيكم ورأوا أنكم تنهزمون ولا تخافون العار وإذا قاتلتموهم كانت قلوبكم متفرقة وأهواؤكم غير متفقة وقد أسروا رجالًا ولم يرهبوا قتالكم ولا مانع يمنعهم ولو أن أصحابهم الذين أرسلتهم إلى دير الزجاج عندي لكنت صالحتهم بإطلاقهم ودفعناهم عنا وقد فرطنا أيضًا في الألفين الذين أرسلتهم معهم فلو كانوا فينا لقاتلوا معنا‏.‏
فقال له وزيره‏:‏ أيها الملك هل لك أن ترسل إليهم وتتحدث معهم في أمر الصلح ونحن نسلم إليهم أصحابهم‏.‏

فقال‏:‏ إنهم لن يقبلوا منكم رسولًا منذ صبأنا عليهم ببحر الحصى فبينما هم في ذلك وإذا بصاحب البحر قد أتى إليه وهو الموكل بالنار وأخبره أنه رأى مركبًا قد ظهر من قبل الغرب ولا أعلم من أين أتى‏.‏
فقال‏:‏ لا شك أنه من صاحب برقة الملك كيماويل وقد أنجدنا فأقبل المركب ورمى مراسيه ونزل منه شيخ مهيب مليح الشيبة ظاهر الهيبة وعليه ثياب من الصوف الأسود ونزل معه عشرون شخصًا من القسوس والرهبان فلما نزلوا إلى البر جاءتهم الخيول بالمراكب المذهبة والغلمان والحجاب وعظموا شأنهم وأركبوهم وساروا بين أيديهم إلى أن أوصلوهم إلى الملك وأدخلوهم عليه فقام لهم وعظم شأنهم وأجلس ذلك الشيخ معه على السرير‏.‏

قال الراوي‏:‏ وكان أرسطوليس قد أرسل هدية إلى الملك صاحب برقة وأرسل إليه يعلمه بما فعله العرب في مدة قيصر وأنهم قد أتونا ومن جملة ما أرسل له يقول‏:‏ أيها الملك اعلم أن الدنيا دار زوال وانتقال فما وهبت إلا واستردت ولا فرحت إلا وأحزنت فالمغرور من تشبث بذيلها واطمأن إليها والسعيد من لبس ثياب الحذر منها وعمل لدار المقر أما ترى أيها الملك إلى هرقل هلك الشام كيف هرب وزال ملكه‏.‏

وذلك عندما رمته الدنيا بمصائبها وشتتته بسهام نكائبها بعدما كانت في وجهه مشرقة ولا يخطر له هم الأعداء على بال وما ضربت لك هذا المثال إلا لعلمي أن الدنيا لا تبقى على حال وهؤلاء العرب قد استولوا على البلاد وأذلوا بسيوفهم العباد وقد أقاموا لهم شرعًا بالسيوف الحداد وقد ملحوا القياصرة وقد جاءنا طائفة إلينا وأخذوا مصر منا وأخذوا ملكنا وحكموا على بلادنا بعدنا ولا بد لهم منك ولا غنى لهم عنك والصواب أن تشمر لهم عن الهمم وتنجدنا على من بغى وأجرم فنحن جيرانك وكلنا جندك وأعوانك والسلام‏.‏


قال الواقدي‏:‏ فلما وصلت الهدية والكتاب عنده على أرباب دولته وقال لهم‏:‏ ما ترون فيما كاتبكم به صاحب مصر والإسكندرية فقالوا له‏:‏ أيها الملك ما زالت الملوك يستنصر بعضها ببعض والذي أشار إليه هو الحق وأن العرب إذا ملكت ملك القبط فلا بد لهم منا والعبور إلى بلادنا فابعث إليه بنجدة ونكون نحن وهو يدًا واحدة فالمسيح يعطي النصر لمن يشاء فأجابه إلى ذلك وأمر ابن أخيه أسطفانوس أن يمضي في أربعة آلاف وأمره أن يسير لمعاونة صاحب إسكندرية ثم إنه أرسل خادمه إلى عالم أرضهم والمشار إليه في علم النصرانية وهو البترك واسمه سطيس وكان عمره مائة وعشرين سنة وكان تلميذ زيروسا وزيروسا تلميذ مرقس ومرقس تلميذ يوحنا ويوحنا أحد حواري عيسى المسيح وكان هذا البترك سطيس مؤمنًا بالله وموحدًا وسمع بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وهو مؤمن من قبل مبعثه وظهوره حتى بلغته أخباره صلى الله عليه وسلم وأنه مات فبكى لموته ولزم زاوية الحزن ولم يظهر خبره لأحد مدة من الزمان وقد بنى له صومعة وانفرد بها وجعلها على قارعة الطريق فما مرت به قافلة إلا واستخبرها عنه ويسأل عمن جلس بعده للمسلمين خليفة‏.‏


فقالوا‏:‏ أبو بكر الصديق وبلغه موته وولاية عمر ثم بلغه فتوح الشام وقدوم الصحابة إلى مصر وفتحها فلما أرسل صاحب مصر يستنجد صاحب برقة وأرسل أخاه أرسل هذا البترك في مركب يبشره بقدوم أسطفانوس إلى نصرته فلما وصل إليه وبشره فرح بذلك وقال‏:‏ يا أبانا أريد من أنعامك أن تسير إلى هؤلاء العرب وتختبر دينهم ونبيهم وتدعوهم إلى الصلح وتعلمهم أن في أيدينا جماعة منهم أخذناهم من ساحل الرملة وقد أنفذت بهم إلى دير الزجاج فإن أرادوا أصحابهم أطلقناهم لهم ونعطيهم شيئًا من مالنا واعقد لنا لهم الصلح بأنهم لا يرجعون إلينا ولا يتعرضون لنا‏.‏
فقال البترك‏:‏ سأفعل ذلك وإني قد قرأت في الكتب السالفة فوجدت فيها أن الله يبعث نبيًا من أرض تهامة تعرض عليه مفاتيح الأرض وكنوزها فلا يلتفت إليها ولا يعيرها نظره ولا يختار إلا الفقر على الغنى وأن أصحابه يتبعون سنته وأنا أستخبر حالهم قبل سيري إليهم‏.‏

فقال الملك‏:‏ وكيف تستخبر حالهم يا أبانا‏.‏
قال‏:‏ أيها الملك أرسل بغلة من مراكبك وعليها مركب من ذهب وهو مرضع بالمعادن وتأمر غلمانك أن يسيروا بها ويرسلوها نحو عسكر المسلمين فإن أخذوها فنعلم أنهم يحبون الدنيا ولا يريدون الآخرة وإن ردوها فنعلم أنهم يطلبون ما عند الله‏.‏

فقال ففعلوا ذلك وأرسلوها كانوا في حندس النيل وكان في الحرس شرحبيل بن حسنة فلما رأى البغلة وما عليها من الزينة ضحك وقال‏:‏ إن أعداء الله يريدون اختبارنا ومعرفة أحوالنا إن كنا نطلب الدنيا أو الآخرة فوالله ما منا من يميل إلى ما يفنى وإنما بغيتنا فيما يبقى ثم قرأ ‏{‏إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرًا ثم يكون حطامًا وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ثم أمسك بعنان البغلة وأطلقها نحو عسكر القبط‏.


قال فلما رأوها صلبوا على وجوههم وقال الملك‏:‏ والله بهذا نصروا وخذلنا الله إن أبي كان على بصيرة من أمرهم ثم أمر البترك وسطيس أن يتوجه إليهم فمضى فلما قرب منهم رأى أقوامًا قد هجروا الدنيا فمنهم القارئ ومنهم الذاكر لباسهم الصوف صغيرهم يوقر كبيرهم وكبيرهم يرحم صغيرهم وصوت أحدهم لا يعلو على الآخر الذكر كلامهم والقرآن شعارهم والتقوى لباسهم والخوف من الله أنيسهم فلما دخل على عسكرهم سأل عن أميرهم وصاحبهم فدلوه على موضع خالد فقصده فلما وصل إليه وجده في ذكر الدين والقيامة فنزل عن بغلته ووقف أمامه وأومأ إليه بالسجود فمنعه خالد‏.‏
فقال له‏:‏ أنت أمير هؤلاء القوم قال‏:‏ كذا يزعمون أني أميرهم ما دمت على الحق واتباع العدل والإنصاف والخوف من الله محسنًا للمحسنين منهم مشدادًا على المسيئين منهم فمتى حدت عن هذه الأشياء فلا إمارة لي عليهم‏.‏

فقال البترك‏:‏ أنتم والله القوم الذين بشر بكم عيسى ابن البتول وإن الحق معكم لا يفارقكم قال‏:‏ فأمره خالد بالجلوس فجلس وقال‏:‏ يا معاشر العرب أخبروني عن نبيكم‏.‏

فقال خالد‏:‏ إن الله اختار من ولد آدم العرب واختار من العرب مضر وأختار من مضر كنانة واختار من كنانة قريشًا واختار من قريش بني هاشم واختار من بني هاشم عبد المطلب واختار من عبد المطلب عبد الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين‏)‏ وقال‏:‏ لما خلق الله العرش كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فلما وقع آدم في الزلة رأى على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله‏.‏
فقال‏:‏ يا رب من هذا‏.‏
قال‏:‏ ولدك يا آدم الذي لولاه مما خلقتك‏.‏
قال‏:‏ يا رب فبرحمه هذا الولد ارحم هذا الوالد‏.‏
فقال‏:‏ يا آدم لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السموات والأرضين لشفعناك ثم إن الله جعل اسمه مقرونًا باسمه وذكره مع ذكره ووسمه بما وسم به نفسه‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏إن الله بالناس لرؤوف رحيم‏}‏ ‏[‏البقرة 143‏]‏ وقال في حقه‏:‏ ‏{‏بالمؤمنين رؤوف رحيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏}‏ ‏[‏النساء‏]‏‏:‏ 0 وقال‏:‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب 6‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وإن الله عز وجل رفع ذكره وعظم فخره وأعز قدره فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ورفعنا لك ذكرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وهذا غاية الشرف والتعظيم والتبجيل والتكريم وقال‏:‏ يا محمد لا أذكر حتى تذكر فمن أحبك فقد أحبني ومن سبك فقد سبني ومن جحدك فقد جحدني ومن أنكر نبوتك فما عرفني وها أنا أشهد على نبوتك‏.‏
فقال عز من قائل‏:‏ ‏{‏ويقول الذين كفروا لست مرسلًا قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وقال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏وكفى بالله شهيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ محمد رسول الله قال‏:‏ فلما سمع البترك ذلك من خالد فرح وقال‏:‏ لقد نجا من اتبعه وخسر من فارقه ثم جدد إسلامه على يد خالد وحدثهم بأمره من أوله إلى آخره ثم حذرهم من أخي صاحب برقة وأنه واصل ومعه أربعة آلاف فارس وإني قد سبقته في البحر وهذا الملك القبطي يريد صلحكم ويقرر لكم على أنكم تصالحونه أن يعطيكم شيئًا من المال ولسلم إليكم قومًا من أصحابكم قد أخذوهم من ساحل الرملة‏.‏

فقال خالد‏:‏ إن أصحابنا قد فك الله أسرهم وجمع بنا شملهم وقد نصرنا الله على القبط الألفين الذين كانوا مع الأسارى فإننا أخذنا ألفًا وثلثمائة أسير وقتلنا سبعمائة ثم إنه عرضهم عليه وعرض الإسلام عليهم فأبى أكثرهم وأسلم بعضهم فأمر خالد بضرب رقابهم بين العسكرين ثم أن البترك عاد إلى صاحب إسكندرية وقال له‏.‏

هؤلاء لا نملك غرتهم لأنهم حذرون من أعدائهم وعرفه بقصة أصحابه وأنهم هؤلاء الذين ضربوا رقابهم قبالك فقال له‏:‏ يا أبانا ومن أين هؤلاء قال‏:‏ قد وقعوا بهما وخلصوا أصحابهم وأسروا من أصحابك ألفًا وثلثمائة وقتلوا سبعمائة‏.‏

قال‏:‏ فلما سمع ابن المقوقس ذلك سقط في يده وأيقن بإتلاف ملكه وقال لأرباب دولته وعسكره‏:‏ خذوا أهبتكم للقتال وكأنكم بعسكر الملك كيماويل صاحب برقة وقد أقبل عليكم ونقاتل هؤلاء العرب بقلوب قوية وأسرار نقية ويعطي الله النصر لمن يشاء وباتوا وهم معولون على القتال‏.‏


قال ابن إسحق‏:‏ ولقد بلغني أن الملك نام بقية ليلته فرأى في منامه كأن شخصًا أشقر عريض الصدر كأنه قد خرج من حمام ومعه شخص آخر مليح الوجه حسن الخلق وسيم قسيم في عينيه دعج وله نور يسطع كأنه قمر‏.‏
فقال أبن المقوقس للأشقر‏:‏ من أنت قال‏:‏ ابن العذراء البتول أنا المسيح ابن مريم وهذا الذي بشرت به من قبل مبعثه هذا محمد رسول الله العربي الأمي من آمن به فقد اهتدى ومن جحد نبوته فقد اعتدى وقد جئنا لنصرة أصحابه ومقامنا على قال ابن إسحق‏:‏ ولقد بلغني أن برج القبة مما يلي باب البحر وذلك أن الإسكندر لما بنى الإسكندرية وسماها باسمه كان الخضر وزيره وهو الذي بنى الباب الأخضر وصنع تلك القبة باسمه ورسمه وكان يأوي إليها فصار ذلك الباب مشتهرًا به إلى يومنا هذا‏.‏
قال‏:‏ ثم إن عيسى عليه السلام قال للملك في نومه‏:‏ إن كنت من أمتي فاتبع شريعة هذا النبي وذهب عنه فلما أصبح حدث أرباب دولته بما رأى في نومه فقالوا‏:‏ أيها الملك هذه أضغاث أحلام وما كان عيسى المسيح يماشي العربي وهو عدوه وإنما الشيطان قد خيل لك ذلك فلا تلتفت إليه قال‏:‏ فأصغى الملك إلى كلامهم ثم إنه أمر عسكره بالقتال فركبوا وصافوا المسلمين‏.‏
وأما الملك فإنه نظر إلى برج القبة وإذا بالقبة يسطع منها نور فدخل الوهم في قلبه مما رأى في منامه وقال‏:‏ الله ما هذا النور إلا نور المسيح ومحمد وإن هذا هو الحق لا شك فيه‏.‏

حدثنا ابن إسحق حدثنا عامر بن بشر عن الأحوص قال‏:‏ كنت في خيل خالد بن الوليد يوم قتالنا على إسكندرية قال لما وقفنا في ميدان الحرب وقف يقاتلنا فارس وهو بطريق عظيم الخلقة وعليه لبس يلمع وتحته جواده عربي فنادانا بالعربية بلسان فصيح وقال‏:‏ يا عرب انصرفوا عنا فإن لا نريد حربكم وقد ملكتم منا مصر والصعيد وأكثر الريف وقد بقي في أيدينا هذه الجهة وما نحن منازعونكم فيما أخذتموه منا ونحن لا نقلدكم في البغي ونصالحكم صلحًا نعود منه عن ظلم أنفسنا ونعدل في رعيتنا وإن أبيتم صلحنا لقيناكم بأسرار نقية وقلوب للجهاد قوية فنردكم على أعقابكم منهزمين وفي أذيال الذل متعثرين لأنه ما عدا أحد على أهل هذا الدين إلا ذل وانهزم لأننا قوم لنا الكنائس الأربع والصوامع والبيع والقسوس والرهبان والمذابح والقربان والإنجيل والصلبان ثم سكت عن كلامه‏.‏

قال الراوي‏:‏ وكان هو الملك ابن المقوقس فكان أول من بادر إلى رد جوابه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ لقد افتخرت بما يؤدي صاحبه إلى البوار ويعقبه سوء الدار يا ويلكم أفتفتخرون علينا بالشرك والطغيان وعبادة الصلبان والكفر بالرحمن ونحن أولوا التقى والإيمان والفوز والرضوان والقبلة والقرآن والحج والإحرام والصلاة والصيام والاجتهاد والاحترام ديننا أفضل الأديان ونبينا المبعوث بالمعجزات والبيان وبالآيات والبرهان والمنزل عليه القرآن ومن اتبعه نال من ربه الغفران ومن جحد صحبته باء بغضب الملك الديان الذي كان ولا مكان ولا دهر ولا زمان ولا وقت ولا أوان شهد لنفسه بالربوبية ولصفاته بالأزلية ولذاته بالأحدية ولملكه بالأبدية سلطانه قاهر وكرمه ظاهر وتدبيره محكم وقضاؤه مبرم وعرشه رفيع وصنعه بديع وليس بوالد ولا مولود ولا لذاته حد محدود ولا لبقائه أجل معدود خضعت الأعناق لعظمته وخشعت الأصوات لهيبته وعنت الوجوه لعزته وذلت الأقوياء لقوته لا يحصى نواله ولا يفنى كماله ولا تبيد نعمه وأفضاله يا ويلكم كيف طال لكم الكفر بإلهيته والإشراك بربوبيته وأن تجعلوا له ولدًا من خلقه وبريته وتسجدون للصلبان في دار مملكته ولا تفزعون من عظمته ثم إنه قرأ

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19 - ا2‏]‏‏.‏

ثم قال شرحبيل‏:‏ إن عبادًا لو أقسموا على الله أن يدكدك لهم هذا السور لفعل وكانت إشارتهإ لى سور المدينة فغار السور في الأرض وبانت المنازل والدور‏.‏

قال فارتعدت فرائص الملك لما عاينا ذلك من عظيم القدرة فلوى عنان جواده إلى عسكره وأفئدتهم قد طارت وأفكار القبط قد حارت فلما جن الليل أخذ الملك خزائنه وأمواله وحريمه وعياله وركب في المراكب وسار يريد جزيرة أقريطش فلما أصبح الصباح وقع الصايح بالمدينة بأن الملك قد انهزم فاجتمع الأكابر وقالوا‏:‏ إن الملك قد انهزم وما لنا‏:‏ من يدفع هؤلاء العرب‏.‏

قال فخرجوا بأجمعهم إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقفوا بين يدي خالد وقالوا‏:‏ إن الله قد نصركم بحق وأيدكم بصدق وإنا نريد منكم أن تعاملونا بالنصفة وتنظروا إلينا بعين الرحمة والعدل سنة من كان قبلنا معكم من الروم فقال خالد‏:‏ ما فعل ملككم‏.‏
قالوا‏:‏ انهزم بأهله وماله في البحر‏.‏
فقال قوم‏:‏ قد أسكن الله الرحمة في قلوبنا وبصرنا بمعالم ديننا وأظهرنا على أعدائنا وفضلنا على سائر من كان قبلنا من الأجناس‏.‏
فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏‏.‏ ونحن نجريكم على أحسن عوائدنا مع سائر من فتحنا بلادهم وقد أمسكنا عنكم ولو أردنا أن نملك البلد بالسيف لهان علينا ولكن خير الناس من قدر وعفا ونريد منكم مائة ألف مثقال ذهبًا صلحًا عن أنفسكم وأهاليكم وندعوكم بعد ذلك إلى الإسلام فمن أجاب منكم كان له ما لنا وعليه ما علينا ومن عدل عن ذلك أخذنا منه الجزية عن السنة الآتية من كل رجل وغلام بلغ الحلم أربع دنانير ونشرط عليكم شروطًا أن لا تركبوا دابة ولا تعلوا دوركم على دور المسلمين ولا ترفعوا أصواتكم عليهم ولا اتبنوا كنيس ولا صومعة ولا ديرًا ولا تجددوا ما دثر وتلقوا المسلمين بالذل والانكسار وتسارعوا في قضاء حوائجهم وما يريدون في إصلاح شأنهم لا تعدلوا عن تعظيم أشكاله ومن أذنب منكم ذنبًا حددناه ومن ارتد عن قولنا قتلناه وأن تشدوا الدنانير على حضوركم إظهارًا لدينكم وأن لا تظهروا ناقوسًا ولا صليبًا ولو آمنتم بالله ورسوله لكان خيرًا لكم‏.‏
فقالوا‏:‏ أيها الأمير ما نترك ديننا فقرأ ‏{‏وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلًا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 21 - 24‏]‏ فقالوا‏:‏ أيها الأمير نريد أن تولي علينا رجلًا منا حتى جمع المال الذي تقرر علينا فيلمه بالعدل وليكن معه رجل منكم من أصحابكم فقال خالد‏:‏ إني لا أعرف أحدًا من أجاويدكم فاختاروا لأنفسكم برضاكم من أوليه عليكم فأشاروا إلى رجل منهم اسمه شيعا بن شامس وكان مقدمًا في القبط فولاه خالد على جمع المال ورجاسة البلد وندب معه قيس بن سعد وأوصاهم وقال‏:‏ خذوا من كل واحد ما يحتمل حاله من كان معسرًا ضعيفًا فدعوه وأحسنوا إن الله يحب المحسنين‏.‏
ولا تظلموا يتيمًا ولا فقيرًا ولا أرملة فتعجب القبط من حسن وصيته وكلامه فدخل القوم واجتمعوا في دار الأمارة وبعث شيعًا غلمانه يجمعون الناس‏.‏
قال‏:‏ حدثنا جرير بن عاصم عن نعيم بن موسى الداراتي عن سليمان بن عوف عن جده مازن بن سعيد‏.‏
قال‏:‏ وقع القسط على أهل إسكندرية فكان أكبرهم في الحشمة وأغزرهم في المال يزن عشرة قراريط وأسطهم حالًا يزن قيراطين ولقد أتى برجل من أغنيائهم اسمه براس لا يدري من يملك المال والدبش والغنم وكان أبخل أهل زمانه فقال له شيعًا‏:‏ قد وجب عليك في هذا المال دينار قال‏:‏ وحق المسيح ما أنا بالذي يؤذيه ولو مت إن تصدقت به كان أفضل من عطيتي للعرب‏.‏

فقال له قيس بن سعد‏:‏ إن في الذي نأخذه منكم صونًا لأنفسكم وحفظًا لدمائكم ونحن ما نأخذه على وجه الصدقة منكم بل نأخذه حلالًا لا حرامًا يا ويلك لو دخلنا مدينتكم بالسيف ألست كنت أنت أول من قتل ومالك أول ما نهب‏.‏

وقال لشيعًا‏:‏ خذلك الله ولعنك كل من في إسكندربة يعلم أنك كنت أولًا فقيرًا لا تقدر على شيء من أمور الدنيا وقد آتاك الله من فضله ووسع عليك رزقه‏.‏
فقال‏:‏ ألست ورثته عن آباء كرام وأجداد عظام وما لله علي من فضل‏.‏
قال فغضب لمجس وقام إليه وقمعه بمقرعة كانت معه وقال له‏:‏ كذبت يا عدو الله ورسوله الفضل والحمد والمنة لله لأنه رزقنا من فضله وأسبغ علينا من نعمه ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏ ثم قال قيس‏:‏ اللهم إنه جحد نعمتك فأزلها عنه‏.‏
قال‏:‏ فوالله ما مضى يومه حتى جاء الخبر بأن أغنامه قد هلكت جميعًا وبساتينه يبست ودياره قد تهدمت وأمواله ذهبت‏.‏

قال قيس‏:‏ الله أكبر هذا والله حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة بجانبي‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏إن ثلاثة من بني إسرائيل كان أحدهم أبرص والآخر أقرع والآخر أعمى‏.‏ فبعث الله إليهم ملكًا فأتى الأبرص فقال له‏:‏ أي شيء أحب إليك فقال‏:‏ الجلد الحسن والإبل فأتى الأقرع فقال له‏:‏ أفي شيء أحب إليك‏.‏
قال‏:‏ الشعر الحسن والغنم وأتى الثالث فقال له‏:‏ أي شيء أحب إليك فقال‏:‏ النظر والبقر‏.‏قال‏:‏ ثم إن الملك مسح بيده على جلد الأبرص فعاد أحسن جلدًا وأعطاه ناقة عشراء فبارك الله له فيها حتى ضاقت بإبله الديار وأما الأقرع فأتاه ومسح يده على رأسه فأنبت الله له شعرًا حسنًا وأعطاه نعجة عشراء فتوالدت إلى أن ضاقت بها تلك الديار‏.‏ثم أتى الأعمى ومسح بيده على عينيه فعادتا أحسن عينين وأعطاه بقرة عشراء فتوالدت إلى أن ضاقت بها تلك الديار‏.‏قال‏:‏ ثم أتاهم ليمتحنهم فأتى للأبرص‏.‏فقال له‏:‏ كنت أبرص فقيرًا لا تملك شيئًا فأعطني مما أتاك الله من هذه الإبل ناقة أتسبب عليها فقال له‏:‏ ما كنت فقيرًا ولا أبرص وإنما ورثت هذا المال من آبائي‏.‏قال فذهب إلى الأقرع وقال له مثل ما قال للأبرص فقال مثل ما قال للأبرص فذهب إلى لثالث وقال له مثل ما قال لصاحبيه‏.‏فأجاب وقال‏:‏ بسم الله والله لقد صدقت‏.‏فاذهب إلى هذا البقر فاقسمها بيني وبينك فقال له‏:‏ بارك الله لك في مالك وقد رد الله صاحبيك كما كانا فإنهما كفرا نعمة الله‏)‏‏.‏
قال الراوي‏:‏ وجعلوا المال ومضوا به إلى خالد وبنى فيها المساجد وأخذ كنيستهم العظمى فجعلها جامعًا وترك لهم أربع كنائس وكتب إلى عمرو بن العاص يعلمه بفتح إسكندرية ففرح وركب وترك موضعه أبا ذر الغفاري وذهب إلى الإسكندرية وبنى فيها جامعًا في الربض وهو معروف بجامع عمرو إلى يومنا هذا‏.‏


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: فتح مصر
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت ديسمبر 22, 2007 3:34 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
فتح مصر


فتوح إسكندرية
قال‏:‏ وعول خالد على المسير إلى إسكندرية‏.‏

حدثنا زياد بن أوس الطائي عن معمر بن الرشيد قال‏:‏ لما نزل خالد بعد رحيله عن مريوط قال له عيونه‏:‏ إنه لما انهزم ابن المقوقس وأتى إلى إسكندرية وبلغه فتح مصر صعب عليه قال‏:‏ وكانت إسكندرية عامرة كان فيها الخلق كثيرًا والمراكب فأرسل مراكب وعمرها بالرجال وأمرهم أن يكبسوا سواحل بلاد الشام على المسلمين فقالوا‏:‏ سمعًا وطاعة ومضوا إلى ساحل الرملة فوجدوا بالليل نيرانًا كثيرة فسألوا من كان خبيرًا بالبلاد فقالوا‏:‏ هذه نيران المسلمين النازلين ههنا فقالوا‏:‏ هذه حاجتنا التي جئنا في طلبها فنزلوا وقصدوها وإذا بها حلل من حلل دوس بني عم أبي هريرة وكان معهم طائفة من بجيلة وفي جملتهم ضرار بن الأزور وهو مريض وأخته خولة معه تمرضه وكان أبو عبيدة أمرهم بالنزول هناك لأجل كثرة المرعى وهم آمنون مطمئنون من الروم وغيرهم لأن دولة الروم قد انصرمت وأيامهم قد ولت فما فطن القوم إلا وقد كبسهم القبط في حندس الليل ووضعوا فيهم السيف فقتلوا منهم رجالًا وأخذوا منهم أسارى ومن جملتهم ضرار وأخته وأخذوا ما قشروا على حمله وأتوا بهم المراكب وكان جملة من أسروه من الرجال والنساء والأولاد والعبيد ألف قال ابن إسحق‏:‏ وكان أبو عبيدة قد استوطن طبرية لكونها في وسط البلاد وهي قريبة من الأردن والشام والسواحل وإن أبا هريرة قد أتى ليزور قومه في تلك الأيام وشمال عن حال ضرار وكانوا يحبونه لشجاعته فأتى أبو هريرة ومعه حليف له من بني بجيلة فأصبحا تلك الليلة في الحي وإذا بهم قد أخذهم القبض وبيوتهم مطروحة والرجال مقتولة وآثارهم منبوذة ووجدوا من الذين انهزموا أناسًا مجروحين فسألوهم فقالوا‏:‏ ما عندنا خبر حتى كبسنا قوم نصارى وما نعلم من أي الطوائف هم ولم نفق حتى وقعوا فينا بالسيوف فقتلوا ما ترون وأسروا الباقين وأخذوهم في مراكبهم‏.‏

فقال أبو هريرة‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وساروا إلى ساحل البحر فلم يروا لهم أثرًا فلما عولوا على الرجوع إذا بلوح من ألواح المراكب تلعب به الأمواج وعليه شخص فوقفوا له حتى أقبل وخرج الرجل وإذا به أمير دوس وحيان ابن عم أبي هريرة فلما رآه ترجل له وعانقه وهنأه بالسلامة وقال له‏:‏ يا ابن عم ما وراءك فقال‏:‏ هجم العدو علينا ليلًا وأسرونا وساروا فلما توسطنا البحر بعث الله بريح لغرقت مركبنا وقد نجاني الله على هذا اللوح‏.‏
فقال له‏:‏ ومن أعداؤكم‏.‏
قال‏:‏ من قبط مصر وإني سمعتهم يذكرون إسكندرية كثيرًا‏.‏
قال‏:‏ فرجع أبو هريرة يطلب طبرية وأتى ابن عمه إلى مكان الحلة حتى يلم شعث الناس ويداوي المجروحين فجمع ما تركوه وأتى بهم إلى الرملة‏.‏

وأما أبو هريرة فأتى أبا عبيدة وأخبره بما جرى فاسترجع وبكى وقال‏:‏ أعوذ بالله من الساعات الرديئة ثم قال‏:‏ والله لئن وصلوا إلى إسكندرية ما يبقيهم صاحبها طرفة عين ويموت ضرار ويمضي دمه هدرًا وكتب إلى عمرو بن العاص يعلمه بذلك ويحذره من صاحب الإسكندرية وأنه أسر ألفًا ومائة من جملتهم ضرار وأخته وكانت تداويه وهي عنده فإذا وصل إليك كتابي هذا فاجتهد في خلاصهم وإن وقع في أيديكم أحد من القبط ففادوهم به ودفع الكتاب لزيد الخيل وأمره أن يسير إلى مصر فلما قدم زيد الخيل إلى مصر دفع الكتاب لعمرو بن العاص فلما قرأه صعب عليه وكان يحب ضرارًا فأرسل الكتاب إلى خالد بن الوليد وكتب إليه يحثه بالمسير إلى الإسكندرية وأنه يفتقد حال الأسرى فلما وصل الكتاب إلى خالد وقرأه صعب عليه أمر ضرار وأخته خولة‏.


حدثنا ابن إسحق قال‏:‏ حدثنا عاصم بن منصور عن أحمد المروزي عن سلمة عن عبد الله بن المبارك عن عبد العزيز عن أبيه‏.‏

قال‏:‏ لما أخذت النصارى حلل دوس وضرارًا وأخته وعصفت عليهم الريح وغرق أحد المراكب ووصل الباقي إلى إسكندرية أوقفوهم أمام ابن المقوقس فأراد قتلهم فقال له أرباب دولته‏:‏ أيها الملك لا تعجل عليهم واعلم أن العرب متوجهة إلي ولا بد لنا من قتالهم فإن أسر أحد منا ممن يعز عليك يكون عندنا من نفادي به ولعل أن نصالح العرب فاستصوب رأيهم وقال‏:‏ ادفعوا هؤلاء الأسرى إلى دير الزجاج وأرسل معهم ألفي فارس يوصلونهم إلى الدير فجاءت عيون خالد وأخبروه بما وقع فقام وأخذ معه أصحابه وسار يطلب دير الزجاج فوصل خالد إلى الدير قبل وصول الأسارى ومن معهم فلما أحدقوا بالدير أشرف عليهم راهب كبير السن وكان اسمه فباحًا وكان تلميذًا لبحيرا راهب بصرى وكان مؤمنًا بالله وبأنبيائه‏.‏
فقال له خالد‏:‏ يا راهب كيف ترى الدنيا‏.‏
قال‏:‏ تنحف البدن وتجدد الأمل وتقرب المنية وتقطع الأمنية‏.‏
قال‏:‏ فما حال أهلها‏.‏
قال‏:‏ من نال منها شيئًا نفضته ومن فاته منها شيء حسرته‏.‏
قال‏:‏ فما خير الأصحاب فيها‏.‏
قال‏:‏ العمل الصالح والتقي‏.‏
قال‏:‏ فما شر الأصحاب فيها‏.‏
قال‏:‏ اتباع النفس والهوى‏.‏
قال خالد‏:‏ صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ ‏(‏الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ كيف طابت لك الوحدة‏.‏
قال‏:‏ ألفتها‏.‏
قال‏:‏ فهل نلت منها فائدة‏.‏
قال‏:‏ نعم الراحة من مداراة الناس‏.‏
قال‏:‏ فما أحسن هذا الاعتقاد لو كان في دين الإسلام والتوحيد قال فما أعرف غيره‏.‏
قال‏:‏ فما تقول في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ سيد الرسل وخاتم الأنبياء وصفي الأصفياء وحجة الجبار على الورى‏.‏
قال‏:‏ فلم لا تكون في بلاد الإسلام فهي أصلح لك من ههنا قال‏:‏ قلبي ملوث بحب الدنيا‏.‏
قال خالد‏:‏ أعندك خبر بالعرب الأسرى الذين أرسلهم الملك هنا‏.‏
قال‏:‏ لا والله ولكن مر بي البارحة بطريق وأسقف واستقيا ماء من بئر هذا الدير فسألتهما من أين أتيتما‏.‏
فقالا‏:‏ من الإسكندرية وإننا رسل الملك كيماويل صاحب أرض برقة وأنه أرسلنا إلى ملك القبط يسأله أن يرسل له أسرى من عرب المسلمين حتى يراهم ويسمع كلامهم فأجاب أنه يرسل منهم جماعة وإذا ماضون نعلم صاحب برقة بذلك‏.‏
فقال لخالد‏:‏ لعلكم من المسلمين الذين فتحوا بلاد الشام قال خالد‏:‏ نحن هم‏.‏
فقال الراهب‏:‏ إن أخباركم عندي في كل وقت وأعلمك أني رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وهو في قافلة قريش وأنا عند بحيرا فلما مات بحيرا انتقلنا إلى هذا الدير واعلموا أنه ما بقي من أرض الكنائس ولا بأرض العقبة ولا بأرض الرمادة أحد ولا ديار من راهب ولا قس إلا وقدم لزيارتي ويسألني عنكم وعن نبيكم ويقولون لي‏:‏ أنت كنت على طريقهم ورأيت نبتهم وشرحت لهم دينكم وأوصلتهم إلى ما ظهر من معجزات نبيكم صلى الله عليه وسلم ولقد جرى بيني وبين راهب منهم بالقرب مناظرة وقال لي‏:‏ إن النبي الذي بشر به عيسى المسيح ابن مريم ليس هذا فقلت له‏:‏ بلى هو والله النبي العربي‏.‏
فقال لي‏:‏ إننا سمعنا في العلم أن الرسول الذي يظهر من أرض الحجاز يعرج به إلى السماء وما سمعنا أن هذا عرج به فقلت‏:‏ بلى والله أنا سمعت بأنه عرج به إلى السماء وخاطب العلي الأعلى وأصبح فأعلم بذلك قريشًا ثم قال لخالد‏:‏ اعلم أن في وسط هذا الجبل ديرًا يقال له دير المسيح وقد استوى عليه بطريق ومعه جماعة وهو يقطع الطريق على قوافل العرب وأنه منذ زمان قطع الطريق على قافلة وفيها لشخص من بلادكم وهو مسلم فأخذ القافلة وعزى أهلها وأطلقهم وقبض على ذلك المسلم وأخذ ماله ووضعه عنده في العذاب الشديد والرجل يستجير فلا يجار ويقول له‏:‏ ما أطلقك حتى تكفر بالرحمن وتسجد للصلبان ثم إنه يأتيه بصورة من نحاس وعلى رأسه عمامة سوداء ويقول له هذه صفة نبيكم وينصبه قباله ويصمت فضلة كأسه على رأس هذه الصورة وذلك الرجل يستجير من فعاله‏.‏
قال‏:‏ فلما سمع خالد ذلك أخذ معه شرحبيل بن حسنة وعامر بن ربيعة ويزيد بن أبي سفيان وهاشم بن سعيد والقعقاع ورفاعة وترك بقية العسكر محيطة بالدير ومضوا إلى وسط الجبل فوجدوا الدير فوصلوا إليه وإذا بالبطريق قد أقبل ومعه وحش مذبوح وقد قصد إلى شجرة بالقرب من الدير وتحتها عين فنزل على العين وصاح بغلمانه فأتوا إليه وأضرموا النار وجعلوا يشوون له وهو يأكل ويشرب الخمر وقال لهم‏:‏ هاتوا المحمدي فأتوه برجل قد ركبه الذل وغلبه القهر فلما رآه قال له‏:‏ أنت قد غلبتني بتجلدك على العذاب وحق ديني لا أرفع عنك العقوبة حتى ترجع عن دينك إلى ديني فقال له‏:‏ اصنع ما بدا لك فإني أعلم أن الكل بمشيئة الله وبإرادته وإني صابر على مر البلاء وما أرجع عن دين محمد المصطفى‏.‏
قال فهم أن يقوم إليه يضربه فصاح به خالد بن الوليد وحمل عليه وطعنه فأخرج السنان من ظهره وقتلوا غلمانه وخلصوا المسلم ونزلوا على العين ولم يكن لأهل الدير شرب إلا من تلك العين فأشرف عليهم الرهبان من أهل الدير وقالوا‏:‏ ما نحن أهل سيف حتى نقاتلكم وقد نهاكم نبيكم عن قتل الرهبان فقال خالد‏:‏ سلموا لنا مال هذا البطريق وعياله وأطفاله ونحن نترككم في ديركم ففتحوا لهم وسلموا لهم جميع موجوداته وأخذوا الأسير وساروا وسأله خالد بن الوليد من أين أنت فقال‏:‏ أنا أمية بن حاتم أخو عدي وقد أخذني هذا في أواخر أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإني كنت طالب برقة مع قافلة ومعي بضاعة نأخذها وأخذني وكان أمر الله قدرًا مقدورًا قال‏:‏ فرجعوا عند أصحابهم ولم يأتوا القبط فما لحقوا أن ينزلوا عن خيولهم إلا والراهب صاح وقال لهم‏:‏ استعدوا للقاء عدوكم فإنهم قربوا منكم فتجهزوا للقاء العدو وإذا بهم قد أقبلوا وضجيج الأطفال وبكاء الناس وأنين الرجال وصراخ المأسورات وصياح القبط عليهم يسوقونهم من ورائهم وزئير الفرسان وهفيف الصلبان والعربيات تنادي بالويل والهوان وخولة بنت الأزور على مقدمة الأسارى وهي تقول‏:‏
جل المصاب وزاد الويل و الحرب وكل دمع من الأجفان ينسكب
ومادت الأرض مما قد بليت به حتى توهمت أن الأرض تنقلب
لهفي على بطل قد كان عدتنا فيه العفاف وفيه الدين والأدب
قد كان ناصرنا في وقت شدتنا أعني ضرار الذي للحرب ينتدب
فيه الحمية والإحسان عادته فيه التعصب والإنصاف والحسب
لو كان يقدر أن يرقى مراكبه كان العدو فني والحرب تلتهب
أو كان خالد فينا حاضرًا وطنًا لزال عنا الذي نشكو وننتحب
لو كان يسمع صوتي صاح بي عجلًا مهلًا فقد زال عنك البؤس والعطب

قال‏:‏ فلما سمع خالد نداءها قال‏:‏ لبيك يا بنت الأزور قد جاءك انفرج وذهب عنك الحرج فأطبقوا على القبط فما كان ببعيد حتى قتلوا منهم سبعمائة وأسروا ألفًا وثلثمائة وخلصوا الأسرى وسلموا على ضرار وهنئوه بالسلامة وودعوا الراهب بعدما كتب له خالد كتابًا بأن له من طعام الإسكندرية صاعًا ولكل من سكن الدير من أهله وقبيلته ثم إنهم ساروا طالبين الإسكندرية وهم سائقون الأسرى من القبط بين أيديهم‏.‏

قال وكان الملك أرسطوليس لما سمع بأن العرب قد أتوه أخرج عسكره وضرب خيامه خارج باب السدرة‏.‏
قال فلما قدم المسلمون وقع الصايح بقدومهم ووقع الخوف في قلب الملك وعسكره وقالوا له‏:‏ أيها الملك ما الذي تدبر في أمر هؤلاء العرب قال‏:‏ وما عسى أن أدبر والخوف قد ملأ قلوبكم وهم طمعوا فيكم ورأوا أنكم تنهزمون ولا تخافون العار وإذا قاتلتموهم كانت قلوبكم متفرقة وأهواؤكم غير متفقة وقد أسروا رجالًا ولم يرهبوا قتالكم ولا مانع يمنعهم ولو أن أصحابهم الذين أرسلتهم إلى دير الزجاج عندي لكنت صالحتهم بإطلاقهم ودفعناهم عنا وقد فرطنا أيضًا في الألفين الذين أرسلتهم معهم فلو كانوا فينا لقاتلوا معنا‏.‏
فقال له وزيره‏:‏ أيها الملك هل لك أن ترسل إليهم وتتحدث معهم في أمر الصلح ونحن نسلم إليهم أصحابهم‏.‏

فقال‏:‏ إنهم لن يقبلوا منكم رسولًا منذ صبأنا عليهم ببحر الحصى فبينما هم في ذلك وإذا بصاحب البحر قد أتى إليه وهو الموكل بالنار وأخبره أنه رأى مركبًا قد ظهر من قبل الغرب ولا أعلم من أين أتى‏.‏
فقال‏:‏ لا شك أنه من صاحب برقة الملك كيماويل وقد أنجدنا فأقبل المركب ورمى مراسيه ونزل منه شيخ مهيب مليح الشيبة ظاهر الهيبة وعليه ثياب من الصوف الأسود ونزل معه عشرون شخصًا من القسوس والرهبان فلما نزلوا إلى البر جاءتهم الخيول بالمراكب المذهبة والغلمان والحجاب وعظموا شأنهم وأركبوهم وساروا بين أيديهم إلى أن أوصلوهم إلى الملك وأدخلوهم عليه فقام لهم وعظم شأنهم وأجلس ذلك الشيخ معه على السرير‏.‏

قال الراوي‏:‏ وكان أرسطوليس قد أرسل هدية إلى الملك صاحب برقة وأرسل إليه يعلمه بما فعله العرب في مدة قيصر وأنهم قد أتونا ومن جملة ما أرسل له يقول‏:‏ أيها الملك اعلم أن الدنيا دار زوال وانتقال فما وهبت إلا واستردت ولا فرحت إلا وأحزنت فالمغرور من تشبث بذيلها واطمأن إليها والسعيد من لبس ثياب الحذر منها وعمل لدار المقر أما ترى أيها الملك إلى هرقل هلك الشام كيف هرب وزال ملكه‏.‏

وذلك عندما رمته الدنيا بمصائبها وشتتته بسهام نكائبها بعدما كانت في وجهه مشرقة ولا يخطر له هم الأعداء على بال وما ضربت لك هذا المثال إلا لعلمي أن الدنيا لا تبقى على حال وهؤلاء العرب قد استولوا على البلاد وأذلوا بسيوفهم العباد وقد أقاموا لهم شرعًا بالسيوف الحداد وقد ملحوا القياصرة وقد جاءنا طائفة إلينا وأخذوا مصر منا وأخذوا ملكنا وحكموا على بلادنا بعدنا ولا بد لهم منك ولا غنى لهم عنك والصواب أن تشمر لهم عن الهمم وتنجدنا على من بغى وأجرم فنحن جيرانك وكلنا جندك وأعوانك والسلام‏.‏


قال الواقدي‏:‏ فلما وصلت الهدية والكتاب عنده على أرباب دولته وقال لهم‏:‏ ما ترون فيما كاتبكم به صاحب مصر والإسكندرية فقالوا له‏:‏ أيها الملك ما زالت الملوك يستنصر بعضها ببعض والذي أشار إليه هو الحق وأن العرب إذا ملكت ملك القبط فلا بد لهم منا والعبور إلى بلادنا فابعث إليه بنجدة ونكون نحن وهو يدًا واحدة فالمسيح يعطي النصر لمن يشاء فأجابه إلى ذلك وأمر ابن أخيه أسطفانوس أن يمضي في أربعة آلاف وأمره أن يسير لمعاونة صاحب إسكندرية ثم إنه أرسل خادمه إلى عالم أرضهم والمشار إليه في علم النصرانية وهو البترك واسمه سطيس وكان عمره مائة وعشرين سنة وكان تلميذ زيروسا وزيروسا تلميذ مرقس ومرقس تلميذ يوحنا ويوحنا أحد حواري عيسى المسيح وكان هذا البترك سطيس مؤمنًا بالله وموحدًا وسمع بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وهو مؤمن من قبل مبعثه وظهوره حتى بلغته أخباره صلى الله عليه وسلم وأنه مات فبكى لموته ولزم زاوية الحزن ولم يظهر خبره لأحد مدة من الزمان وقد بنى له صومعة وانفرد بها وجعلها على قارعة الطريق فما مرت به قافلة إلا واستخبرها عنه ويسأل عمن جلس بعده للمسلمين خليفة‏.‏


فقالوا‏:‏ أبو بكر الصديق وبلغه موته وولاية عمر ثم بلغه فتوح الشام وقدوم الصحابة إلى مصر وفتحها فلما أرسل صاحب مصر يستنجد صاحب برقة وأرسل أخاه أرسل هذا البترك في مركب يبشره بقدوم أسطفانوس إلى نصرته فلما وصل إليه وبشره فرح بذلك وقال‏:‏ يا أبانا أريد من أنعامك أن تسير إلى هؤلاء العرب وتختبر دينهم ونبيهم وتدعوهم إلى الصلح وتعلمهم أن في أيدينا جماعة منهم أخذناهم من ساحل الرملة وقد أنفذت بهم إلى دير الزجاج فإن أرادوا أصحابهم أطلقناهم لهم ونعطيهم شيئًا من مالنا واعقد لنا لهم الصلح بأنهم لا يرجعون إلينا ولا يتعرضون لنا‏.‏
فقال البترك‏:‏ سأفعل ذلك وإني قد قرأت في الكتب السالفة فوجدت فيها أن الله يبعث نبيًا من أرض تهامة تعرض عليه مفاتيح الأرض وكنوزها فلا يلتفت إليها ولا يعيرها نظره ولا يختار إلا الفقر على الغنى وأن أصحابه يتبعون سنته وأنا أستخبر حالهم قبل سيري إليهم‏.‏

فقال الملك‏:‏ وكيف تستخبر حالهم يا أبانا‏.‏
قال‏:‏ أيها الملك أرسل بغلة من مراكبك وعليها مركب من ذهب وهو مرضع بالمعادن وتأمر غلمانك أن يسيروا بها ويرسلوها نحو عسكر المسلمين فإن أخذوها فنعلم أنهم يحبون الدنيا ولا يريدون الآخرة وإن ردوها فنعلم أنهم يطلبون ما عند الله‏.‏

فقال ففعلوا ذلك وأرسلوها كانوا في حندس النيل وكان في الحرس شرحبيل بن حسنة فلما رأى البغلة وما عليها من الزينة ضحك وقال‏:‏ إن أعداء الله يريدون اختبارنا ومعرفة أحوالنا إن كنا نطلب الدنيا أو الآخرة فوالله ما منا من يميل إلى ما يفنى وإنما بغيتنا فيما يبقى ثم قرأ ‏{‏إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرًا ثم يكون حطامًا وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ثم أمسك بعنان البغلة وأطلقها نحو عسكر القبط‏.


قال فلما رأوها صلبوا على وجوههم وقال الملك‏:‏ والله بهذا نصروا وخذلنا الله إن أبي كان على بصيرة من أمرهم ثم أمر البترك وسطيس أن يتوجه إليهم فمضى فلما قرب منهم رأى أقوامًا قد هجروا الدنيا فمنهم القارئ ومنهم الذاكر لباسهم الصوف صغيرهم يوقر كبيرهم وكبيرهم يرحم صغيرهم وصوت أحدهم لا يعلو على الآخر الذكر كلامهم والقرآن شعارهم والتقوى لباسهم والخوف من الله أنيسهم فلما دخل على عسكرهم سأل عن أميرهم وصاحبهم فدلوه على موضع خالد فقصده فلما وصل إليه وجده في ذكر الدين والقيامة فنزل عن بغلته ووقف أمامه وأومأ إليه بالسجود فمنعه خالد‏.‏
فقال له‏:‏ أنت أمير هؤلاء القوم قال‏:‏ كذا يزعمون أني أميرهم ما دمت على الحق واتباع العدل والإنصاف والخوف من الله محسنًا للمحسنين منهم مشدادًا على المسيئين منهم فمتى حدت عن هذه الأشياء فلا إمارة لي عليهم‏.‏

فقال البترك‏:‏ أنتم والله القوم الذين بشر بكم عيسى ابن البتول وإن الحق معكم لا يفارقكم قال‏:‏ فأمره خالد بالجلوس فجلس وقال‏:‏ يا معاشر العرب أخبروني عن نبيكم‏.‏

فقال خالد‏:‏ إن الله اختار من ولد آدم العرب واختار من العرب مضر وأختار من مضر كنانة واختار من كنانة قريشًا واختار من قريش بني هاشم واختار من بني هاشم عبد المطلب واختار من عبد المطلب عبد الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين‏)‏ وقال‏:‏ لما خلق الله العرش كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فلما وقع آدم في الزلة رأى على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله‏.‏
فقال‏:‏ يا رب من هذا‏.‏
قال‏:‏ ولدك يا آدم الذي لولاه مما خلقتك‏.‏
قال‏:‏ يا رب فبرحمه هذا الولد ارحم هذا الوالد‏.‏
فقال‏:‏ يا آدم لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السموات والأرضين لشفعناك ثم إن الله جعل اسمه مقرونًا باسمه وذكره مع ذكره ووسمه بما وسم به نفسه‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏إن الله بالناس لرؤوف رحيم‏}‏ ‏[‏البقرة 143‏]‏ وقال في حقه‏:‏ ‏{‏بالمؤمنين رؤوف رحيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏من يطع الرسول فقد أطاع الله‏}‏ ‏[‏النساء‏]‏‏:‏ 0 وقال‏:‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب 6‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وإن الله عز وجل رفع ذكره وعظم فخره وأعز قدره فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ورفعنا لك ذكرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وهذا غاية الشرف والتعظيم والتبجيل والتكريم وقال‏:‏ يا محمد لا أذكر حتى تذكر فمن أحبك فقد أحبني ومن سبك فقد سبني ومن جحدك فقد جحدني ومن أنكر نبوتك فما عرفني وها أنا أشهد على نبوتك‏.‏
فقال عز من قائل‏:‏ ‏{‏ويقول الذين كفروا لست مرسلًا قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وقال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏وكفى بالله شهيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ محمد رسول الله قال‏:‏ فلما سمع البترك ذلك من خالد فرح وقال‏:‏ لقد نجا من اتبعه وخسر من فارقه ثم جدد إسلامه على يد خالد وحدثهم بأمره من أوله إلى آخره ثم حذرهم من أخي صاحب برقة وأنه واصل ومعه أربعة آلاف فارس وإني قد سبقته في البحر وهذا الملك القبطي يريد صلحكم ويقرر لكم على أنكم تصالحونه أن يعطيكم شيئًا من المال ولسلم إليكم قومًا من أصحابكم قد أخذوهم من ساحل الرملة‏.‏

فقال خالد‏:‏ إن أصحابنا قد فك الله أسرهم وجمع بنا شملهم وقد نصرنا الله على القبط الألفين الذين كانوا مع الأسارى فإننا أخذنا ألفًا وثلثمائة أسير وقتلنا سبعمائة ثم إنه عرضهم عليه وعرض الإسلام عليهم فأبى أكثرهم وأسلم بعضهم فأمر خالد بضرب رقابهم بين العسكرين ثم أن البترك عاد إلى صاحب إسكندرية وقال له‏.‏

هؤلاء لا نملك غرتهم لأنهم حذرون من أعدائهم وعرفه بقصة أصحابه وأنهم هؤلاء الذين ضربوا رقابهم قبالك فقال له‏:‏ يا أبانا ومن أين هؤلاء قال‏:‏ قد وقعوا بهما وخلصوا أصحابهم وأسروا من أصحابك ألفًا وثلثمائة وقتلوا سبعمائة‏.‏

قال‏:‏ فلما سمع ابن المقوقس ذلك سقط في يده وأيقن بإتلاف ملكه وقال لأرباب دولته وعسكره‏:‏ خذوا أهبتكم للقتال وكأنكم بعسكر الملك كيماويل صاحب برقة وقد أقبل عليكم ونقاتل هؤلاء العرب بقلوب قوية وأسرار نقية ويعطي الله النصر لمن يشاء وباتوا وهم معولون على القتال‏.‏


قال ابن إسحق‏:‏ ولقد بلغني أن الملك نام بقية ليلته فرأى في منامه كأن شخصًا أشقر عريض الصدر كأنه قد خرج من حمام ومعه شخص آخر مليح الوجه حسن الخلق وسيم قسيم في عينيه دعج وله نور يسطع كأنه قمر‏.‏
فقال أبن المقوقس للأشقر‏:‏ من أنت قال‏:‏ ابن العذراء البتول أنا المسيح ابن مريم وهذا الذي بشرت به من قبل مبعثه هذا محمد رسول الله العربي الأمي من آمن به فقد اهتدى ومن جحد نبوته فقد اعتدى وقد جئنا لنصرة أصحابه ومقامنا على قال ابن إسحق‏:‏ ولقد بلغني أن برج القبة مما يلي باب البحر وذلك أن الإسكندر لما بنى الإسكندرية وسماها باسمه كان الخضر وزيره وهو الذي بنى الباب الأخضر وصنع تلك القبة باسمه ورسمه وكان يأوي إليها فصار ذلك الباب مشتهرًا به إلى يومنا هذا‏.‏
قال‏:‏ ثم إن عيسى عليه السلام قال للملك في نومه‏:‏ إن كنت من أمتي فاتبع شريعة هذا النبي وذهب عنه فلما أصبح حدث أرباب دولته بما رأى في نومه فقالوا‏:‏ أيها الملك هذه أضغاث أحلام وما كان عيسى المسيح يماشي العربي وهو عدوه وإنما الشيطان قد خيل لك ذلك فلا تلتفت إليه قال‏:‏ فأصغى الملك إلى كلامهم ثم إنه أمر عسكره بالقتال فركبوا وصافوا المسلمين‏.‏
وأما الملك فإنه نظر إلى برج القبة وإذا بالقبة يسطع منها نور فدخل الوهم في قلبه مما رأى في منامه وقال‏:‏ الله ما هذا النور إلا نور المسيح ومحمد وإن هذا هو الحق لا شك فيه‏.‏

حدثنا ابن إسحق حدثنا عامر بن بشر عن الأحوص قال‏:‏ كنت في خيل خالد بن الوليد يوم قتالنا على إسكندرية قال لما وقفنا في ميدان الحرب وقف يقاتلنا فارس وهو بطريق عظيم الخلقة وعليه لبس يلمع وتحته جواده عربي فنادانا بالعربية بلسان فصيح وقال‏:‏ يا عرب انصرفوا عنا فإن لا نريد حربكم وقد ملكتم منا مصر والصعيد وأكثر الريف وقد بقي في أيدينا هذه الجهة وما نحن منازعونكم فيما أخذتموه منا ونحن لا نقلدكم في البغي ونصالحكم صلحًا نعود منه عن ظلم أنفسنا ونعدل في رعيتنا وإن أبيتم صلحنا لقيناكم بأسرار نقية وقلوب للجهاد قوية فنردكم على أعقابكم منهزمين وفي أذيال الذل متعثرين لأنه ما عدا أحد على أهل هذا الدين إلا ذل وانهزم لأننا قوم لنا الكنائس الأربع والصوامع والبيع والقسوس والرهبان والمذابح والقربان والإنجيل والصلبان ثم سكت عن كلامه‏.‏

قال الراوي‏:‏ وكان هو الملك ابن المقوقس فكان أول من بادر إلى رد جوابه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ لقد افتخرت بما يؤدي صاحبه إلى البوار ويعقبه سوء الدار يا ويلكم أفتفتخرون علينا بالشرك والطغيان وعبادة الصلبان والكفر بالرحمن ونحن أولوا التقى والإيمان والفوز والرضوان والقبلة والقرآن والحج والإحرام والصلاة والصيام والاجتهاد والاحترام ديننا أفضل الأديان ونبينا المبعوث بالمعجزات والبيان وبالآيات والبرهان والمنزل عليه القرآن ومن اتبعه نال من ربه الغفران ومن جحد صحبته باء بغضب الملك الديان الذي كان ولا مكان ولا دهر ولا زمان ولا وقت ولا أوان شهد لنفسه بالربوبية ولصفاته بالأزلية ولذاته بالأحدية ولملكه بالأبدية سلطانه قاهر وكرمه ظاهر وتدبيره محكم وقضاؤه مبرم وعرشه رفيع وصنعه بديع وليس بوالد ولا مولود ولا لذاته حد محدود ولا لبقائه أجل معدود خضعت الأعناق لعظمته وخشعت الأصوات لهيبته وعنت الوجوه لعزته وذلت الأقوياء لقوته لا يحصى نواله ولا يفنى كماله ولا تبيد نعمه وأفضاله يا ويلكم كيف طال لكم الكفر بإلهيته والإشراك بربوبيته وأن تجعلوا له ولدًا من خلقه وبريته وتسجدون للصلبان في دار مملكته ولا تفزعون من عظمته ثم إنه قرأ

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19 - ا2‏]‏‏.‏

ثم قال شرحبيل‏:‏ إن عبادًا لو أقسموا على الله أن يدكدك لهم هذا السور لفعل وكانت إشارتهإ لى سور المدينة فغار السور في الأرض وبانت المنازل والدور‏.‏

قال فارتعدت فرائص الملك لما عاينا ذلك من عظيم القدرة فلوى عنان جواده إلى عسكره وأفئدتهم قد طارت وأفكار القبط قد حارت فلما جن الليل أخذ الملك خزائنه وأمواله وحريمه وعياله وركب في المراكب وسار يريد جزيرة أقريطش فلما أصبح الصباح وقع الصايح بالمدينة بأن الملك قد انهزم فاجتمع الأكابر وقالوا‏:‏ إن الملك قد انهزم وما لنا‏:‏ من يدفع هؤلاء العرب‏.‏

قال فخرجوا بأجمعهم إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقفوا بين يدي خالد وقالوا‏:‏ إن الله قد نصركم بحق وأيدكم بصدق وإنا نريد منكم أن تعاملونا بالنصفة وتنظروا إلينا بعين الرحمة والعدل سنة من كان قبلنا معكم من الروم فقال خالد‏:‏ ما فعل ملككم‏.‏
قالوا‏:‏ انهزم بأهله وماله في البحر‏.‏
فقال قوم‏:‏ قد أسكن الله الرحمة في قلوبنا وبصرنا بمعالم ديننا وأظهرنا على أعدائنا وفضلنا على سائر من كان قبلنا من الأجناس‏.‏
فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏‏.‏ ونحن نجريكم على أحسن عوائدنا مع سائر من فتحنا بلادهم وقد أمسكنا عنكم ولو أردنا أن نملك البلد بالسيف لهان علينا ولكن خير الناس من قدر وعفا ونريد منكم مائة ألف مثقال ذهبًا صلحًا عن أنفسكم وأهاليكم وندعوكم بعد ذلك إلى الإسلام فمن أجاب منكم كان له ما لنا وعليه ما علينا ومن عدل عن ذلك أخذنا منه الجزية عن السنة الآتية من كل رجل وغلام بلغ الحلم أربع دنانير ونشرط عليكم شروطًا أن لا تركبوا دابة ولا تعلوا دوركم على دور المسلمين ولا ترفعوا أصواتكم عليهم ولا اتبنوا كنيس ولا صومعة ولا ديرًا ولا تجددوا ما دثر وتلقوا المسلمين بالذل والانكسار وتسارعوا في قضاء حوائجهم وما يريدون في إصلاح شأنهم لا تعدلوا عن تعظيم أشكاله ومن أذنب منكم ذنبًا حددناه ومن ارتد عن قولنا قتلناه وأن تشدوا الدنانير على حضوركم إظهارًا لدينكم وأن لا تظهروا ناقوسًا ولا صليبًا ولو آمنتم بالله ورسوله لكان خيرًا لكم‏.‏
فقالوا‏:‏ أيها الأمير ما نترك ديننا فقرأ ‏{‏وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلًا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 21 - 24‏]‏ فقالوا‏:‏ أيها الأمير نريد أن تولي علينا رجلًا منا حتى جمع المال الذي تقرر علينا فيلمه بالعدل وليكن معه رجل منكم من أصحابكم فقال خالد‏:‏ إني لا أعرف أحدًا من أجاويدكم فاختاروا لأنفسكم برضاكم من أوليه عليكم فأشاروا إلى رجل منهم اسمه شيعا بن شامس وكان مقدمًا في القبط فولاه خالد على جمع المال ورجاسة البلد وندب معه قيس بن سعد وأوصاهم وقال‏:‏ خذوا من كل واحد ما يحتمل حاله من كان معسرًا ضعيفًا فدعوه وأحسنوا إن الله يحب المحسنين‏.‏
ولا تظلموا يتيمًا ولا فقيرًا ولا أرملة فتعجب القبط من حسن وصيته وكلامه فدخل القوم واجتمعوا في دار الأمارة وبعث شيعًا غلمانه يجمعون الناس‏.‏
قال‏:‏ حدثنا جرير بن عاصم عن نعيم بن موسى الداراتي عن سليمان بن عوف عن جده مازن بن سعيد‏.‏
قال‏:‏ وقع القسط على أهل إسكندرية فكان أكبرهم في الحشمة وأغزرهم في المال يزن عشرة قراريط وأسطهم حالًا يزن قيراطين ولقد أتى برجل من أغنيائهم اسمه براس لا يدري من يملك المال والدبش والغنم وكان أبخل أهل زمانه فقال له شيعًا‏:‏ قد وجب عليك في هذا المال دينار قال‏:‏ وحق المسيح ما أنا بالذي يؤذيه ولو مت إن تصدقت به كان أفضل من عطيتي للعرب‏.‏

فقال له قيس بن سعد‏:‏ إن في الذي نأخذه منكم صونًا لأنفسكم وحفظًا لدمائكم ونحن ما نأخذه على وجه الصدقة منكم بل نأخذه حلالًا لا حرامًا يا ويلك لو دخلنا مدينتكم بالسيف ألست كنت أنت أول من قتل ومالك أول ما نهب‏.‏

وقال لشيعًا‏:‏ خذلك الله ولعنك كل من في إسكندربة يعلم أنك كنت أولًا فقيرًا لا تقدر على شيء من أمور الدنيا وقد آتاك الله من فضله ووسع عليك رزقه‏.‏
فقال‏:‏ ألست ورثته عن آباء كرام وأجداد عظام وما لله علي من فضل‏.‏
قال فغضب لمجس وقام إليه وقمعه بمقرعة كانت معه وقال له‏:‏ كذبت يا عدو الله ورسوله الفضل والحمد والمنة لله لأنه رزقنا من فضله وأسبغ علينا من نعمه ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏ ثم قال قيس‏:‏ اللهم إنه جحد نعمتك فأزلها عنه‏.‏
قال‏:‏ فوالله ما مضى يومه حتى جاء الخبر بأن أغنامه قد هلكت جميعًا وبساتينه يبست ودياره قد تهدمت وأمواله ذهبت‏.‏

قال قيس‏:‏ الله أكبر هذا والله حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة بجانبي‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏إن ثلاثة من بني إسرائيل كان أحدهم أبرص والآخر أقرع والآخر أعمى‏.‏ فبعث الله إليهم ملكًا فأتى الأبرص فقال له‏:‏ أي شيء أحب إليك فقال‏:‏ الجلد الحسن والإبل فأتى الأقرع فقال له‏:‏ أفي شيء أحب إليك‏.‏
قال‏:‏ الشعر الحسن والغنم وأتى الثالث فقال له‏:‏ أي شيء أحب إليك فقال‏:‏ النظر والبقر‏.‏قال‏:‏ ثم إن الملك مسح بيده على جلد الأبرص فعاد أحسن جلدًا وأعطاه ناقة عشراء فبارك الله له فيها حتى ضاقت بإبله الديار وأما الأقرع فأتاه ومسح يده على رأسه فأنبت الله له شعرًا حسنًا وأعطاه نعجة عشراء فتوالدت إلى أن ضاقت بها تلك الديار‏.‏ثم أتى الأعمى ومسح بيده على عينيه فعادتا أحسن عينين وأعطاه بقرة عشراء فتوالدت إلى أن ضاقت بها تلك الديار‏.‏قال‏:‏ ثم أتاهم ليمتحنهم فأتى للأبرص‏.‏فقال له‏:‏ كنت أبرص فقيرًا لا تملك شيئًا فأعطني مما أتاك الله من هذه الإبل ناقة أتسبب عليها فقال له‏:‏ ما كنت فقيرًا ولا أبرص وإنما ورثت هذا المال من آبائي‏.‏قال فذهب إلى الأقرع وقال له مثل ما قال للأبرص فقال مثل ما قال للأبرص فذهب إلى لثالث وقال له مثل ما قال لصاحبيه‏.‏فأجاب وقال‏:‏ بسم الله والله لقد صدقت‏.‏فاذهب إلى هذا البقر فاقسمها بيني وبينك فقال له‏:‏ بارك الله لك في مالك وقد رد الله صاحبيك كما كانا فإنهما كفرا نعمة الله‏)‏‏.‏
قال الراوي‏:‏ وجعلوا المال ومضوا به إلى خالد وبنى فيها المساجد وأخذ كنيستهم العظمى فجعلها جامعًا وترك لهم أربع كنائس وكتب إلى عمرو بن العاص يعلمه بفتح إسكندرية ففرح وركب وترك موضعه أبا ذر الغفاري وذهب إلى الإسكندرية وبنى فيها جامعًا في الربض وهو معروف بجامع عمرو إلى يومنا هذا‏.‏


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين ديسمبر 24, 2007 12:05 pm 
غير متصل

اشترك في: الجمعة إبريل 28, 2006 11:18 pm
مشاركات: 4147
مكان: الديار المحروسة
[font=Arial]جزاك الله خيرا .. اريد ان اعرف عن مصادر التاريخ بمناسبه دخول معرض الكتاب وايضا اخي الفاضل اريد تفاصيل عن جيش الفتح من الجانب العسكري ومن كان مسؤل الميداني وهل هناك من آل البيت شاركوا وهذا ما اسمع به ارجو ان تفرد لنا من وقتك اخي الفاضل المحمدي[/font]

_________________
صورة


أنا الذى سمتنى أمى حيدره

كليث غابات كريه المنظره

أوفيهم بالصاع كيل السندره


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: فتح مصر
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يناير 02, 2008 10:40 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
فتح مدينة دمياط
وما والاها قال الراوي‏:‏ وأتت إليه أهل رشيد وفوة المحلة ودميرة وسمنود وجرجة ودمنهور وأبيار والمجيرة وصالحوه على بلادهم‏.‏
ثم إنه بعث المقداد ومعه أربعون فارسًا وهم ضرار وشاكر ونوفل وراجح وعاصم وفارس وعروة وسهل وعمير وكعب وسعيد ويزيد وصعصعة وغيرهم وأمرهم بالمسير إلى دمياط وأمر عليهم المقداد بن الأسود الكندي فساروا إلى البرلس ودمياط كان بها خال الملك المقوقس وكان عسكره اثني عشر ألفًا وكان قد حصن البلد وجمع فيها من آلة الحصار من الزاد وغيره قال فلما أشرف عليه الصحابة ونظر إلى قلتهم ضحك وقال‏:‏ إن قومًا ينفذون إلينا منهم أربعين ليملكوا بلدنا إنهم لفي عجز وقلة عقل قال‏:‏ وكان ولده الأكبر فارسًا مشهورًا في جميع بلاد النيل وكان اسمه هريرًا وكان يثق به وبشجاعته وبراعته وليس في عينيه الفرسان شيئًا فلما رأى الصحابة وهم أربعون قفز إليهم وهو لابس لامة حربه وطلب البراز فخرج إليه ضرار نجن الأزور وحمل عليه فطعنه فقتله وحمل على عسكر دمياط فألجأهم إلى حيطان البلد وهو كأنه النار في الحطب فاستعاذ منه الجيش‏.‏
ثم إن خال الملك وكان اسمه البامرك اجتمع بأرباب دولته وقد صعب عليه قتل ولده وكان عندهم حكيم يثقون به وبرأيه ويعتمدون على عقله فأحضروه وقالوا له‏:‏ أيها الحكيم العالم ما الذي تشير به علينا في أمر هؤلاء العرب فقال‏:‏ أيها الملك إن جوهر العقل لا قيمة له وما استضاء به أحد إلا هداه إلى سبيل نجاته وقاده إلى معالم مصالحه وهؤلاء القوم لا تذل لهم راية ولا تلحق لهم غاية قد فتحوا البلاد وأذلوا العباد واشتهر أمرهم وعلا ذكرهم وفشا خبرهم وعلت كلمتهم وطافت الأرض دعوتهم فما أحد يقدر عليهم ولا يصل إليهم وما نحن بأشد من جيوش الشام ولا أمنع بلدًا وهؤلاء القوم قد أيدوا بالنصر وغلبوا بالقهر وإن الرحمة في قلوبهم فعاهدهم فما عاهدوا عهدًا وخانوا وما حلفوا يمينًا فكذبوا وقد بلغك ما هم عليه من الدين والصيانة والصدق والأمانة والرأي عندي أن تصالحهم لتنال بذلك الأمن وحقن الدماء وصون الحريم ودفع الأمر العظيم ونكون قد صالحناهم ودفعناهم بشيء من مالنا‏.‏
قال‏:‏ فلما سمع البامرك ذلك من الحكيم أمر بضرب عنقه فلما عرف الحكيم أن المنية قد غشيته قال‏:‏ اللهم إني بريء مما يشركون بك لا شريك لك ولا ولد ولا صاحبة لك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله‏.‏
قال فلما سمع البامرك كلامه ضربه فقتله وأملهم بأن يأخذوا على أنفسهم للحرب فلما كان الغد خرجوا إلى ظاهر دمياط ونصبوا خيامهم‏.‏
قال وكان للحكيم ولد ورث فضائل أبيه وكان فيه فطنة وعقل وتدبير‏.‏
فلما قتل أبوه أظهر الفرح والدعة للملك البامرك وقال‏:‏ لقد أراحني الملك منه ومن شره فبلغ البامرك ما قاله ابن الحكيم فأرسل إليه وخلع عليه وطيب قلبه فلما كان الليل قال‏:‏ والله لآخذن بثأر أبي من هذا اللعين ومن أولاده وكانت داره ملاصقة للسور فنقب نقبًا واسعًا وخرج منه وقصد الصحابة فلما رأوه قالوا له‏:‏ من أنت‏.‏
قال‏:‏ إن أبي قد قتل من أجلكم وقد نقبت نقبًا وخرجت منه فقوموا على بركة الله في عونه حتى تملكوا المدينة منه‏.‏
فقال له ضرار‏:‏ يا ويلك وإن الذي بعثك بهذه الحيلة أراد قتلك أما علمت أن الحذر شعارنا واليقظة دثارنا وهم بقتله فقال له المقداد‏:‏ أمهل يا ضرار ورفقك الله إلى الخير ووقاك الألم والضير‏.‏
[ ثم قال المقداد‏:‏ إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يشير إلى شخص بين يديه وكأنما يقول على زي هذا الغلام وكأنما أتأمل إلى هذا الغلام فرأيته على ما هو عليه الآن وكان على وسطه منطقة من الأديم وفيها جلق فضة وهي تحت أثوابه‏.‏
ثم إن المقداد قال‏:‏ يا غلام اكشف عن أثوابك فكشف عن أثواب وإذا المنطقة بعينها فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام المسلمون فصافحوه ومضى الغلام أمامهم إلى أن دخل بهم النقب ووسعوه بأيديهم حتى دخلت خيولهم ثم ردوا الحجارة والطين والبناء على حاله وأعمى الله أبصار القوم عنهم فلما كان الغد نظر أعداء الله فلم يروا للصحابة أثرًا ولا خبرًا فضجوا بمكلمة كفرهم وماجوا وقالوا‏:‏ هربت العرب ووقع الصائح في العسكر فظهر أهل البلد ليقفوا على صحة الخبر ولم يبق في البلد سوى النساء والأطفال‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ وكان للحكيم بنو عم ثمانون رجلًا وأن ولده طاف عليهم بالليل وأعلمهم بما فعل فأقبلوا معه وأسلموا عن آخرهم فلما كان الغد وخرج كل من في البلد بادر بنو عم الحكيم وإخوته إلى الأبواب فأغلقوها وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فوقعت الخمدة على النساء والصبيان واستوثق القوم من المدينة بالثمانين رجلا فأمسكوهم الأبواب وخرج الصحابة رضي الله عنهم ورفعوا أصواتهم يكبرون ويدعون الله عز وجل فلما نظر لهم أهل البلد علموا أنهم قد ملكوها وأن الذي فعل ذلك بنو عم الديرجان الحكيم وقد أغلقوا الأبواب وقفلوها وملكوا السور فوقف الملك ينظر إلى ما فعله الصحابة وعلم أن المدينة أخذت منهم وكان في أولاده ولد عاقل لبيب كامل الذات والصفات وافر العقل وكان منذ نشأ يتبع العلماء ويجالسهم ويطلب العلم ومنذ ملك عقله ما أكل لحم خنزير ولا كشف ذيله على محرم ولا سجد لصورة ولا لصليب وكان هم أن يبني صومعة وينفرد فيها فلم يمكنه أبوه من فرط محبته له وكان لا يستطيع فراقه وهذا الغلام اسمه شطا وكان يحب أن يسمع أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبحث عنها فلما نظر إلى لصحابة وقد ملكوا منه البلد وشطا عن يمين أبيه قال‏:‏ فشخص شطا نحو السماء ببصره وصاح وسقط عن قربوس فرسه بوجهه‏.‏
قال ارتاع أبوه وجميع عسكره من تلك الصيحة فلما أفاق قال له أبوه‏:‏ يا بني ما وراءك قال‏:‏ ظهر والله والحق وبان وقد تبينت لي حقيقة الإيمان وقد نظرت إلى عسكر هؤلاء العرب وعليهم نور عظيم ومعهم رجال عليهم ثياب خضر وهم على خيول شهب وبينهم قبتان معلقتان في الجو بلا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها وفيها رجال ما رأيت أحسن من وجوههم ولا شك أنهم الشهداء ورأيت في إحدى القبتين حورًا لو برزن لأهل الدنيا لماتوا شوقًا إليهن وإن الله تعالى ما كشف عن بصري وأراني ذلك إلا وقد أراد لي الخير وما كنت بالذي بعد هذه الرؤيا أبقى على الضلال ولا أتبع المحال وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وحرك جواده وقال‏:‏ من أحبني من رجالي وغلماني فليتبعني‏.‏
قال‏:‏ فتبعه من القوم ألف رجل ولحقوا بالصحابة وألقوا سلاحهم وأعلنوا بكلمة التوحيد‏.‏
قال‏:‏ فلما نظر البامرك إلى ما فعل ولده شطا‏.‏
قال‏:‏ والله ما فعل ولدي شطا ذلك إلا وقد رأى الحق ولست أشك في عقله ودينه‏.‏
ثم إنه أسلم ولحق بولده فلما نظر أرباب دولته ذلك قالوا‏:‏ إذا كان الملك وولده قد أسلما فما وقوفنا نحن‏.‏
فأسلموا جميعًا على يد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا المدينة فمن أسلم تركوه ومن أبى أخرجوه إلى بلاد الأرياف‏.‏
قال‏:‏ وفتح المقداد النقب الذي دخلوا منه وأمر ببنائه بابًا فسماه باب اليتيم وهو ابن الحكيم وترك عندهم المقداد رجلًا من الصحابة يعلمهم شرائع الإسلام وهو يزيد بن عامر رضي الله عنه ورجع المقداد وأصحابه إلى إسكندرية وحدثوا عمرًا بما فتح الله عليه من دمياط ففرح بذلك وكتب كتاب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفتح مريوط والإسكندربة ودمياط ورشيد وفوة والمحلة ودميرة وسمنود وجرجة ودمنهور وأبيار والبحيرة وبعث الكتاب مع عامر بن لؤي‏.‏
فتح الجزيرة تنيس قال‏:‏ حدثني زياد عن حميد الطويل عن يونس بن الصامت عن نصر بن مسروق‏.‏
قال‏:‏ لما فتحت دمياط وكان من أمرها ما كان‏.‏
قال البامرك لولده‏:‏ يا بني إن الله قد أنقذنا من نار الجحيم وقد هدانا إلى الصراط المستقيم وذلك لسابقة سبقت لنا في القدم وهذه تنيس بالقرب منا وهي جزيرة ولا يمكن التوصل إليها إلا في المراكب والصواب أننا نكاتب صاحبها أبا ثوب وندعوه إلى الله وإلى دين نبيه‏.‏
فإن أجاب وإلا قصدناه والله ينصرنا‏.‏
فقال شطا‏:‏ هذا هو الرأي وأنا أكون الرسول إليه بنفسي‏.‏
فقال‏:‏ يا بني أعزم على بركة الله وعونه‏.‏
قال‏:‏ فركب شطا في مركب وأخذ معه أربعة من غلمانه الخواص فلما نظر يزيد بن عامر إلى ذلك‏.‏
قال‏:‏ وأنا أسير معك إلى صاحب تنيس‏.‏
فإنه لو سألك عن ديننا ومعالمه لم يكن عندك به علم بأن تكلمه ونحن بحمد الله ما فينا من يتكبر ولا من يتجبر وما طلبتنا إلا الآخرة والعمل بما يقربنا إلى الله‏.‏
ثم سار معه يزيد بن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وصلوا إلى جزيرة تنيس وفيها رجال يحفظونها فلما نظروا إلى شطا وغلمانه وبينهم رجل بدوي قالوا‏:‏ من أنتم قال لهم شطا‏:‏ أنا ابن الملك البامرك صاحب دمياط ومعنا هذا الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئناكم رسلًا قال‏:‏ فأرسلوا منهم واحدًا يستأذن لهم فأذن لهم أبو ثوب‏.‏
قال‏:‏ فنزلوا في الزورق وإذا به قد أرسل لهم دوابًا ليركبوها فامتنع يزيد من الركوب ووافقه شطا على ذلك وساروا كلهم رجالًا إلى أبي ثوب فاستأذنوا عليه فأذن لهم فلما دخلوا قصر أبي ثوب وإذا به في حشمه وخدمه وزينته والحجاب والغلمان بين يديه وهو في مرتبة إمارته وكان قد تكبر وتجبر منذ نزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصر ومنع المال والخراج أن يؤذيه للمقوقس وولده وقد اجتمع عنده مال عظيم فلما دخل عليه يزيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشطا وغلمانه ونظروا إلى أبي ثوب وغلمانه وتجبره بدأ يزيد بالسلام فقال‏:‏ السلام على من اتبع الهدى ‏{‏إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 48‏]‏‏.‏
قال الواقدي‏:‏ حدثنا ابن سالم عن جرير بن أحمد عن أبيه عيينة عن ابن جرير وكان أعلم الناس بقصة فتوح مصر والمغرب‏.‏
قال‏:‏ كان أبو ثوب هذا من أرض العريش من متنصرة العرب من آل غسان وهو قريب جبلة وكان صاحب مال ورجال وأنه لما وقعت الهزيمة على الروم وفتح الشام وانهزم الملك هرقل وهرب معه جبلة هرب معهم أبو ثوب هذا بماله وأهله وإخوته إلى أرض الجفار ونزل في البرية ما بين العريش ورفح وأن المقوقس خرج في بعض الأيام يريد الصيد في عسكره فانتهى في سرحته إلى أرض العريش فانطرد قدامهم وحش كبير فطلبه الملك وتبعه ولم يتبعه أحد من عسكره وهو وراءه وحده إلى أن رماه في حلل العرب في حلة أبي ثوب فقام إليه وعظمه وبجله وعلم أنه الملك فأمسك ركابه وأنزله في بيته وذبح له الأغنام ووضع له الطعام وتلاحق الجيش‏.‏
قال‏:‏ فأضافهم أبو ثوب ثلاثة أيام فلما كان في اليوم الرابع ركب في خدمة الملك وشيعه وعاد فلما دخل المقوقس إلى مصر أمر وزيره بأن يكتب إلى أبي ثوب بولاية تنيس وأعمالها وأرسل له الخلع والأموال والمماليك والغلمان فلما وصل إليه منشور الملك وخلعه فرح أبو ثوب وركب وسار إلى الفرمة وركب منها في المراكب إلى تنيس فلما مكث في ولايته بعث إلى أهله وإخوته فأتوا إليه فولى أخاه أبا سيف على جزيرة الصدف وولى أخاه الثاني أبا شق على جزيرة الطير وولى ولده على دنيوز فلما طال عليه الأمر طغى وتجبر ومرت الأيام والليالي حتى قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض مصر فمنع دفع الخراج إلى مصر وإلى المقوقس وولده ورأى نفسه في تلك الجزيرة فتحصن بها وقال‏:‏ ما أحد يقدر أن يصل إلي فلما قدم شطا ويزيد بن عامر ونظر إليهم أبو ثوب أظهر الإعجاب والتكبر ولم يلتفت إليهم ولم يجسر أحد من جماعته أن يأذن لهم بالجلوس فلما نظر إلى ذلك يزيد بن عامر قرأ ‏{‏إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 128‏]‏‏.‏ وجلس إلى جانبه شطا ونظر يزيد إلى سرير أبي ثوب فإذا هو من الذهب وفيه صورة النخلة ومن تحتها صورة مريم والمسيح في حجرها فقرأ ‏{‏فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيا فكلي واشربي وقري عينًا فإما ترين من البشر أحد فقولي إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 24 - 26‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيًا وجعلني مباركًا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جبارًا شقيًا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 30 - 33‏]‏‏.‏
قال‏:‏ فلما سمع أبو ثوب كلام يزيد التفت إليه بغضب وحنق وقال‏:‏ ما هذا الكلام الذي نطقت به‏.‏
قال يزيد‏:‏ هذا كلام الله جل جلاله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا تفنى عجائبه ولا تنفذ غرائبه ولا تبدل كلماته ولا تمل آياته‏.‏
فقال‏:‏ ما معنى الذي ذكرت ونطقت به وما تفسيره‏.‏
فقال يزيد‏:‏ أما قول الله إخبارًا عن عيسى حين قال‏:‏ ‏{‏إني عبد الله‏}‏ فإنه يعلم الخلق أنه عبد الله وليس بولد جل الواحد الأحد الفرد الصمد‏.‏
وأما قوله‏:‏ ‏{‏آتاني الكتاب‏}‏ فمعناه أعلمكم الأحكام وأعرفكم الحلال والحرام وأما قوله‏:‏ ‏{‏وأوصاني بالصلاة والزكاة‏}‏ فمعناه أني مأمور بالطاعة والخدمة والزكاة مثلكم فإن في مالي حقًا لله وأما قوله‏:‏ ‏{‏والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت‏}‏ فيعلمهم أنه يموت ومن يموت لا يكون له العزة والجبروت وأما قوله‏:‏ ‏{‏ويوم أبعث حيًا‏}‏ فيعلمهم أنه وإياهم مبعوثون في يوم القيامة وقوف يوم الحشر والندامة ولو كانا إلهين لهما لهما إرادتان ووقع الخلف بينهما وأن الحكمة غير ذلك وهي على وحدانيته شاهدة‏.‏
قال فلما سمع أبو ثوب من يزيد بن عامر هذا المقال قال‏:‏ لقد مثلتم بالأباطيل وغرقتم في بحر الأضاليل‏.‏
فقال يزيد‏:‏ الله أعلم من هو تائه في تيه المحال مشرك بالملك المتعال الذي لا سماء تظله ولا أرض تقله ولا ليل يؤويه ولا نهار يأتيه ولا ضياء يظهره ولا ظلام يستره ولا يقهره سلطان ولا يغيره زمان كل يوم هو في شأن أما لكم بصائر أما منكم من ينظر ويعتبر في قدرة الله القادر‏.‏
أما منكم من يعظ نفسه بذهاب النهار وإقبال الليل‏.‏
أما آن لكم أن تنزهوه‏.‏
أما آن لكم أن توحدوه أما سمعتم ممن تعبدونه وتبرؤون إليه وتعظمون‏.‏
فإن المسيح قد أقر له بالعبودية وتبرأ من دعوى الربوبية وقال‏:‏ إني عبد الله ولقد بشر بنبينا قبل مبعثه وعرف بني إسرائيل بقربه من الحق وكرامته أما سمعتم بمعجزاته وما ظهر من دلالاته‏.‏
أما انشق له القمر‏.‏
أما كلمه الضب والحجر‏.‏
أما خاطبه البعير والشجر‏.‏
أما هو من أطيب بيت من مضر‏.‏
قال‏:‏ فعجز أبو ثوب عن رد الجواب ولم يكن له ما يزيل حجته إلا أن قال ليزيد بن عامر‏:‏ لقد علمنا ما فعل ولكنه كان ساحرًا وإن كان قولك هذا حقًا فادع الله وتوسل إليه بمحمد أن يسقينا الغيث فإن جاء الغيث علمنا أن قولك ليس في شك ونؤمن بالله ونصدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
قال يزيد بن عامر‏:‏ إن الله يقدر على ما ذكرت فإن الله على كل شيء قدير إن العبد المخلص إذا دعاه أجاب دعوته ولكنه يفعل ما يشاء وأنا أتوسل إلى الله بخير خلقه وصفيه وهو الفعال لما يريد ثم إن يزيد قام وخرج من مجلس أبي ثوب‏.‏
فقال له‏:‏ إلى أين قال‏:‏ أدعو الذي لو شاء أنزل عليكم رجزا من السماء ثم قرأ ‏{‏بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏‏.‏
قال‏:‏ حدثنا عاصم عن رويم عن ابن جبير قال‏:‏ إنما طلب أبو ثوب الغيث واقتصر عليه لأنه كانت له مزرعة بالبعد من النيل ولا يقدر أن يسقيها ولا يصل إليها ماء وكانت قد أشرفت على الهلاك واليبس وكانت منه ببال وكان قد غرس فيها من جميع الثمار والأشجار وصنع لها مصانع تمتلئ بماء المطر فيسقيها وقت الحاجة إليها وكان المطر قد أمسك عنها والمصانع نشفت فلما خرج يزيد إلى البحر توضأ وصلى ركعتين ثم رفع رأسه نحو السماء وقال‏:‏ اللهم إنك قد أمرتنا بالدعاء ووعدتنا بالإجابة فقلت وأنت أصدق القائلين‏:‏ ‏{‏وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏‏.‏ وقد دعوت كما أمرت فاستجب كما وعدت يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدًا ولا يحصيه غيرك‏.‏
قال ابن جبير‏:‏ لقد بلغني ممن أثق به أن يزيد بن عامر ما برح يدعو حتى ارتفع السحاب من الجو ووقف وقفة الخاضع ورفع جناح السائل المتواضع وارتفعت سحابة وتألقت والرعد يصول حولها صولة الغاضب وهو لها بصوت البرق يزجر بصلصلة وقعقعة وهرير وهو على ذلك سيره ومسيره وقد أحاطت بالسحابة ملائكة الرحمة متمنطقة بنطاق الخدمة يسوقونها من خزائن رحمته ويجذبونها بأزمة القهر إلى ملك أبديته وهو واضع أجنحة عبوديته موسوم بوسم ‏{‏ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 13‏]‏‏.‏ والركام يسري ويسرع إسراع الوجل يسبح من يسجد لجلاله ‏{‏فترى الودق يخرج من خلاله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43‏]‏‏.‏ فإذا هي أشرقت وتكاملت بالماء ووسقت والبروق من أركانها قد انشقت وهبت عليها رياح فذرته من مواضع خزائن رحمته ‏{‏وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏‏.‏ فعندها تفتح مغاليق أبوابها وترفع ستر حجابها فهمت بدموع أشجانها على أيدي خزانها فتستبشر الأرض عند ورودها وتنتظم عقود الزهر عند ورودها في جيد وجودها وتخرج كنوز ذخائرها ‏{‏فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 50‏]‏‏.‏
قال‏:‏ ونزل المطر يسكب بقية يومهم وليلتهم فلما كان من الغد حضر يزيد بن عامر مجلس أبي ثوب وقال له‏:‏ كيف رأيت صنع الله الصانع المتكفل بأرزاق العبيد‏.‏
قال‏:‏ فضحك أبو ثوب وقال‏:‏ إن سحركم لعظيم وإن مكركم لجسيم وإن سحركم يفعل أكثر من هذا‏.‏
فقال‏:‏ إنما ذلك رحمة من الله قد أبر من أقسم باسمه عليه فلما رأى نزول المطر وظهرت بركات صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على سبيل المكر‏:‏ الآن تحققت أن دينكم الحق وقولكم الصدق وأنا مؤمن بالله ومصدق برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوف أعرض دين الإسلام على أهل جزيرتي وأصحابي وأهلي وأبني المساجد وآمر بالمعروف وأنهي عن المنكر‏.‏
فقال يزيد‏:‏ إن أنت فعلت ذلك رشدت وإن نافقت فإن ربك لبالمرصاد ثم خرج منه عنده هو ومن كان معه شطا وغلمانه ومضوا إلى دمياط إلى البامرك وحدثوا بما كان من أبي ثوب‏.‏
فقال‏:‏ والله لقد خدعكم بخديعته ورماكم بسهم مكيدته‏.‏
فقال يزيد بن عامر‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين‏}‏ ‏[‏آل عمران 54‏]‏ فما لبثوا أيامًا قلائل حتى وصل الخبر أن أبا ثوب جمع من سائر الجزائر وهو قادم عليهم فلما سمع البامرك بذلك قال ليزيد بن عامر‏:‏ ما الذي ترى من الرأي في أمر هذا العدو فقال يزيد‏:‏ نستعين بالله ونتوكل على الله ومن قاتلنا قاتلناه‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ وإن البامرك أرسل ولده شطا إلى البرلس ودميرة وطناح ومن تحت يده يطلبهم فجاؤوا من كل جهة وكتب يزيد بلى عمرو بن العاص يعلمه أن أبا ثوب قد جمع الجموع فلما وصل إليه الكتاب أرسل إليهم هلال بن أوس بن صفوان بن ربيعة أحد بني لؤي ومعه ألف فارس وأمره بالمسير إلى دمياط وذلك في العشر الأول من شعبان سنة عشرين من الهجرة وإن لعمر بن الخطاب في الخلافة أربعة سنين ونصف وأما ما كان من أبي ثوب فإنه لما نفر إليه العساكر أخرجهم بظاهر تنيس فكانوا عشرين ألفًا من الرجال ومن الخيل خمسمائة فارس من القبط ومتنصرة العرب وعداهم في المراكب وأتوا نحو دمياط فخرج شطا‏!‏ بن البامرك فقتل رجالًا وجندل أبطالًا وأنه اشترى الجنة من الله بنفسه ولم يزل يقاتلهم بقية يومه لم إنه عاد من قتال اللئام إلى الصلاة والصيام ولم يزل على قدم الخوف والوجل وهو منكس الرأس من الخجل من الله تعالى عز وجل فلما مضى أكثر الليل وطلع نجم سهيل اضطجع فلما كان وقت الغلس وقرب الصبح وتنفس استيقظ شطا وهو باكي العين فقال له أبوه‏:‏ يا بني ما الذي أبكاك فقال‏:‏ رأيت شيئًا في منامي أبصرته وسمعت منه كلامًا وعاينته وحفظته وحررته والدنيا هي طالق وإني بعون ربي واثق ولا شك أني لك مفارق‏.‏
فقال أبوه أعوذ بالله يا بني ما هذا الكلام‏.‏
ولعل ذلك أضغاث أحلام‏.‏
قال‏:‏ لا والله ما هي أضغاث أحلام لكنه أمر من الملك العلام الذي أجرى الأقلام وخلق الضياء والظلام وبعث سيد الأنام بشرائع الإسلام وإني رأيت في منامي كأن أبواب السماء قد فتحت وأنوار الهداية قد سطعت ولمعت ثم تفتحت أبواب السماء الثانية ثم رأيت ملائكتها سجودًا على جباههم لا يقومون وركعًا لا ينتصبون وقيامًا من هيبة ربهم لا يقعدون وباكين لا تجف لهم دموع ثم كذلك رأيت سماء بعد سماء إلى السماء السابعة ثم رأيت قبة من زمرد أخضر وفيها قناديل من الجوهر وهي تسرج من الأنوار وتوقد من غير نار وفيها أربعون حواء عليهن حلل ما رأيت قط مثلها ولا أبصرت شكلها بوجوه تفتن الإنس وفي أرجلهن نعال الياقوت الأحمر يطأن بها على النمارق والزرابي فصاحت بي إحداهن وهي كبيرتهن وقالت‏:‏ يا مفتونًا بدار الدنيا أما آن لك أن تذكرنا فقد خلقنا الله لك منذ خلقك وجعل مهرنا منك الجهاد في مرضاة رب العباد وقد ألفت الجفاء وما هكذا صنع أهل الوفاء انظر إلى ما أعد لك وللشهداء قال فنظرت وإذا بقباب معلقة حيث لا يدرك لها نهاية بعدد النجوم وقطرات الغيوم وقد نفد الميقات وانقضت الساعات والأوقات فتيقظ في المنام وارحل إلى دار السلام وقالت‏:‏ في كل قبة مثل ما رأيت فقلت‏:‏ ما هذه القباب فقالت‏:‏ هذه قباب قوام الليل والشهداء يأوون إليها في جنة المأوى ثم إنها جعلت تقول‏:‏ أنت يا مفتون دوما في الدنا ثم المنام فدع النوم وبادر مثل فعل المستهام وابك بالوحد دوامًا بدموع وانسجام أيها اللائم دعني لست أصغي للملام في عروس قد تبدت فاقت البدر التمام طرفها يرشق باللظ مصيبًا كالسهام ولها صدغ منير مثل نون تحت لام أحسن الأتراب قدا في اعتمال وقوام مهرها إن قام ليلًا وهو باك في الظلام يا عمادي ورجائي ومنائي والمرام فاستمع مني قولي ثم فكر في النظام وغدًا بادر لحرب وإلى ضرب السهام مسرعًا تأتي إلينا بعد ترحال الظلام فقال أبوه‏:‏ اعلم يا ولدي أن من المنام ما يصدق وما يكذب فلا تشغل نفسك بما رأيت‏.‏
فقال‏:‏ لا والله يا أباه ما بقي لي في الدنيا طمع ولم يزل باقي ليلته يبكي ويتضرع ويقوم على أقدام الخشوع ويخضع وأجفانه بالدوام تدمع إلى أن أصبح الصباح وأشرق بحيائه ولاح فودع شطا أباه دع عنك العتاب فقد قرب لقاء الأحباب فعندها قامت على أبيه المواسم وانهل الدمع الساجم ودنا الفراق وقامت الأشواق وجرى دمع كل عين وأقبل البامرك يودع ولده ويقول‏:‏ يا بني إن صح منامك وضربت في دار السلام خيامك فاذكرنا بحسن طريقة الوفا وأقرئ سلامي على النبي المصطفى فبرز شطا إلى الحرب ودعا للبراز فخرج إليه واحد فقتله وثان وثالث حتى قتل اثني عشر فارسًا‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ فلما رأى أبو ثوب ما فعل شطا بفرسانه لم يطق الصبر دون أن خرج إليه بنفسه وكان من الفرسان المذكورة فلما سار شطا في الميدان قال له‏:‏ يا شطا كيف تركت الدين المستقيم وعدلت عنه وصغيت إلى هؤلاء اللئام واتبعت دين الإسلام لقد عمل فيك القوم واستوجبت العتب واللوم يا فتى عد إلى الدين الصحيح والقول الرجيح وهو دين المسيح فأي شيء رأيت من هؤلاء المساكين حتى تبعت دينهم‏.‏
فلما سمع شطا كلام أبي ثوب أقبل عليه مغضبًا وقال له‏:‏ يا لئيم أتأمرني أن أدع الدين المستقيم الذي كان عليه الخليل والكليم وأنى لي بدلك وقد رأيت الليلة ما لي من الكرامة عند الله وقد طلقت الدنيا ثلاثًا فلما سمع أبو ثوب كلامه حمل عليه ومد سنانه إليه فتلقاه بقلب قوي وجنان جري وعزم مضي وحسام سري وتقاتلا نصف نهار فعطش شطا فأراد الله أن يطيب قلبه فكشف عن بصره فرأى القبة التي رآها في المنام والحوراء التي أنشدته الأبيات وفي يدها كأس من شربها لا يفنى ولا يسقم وفيه من الرحيق المختوم وهي تقول‏:‏ يا شطا هذا شراب من شرب منه لا يسقم ولا يفيق والساعة تصل إلينا وتقدم علينا‏.‏
قال فلما نظر شطا إلى ذلك وسمع منها ما قالت صاح الله أكبر ‏{‏هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏ وأخذه الدمع والبكاء خوفًا من الله‏.‏
فقال له أبو ثوب‏:‏ مم بكاؤك‏.‏
قال‏:‏ رأيت كذا وكذا فضحك أبو ثوب من كلامه وحمل عليه فتقاتلا قتالًا شديدًا أعظم من الأول إلا أن أبا ثوب سبق شطا بطعنة في صدره فأطلع السنان من ظهره فخر صريعًا فلما نظر البامرك إلى ولده مطروحًا لم يأخذه صبر دون أن حمل عليه هو وأصحابه‏.‏
قال وأظلمت آفاق تلك الأرض من الغبار وترادف القتال فوقعت الهزيمة على البامرك وأصحابه فألجأهم إلى أبواب دمياط وطمع فيهم عدو الله أبو ثوب وإذ قد أتاهم هلال بن أوس بن صفوان بن ربيعة فوضعوا أيديهم في أبي ثوب وأصحابه وهم ينادون بالتهليل والتكبير وتحامى أصحاب البامرك وحملوا من قبلهم‏.‏
قال‏:‏ وأما أبو ثوب وأصحابه فإنهم أيسوا من أنفسهم قال فهم في ذلك إذ التقى يزيد بن عامر بأبي ثوب‏.‏
فقال له‏:‏ يا عدو الله أما اتعظت بآيات الله‏.‏
أما ظهر لك الحق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
وأطبق عليه فأخذه أسيرًا وصاح الصائح أن أبا ثوب أسر فاستسلم قومه للقضاء فأخذوهم عن آخرهم بعد ما قتل منهم خلق كثير ثم إنهم عزوا البامرك في ولده شطا‏.‏
فقال‏:‏ احتسبته عند الله فقال له يزيد بن عامر‏:‏ إن في الجنة درجات لا ينالها إلا الصابرون قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 55 - 157‏]‏‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ ودفنوا شطا في ثيابه بعدما صلوا عليه ودفنوه في موضع قتله‏.‏
قال فلما كان الغد أقبل البامرك إلى يزيد بن عامر وقال‏:‏ رأيت الليلة ولدي في النوم وهو في القبة والحور بين يديه‏.‏
فقلت‏:‏ ما فعل الله بك‏.‏
قال‏:‏ قبلني بأحسن قبول وجاد علي وأنزلني بجوار الرسول‏.‏
حدثنا ابن إسحق حدثنا عمر بن الأسقع عن جده عامر بن خويلد قاد‏:‏ قتل شطا في ليلة نصف شعبان فجعل له تلك الليلة موسمًا في كل سنة وذلك أنه لما يبق أحد إلا زار قبره تلك الليلة وأن هلال بن أوس نزل وأحضر أبا ثوب وعرض عليه الإسلام فأسلم وأسلم من الأسرى أناس وأبى منهم أناس وبقوا على دينهم وقرروا عليهم الجزية ودخل المسلمون في المراكب إلى تنيس وبنوا موضع الكنيسة جامعًا وبنوا في جميع الجزائر جوامع وأخرج أبو ثوب الخمس من ماله وأموال قومه وبعثوه إلى عمرو بن العاص مع أموال من قتل وأن هلال بن أوس نزل على التل الأحمر بظاهر تنيس وأقر أهل الجزائر في أماكنهم‏.‏
فقالوا أيها الأمير‏:‏ قد أمنتما من جانبك وبقي علينا الخوف من جانب آخر‏.‏
قال هلال‏:‏ من أين قالوا‏:‏ من أصحاب القلعة المسماة الفرماء‏.‏
قال‏:‏ وأين هي قالوا‏:‏ على جانب بحيرة تنيس مما يلي شرقها وفيهم أقوام وعليهم الصامت بن مرة من آل مرداس فلما سمع هلال بن أوس ذلك مضى إليها بجميع من معه فلما وصلوا إليها أشرف عليهم الصامت بن مرة وأمر أصحابه أن يرموهم وكان بها ألف رجل وغالبهم رماة النبل فرموا عن قوس واحد ألف سهم فسمعتها العرب من الفرماء فأقام عليها هلال بن أوس عشرين يومًا فلم يقدر عليها فبعث إلى عمرو يعلمه بما وقع ويستنجده فأرسل إليه المقداد بن الأسود الكندي في خمسمائة من عسكر الإسلام وأرسل معه ثلاثة آلاف ممن أسلم القبط


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: فتح مصر
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد مارس 02, 2008 11:40 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
فتوح الفرماء والبقارة والقصر المشيد
قال‏:‏ فلما نزل المقداد على الفرماء تأهب أهلها للقتال فنزل بالصامت بن مرة ما نزل به فعلم أنه بيد القوم لأنه ليس له ناصر ولا معين فصالح المقداد على أن يؤدي لهم أربعة آلاف مثقال من النصب وأربعمائة ناقة وألف رأس من الغنم وأن يمهلوه إلى تمام السنة فإن شاء دان إلى الإسلام وإلا ارتحل بأمانه فأجابه المقداد إلى ذلك وارتحل المقداد وهلال بن أوس ونزلوا على البقارة وكان عليها ابن الأشرف فأسلم هو ومن معه ومضوا إلى القصر المشيد ففتحوه صلحًا ثم ارتحلوا ونزلوا على الوردة وكان أسمها الواردة فسلمها أهلها وارتحلوا إلى العريش فصالحهم أهلها وكذلك أهل رفح وليدًا ومياس ونخلة وعسقلان‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ حدثني يوسف بن عبد الأعلى قراءة عليه بجامع الرملة سنة مائتين وعشرين من الهجرة‏.‏
قال‏:‏ حدثني موسى بن عامر عن رفاعة عن جده عبد العزيز بن سالم عن أبي يعلى العبدي عن طاهر المطوعي عن أبي طالب الفشاري عن وهبان بن بشر بن هزان قال‏:‏ سمعت الشرح كله من محمد بن عمر الواقدي وهو يومئذ قاضي بغداد في الجانب الغربي‏.‏
فتوح ديار بكر وأرض ربيعة حدثنا عدنان بن يحيى الحرثي عن معمر الجوني ومن طريق آخر عن ابن عمير التميمي والابتداء عن المهلب وطلحة ومحمد قالوا جميعًا أو من قال منهم‏:‏ إنه لما فتح الله الشام على يد أبي عبيدة عامر بن الجراح وعلى يد خالد بن الوليد وفتح أرض مصر على يد عمرو بن العاص بن وائل السهمي كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة يقول له‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عامر بن الجراح سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏
أما بعد‏:‏ فقد أجهدت نفسك في قتل الكفار وسارعت إلى رضا الجبار وقدمت لك ما تجده يوم عرضك ولم نر منك يومًا معرضًا عن أداء فرضك وقمت بسنة نبيك وجاهدت في الله حق جهاده تقبل الله منا ومنك وغفر لنا ولك فإذا قرأت كتابي هذا فاعقد عقدًا لعياض بن غنم الأشعري وجهز معه جيشًا إلى أرض ربيعة وديار بكر وإني أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يفتحها على يديه وأوصيه بتقوى الله والجهاد والاجتهاد في طاعته ولا يلحقه التواني في الجهاد ويتبع سنن المؤمنين المجاهدين وما أمر به سيد المرسلين مما أنزل عليه رب العالمين ‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73 التحريم‏:‏ 9‏]‏‏.‏ والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته‏.‏
ثم كتب كتابًا آخر إلى عياض بن غنم بالولاية والمسير إلى أرض ربيعة الفرس وديار بكر‏.‏
قال‏:‏ وبعث بالكتاب مع ساعدة بن قيس المرادي وزوده من بيت مال المسلمين وأمره بالمسير فسار إلى أن ورد على أبي عبيدة في طبرية فسلم إليه كتاب عمر وسلم الكتاب الثاني إلى عياض بن غنم الأشعري فلما قرأه أبو عبيدة قال‏:‏ السمع والطاعة لله ولأمير المؤمنين وهيأ عياضًا بمسيره إلى الجهاد وعقد له عقدًا على ثمانية آلاف منهم ألف صحابي من جملتهم خالد بن الوليد والنعمان بن المنذر وضرار بن الأزور بن سابق وضمرة وعمرو بن ربيعة وذو الأدغار بن قيس والحكم بن هشام واليسع بن خلف وطلحة وعامر بن بهراء والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وعبد الله بن يوقنا وكانوا قد قدموا على أبي عبيدة بعد فتوح مصر وكان قدومهم في شهر شوال سنة ست وعشرين من الهجرة وسار عياض بن غنم من طبرية في ثمانية آلاف يريد الجزيرة وعلى مقدمته خيل سهل بن عدي فلم يزال سائرًا حتى نزل على بالس وكان خالد قد فتحها صلحًا فأقام عليها وسرح سهيل بن عدي إلى الرقة فنزل على حصارها وكان عليها بطريق اسمه يوحنا وكان من قبل صاحب رأس العين وكان قد استعد للحرب وعلى آلة الحصار فلما رأى أهل الرقة أن صاحبهم معول على الحصار اجتمع بعضهم ببعض وقالوا‏:‏ أي شيء أنتم بين أهل الشام وأهل العراق ولا مقام لكم بين يدي هؤلاء القوم‏.‏
قال‏:‏ فمشوا إلى عياض بن غنم بالصلح فرأى أن يقبل منهم فبعث إلى سهيل بن عدي أن يصالحهم على ما وقع عليه الاتفاق وارتحل عياض بن غنم عن بالس ونزل على الرقة البيضاء وفي ذلك قال سهيل بن علي‏:‏ وصادفنا الغزاة غداة سرنا بجود الخيل والأسل الطوال أخذنا الرقة البيضاء لما رأتنا الشهب نلعب بالتلال وأزعجت الجزيرة بعد خفض وقد كانت تخوف بالزوال سنقصد رأس عين بعد حين أجد بحملتي جيش الضلال وقصدك يا سهيل تبيد جيشًا وتقتل في البطارق لا تبالي فنحن أولو التقية والمعالي ونحن الصابرون لكل حال صحابة أحمد خير الموالي رقى العلياء والرتب العوالي إلى رب السماء دنا علوًا وخاطبه شفاها بالمقال فتح القلعتين زبا وزنوبيا قال الواقدي‏:‏ لما فتحت الرقة صلحًا عول عياض بن غنم على المسير إلى رأس العين وكان يملك يومئذ الجزيرة ملك من ملوك الروم يقال شهرياض بن فرون وكان جيشه مائة ألف وتحت يده وفي عماله من العرب المتنصرة السلطان بن سارية التغلبي وهبيرة وهم ثلاثون ألفًا من الأبطال وأنهم لما اتصلت بهم الأخبار بفتح الرقة وأن المسلمين قاصدون إليهم مع عياض بن غنم وخالد والمقداد أتوا إلى الملك شهرياض برأس العين وقالوا له‏:‏ اعلم أيها الملك أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد أتوا ديارنا وقصدوا نحونا ونحن علينا الطلب أكثر منكم ومطلب القوم إننا ندخل في دينهم فاضرب خيامك بظاهر البلد واظهر بجيشك حتى نلقاهم فإما لنا وإما علينا فأجابهم إلى ذلك وقال‏:‏ غير أني أخاف أن تنهزموا عني فأعطوا رهائن واستوثق منهم ورتب آلة الحصار وأخرج الخزائن والأموال ورتب الحرس على الأسوار وزاد في عمق الخندق وعرضه وأرسل إلى جملين وكفرتوتا ودارًا وماردين وحران والرها وتل مرزة والسن والموزر وأقام ينتظر عياض بن غنم‏.‏
قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن أسلم عن عاصم بن كبد الله عن ابن إسحق الأموي عن يزيد بن أبي حبيب عن راشد مولاه قال‏:‏ لما عول عياض بن غنم الأشعري على المسير إلى رأس العين إلى قتال الملك شهرياض بعث قبل مسيره أشعث بن عويلم وعبد الله بن غسان إلى القلعتين المعروفتين بزبا وزنوبيا‏.‏
فقال عبد الله يوقنا لعياض بن غنم‏:‏ اعلم أيها الأمير أن هاتين القلعتين اللتين ذكرتهما حصينتان منيعتان إحداهما من الجانب الشرقي والأخرى من الجانب الغربي وهما كانتا تحت ولايتي وأن صاحبهما كان من قبلي وهو أحد بني عمي واسمه أشفكياص بن مارية كني باسم أمه وكنت قد زوجته ابنتي فأخذت في صداقها الحصن الشرقي من الفرات وقد رأيت أنك تأمرني بالتقدم على هذين الحصنين حتى أحل في القلعة الغربية فإن فتحتها كانت الأخرى في قبضتنا‏.‏
فقال له‏:‏ لله درك يا عبد الله لقد نصحت الإسلام وأهله فجزاك الله خيرًا أحسن ما جازى به أولياءه سر على بركة الله وعونه فإذا استقر بك المكان ثلاثة أيام أنفذت إليك شعيبًا وعبد الله ومن معهما من المسلمين وبعد الفتح إن شاء الله تنزلون إلينا‏.‏
فقال يوقفا‏:‏ استعنا بالله وتوكلنا عليه ثم إنه أخذ معه من صناديد جماعته مائة ولم يأخذوا معهم ثقلًا سوى جنيب من الخيل واحد وسار من أول الليل وترك عياض بن غنم علي الباسل فجدوا السير بقية ليلتهم فلما كان قبل الفجر أشرفوا على الخانوقة فوجدوا فيها ألفًا من الأرمن وهم بالعدة الكاملة فلما أشرف عليهم يوقنا ومن معه وهم يتحدثون بلغة الروم أنسوا بهم وسألوهم عن خبرهما فقالوا‏:‏ هذا البطريق المعظم يوقنا صاحب حلب قد هرب من العرب وأقبل لنصرة صاحب هذه القلعة فلما سمعوا بذلك فرحوا وصقعوا بين يدي يوقنا وأرسل المقدم عليهم خيالًا وأمره بالسرعة ليبشر أشفكياص بقدوم يوقنا إلية وهروبه من العرب وأنه يستأذن عليه فمضى الرجل وأخبر أشفكياص فأطرق إلى الأرض ثم قال لوزيره‏:‏ وحق المسيح والإنجيل ما جاء إلا لينصب علينا ويملك هالين الواحتين منا كما فعل بطرابلس وصور وما أنا بالذي يأمن فما ترى أيها الوزير قال ابن إسحق‏:‏ ولقد بلغني أن هذا الوزير كان من أهل القراءة وكان أديبًا عاقلًا لبيبًا ممن قرأ الكتب السالفة والأخبار الماضية وقرأ ملاحم دانيال وكان منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم يسكن في دير مترهبًا وهو ما بين السر وحلب فتعبد فيه زمانًا طويلًا حتى شاع ذكره بين أهل دين النصرانية ثم بعد ذلك أخبر الروم بأنه قد وقع بحافر من حوافر حمار المسيح فكانت الروم ينفرون له النذور والصدقات وشاع خبره وسما ذكره فسمي ذلك الدير بدير حافر وأنه في بعض الأيام خرج من ديره إلى مزرعة له هناك وإذا برجل من البدو قد عبر وهو راكب على ناقة وكان الحر قد اشتد فأوى إلى ظل حائط الدير وأناخ ناقته وعقلها ونام والراهب ينظر إليه فلما غرق في نومه أتت حية من مزرعة الراهب وفي فمها باقة نرجس فجعلت تروح عليه حتى استفاق وذلك الراهب ينظر إليه فلما أفاق أتى إليه وسلم عليه وقال له‏:‏ من أي الناس أنت‏.‏
قال‏:‏ من العرب قال الراهب‏:‏ قد علمت ذلك وإنما أسألك عن دينك قال‏:‏ ديني الإسلام الذي كان عليه أنبياء الله كلهم عليهم أفضل الصلاة والسلام‏.‏
فقال‏:‏ لعلك على دين هذا الرجل الذي في أرض الحجاز قال‏:‏ نعم‏.‏
قال ابن إسحق‏:‏ وكان البدوي ورقة بن الصامت الهذلي ابن أخت رواحة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حضر غزوة تبوك وحضر يوم السلاسل وكان أديبًا لبيبًا شاعرًا لا يتكلم إلا بسجع وكان أبو عبيدة قد وجهه لما كانوا في حصار قلعة حلب إلى صاحب الرقة يدعوه إلى الإسلام‏.‏
فقال الراهب وكان اسمه شوجوان بن كربان‏:‏ قد بلغني أنكم تقولون ما خلق الله خلقًا أعظم ولا أكرم ولا أرحم من محمد وتركتم آدم ونوحًا وإبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط وموسى وداود وسليمان وعيسى فأريد أن تبين لي حقيقة ذلك فقال ورقة بن الصامت‏:‏ اسمع ما أقول ولا تتبع الفضول‏:‏ أما علمت أن عالم الملائكة اجتمعوا بالبيت المعمور ووقع بينهم الجدل في تصاريف الأمور وافتخر الكروبيون على الروحانيين والمستحون على المقربين فزاحمهم إبليس بدقة عبادته ومشيد مباني زهادته‏.‏
فقال‏:‏ أنا المخلوق من ضرام النار البارع في خدمة العزيز الجبار أين أنتم من وقوفي على أقدام الاهتمام مائة ألف عام وتعبدي في السموات وأكنافها وبروجها وأعرافها وأوساطها وأطرافها وجبال الأرض وأكنافها فعارضه جبريل بالامتحان والابتداء وصرفه عن حجة الافتخار والادعاء وقال له‏:‏ ما أنت في الافتخار إلا في الحضيض المحضوض إن لله نبيًا في عالم الملكوت محجوبًا قد طال اشتياقنا إليها ووردنا الخبر فيما يريد وجعل نهاية عبادتنا الصلاة عليه فأيقن من المفاخر بالنزول ومن إطلاق شمس ادعائه بالأفول وقال‏:‏ رب فهل إلى لقائه من سبيل وإلى الوصول إليه مات دليل‏.‏
فقال جبريل‏:‏ اقطع مسافة الأمنية وخض بحر الاعتراف بعز الربوبية وثق بحبال العز المكين فإنك لخدمة من كون من نور التكوين عليه منقوش بقلم التمكين ‏{‏إنك لمن المرسلين‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 3‏]‏‏.‏ فخلع إبليس لباس العمل واستعمل أجنحة الأمل وألقى قلادة الادعاء ونكس تاج الكبرياء واستعد لقوادم الطلب وداخله من قول جبريل غاية العجب وجعل همة عزمه تحصيل السبب وحذر من سوء المنقلب‏.‏
وقال‏:‏ يا للعجب أنا مع صدق طويتي في المعاملة والإنابة وخلوص سريرتي في طلب الزيادة هل يكون أحد مثلي أو يبلغ درجة فعلي وكيف ذلك وإذا رفعت رأسي التسبيح أعاين ما حول العرش وإذا سجدت لعظمة الله أنظر ما تحت العرش فنودي‏:‏ أتفتخر علينا بجواهر طاعتك وتوفر أسباب بضاعتك ونحن وفقناك لطاعتنا ومعاملتنا وأريناك أطراف أرضنا وسمواتنا من قواك على خدمتي من جعلك معلمًا لملائكتي‏.‏
وعزي وجلالي لولا أحمد ما خلقت ملكًا ولا أجريت فلكًا ولا أنرت قمرًا ولا أمضيت قدرًا ولا أسرجت شمسًا ولا أقررت عرشًا ولا بسطت فرشًا ولا خلقت جنة ولا نارًا ولا فخرت أنهارًا ولا بحارًا ولا جعلت النجوم طوالع ولا غوارب ولا الدنيا مشارق ولا مغارب ولكن طر بأجنحة عجل في طلب الإيثار حتى يميتك الله بين الجنة والنار قال‏:‏ فسار بذلك طلب النجوم على قدم مطايا التفريد حتى اخترق ما بين العرش والكرسي واختبر كل اختبر وأنسي وكلما مر بمغن من المغاني رأى معنى من المعاني وذلك أنه لما رأى أصنافًا من الملائكة على اختلاف الأحوال من الاجتهاد والطاعة والأعمال وجميع عباد الله الشاكرة موقوفة على خدمة سيد الدنيا والآخرة وعلم معنى عبادتهم وتحقق آثار إرادتهم زاد به الإعجاب فاستعظم وجود ذلك في عالم التراب وقال‏:‏ أي رب أين أجل وأناديه أم كيف التوصل إلى سبيل ناديه فقال‏:‏ اطلب نهر السلسبيل فهناك تجد إلى نظره سبيل فسار تحت ومشيئة القدر إلى أن وصل إلى النهر فرأى ضوءًا يلوح وأسراره بصفات ما فيه تبوح ودار به المقربون والروحانيون والمسبحون والصافون والراكعون والساجدون وقطب عبادتهم دائرة على الاستغفار لأنه صاحب الافتخار وكلما سبحوا وسجدوا يستغفرون للذين آمنوا به‏.‏
قال‏:‏ فانتظم في سلكهم وسلك سبيل مسلكهم لتفوز بالنظر في جملة من حضر وإذا بنور أحمد قد تعلى ومن سرادقات قصره تجلى فسجدت الملائكة له بمعنى عظيم وقالوا‏:‏ ‏{‏إنك لعلى خلق عظيم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 4‏]‏‏.‏ فرد لما غشيه النور الوارد ونطق لسان جسده بما في جسده من ذا الذي ملأ الأكوان بعبادته وافتخر على الملائكة بخالص مجاهدته وإذا بالنداء‏:‏ معاشر الملائكة دعوا النظر إلى المغاني وحققوا النظر إلى الفضائل والمعاني فأحدقت الملائكة نحو القصر بالأعين وإذا في جوانبه أربعة أعين فقالوا‏:‏ ياب العزة قد تركنا المغنى فما حقيقة هذا المعنى‏.‏
قال‏:‏ هذه العيون عيون أنهاره وسيوف أنصاره ومعالم سنته بحساب نسبته وأبواب علمه ومقر حكمه وزينة دينه وأعلام يقينه وأول عين هي عين التصديق والعين الثانية هي عين العدل والتحقيق والعين الثالثة هي عين النور والحياء والتوفيق والعين الرابعة عين العلم والتشريق‏.‏
فعين التصديق لصديقه وعين العدل لفاروقه وعين الحياء لصهره ورفيقه وعين العلم لأخيه وشقيقه فانظروهم بعين التبجيل والوقار وأكثروا لهم الدعاء والاستغفار‏.‏
لأنا الذي قلت فيهم‏:‏ ‏{‏الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 17‏]‏‏.‏
فلما علم شوجوان كلام ورقة بن الصامت لم يرد عليه جوابًا ولا أبدى له خطابًا غير أنه عرف الحق فكتمه ولم يزل شوجوان في الدير حتى أخذ المسلمون حلب فانتقل إلى اشفكياص فاستوزره‏.‏
قال فلما استشاره في أمر يوقنا قال له‏:‏ اعلم أيها الملك أن يومنا من الملوك وأبناء الملوك وقد قرأ الكتب وأخوه كان أفضل منه في الدين وقد صحب هؤلاء العرب واطلع على سرائرهم ونظر إلى دينهم وربما أنه علم عند النظر أن دين المسيح أفضل من دين هؤلاء العرب وقد هرب من أيديهم إليك‏.‏
فإن كان الرجل قد أتى بغير حمر ولا ثقل فاعلم أنه هارب من القوم إليك فيجب عليك أن تخرج إلى لقائه وتعظم شأنه وترفع مكانة فلما سمع أشفكياص ذلك خرج بعسكره للقائه وبقي الوزير في القلعة‏.‏
قال‏:‏ فسمعت ابنة يوقنا أن أباها قد أتى فنزلت تسبح في سرب لها تحت الأرض مع جواريها وخدمها وقصدت القلعة الثانية فوجدت أشفكياص قد خرج للقاء أبيها والوزير شوجوان في مرتبة وزارته فقام إليها وصقع بين يديها وخدمها فجلست تتحدث معه‏.‏
فقال لها‏:‏ خذي على نفسك الحذر فإن الملك قد خرج وأخاف أن يبطش هذا اللعين بأبيك واعلمي أنه ما تبع هؤلاء العرب إلا وقد تحقق عنده أن دينهم الحق وقولهم الصدق فقالت له الجارية‏:‏ فما تقول أنت في دين القوم‏.‏
قال‏:‏ هو الله الحق والدين الصدق وإني كنت كاتم هذا السر فلما سمعت ذلك تبسمت وقالت‏:‏ والله لقد رضيت لنفسي ما رضيه أبي ولكن أنت اكتم هذا عني‏.‏
قال الواقدي‏:‏ وإن أشفكياص لقي عبد الله يوقنا وسلم بعضهما على بعض وترجل كل منهما لصاحبه وشكا كل واحد منهما ما يجده من الشوق‏.‏
ثم ركبا وسارا إلى القلعة فنزل يوقنا فيها ومن معه وأتت ابنته وسلمت عليه وبكت وبكى وأما أشفكياص فإنه معول على القبض على يوقنا وقال له‏:‏ أيها الملك كيف رأيت هؤلاء العرب في دينهم وعدلهم وسياستهم في ملكهم‏.‏
فقال يوقنا‏:‏ إن القوم يزعمون أنهم لا يريدون ملك الدنيا وإنما يريدون ملك الآخرة ومع هذا قد ملكوا الشام وأرض مصر وما تغيروا عن طباعهم وأنفسهم الدنيئة وأول الأمر وآخره أنهم أظهروا الناموس حتى ملكوا البلاد ولما كشفت أسرارهم وتحققت أخبارهم ورأيت بيان ما هم عليه هربت منهم وبعدت عنهم بعد أن ظننت أنهم على الحق ونصحت لهم وملكتهم طرابلس وصور وغيرهما وأنطاكية وقد علمت أن المسيح قد غضب علي إذا تركت دينه وما أمر به من القربان وما أوصى به يوحنا المعمدان ولست أظن أن لي تطهيرًا من دون الذنوب ومساوي العيوب‏.‏
ثم إنه أظهر البكاء والتوجع والشكوى‏.‏
فلما عاين أشفكياص ما فعله وسمع كلامه انطلى عليه وقال له‏:‏ أيها الملك إذا كنت قد ندمت على قبيح فعالك ورجعت إلى الدين الصحيح بقلبك فأبشر بقبول التوبة وزوال الحوبة واعلم أن باب التوبة مفتوح وعلم القبول لأهل الندامة يلوح وقد قرب على الصليب وبقي له عشرون يومًا وهذا مرقس الراهب بدير السكرة وهو من أعظم أهل دين النصرانية فسر إليه ليغمسك في ماء المعمودية فتخرج نقيًا من الذنوب‏.‏
فقال يوقنا‏:‏ أفعل ذلك ولكن من يضمن أن يعيش فعندها قامت ابنته وصعقت وقالت‏:‏ والله يا أبت ما أدعك تمضي حتى أتملى منك بالنظر وقبلت يد أشفيكاص وقالت‏:‏ يا سيدي أريد أن تأذن لأبي أن يسير معي إلى حصني فقال‏:‏ هو الليلة عندي وليلة غد يكون عندك فعلم يوقنا أنه لا بد من الأكل معه ولا بد في سماطه من لحم خنزير ولا بد من الخمر فقال‏:‏ أيها السيد أينما كنت فأنا في نعمتك وخيرك‏.‏
فقال شوجوان لأشفيكاص‏:‏ اعلم أيها الملك أن الملك يوقنا كثير الشوق إلى ابنته ولهما زمان ما رأيا بعضهما وما يخفى عليك ذلك والصواب أن يكون الليلة عندها وليلة غد يكون عندك فقال‏:‏ افعلوا ذلك‏.‏
قال فأخذت أباها ونزلت في السرب إلى القلعة الشرقية وعبر أصحابه إليه في المركب فلما جن الليل قالت الجارية لأبيها‏:‏ يا أبت كيف تركت العرب بعد صحبتك لهم ونصحك لدينهم أرأيت أن القوم على باطل وأن دينك الأول أفضل منه فرجعت إليه‏.‏
فقال يوقنا‏:‏ أي بنية والله ما أتيت إليك إلا من شفقتي عليك وقد افترقنا في الدنيا وأخاف أن يكون الفراق في الآخرة أيضًا وقد علمت وتيقنت أن هذين الحصنين نصب أعين المسلمين وأنت تعلمين أن قلعتي كانت أمنع من كل قلعة بالشام وقد ملكتها العرب ونزعت ملوكها عن أرضهم وبلادهم فاتقي الله يا بنية في نفسك واعملي لخلاص نفسك من الزبانية والجحيم الحامية والخلود في الهاوية وارجعي إلى الله من قريب واكفري بدين الصليب فوالله ما ثم دين أفضل من دين الإسلام وعليه كان المسيح والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإنما عرر بالنصارى وحيدهم عن طريق الحق رجل يقال له بولص كان من اليهود أضلهم عن الطريق المستقيم وشرع لهم الضلال القديم حتى كفروا بما جاء به الخليل إبراهيم وهؤلاء العرب قد اتبعوا ما أمر الله به وأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولديهم القول الراجح والفضل الصالح وأنهم طلقوا الدنيا ثلاثًا وطلبوا بعد الاجتماع شتاتًا فارضي لنفسك ما رضي أبوك لنفسه‏.‏
فقالت‏:‏ والله ما قلت شيئًا إلا وأنا به عارفة وقد رضيت لنفسي ما رضيت لنفسك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله‏.‏
قال ففرح بإسلامها‏.‏
ثم قال‏:‏ أي بنية ما الذي نصنع في أمر هذا الكافر اللعين الفاجر قالت‏:‏ والله لقد قال لي الوزير شرجوان إنه مصر على قبضك‏.‏
وقال‏:‏ إنك ما أردت إلا لتنصب عليه‏.‏
فقال يوقنا‏:‏ إذا كان الأمر كذلك فاصنعي لنا سماطًا وسيري إليه واستدعيه هو وخواصه فأنا آمر أصحابي أن يقبضوا عليهم وعليه إذا اشتغلوا بالطعام والشراب فإذا فعلنا ذلك كانت القلعتان في قبضتنا ونسلمهم إلى أصحاب نبينا‏.‏
ثم إني أريهم أننا هربنا منهم إلى أن نحصل في قرقيسيا فلعل الله أن يفتحها على أيدينا وهذا هو الرأي‏.‏
قال الواقدي‏:‏ فلما ذهب الليل وأتى النهار أمرت جماعتها بصنع الطعام والحلويات وغيرها فلما صنعوا ذلك وصفوا الموائد وعليها من كل حار وبارد نزلت في السرب وقصدت أشفكياص في قلعته ووقفت بين يديه وصعقت له فقام لها إعظامًا وقال لها‏:‏ كيف الملك يوقنا وأحواله‏.‏
فقالت‏:‏ أيها الملك إنه ما نام الليل وهو متفكر في القيامة وأحوالها والجحيم ومالها ولقد أراد اليوم المسير إلى مدينة قرقيسيا وأن يقصد الراهب المعظم قرياقوس وقد أخرته إلى أن تحضروا معه على السماط وتمضي أنت وهو إلى جرجيس حتى يرجع إلى دينه وقد جئت إليك لتحضر سماطي وضيافتي أنت وأصحابك وخواصك وتأكلوا من طعامي وتشربوا من شرابي ومدامي والكل من فضلك وإنعامك وإحسانك وتجبر خاطري‏.‏
قال فأبى أشفكياص مما دخل على قلبه من يوقنا إذ لم يبت عنده وخاف أن يقبضه فقال له الوزير شرجوان‏:‏ أيها الملك ليس هذا برأي وإذا امتنعت نفر قلب منك وما يدريك أيها الملك أنه ندم على ما سلف منه وقد أقر بالذنب واعترف وأنك إذ أكلت على سماط ابنته ودعوتهم أنت إلى سماطك فافعل بعد ذلك فيهم ما شئت‏.‏
قال‏:‏ وكان هذا الكلام من شرجوان لأشفكياص سرًا من ابنة يوقنا فقام عند ذلك وقال لوزيره‏:‏ أحفظ مكاني حتى آتي إليك ولم يكن له ولد يرثه في الملك‏.‏
قال فأخذ معه خواصه من قومه وحجابه وبني عمه ونزل في السرب والجارية أمامهم وجواريها بين يديه بالشمع وقد علم الوزير أنه ما بقي يعود إليه بعدها فلما حصل أشفكياص في قلعة زلوبيا وثب للقائه يوقنا وأصحابه وكن قد أوصاهم بما يفعلونه فلما وقعت العين على العين أقبل يرقنا إليه ليعانقه وضمه إلى صدره وقبض عليه قبضة الأسد على فريسته وفعل أصحابه كما فعل‏.‏
وضربوا في الحال رقابهم ولم ينتطح فيها شاتان ولم يعلم بما فعلوه أحد ثم نزلوا من فورهم من السرب ومضوا إلى زبا فوجدوا شرجوان ينتظرهم فلما رآهم تبسم وأعلن بكلمة التوحيد وقال لله درك يا عبد الله فقد شرح الله صدرك للإيمان وأرضيت الملك الديان فجزاه يوقنا خيرًا وملك قلعة أشفكياص وجعل يدعو بالرجال ويعرض عليهم الإسلام فمن أسلم تركه وضمن بعضهم بعضًا حتى لا ينهزم أحمد منهم ويروح إلى صاحب قرقيسيا ويخبره بما صنع يوقنا وبعد أيام أشرف عليهم عبد الله بن غسان وسهيل بن عدي في ألفي فارس فأراهم يوقنا التمنع والإعراض وناشبهم القتال خمسة أيام وقد عرفوا أن ذلك منه حيلة وأرسل يعلمهم في السر أن القلعتين في يده والليلة أسلمهما إليكم وأظهر الهرب إلى قرقيسا فلعل الله أن يفتحها على يدي فلما كان من الليل أمر شرجوان أن يسلمهما إليهم ثم إن المسلمون أعلنوا بالتهليل والتكبير ووقع الصائح من كل جانب وشهروا القواضب وكان في يومه هذا قد وصل الرسول من صاحبه قرقيسيا بالهدايا والتحف إلى يوقنا يهنئه بالسلامة والخلاص من العرب والرجوع إلى دينه فقبل يوقنا الهدية وأنزل الرسول في خيام أصحابه وكانوا قد ضربوا لهم وطافًا في الجانب الشرقي فلما صار أصحابه المسلمين في قلعة زبا أظهر يوقنا الفزع والهلع وقال‏:‏ وحق ديني ما هؤلاء العرب‏.‏
إلا شياطين ثم إنه أخذ بعض ثقل ابنته في الليل وساروا يطلبون قرقيسيا ففي ذلك قال طريف أحد بني ربيعة بن مالك وهو سائر صحبة المسلمين الصحابة رضي الله عنهم هذه الأبيات‏:‏ أتينا إلى أرض الفرات مع الزبا ونحن نروم الروم من كل فاجر وقد أمننا ليث الحروب وسهمها همام شجاع قاتل كل كافر وأعني بيوقنا عليه تحية يناصب للأعدا حيلة غادر وقاتل أبناء الصليب وحزبهم بحد حسام ماضي الصفج باتر وصاح على الملعون قوم زلوبيا فأوردوه في الحال سكنى المقابر وملكننا قي القلعتين كلاهما بسعد وإقبال ونصرة قادر سيحظى غداة البحث يوم معاده بروح وريحان‏.‏
وحور قواصر حدثنا سيف بن عمرو التميمي قال‏:‏ حدثنا الأنصاري عن المهلب عن طلحة عن محمد بن أبي الدقيلي بن ميسور قال‏:‏ لما كان من أمر يوقنا وأشفكياص ما ذكرناه وأرى من نفسه الهرب سار مع ابنته وأصحابه والرسول معهم يرومون قرقيسيا وكم منهزمون فوصلوها مساء ودخلوا معه على شهرياض وأعلموه بأخذ القلعتين وكيف فعل معهم العرب فأيقن بهلاكه وأخذ بلاده‏.‏
فقال له يوقنا‏:‏ أيها السيد لا تخف فنحن نقاتل بين يديك حتى نموت وإن نزلت العرب علينا يريدون حصارنا لأرينك العجب بقتالهم ولن يصلوا إليك بسوء فوثق بقوله وخلع عليه وطيب قلبه وأنزله بدار جواره وبعث شهرياض من ليلته إلى خاله وهو يومئذ ملك أرض ربيعة برأس العين فأرسل يستنصر به على العرب ويعلمه أن العرب قد أخذوا قلعتي زبا وزلوبيا وأن الرجل المعظم يوقنا ملك حلب قد هرب منهم بعد خدمته لهم وهو عندي فسار الرجل الرسول إلى دير مريع ومنه إلى المجدل إلى رأس العين فوجد رسول شهرياض الملك بأعظم تحصين قد أعد آلة الحصار وزاد في عرض خندقها ونصب خيامه ومضاربه على مغاربها وعلى طريق النقب وهو معول على لقاء عياض بن غنم ومن معه‏.‏
وقد جمع عنده سائر عرب الجزيرة من بني تغلب وغيرهم وقد صانع لهما سماطًا واستدعى بأمرائهم وهم نوفل بن مازن والفريد بن تغلب بن عاصم والأشجع بن وائل وميسرة بن وائل وميسرة بن عاصم وحزام بن عبد الله وقارب بن الأصم وقال لهم‏:‏ يا فتيان العرب لم نزل نرعى صغيركم وكبيركم وحريمكم وعبيدكم وقد أبحناكم أرضنا ترعون في حزنها وسهلها ونرضى منكم بما تؤذون إلينا من أوباركم فأنتم آمنون وهؤلاء بنو عمكم قد ملكوا الشام ومعاقله وأرض مصر وما معها ولم يكفهما ذلك حتى أقبلوا إلينا يريدون أن يزاحمونا على ملكنا ويخرجونا من أرضنا وقد علمتم أن القوم إن ظفروا بكم لا يبقون عليكم ولا يرضون منكم إلا أن تدخلوا في دينهم أو تقاتلوا عن دينكم وأهلكم وأموالكم فكونوا يدًا واحدة لا ينفصل منكم شيء كما كان جبلة بن الأيهم وآل غسان مع الملك هرقل فإن نحن نصرنا على القوم فالأرض لنا ولكم على السواء وإن كانت الأخرى فنموت على دين واحد ويبقى ذكرنا إلى الأبد‏.‏
قال‏:‏ فأجابوه إلى ذلك وتحالفوا وتعاقدوا أن يموتوا على سيف واحد فأعطاهم الأموال والعدد والسلاح وساروا معه‏.‏
قاله‏:‏ ثم إن رسول صاحب قرقيسيا قدم عليه وأعطاه كتاب ابن أخته شهرياض فلما قرأه وفهم ما فيه وأنه يطلب منه النجدة أرسل إليه يوريك الأرمني وهو الذي بنى تل المؤزر والسن وتل عرب وعابدين والسوائد فأرسله ومعه أربعة آلاف فلما قدم الأرمني ومعه أربعة آلاف فارس إلى قرقيسيا وكانوا قد قطعوا جسرهم الذي كان على الخابور وكان الجسر على أعمدة من حديد وعليها سلاسل وعلى السلاسل أرماح وكذلك أيضًا من ناحية الفرات وحفروا حول مدائنهم خندقًا عميقًا عريضًا وحصنوا مدائنهم غاية التحصين وأقاموا ينتظرون عسكر الصحابة رضي الله عنهم‏.‏


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: فتح مصر
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء إبريل 23, 2008 9:17 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
فتح البهنسا وما فيه من الفضائل
وما وقع فيه للصحابة رضي الله عنهم قالت الرواة بأسانيد صحيحة عمن حضر الفتح من أصحاب السير والتواريخ مثل الواقدي وأبي جعفر الطبراني وابن خلكان في تاريخ البداية والنهاية ومحمد بن إسحق وابن هشام وكل منهم دخل حديثه الآخر لما في ذلك من اختلاف الرواة ممن حضر الفتوحات وشاهد الوقعات من الصحابة رضي الله عنهم‏.‏
قالوا‏:‏ وحضر ذلك معظم الصحابة وكبراؤهم مثل عبد الله بن عمرو بن العاص أمير الجيوش على مصر وأخيه محمد وخالد بن الوليد وابنه سليمان وقيس بن هبيرة المرادي والمقداد بن الأسود الكندي وميسرة بن مسروق العبسي والزبير بن العوام الأسدي وابنه عبد الله وضرار بن الأزور ومن بني عم النبي صلى الله عليه وسلم مثل الفضل بن العباس وجعفر بن عقيل ومسلم بن عقيل وعبد الله بن جعفر ومن أبناء الخلفاء مثل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبان بن عثمان رضي الله عنهم وقد اختصرنا في أسمائهم خوف الإطالة وكلهم حدثوا بما عاينوا من الفتوح وما شاهدوا من الوقعات وحدثوا بذلك أبناءهم رضي الله عنهم وقد أخذنا هذه الفتوح على قاعدة الصدق لإثبات فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم إذ لولاهم ما كانت البلاد للمسلمين ولا انتشر علم هذا الدين ولقد نفذت سراياهم في الأرض شرقًا وغربًا حتى ولت الأعداء منهم هربًا وسكبوا دماءهم في الأرض سكبًا واستباحوا أموال الكفار نهبًا وسلبًا والله قد جعل منهم في قلوب أعدائه خوفًا ورعبًا فهم نجوم الهداية وأهل الولاية قد شرعوا الشرائع ورتلوا القرآن ترتيلا‏.‏
قال الله في حقهم تعظيمًا وتبجيلًا‏:‏ ‏{‏فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏‏.‏
قال‏:‏ حدثنا أبو عبد الله محمد بن المحدث المصري غفر الله له‏:‏ اطلعت على فتوحات كثيرة فوجدت فيها زيادة ونقصانًا وكذلك تواريخ منقولة وكنت قدمت المدينة - يعني البهنسا - لزيارة جبانتها لما رأيت في ذلك من الفضائل والفضل والأجر والخير والحبور‏.‏
فإن زيارتها تمحص الذنوب وتكشف الكروب وتحسن الأخلاق وتدر الأرزاق وتورث النصر على الأعداء وتكفي البأس والردى لما فيها من السادات الشهداء ممن باع نفسه لله وقتل في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ممن قال في حقهم من له الفضل والمنة‏:‏ ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ فهم ‏{‏أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏ فزرنا الجبانة في ساعة الأسحار‏.‏
ورأينا ما فيها من الأنوار وبزيارة قبور السادة والأخيار نرجو من الله أن يحط عنا الذنوب والأوزار فلما قضينا الزيارة ولاحت لنا تلك الإشارة أخبرنا عن تلك السادة الأمجاد وما كان لهم من الصبر على الغزو والجهاد فسألني بعض الأصحاب عن سبب فتح مدينة البهنسا ليدفع البأس والردى فحرك لذلك خاطري حتى أسهرت لذلك ناظري وطالعت التواريخ والفتوحات وتجنبت المزاحات حتى انتخبت هذا الكتاب فهو كالدرة اليتيمة التي لا يعرف لها قيمة ترتاح عند سماعه النفوس ويزول لهم البؤس ويشجع على الجهاد ويعين على إقامة العدل في البلاد ابتغاء لوجه الله الكريم راغبًا في ثواب الله العميم وذلك بعد الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين ونحن نبتدئ‏.‏
بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
قال‏:‏ حدثني من أثق به من الرواة ممن تقدم ذكرهم‏.‏
قال‏:‏ لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مصر والإسكندرية والبحيرة والوجه البحري كله جميعًا كان بالصعيد نوبة وبربر وديلم وصقالبة وروم وقبط وكانت الغلبة للروم كان أكثرهم روما‏.‏
ثم استشار عمرو بن العاص أصحابه أي جهة يقصد وهل يسير بالجيوش شرقًا أو غربًا وما يصنع فأشاروا عليه بمكاتبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فكتب إليه يقول‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏
من عبد الله عمرو بن العاص عامل أمير المؤمنين على مصر ونواحيها إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلام عليك ورحمة الله وبركاته‏:‏ أما بعد فإني أحمد الله وأثني عليه وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام على من بالمدينة من المهاجرين والأنصار والحمد لله قد فتحت لنا مصر والوجه البحري والإسكندرية ودمياط ولم يبق في الوجه البحري مدينة ولا قرية إلا وقد فتحت وأذل الله المشركين وأعلى كلمة الدين وقد اجتمعت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السادات والأمراء والأخيار المهاجرين والأنصار يطلبون الإذن من أمير المؤمنين هل يسيرون إلى الصعيد أو إلى الغرب والأمر أمرك يا أمير المؤمنين فإنهم على الجهاد قلقون وباعوا نفوسهم لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم وكتب هذه الأبيات‏:‏ صوارمنا تشكو الظمأ في أكفنا وأرماحنا تشكو القطيعة كالهجر إليك افتقاد الحرب يا طيب الثنا ويا من أقام الدين بالعز والنصر فقد ولعت خير الكرام إلى العدا بنو شيبة الحمد السري وبنو فهر وصالت لؤي مع معد وعالب وسادات مخزوم الكرام عوى المفخر تروم مسيرًا للأعادي على شفا تمكن من أعلاهم البيض كالسمر بكل كميت صاعق الرعد صائل يرى درعه الزاهي تمكن بالصبر نرى الموت في وقع الوقائع مغنمًا ونكسب من قتل العدا غاية الأجر قال الواقدي‏:‏ فلما فرغ عمرو بن العاص من الكتاب عرضه على أصحابه ثم طوى الكتاب وختمه واستدعى برجل يقال له سالم بن بجيعة الكندي وسلم إليه الكتاب ودفع له ناقة عشارية فاستوى على كورها وخرج يريد المدينة وهو يقول‏:‏ أسير إلى المدينة في أمان وأرجو الفرز في غرف الجنان وأرجو أن يقرب لي اجتماعي وأعطي ما أريد من الأماني ألا يا ناقتي جدي وسيري إلى نحو النبي بلا امتهان وأقرئيه السلام وأنشديه كلامًا صادقًا حسن البيان ألا يا أشرف الثقلين يا من به شرف المدينة والمكان فكن لي في المعاد غدًا شفيعًا إذا ما قيل هذا العبد عاني قال الواقدي‏:‏ ولم يزل سائرًا ليلًا ونهارًا حتى قدم المدينة الطيبة الأمينة بعد صلاة العصر فدخل وأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها بفضل ذمامها ودخل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم على قبره الشريف وصلى ركعتين بين القبر والمنبر ثم تقدم فوجد عمر بن الخطاب فسلم عليه‏.‏
قال‏:‏ فرد علي السلام وصافحني وكان لما رآني أقبلت وأنا فرحان قال‏:‏ سالم جاء بكتاب من مصر مرحبًا به‏.‏
ثم التفت وعن يمينه علي بن أبي طالب وعن شماله عثمان بن عفان وحوله من السادات والمهاجرين والأنصار مثل العباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وطلحة بن عبد الله وبقية الصحابة رضي الله عنهم حوله ثم ناولته الكتاب‏.‏
فقال‏:‏ ما وراءك يا سالم فأنت سالم في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى‏.‏
فقلت‏:‏ الخير والبشرى والأمن يا أمير المؤمنين فلما قرأ الكتاب فرح واستبشر وكانت تلك الغنائم قد وصلت إلى المدينة قبل ذلك بأيام وقسمت على الصحابة رضي الله عنهم ثم إنه استشار عمر رضي الله عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن حضر فأشار عليه علي بن أبي طالب أن عمرو بن العاص لا يسير بنفسه ليكون أهيب له في قلوب أعدائه وأن يجهز جيشًا عشرة آلاف فارس ويؤمر عليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه سيف الله‏.‏
فقال عمر‏:‏ صدقت وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خالد سيف الله تعالى‏)‏‏.‏
وفي رواية‏:‏ ‏(‏إن خالدًا سيف لا يغمد عن أعدائه‏)‏‏.‏
ثم بات سالم تلك الليلة‏.‏
فلما أصبح صلى الصبح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
ثم أقبل على أمير المؤمنين عمر يسأله الجواب‏.‏
فعندها استدعى عمر رضي الله عنه بدواة وقرطاس ثم كتب كتابًا يقول فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى عامله على مصر ونواحيها عمرو بن العاص سلام عليك ورحمة الله وبركاته‏.‏
أما بعد‏:‏ فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام عليك وعلى من معك من المهاجرين والأنصار ورحمة الله وبركاته وقد قرأت كتابك وفهمت خطابك فإذا قرأت كتابي هذا فاستعن بالله واربط الخيل وأرسل الأمراء لكل بلد أمير ليقيموا شرائع الدين ويعلموا الأحكام‏.‏
ثم انتدب عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقر عليهم خالد بن الوليد وأرسل معه الزبير بن العوام والفضل بن العباس والمقداد بن الأسود وغانم بن عياض الأشعري ومالكًا الأشتر وجميع الأمراء وأصحاب الرايات ينزلون على المدائن ويدعون الناس إلى الإسلام فمن أجاب فله ما لنا وعليه ما علينا ومن أبى فليأمروه بأداء الجزية وإن عصى وامتنع فالحرب والقتال وأمرهم إذا حاصروا مدينة أن يشنوا الغارات على السواد وإن بمصر مدينتين كما بلغني إحداهما يقال لها أهناس قريبة من مصر والثانية يقال لها البهنسا أمنع وأحصن وبلغني أن بها بطريقًا طاغيًا سفاكًا للدماء يقال له البطليوص وهو أعظم بطارقة مصر كما بلغني وأنه ملك الواحات فلا تقربوا الصعيد حتى تفتحوا هاتين المدينتين وعليك بتقوى الله في السر والعلانية أنت ومن معك وأنصف المظلوم من الظالم وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وخذ حق الضعيف من القوي ولا تأخذك في الله لومة لائم وأقم أنت بمصر وأرسل الأجناد وإن احتجت إلى مدد فأرسل وكاتبني وأنا أرسل لك المدد والمعونة من الله عز وجل وأسأل الله تعالى أن يكون لكم بالنصر والمعونة والفتح والحمد لله رب العالمين‏.‏
ثم طوى الكتاب وختمه بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى سالم فأخذه وودع الصحابة وودع قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وصلى ركعتين وسار ولم يزل سائرًا حتى قدم مصر فوجد عمرًا والصحابة نازلين بأرض الجيزة وكان زمن الربيع وهو جالس في خيمته وأصحابه عنده وهذه الخيمة كانت لملك القبط من الحرير الأزرق والأحمر والأصفر سعتها ثلاثون ذراعًا وقد فرش فيها فرشًا كان للقبط وهو جالس يتحدث مع المقداد وخالد والفضل وغانم والأمراء جميعهم رضي الله عنهم وهو كأحدهم‏.‏
قال سالم‏:‏ فأنخت ناقتي فسمعت عمرًا يقول وأنا خلف الخيمة‏:‏ قد أبطأ سالم‏.‏
فقال خالد‏:‏ كأنك به وقد أقبل فهويت فأحس خالد بي من داخل الخيمة ولم يرني بعينه ولا غيره ولا علم بي فقال‏:‏ سالم فقلت‏:‏ لبيك يا أبا سليمان فقال‏:‏ مرحبًا بك يا سالم وحياك الله‏.‏
ثم تقدمت وسلمت على عمرو وخالد وعلى بقية الأمراء‏.‏
ثم ناولته الكتاب فقرأه إلى آخره وفهم ما فيه‏.‏
فلما سمع الأمراء ما فيه فرحوا بذلك فرحًا شديدًا‏.‏
ثم إن عمرًا استشار الأمراء في ذلك وكانوا لا يفعلون شيئًا إلا بمشورة بعضهم ولذلك مدحهم الله في كتابه العزيز بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأمرهم شورى بينهم‏}‏ ‏[‏الشورى 38‏]‏‏.‏ فأشاروا عليه أن يرسل خلف الأمراء والجنود المتفرقة في البحيرة شرقًا وغربًا وأن يرتب الجيوش ويقصدوا الصعيد ويتوكلوا على الله عز وجل‏.‏
قال الواقدي‏:‏ وكانت الصحابة لما فتحت مصر والوجه البحري قد تفرقوا فمنهم في الإسكندرية وأمسوس ودمياط ورشيد وبلبيس وكان أكثرهم بوسط البحيرة في المكان المعروف بالمنزلة مثل القعقاع بن عمرو التميمي وهاشم بن المرقال وميسرة بن مسروق العبسي والمسيب بن نجيبة الفزاري‏.‏
فعندها استدعى عمرو رضي الله عنه بالنجابة والسعاة وعمرو بن أمية الضمري ومثل هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين وكتب الكتب وأرسلها للأمراء فعندها أجابوا بأجمعهم لأنهم رضي الله عنهم كانوا أشوق للقتال من العطشان للماء البارد الزلال وتركوا في البلاد والمدائن من يحفظها أو يحرسها خيفة من العدو وأقبلوا نحو مصر مسرعين ونزلوا حولها وأخبر عمرو رضي الله عنه بقدومهم فدخل دار الإمارة وهي قريبة من الجامع العمري وأقبلت السادات والأمراء يسلمون عليه وكان ذلك نهار الأربعاء عاشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين من الهجرة النبوية وقيل اثنتين وعشرين والله أعلم‏.‏
قال‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله‏.‏
قال‏:‏ حدثنا عبيدة بن رافع عن أبيه جحيفة عن جابر بن عبد الله الأنصاري وحدث بذلك ابن سلمة رضي الله عنه‏.‏
قالوا‏:‏ لما قدمت الأمراء والأجناد من الصحابة رضي الله عنهم أقاموا الأربعاء والخميس والجمعة فخطب عمرو رضي الله عنه بالناس‏.‏
فلما فرغ من خطبته أمر الناس أن لا يتفرقوا حتى يقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‏.‏
فقرأ عليهم الكتاب‏.‏
فلما فرغوا من قراءته تواثبوا كلهم كالأسود الضارية المشتاقة إلى فرائسها وقالوا كلهم‏:‏ سمعنا وأطعنا ولأرواحنا في سبيل الله بذلنا وللجهاد طلبنا وفي الثواب رغبنا وإلى الجنة اشتقنا ففرح عمرو بذلك وقال‏:‏ إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أولي عليكم سيف الله والنقمة على أعداء الله صاحب القتال الشديد والبطل الصنديد خالد بن الوليد‏.‏
قال الواقدي‏:‏ وكان خالد بن الوليد صديق عمرو في الجاهلية وأسلما في يوم واحد‏.‏
ثم التفت عمرو إلى خالد وقال‏:‏ ادن مني يا أبا سليمان فدنا منه فقال عمرو‏:‏ يا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم كلكم لكم الفضل وإني لست بأفضل وفيكم من هو ذو قرابة ونسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تعلمون ما فتح الله على يديه من البلاد وما أذل الله على يديه من الأجناد‏.‏
قال الواقدي‏:‏ فوثب الفضل بن العباس رضي الله عنه وقال‏:‏ أيها الأمير إنا بذلنا أنفسنا في رضا الله عز وجل وما نريد بذلك إلا رفعة عند الله عز وجل وإن خالدًا من أخيارنا ولو أمرت علينا عبدًا حبشيًا لامتثلنا أمره في رضا الله عز وجل فناهيك بخالد وهو سيد من سادات قريش عزيز في الجاهلية والإسلام فتهلل وجه خالد وعمرو فرحًا ثم أمرهم بالنزول جميعًا بأرض الجزيرة قريبًا من الهرم الشرقي وأقبلوا يضربون خيامهم حوله حتى تكاملت العساكر رضي الله عنهم أجمعين‏.‏
قال الراوي بسنده إلى الواقدي وابن إسحق وابن هشام‏:‏ لما تكاملت الجيوش وذلك في ربيع الآخر من السنة المذكورة صلى عمرو بأصحابه صلاة الصبح ثم قام من ساعته يمشي على قدميه وحوله جماعة من المسلمين ومعه خالد بن الوليد والمقداد بن الأسود الكندي والزبير بن العوام الأسدي والفضل بن العباس الهاشمي وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وهاشم بن المرقال والمسيب بن نجيبة الفزاري والعباس بن مرداس وأولاد عبد المطلب وبقية السادات حتى طلع على رابية وأشرف على الجيش فلما رأى اجتماعهم سر سرورًا عظيمًا‏.‏
ثم أمر بعض الجيش فتقدمت الأمراء أصحاب الرايات وصار كل أمير يعرض جيشه وبني عمه على عمرو بن العاص فكانت عدتهم فيما ذكر والله أعلم ستة عشر ألف فارس فانتدب منهم عشرة آلاف فارس كلهم ليوث عوابس وعليهم الدروع الداودية متقلدين بالسيوف الهندية معتقلين بالرماح الخطية راكبين الخيول العربية من خيار أمة خير البرية فعند ذلك قال لهم عمرو‏:‏ يا معاشر الأمراء أصحاب الرايات والسادات الأخيار إن خالدًا أمير عليكم فاسمعوا له وأطيعوا وكونوا كلمة واحدة ونازلوا المدائن والقلاع وشنوا الغارات على السواد ولا تقاتلوا قومًا حتى تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإن أبوا فأداء الجزية فإن أبوا فالقتال بينكم وبينهم ‏{‏حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 87‏]‏‏.‏ وأرسلوا الطلائع ولا يكون في الطلائع إلا كل فارس كرار في الحرب والقتال وثبتوا أنفسكم ولا يغرنكم كثرة أعدائكم فأنتم الغالبون فقد ذكر الله في كتابه المكنون المبين ‏{‏كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏‏.‏ وأحسنوا نياتكم وثبتوا عزائمكم فأنتم الغالبون والله معكم وأنتم كلكم أهل الفضل والسابقة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلتم بين يديه ولا تحتاجون إلى وصيتي بارك الله فيكم‏.‏
قال الراوي‏:‏ ثم إن عمرًا استدعى بأصحاب الرايات فكان أول من تقدم بعد خالد الزبير بن العوام رضي الله عنه وهو راكب على جواده الأغر شاك سلاحه فسلمه الراية وأمره على خمسمائة فلما خرج بعسكره هز الراية وأنشد يقول‏:‏ أنا الزبير ولد العوام ليث شجاع فارس الإسلام وإنني يوم الوغى صدام وناصر في حانها الإسلام قال‏:‏ ثم استدعى بالفضل بن العباس وأقره على خمسمائة فارس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسلم الراية بيده وتوجه وهو يقول‏:‏ إني أنا الفضل أبي العباس وفارس منازل حواس معي حسام قاطع للرأس وفالق الهامات والأضراس أفني به الأعدا بلا الباس وما علي فيهم من باس قال‏:‏ ثم استدعى بزياد بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وسلمه الراية وكان رضي الله عنه فارسًا عظيمًا وبطلًا صنديدًا فتسلم الراية وتوجه وهو ينشد‏:‏ أنا الفارس المشهور يوم الوقائع بحد حسام في الجماجم قاطع ورمحي على الأعداء ما زال طائلًا إذا التحم الأعداء للضد قاطع وعزمي في الهيجاء ما زال ماضيًا برأي سديد للمحاسن جامع أصول على الأعداء صولة قادر وأشبعهم ضربًا ببعض لوامع إمام الوغى من آل ذروة هاشم حماة البرايا كالبدور الطوالع قال‏:‏ ثم استدعى من بعده عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول‏:‏ أسير إلى الأعادي باهتمام بقلب صادق حصن الذمام بأبطال جحاجحة أسود سراة في الوغى قوم كرام أبيد بهم عداة الدين جمعًا ولا أخشى من القوم اللئام إذا ما جلت في الهيجا برمحي أصول به وفي أيدي حسامي قال‏:‏ ثم استدعى من بعده عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأقره على خمسمائة فارس فتسلم الراية وتوجه وهو يقول‏:‏ وحق من أنزل الآيات في السور وأرسل المصطفى المبعوث من مضر لا أنثني عن لقا الأعدا ولو جمعت حماة أبطالهم يوماص كما الدبر حتى أبيدهم ضربًا وأتركهم فوق الثرى خمشًا مخدوشة الصدر بكل قوم همام ماجد نجد إلى الوقائع يوم الحرب مبتدر نحن الكرام الذي للدين أرسلنا إمام دين الورى غيث الندا عمر أنا ابن عقيل من لؤي وغالب همام شجاع للأعادي غالب حماة الوغى أهل الوفا معدن الصفا إلى جود يمنانا مسير الركائب ولا يعرف المعروف إلا بعرفنا ولا الجود إلا جودنا كالمواهب علا مجدنا فوق الثنا وسناؤنا علا شرفًا فوق كل الكتائب فيا ويل أهل البغي منا إذا التقت فوارسنا فيهم بحد القواضب قال‏:‏ ثم استدعى من بعده أخاه الفضل وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتسلمها وتوجه وهو يقول‏:‏ إني أنا الفضل أبي عقيل أسير للحرب بلا تمهيل بحد سيف قاطع صقيل به أبيد الكافر الجهول أنا ابن عم أحمد الرسول المرسل المبعوث في التنزيل قال‏:‏ ثم استدعى من بعده المقداد بن الأسود الكندي وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول‏:‏ أنا المقداد في يوم النزال أبيد الضد بالسمر العوالي فيا ويل العدا والروم منا إذا التحم الفوارس في القتال وهم صرعى كأعجاز نخل بقعها الفوارس بالنصال قال‏:‏ ثم استدعى من بعده عمار بن ياسر وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول‏:‏ أنا الهمام الفارس الكرار أفني بسيفي غضبة الكفار إن جالت الخيل بلا إنكار وقام سوق الحرب من عمار حمى لدين المصطفى المختار صلى عليه الواحد القفار وأله وصحبه الأخيار ما بان ليل وأضا نهار قال‏:‏ ثم استدعى من بعده العباس بن مرداس السلمي وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول‏:‏ أنا العباس ذو رأي قويم معي سادات آل بني سليم أدل بهم حماة البغي لما ترى الهيجاء كالليل البهيم وسيفي ماضي الحدين أضحى لأهل الشرك والموت العميم قال‏:‏ ثم استدعى من بعده أبا دجانة الأنصاري رضي الله عنه وسلمه الراية فتوجه وهو يقول‏:‏ أسير باسم الواحد المنان جهرًا لأهل الكفر والطغيان أذيقهم ضربًا على الأبدان بكل هندي مبيد الجان أنصر دين مصطفى العدناني صلى عليه الملك الديان وآله والصحب والإخوان ما ناح قمري على الأغصان قال‏:‏ ثم استدعى من بعده غانم بن عياض الأشعري رضي الله عنه وسلمه الراية وتوجه وهو يقول‏:‏ إني إذا انتسب الفوارس أشعري قرم همام في المعامع عنتري بحماة أبطال الأعادي نزدري وبراحتي من القواضب أبتري يوم التلاطم للفوارس مسكر وأحوم حومات الغزال الجؤذري فلأقتلن فوارسًا وعوابسًا وأذيقهم مني العذاب الأكبر قال‏:‏ ثم استدعى من بعده أبا ذر الغفاري وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول‏:‏ سأمضي للعداة بلا اكتتاب وقلبي للقا والحرب صابي وإن صال الجميع بيوم حرب لكان الكل عندي كالكلاب أذلهم بأبيض جوهري طليق الحد فيهم غير آبي قال‏:‏ ثم استدعى من بعده القعقاع بن عمرو التميمي والمغيرة بن شعبة الثقفي وميسرة بن مسروق العبسي ومالكًا الأشتر النخعي وذا الكلاع الحميري والوليد وعقبة بن عامر الجهني وجابر بن عبد الله الأنصاري وربيعة بن زهير المحاربي وعدي بن حاتم الطائي ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم وقد اقتصرنا في أشعارهم خوف الإطالة وكل واحد يسلمه راية ويؤمره على خمسمائة فارس قال‏:‏ فلما تكاملوا وتجهزوا خرج عمرو وأصحابه فودعهم وسارت الكتائب وتتابعت المواكب يطلب بعضها وخلفهم الذراري والصبيان حتى أتوا الجيزة ونزلوا بمكان يعرف بالمرج الكبير قريب من تلك المدائن والقرى والرساتيق وتقدمت الطلائع يتجسسون الأخبار وقد كان بدهشور بطريق عظيم من قبل مارنوس صاحب أهناس وكان فارسًا مكينًا وكلبًا لعينًا قاتله الله وكان يقول في نفسه أنه يناظر البطليوس في ولايته لكن البطليوس صاحب البهنسا لعنه الله كان أشد بأسًا وأعظم مراسًا وكثر عددًا وأقوى مددًا وأوسع بلادًا فكاتبه في ذلك وكاتب روسال صاحب الأشمونين وكاتب أقراقيس صاحب قفط وكان يحكم على أخميم وكاتب الكيكلاج وكان يحكم إلى عدن والبحر المالح إلى بلاد البجاوة والنوبة وحد السودان وتسامع الناس بمسير العرب إلى الصعيد وكاتبت الملوك بعضها بعضًا وماج الصعيد بأهله إلى حد الواحات ووقع الرعب في قلوبهم فعند ذلك وثبت مكسوج ملك البجاوة وحليف ملك النوبة وجمعوا ما حولهم من أرض النوبة والبجاوة والبربر وأتوا إلى أسوان‏.‏
وكان مع ملك البجاوة ألف وثلثمائة فيل عليها قباب الجلد بصفايح الفولاذ في كل قبة عشرة من السودان طوال القامة عراة الأجساد على أوساطهم وأكتافهم جلود النمور وغيرها ومعهم الحرق والحراب والكرابيج والقسي والمقاليع والأعمدة الحديد والطبول والقرون وكانت عدتهم عشرين ألفًا فلما وصلوا أسوان خرجوا إلى لقائهم بعسكرهم وأعلموهم بأمرهم وساروا إليهم بالملاقاة من الذرة والشعير والقصب ولحوم الخنازير والضباع وغيرها من الوحوش فأنزلوهم وضيوفهم ثلاثة أيام ثم خرج بطريق أسوان ومعه جيش حتى وصلوا إلى ملك قفط صاحب القرية القريبة من قوص وعمل معهم مثل ذلك وسير معهم جيشًا وساروا حتى وصلوا إلى أنصنا وكان بها بطريق عظيم وبطل جسيم وكان منجمًا وكان يحكم شرقًا وغربًا وكانت مدينته عظيمة على شاطئ البحر وبها جند كثير وعجائب عظيمة ولها حصن عظيم من الحجر علوه ثلاثون ذراعًا ومن داخلها قصور ومقاصير وكنائس وقلاع على أعمدة الرخام وغيرها في المدينة فلما نزلت تلك العساكر على أنصنا خرج إليهم بطريقها جرجيس بن قابوس وتلقاهم وأرسل معهم ابن عم له يسمى قيطارس وكان فارسًا شديدًا في أربعة آلاف فارس ولم يزالوا سائرين حتى نزلوا بواد البهنسا عند بطريق يسمى قلوصا من بطارقة البطليوس فلما سمع بهم البطليوس خرج إلى لقائهم في عسكر عظيم زهاء من خمسين ألف فارس من البطارقة وعليهم الدروع المذهبة وأقبية الديباج المرقومة بالذهب الوهاج وعلى رؤوسهم التيجان المكللة باللآلئ والجواهر راكبين على خيول وبراذين مسرجة عليها سروج الذهب والجنائب مغطاة بأغشية من الحرير الملون المرقوم بالذهب والفضة والخز وكان معه خمسون صليبًا طول كل صليب أربعة أشبار من الذهب تحت كل صليب ألف فارس على كل صليب رمانة من الذهب المنقوش وهم في زي عظيم عجيب وقد أكثروا من الطبول والزمور وضرب القرون والمعازف حتى ارتخت الأرض ومعهم الجمال والبغال والجاموس فلما التقوا ترجلت الملوك والبطارقة للقائهم وسلم بعضهم على بعض وتكلموا فيما بينهم بسبب العرب فقال لهم البطليوس‏:‏ لا تطمعوا العرب فيكم ولا في بلادكم فإنما مثل العرب كمثل الذباب إن تركته كل وإن منعته فر وهلك فاثبتوا واصدقوا العزم فلقد كاتبت لكم سنجاريب ملك برقة وكاتبت ملك الواح وكأنكم بهم قد أتوا إليكم ولولا أنني أخشى أن الحرب يأتون إلى بلادي لما يسمعون أني خرجت إليهم فيشتغل جماعة بقتالكم وجماعة يأتون إلى بلادي فيملكونها وليس فيها من يذب عنها إذا خرجت معكم لكنت في خدمتكم فإنا نجد في الكتب القديمة أنهم إذا ملكوا البهنسا ونواحيها فلا تقوم لأهل الصعيد قائمة‏.‏
قال كرماس الرومي وكان ممن أسد بعد ذلك وحضر وحدث به‏:‏ يا معاشر الملوك والبطارقة إني قد اطلعت على الكتب القديمة وفيها أنهم إن ملكوا البهنسا ونواحيها فلا تقوم لأهل الصعيد بعد ذلك قائمة قال فلما سمع الملوك ذلك صقعوا له ثم انتدب من بطارقته عشرين ألفًا ممن عرفت شجاعتهم وبراعتهم وملك عليهم صاحب الكفور وكان كافرًا طاغيًا وكان اسمه بولص وكان لعينًا ودفع له صليبًا من الذهب وعلمًا من الحرير الأطلس الأصفر مرقومًا بالذهب فيه صورة الشمس ودفع لهم ما يحتاجون له من الجنائب والقباب والسرادقات ومضارب الديباج الملون وأواني الذهب والفضة والصناديق المملوءة بالذهب والفضة والبراذين والبغال وعليها أحمال الحرير الملون وبعضها محمل بالأواني المذكور والخيام والسرادقات وسارت العساكر وتتابعت الملوك بالمواكب يتلو بعضها بعضًا حتى قربوا من مدينة ببا الكبرى فخرج إليهم بطريقًا صندراس وتلقاهم وفعل معهم كما فعل البطليموس وأضافهم وجهز معهم جيشًا عشرة آلاف فارس من صناديد بطارقته وولي عليهم بطريقًا اسمه دارديس وكان يناظر بطريق الكفور في الشجاعة والقوة والبراعة وساروا حتى قربوا من مدينة برنشت فخرج إليهم بطريقها فتلقاهم وكان يناظر البطريق الأعظم رأس بطارقة الكوة ولم يزالوا سائرين حتى ملؤوا الأرض قال الراوي‏:‏ وأما ما كان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم لما نزلوا قريبًا من دهشور كما ذكرنا وكانت العيون من المسلمين من بني طيء ومذحج ينزلون ويتزيون بزي العرب المتنصرة يتجسسون الأخبار حتى اختلطوا بالعساكر المذكورة وكانوا حذاقًا متفرسين فلما رأوا ذلك هالهم أمره‏.‏
قال الراوي‏:‏ حدثني سنان بن قيس الربعي عن طارق بن مكسوح الفزاري عن زيد بن غانم الثعلبي وكان ممن حضر الفتوح وشهد الوقعة صحبة جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه‏.‏
قال‏:‏ بينما نحن جلوس نصلح شأننا بالمرج ونحن على أهبة السفر إذ قدمت الجواسيس فأخبروا خالدا بقدوم العساكر‏.‏
فقال لهم‏:‏ هل حزرتم الجيوش‏.‏
فقالوا‏:‏ نعم نحو مائتي ألف فارس وخمسين ألف راجل من النوبة والبربر والبجاوة والفلاحين وغيرهم وهم في أهبة عظيمة ومعهم ألف وثلثمائة فيل وعلى ظهورها الرجال كما وقع في يوم حرب العراق فلما سمع الأمراء ذلك اضطربوا وثبتوا جنانهم وقالوا‏:‏ ‏{‏قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وقال خالد‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قرأ ‏{‏الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏ ثم إن خالد قال لأصحابه‏:‏ ولا تهتموا لذلك واصبروا ‏{‏وأنتم الأعلون والله معكم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 35‏]‏‏.‏ فليست جموعهم بأكثر من جموع اليرموك ولا من جموع أجنادين ومع ذلك فقد ملكتم مصرهم التي هي تاج عزهم وملكتم الوجه البحري وقتلتم مائة من ملوكهم وبطارقتهم وقد صارت الشام واليمن والعراق والحجاز بأيديكم وقد دانت لكم البلاد وقد كنتم قليلًا فكثركم الله وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها وقاتلتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرتم بالملائكة ووعدكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه يستخلفكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم ومن قتل منكم كان له الجنة وتنتقل روحه إلى روح وريحان ورب غير غضبان فلما سمعوا كلامه تهللت وجوههم فرحًا وقالوا‏:‏ يا خالد نحن كلنا بين يديك وقد وهبنا أنفسنا لله ابتغاء وجه الله ومرضاته‏.‏


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: فتح البهنسا
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة مايو 02, 2008 6:02 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه

ثم إن خالدًا وجه يزيد بن معرج التنوخي إلى عمرو بن العاص مسرعًا وأعلمه بذلك فترك في مصر ابن عمه خارجة وكان رجلًا صالحًا وأخرج معه أربعة آلاف فارس وترك في مصر نحو أربعين فارسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليهم أربعة آلاف فارس فلما أقبلوا سلموا عليه وقالوا‏:‏ كنا نحن نكفيك أيها الأمير‏.‏
فقال لهم‏:‏ أعلم ذلك ولكنكم في أول بلاد العدو وما ينبغي أن أقعد عنكم ففرحوا بذلك وتأهبوا للقاء العدو‏.‏
وكانوا كل يوم يخرجون الطلائع يتجسسون الأخبار فلما كان في بعض الأيام خرج الفضل بن العباس بن عبد المطلب وأخوه عبد الله بن العباس وجعفر بن عقيل وأخواه علي ومسلم وعبد الله بن الزبير وسليمان بن خالد بن الوليد ومحمد بن فرجه بن عبد الله بن المقداد وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمرو بن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وزياد بن المغيرة بن شعبة وتبعهم من السادات نحو أربعمائة سيد من أولاد الصحابة والأمراء أصحاب الرايات وألف وستمائة من أخلاط العرب من المهاجرين والأنصار ولبسوا دروعهم وتقلدوا بسيوفهم واعتقلوا برماحهم وتنكبوا بحجفهم وساروا إلى قريب من دير هناك بسفح الجبل يعرف بدير المسيح يكشفون الأخبار فبينما هم كذلك إذا بغبار طلع إلى عنان السماء وانعقد فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا‏:‏ هذا غبار وحش وقال بعضهم‏:‏ لو كان كذلك لكان تقطع قطعًا وتفرق فرقًا وإنما هذا عسكر جرار وإن الخيل إذا داست بحوافرها ارتفع الغبار‏.‏
قال الواقدي‏:‏ حدثنا أبو الزناد عن عبد الله عن أبي مالك الخولاني عن طارق بن شهاب الجرهمي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما نحن نتحدث مع الفضل وإذا بالغبار قد قرب منا وانكشف عن عشرة آلاف فارس ومعهم الأعلام والصلبان فلما رأونا رطنوا بلغتهم ثم لم قال الراوي‏:‏ وكان ضرار بن الأزور قد انفرد ومعه مائتان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل النجدة وساروا في طريق الجبل على غير الجادة فبينما هم يسيرون إذا بالغبار قد ثار وانكشف عمن ذكرنا فلما عاينوهم أيقنوا بالهلاك فعندها وثب ضرار رضي الله عنه وقال‏:‏ لا فرار من الموت فلم يمهلوهم دون أن داروا عليهم فرأوا أن لا بد لهم من القتال والتقت الرجال بالرجال وصبروا صبر الكرام وأحاطت بهم الروم اللئام من كل جانب ومكان فلله در ضرار لقد قاتل قتالًا شديدًا فلم يكن غير ساعة حتى قتل من جماعة ضرار جماعة وكبا به جواده فأسروه وأسروا جماعة من أصحابه وكان الذي قاتلهم رأس البطارقة صاحب ببا الكبرى فأوثقوا ضرارًا وأصحابه كتافًا وربطوهم على ظهور خيولهم وأرسلوهم إلى العسكر وانفلت من القوم مولى من موالي عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق يقال له سالم فسار يجد في مسيره حتى قدم على خالد وعمرو فعند ذلك وثب المسيب بن نجيبة الفزاري ورافع بن عميرة الطائي وأخذا معهما ألفًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسارا ومعهما رجل من أسلم من الجيزة يدلهم على طريق غير الجادة وكمنوا هناك عند الدير وقد سبقوا البطريق الذي أسر ضرار وأصحابه وقد اختفى عنهم الأثر فقال الدليل‏:‏ أظنكم قد سبقتم القوم أكمنوا ههنا وكان الذي مضى بضرار وأصحابه خمسمائة فارس‏.‏
قال الراوي‏:‏ وكانت خولة بنت الأزور قد شق عليها أسر أخيها ضرار فلما سار المسيب ورافع وجماعتها في صلب أخيها تهللت فرحًا وأسرعت في لبس سلاحها وأتت إلى خالد وقد هم القوم بالمسير وقالت‏:‏ أيها الأمير سألتك بالطاهر المطهر إلا ما سيرتني مع هؤلاء عسى أن أكون مشاهدة لهم‏.‏
فقال خالد للمسيب ورافع‏:‏ أنتما تعلمان شجاعتها وبراعتها فخذاها معكما فقالا‏:‏ السمع والطاعة ونزلوا بالمكان المذكور فبينما هم كذلك كامنون إذا بغبرة قد لاحت لهم فقال لهم رافع‏:‏ أيقظوا خواطركم فأيقظت القوم هممهم فإذا بهم قد أتوا محدقين بضرار وهو متألم من كتافه وهو ينشد ويقول‏:‏ ألا بلغا قومي وخولة أنني أسير رهين موثق اليد بالقيد وحولي علوج الروم من كل كافر وأصبحت معهم لا أعيد ولا أبدي فلو أنني فوق المحجل راكبًا وقائم حد العضب قد ملكت يدي لأذللت جمع الروم إذلال نقمة وأسقيتهم وسط الوغى أعظم الكد فيا قلب مت همًا وحزنًا وحسرة ويا دمع عيني كن معينًا على خدي فلو أن أقوامي وخولة عندنا وألزم ما كنا عليه من العهد كبا بي جوادي فانتبذت على الوغى وأصبحت بالمقدور ولم أبلغن قصدي قال الراوي‏:‏ فنادته خولة من مكمنها‏:‏ قد أجاب الله دعاك وقبل تضرعك ونجواك أنا خولة ثم كبرت وحملت وكبر رافع والمسيب‏.‏
قال جبير بن سالم وكنا إذا كبرنا تصهل الخيول إلهامًا من الله تعالى فما كان أكثر من ساعة حتى قتلناهم عن آخرهم وخلص الله ضرار وأصحابه وأخذنا خيل القوم وأسلابهم وسلاحهم وكانت أول غنيمة‏.‏
قال الراوي‏:‏ ولما تخلص ضرار وأصحابه ركب جواده عريانًا وأخذ قناة كانت مطروحة وحمل على القوم وهو يقول‏:‏ لك الحمد يا مولاي في كل ساعة مفرج أحزاني وهمي وكربتي فقد نلت ما أرجوه من كل راحة وجمعت شملي ثم أبرأت علتي سأفني كلاب الروم في كل معرك وذلك والرحمن أكبر همتي فيا ويل كلب الروم إن ظفرت يدي به سوف أصليه الحسام بنقمتي وأتركهم قتلى جميعًا على الثرى كما رمة في الأرض من عظم ضربتي قال الراوي‏:‏ فلما فرغ ضرار من شعره إذا بالخيل قد أقبلت منهزمة وكان السبب في ذلك أنه لما حملت الروم على الفضل بن عباس صاح هو وبنو عمه ولم يرعهم وصبروا صبر الكرام واشتد الزحام وعظم المرام وجرت الدماء واسودت السماء وحمي الوطيس وقل الأنيس وهمهمت الأبطال وقوي القتال وعظم النزال ودارت رحى الحرب واشتد الطعن والضرب وجالت الرجال واشتد القتال وضربت الأعناق وسالت الأحداق وعظمت الأمور وغابت البدور وكان المسلمون لا يظهرون فيهم لكثرتهم ولا يعرف بعضهم بعضًا إلا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وقد صبر الفضل صبر الكرام فلله در الفضل لقد اصطلى الحرب بنفسه فكان تارة يقلب الميمنة على الميسرة وتارة يقلب الميسرة على الميمنة ويقاتل والراية بيده ولله در مسلم بن عقيل وأخويه لقد قاتلوا حتى صارت الدماء على دروعهم كقطع أكباد الإبل ولله در سليمان بن خالد بن الوليد المقتول بوقعة الدير قريبًا من طرا بقرية تسمى دهروط وقتل معه عبد الله بن المقداد وجماعة وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏
قال محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه‏:‏ وقاتلنا قتال الموت وأيقنا أن المحشر من ذلك الموضع ولم نزل في قتال من ارتفاع الشمس حتى غربت وقد قتل من الروم مقتلة عظيمة وتقدم الفضل إلى بطريق عظيم راكب كأنه برج من ذهب وطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره فلما رأت الروم ذلك شجعوا أنفسهم فشا القتال بيننا وبينهم وقتل من المسلمين أربعون رجلًا وقتل منهم ثلثمائة لكن الرجل ما قتل منا حتى قتل جماعة من الروم فبينما نحن كذلك وقد أيقنا أن الموت في ذلك الموقف ووطنا عليه نفوسنا وإذا بغبرة قد طلعت والعجاج قد ارتفع وانقشع الغبار عن رايات إسلامية وعصابة محمدية زهاء من ألفي فارس وفي أوائلهم فرسان أمجاد سادات أنجاد أحدهم المقداد والثاني زياد والقعقاع بن عمرو وشرحبيل بن حسنة ومعهم ألف فارس فلم يمها المقداد دون أن حمل وخاض في الخيل وهو ينشد ويقول‏:‏ ألا إنني المقداد أكبر صائل وسيفي على الأعداء أطول طائل إذا اشتدت الأهوال كنت أمامها وأضرب بالسمر الطوال الذوابل ولي همة بين الورى تردع العدا لها تشهد الأبطال بين القبائل فليس لسيفي في الأنام مبارز وليس لشخصي في الأنام منازل ثم إنه خاض في وسط الحرب وحمل من بعده زياد بن أبي سفيان وهو ينشد ويقول‏:‏ أنا زياد بن أبي سفيان جدي يرى من أشرف العربان كذا ابن عمي أحمد العدناني معي حسام ثم رمح ثاني أطعن كل كافر جبان وكل قلب ناقص الإيمان قال الراوي‏:‏ ثم غاص في وسط القوم فقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة وغاص في القلب فولت الروم من بين يديه منهزمين‏.‏
وهو يضرب بالسيف فيهم طولًا وعرضًا ثم حمل من بعده القعقاع بن عمرو التميمي وهو ينشد ويقول‏:‏ معي حسام يبرئ الأوجاع ويقطع الهامات والأضلاع يا ويل أهل الشرك والنزاع مني إذا في الحرب طال الباع قال‏:‏ ثم حمل عن بعده شرحبيل بن حسنة وهو يقول‏:‏ ألا يا عصبة الإسلام صولوا على الأعداء بالسيف الصقيل أذيقوهم حياض الموت جهرًا بلذع السمهرى الرمح الطويل وموتوا في الوغى قومًا كرامًا شدادًا في المعامع والنزول قال الراوي‏:‏ ثم تتابعت الفرسان يتلو بعضها بعضًا هذا وزياد غائص في القوم كما ذكرنا وقصد البطريق الأعظم صاحب ببا الكبرى وضربه على عاتقه الأيمن بالسيف فأطلع السيف يلمع من عاتقه الأيسر وقد أجابته المسلمون بتكبيرة واحدة وكبرت الجبال وارتجت الأرض لوقع حوافر الخيل وحمل كل أمير على بطريق فقتله فلم تكن إلا ساعة حتى ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار لا يلوي بعضهم على بعض وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون حتى بلغت الهزيمة جرزة وميدوم فبينما ضرار وأصحابه مقبلون وإذا بالروم منهزمة كما ذكرنا وخيل المسلمين في أثرهم يقتلون ويأسرون ولم يعلموا ما جرى لضرار ورفقته فلما رأوه سلموا عليه وهنئوه وأصحابه بالسلامة فقص عليهم ما جرى لهم واجتمعوا بالمسيب وأصحابه وأروهم مكان المعركة ومكان قال الراوي‏:‏ وإن عمرًا وخالدًا لما خرج الفضل وأصحابه قلق عليهم فقال خالد لعمرو‏:‏ يا أبا عبد الله لقد غزر الفضل وأصحابه بمن معه من المسلمين وإني أخشى أن تكون للروم طليعة فيغيروا على أصحابنا‏.‏
قال عمرو‏:‏ كذلك هجس بخاطري يا أبا سليمان فما ترى من الرأي‏.‏
قال خالد‏:‏ الرأي عندي أن أرسل طليعة أخرى خلفهم‏.‏
قال‏:‏ نعم الرأي ثم استدعى الزبير بن العوام وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهما وأعلمهما بذلك وأراد خالد أن يركب معهما فمنعه الزبير وحلف لا يسير إلا هو وانتخب معه فرسانًا فساروا حتى قربوا من القوم والتقوا بالمسلمين فوجدوهم قد كسروا الروم كما ذكرنا ثم جمع المسلمون الأسلاب والسلاح والخيل ورجعوا إلى أصحابهم وهم فرحون بالنصر على أعدائهم‏.‏
قال الراوي‏:‏ فلما رجع المسلمون إلى العسكر وكان معهم ستمائة أسير أعلن المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فأجابهم المسلمون كذلك ولما عاينوا الأسلاب والأسارى معهم فرحوا بذلك وسلم بعضهم على بعض وتلقاهم عمرو وخالد وباقي الأمراء تفاءلوا بالنصر وقدموا الأسارى وعرضوهم على عمرو وخالد وأوقدوا النيران بالمرج وباتوا يقرؤون القرآن ويتضرعون إلى الله الواحد المنان وليس فيهم إلا من هو راكع أو ساجد‏.‏
قال الراوي‏:‏ هذا ما جوى لهؤلاء وأما المنهزمون فإنهم مضوا إلى البطارقة والملوك وأخبروهم بما وقع من أموهم فعظم عليهم عن قتل واستعدوا للقتال وركبوا خيولهم وإبلهم وأفيالهم وتزينوا بزينتهم وساروا يجدون المسير وقد أكثروا الطبول والزمور والصنوج‏.‏
قال قيس بن الحرث‏:‏ وأقام المسلمون بعد الوقعة يومًا فبينما نحن في اليوم الثاني بعد صلاة الصبح وكان الأجاويد من الأمراء والأبطال في كل يوم يركبون ويستنشقون الأخبار فبينما هم ينتظرون إذ ثار الغبار حتى تعلق بالجو وانكشف عن رجال وخيول كالجراد المنتشر والسيل المنحدر وارتخت الأرض من ازدحام الخيل وقعقعة اللجم فرجعوا وأعلموا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاح الصائح في العسكر‏:‏ النفير النفير يا خيل الله اركبي في الجنة اركبي والثواب اطلبي فتواثب المسلمون إلى قدومهم ولبسوا دروعهم وإلى خيولهم فركبوها وإلى راياتهم فنشروها وإلى زينتهم فأظهروها وإلى قلوبهم من الغش فطهروها ونفوسهم لله باعوها فلم تكن إلا ساعة حتى استعدوا وأقام خالد وعمرو يعبيان قومهما للقتال فجعلا في القلب أصحاب اللعن والضرب مثل الفضل بن العباس وبني عمه من سادات بني هاشم وهم جعفر ومسلم وعلي أولاد عقيل بن أبي طالب وزياد بن أبي سفيان بن الحرث ومثل هؤلاء الأبطال وجعل في الجناح الأيمن الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود الكندي والمسيب بن نجيبة الفزاري وجعل في الجناح الأيسر القعقاع بن عمرو التميمي وهاشم بن المرقال وغانم بن عياض الأشعري وأبا ذر الغفاري وجابر بن عبد الله الأنصاري ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم وثبت خالد وعمرو في القلب ومعهما عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعقبة بن عامر الجهني وبقية الصحابة من الأمراء أصحاب الرايات ممن شهد الوقائع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عبد الله بن زيد عن أبي أمامة رضي الله عنه وكان من أصحاب الرايات‏.‏
قال‏:‏ فبينما نحن كذلك إذا بأعلام المشركين قد انتشرت وراياتهم قد ظهرت وزينتهم وصلبانهم قد ارتفعت ولغتهم بالكفر قد طمطمت وأفيالهم قد أقبلت ورجالهم للقتال قد تبادرت فلما رأى المسلمون ذلك أخلصوا نياتهم ولم يهلهم ما رأوا من عدوهم وتضرعوا بالدعاء لخالقهم وقد استغاثوا بمالكهم وأكثروا من الصلاة على نبيهم ولم يزالوا سائرين حتى قربوا من القوم ورأوهم رأي العين فعند ذلك أمسك المشركون أعنة خيولهم وسلاسل أفيالهم وألقى الله الرعب في قلوبهم ثم خرج منهم بطريق من عظماء بطارقتهم كأنه برج مشيد من ذهب وهو لا يبين منه غير حماليق الحدق وتدوير المآق وبين يديه فارس من متنصرة العرب وهو يصيح بملء فيه‏:‏ يا معاشر العرب أرسلوا إلى الملك أحدًا يكلمه فأعلم المسلمون عمرًا وخالد بن الوليد بذلك فأراد خالد أن يخرج إليه فمنعه الأمراء من ذلك فعندها وثب المقداد بن الأسود وحلف لا يخرج إليه إلا هو بنفسه‏.‏
فقال عمرو وخالد‏:‏ يا أبا عبد الله انظر ما يكلمك به الأعلاج وادعهم إلى كلمة الإخلاص المنجية يوم القصاص فإن أبوا فالجزية عن يد وهم صاغرون فإن أبوا قاتلناهم ‏{‏حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 87‏]‏‏.‏
قال الواقدي‏:‏ فعندها ركب المقداد جواده وسار حتى وقف بين يدي البطريق وكان ذلك بولص صاحب الكفور الطاغي اللعين بطريق البطليوس وقد أتى بإذن الملك والبطارقة فلما رآه كلمه بلسان عربي مبين ثم قال‏:‏ يا بدوي أأنت أمير قومك‏.‏
قال‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ فإني لا أريد إلا الأمير حتى أسأله عما بدا لي لعل أن تكون فيه مصلحة بينكم وبيننا‏.‏
فقال المقداد‏:‏ سل عما بدا لك وما تريد فإنا قوم إذا فعل أحدنا أمرًا وفيه نصح للدين ومصلحة للمسلمين لا ينكر عليه ذلك ويجيز له الأمير ما فعل فأخبرني عن أمرك وشأنك‏.‏
قال‏:‏ لا يكلمني إلا أمير القوم وإن كان عنده خوف مني ألقيت سلاحي‏.‏
فقال المقداد وقد ضحك من كلامه‏:‏ ويحك يا عدو الله لو كنت أنت وأمثالك بأسلحتهم ما فكرنا فيهم وإن الواحد منا لو وقع في ألف منكم لتلقاهم بنفسه ولا أهمه ذلك والمعونة من الله تعالى فإنا وطنا أنفسنا على الموت ونعلم أن هذه الدنيا فانية ولا يبقى إلا وجه الله تعالى فاسألني عما بدا لك‏.‏
فقال له‏:‏ لا أسمع إلا كلام الأمير فدع عنك كثرة المطاولة‏.‏
قال المقداد‏:‏ إن لنا أميرين‏:‏ أحدهما متولي الأمر والآخر قائد الجيوش فأي أمير تريد‏.‏
قال‏:‏ أخبرني بأسمائهما‏.‏
قال‏:‏ أما الذي هو متولي الأمر فيسمى عمرو بن العاص والآخر يسمى خالد بن الوليد‏.‏
قال‏:‏ إني أريد خالدًا سمعت عنه أمورًا وأحوالًا وأن الروم تتحدث عنه بعجائب كثيرة‏.‏
قال الواقدي‏:‏ وكان الملعون قد سمع بذكر خالد وفراسته وقال في نفسه‏:‏ لعلي أغدره فإني إن قتلته كان لي الفخر على جميع الروم وينكسر بذلك ناموس العرب وإن لم أقدر عليه أسمع ما يقول من خطابه قال‏:‏ فعند ذلك لوى المقداد عنان جواده ورجع إلى خالد فعند ذلك قال خالد لأصحابه‏:‏ إن المقداد قد رجع وإن عدو الله لا يريد إلا إياي فإن طلبني مضيت إليه وإن رأيت منه غدرًا أخذت روحه من بين كتفيه وأستعير عليه بالملك العلام‏.‏
قال الراوي‏:‏ فبينما خالد يتحدث بهذا الكلام إذا بالمقداد قد وصل وأعلم عمرًا وخالدًا بما وقع فعندها خرج خالد رضي الله عنه مبادرًا عليه لامة حربه فعلق به أكابر أصحابه فحلف أنه لا بد له من الخروج إليه ثم خرج مبادرًا حتى وقف بين يديه فلما رأى خالدًا قد وصل إليه احترز على نفسه وأراد أن يخدع خالدًا ويهجم عليه فقال خالد‏:‏ أيها البطريق ها أنا خالد سل حاجتك والذي جئت به وإياك والمخادعة فإني جرثومة الخداع‏.‏
فقال بولص‏:‏ يا خالد اذكر لي الذي تريد وقرب الأمر بينا وبينكم واحقن دماء الناس واعلم أنك مسؤول عن ذلك وواقف غدا بين يدي الله عز وجل فإن كنت تريد شيئًا من الدنيا فلن نبخل به عليكم وندفعه صدقة منا إليكم لأنه ليس عندنا في الأمم أضعف محكم حالًا وقد علمنا أنكم كنتم في بلادكم قبل أن تفتحوا البلاد في قحط وجوع وتموتون هزالًا وقد ملكتم بلادًا وشبعتم لحمًا وركبتم خيولًا مسومة وتقلدتم بسيوف مجوهرة وسعدتم بعد فقركم وفاقتكم فإن طلبتم منا شيئًا أعطيناكم إياه بطيبة قلوبنا فلا تطمعوا في بلادنا كما طمعتم في غيرها واقنعوا منا بالقليل‏.‏
قال فلما سمع خالد مقالته قال‏:‏ يا كلب النصرانية وأخس من غمس في ماء المعمودية إنه قد بعث الله إلينا نبينا فهدانا من الضلالة وأنقذنا من الجهالة وإننا قد ملكنا الله بأيدينا ما أغنانا به عن صدقتكم وأحل لنا أموالكم وأباح لنا نساءكم وأولادكم إلا أن تقولوا‏:‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن أبيتم ذلك فتؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبيتم ذلك فالسيف حكم بيننا وبينكم حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين والله ينصر من يشاء وإن الحرب والقتال أحب إلينا وأشهى من الصلح وإن كنتم تزعمون أنه لم تكن أمة أضعف منا عندكم فأنتم عندنا بمنزلة الكلاب فإن الواحد منا يقاتل منكم ألفًا وإن هذا ليس بخطاب من يطلب الصلح فإن كان هذا الطمع ترجو به أن تصل إلي بانفرادي عن أصحابي فذلك منك بعيد وإن أردت القتال فدونك فإني كفء لك ولأصحابك إن شاء الله تعالى فلما سمع بولص كلام خالد وثب في سرجه وقال‏:‏ ليس لك عندي إلا هذا السيف ثم جرد نفسه ودنا من خالد رضي الله عنه وشابكه وضرب بيده في درعه ووثب كل منهما على الآخر واستغاث الملعون بأصحابه وقال لهم‏:‏ بادروا إلي فقد أمكنني الصليب من أمير العرب فابتدر إليه البطارقة من كل جانب وخرج كردوس عظيم أكثر من مائتي فارس وجردوا السيوف وأتوا إلى خالد رضي الله عنه‏.‏
فلما رآهم خالد مقبلين إليه وثب وثبة الأسد وصاح بجواده وانتزع نفسه من البطريق بعد أن أحاطت به الروم وجاء كردوس ثان وخالد يضرب فيهم يمينًا وشمالًا وعدو الله بولص يصيح ويقول‏:‏ يا ويلكم خذوه قبل أن يفوتكم قال‏:‏ وكان ضرار والفضل بن العباس وعلي بن عقيل وعبد الله بن المقداد وسليمان بن خالد رضي الله عنهم على كثيب قريب من الروم فلما رأوا الروم والسيوف بأيديهم وقد أحاطوا بخالد ركضوا خيولهم وكان أول من ابتدر للحرب ضرار بن الأزور رضي الله عنه وهو ينشد‏:‏ عليك ربي في الأمور المتكل اغفر ذنوبي إن دنا مني الأجل يا رب وفقني إلى خير العمل وعني امح سيدي كل الزلل أنا ضوار الفارس القرم البطل باعي على الأعداء أضحى المتصل أقمع بسيفي الروم حتى يضمحل ما لي سواك في الأمور من أمل قال الراوي‏:‏ حدثنا رفاعة بن قيس‏.‏
قال‏:‏ حدثنا حامد بن عياض عن أبيه عن جده عن نافع بن علقمة الربعي‏.‏
قال‏:‏ كنت في القلب في عسكر عمرو يوم وقعة الروم بمرج دهشور‏.‏
قال‏:‏ بينما نحن ننظر إذ رأينا السيوف جذبت وأحاطت بخالد بن الوليد فخرجنا كردوسًا من أجاويد الرجال من طرف الميمنة وبادرناهم ولحقناهم وإذا قد سبق من ذكرنا يعني ضرارًا والجماعة المذكورين فكان أول من قدم على الروم ضرار وهو عريان بسراويله قابضًا على سيفه وهو يزأر كالأسد والقوم من ورائه يتبعوه حتى وصلوا وضرار أمامهم وهو واثب على جواده وثبة الأسد مسرعًا وهو يهر السيف وهو زاحف على بولص فارتعدت فرائصه‏.‏
وقال‏:‏ يا خالد دعني من هذا الشيطان واقتلني أنت ولا تدعه يقتلني فإني أتشاءم من طلعته‏.‏
فقال‏:‏ هو قاتلك لا محالة‏.‏
هذا مبيد الأقران هذا قاتل وردان وملك التركمان ومبيد عبدة الصلبان ومن يكفر بالرحمن فبينما هم في المجاورة وإذا بضرار قد أقبل وهز سيفه وصرخ‏:‏ يا عدو الله لم تغن عنك خديعتك شيئًا ولا غدرك بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يضربه بسيفه فصاح به خالد‏:‏ اصبر يا ضرار حتى آمرك بقتله ووصلت إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل يبادر إلى قتله فقال لهم خالد‏:‏ اصبروا‏.‏
قال‏:‏ ونظر بولص لعنه الله إلى ما حل به وقد جذبه ضرار من قربوس سرجه واقتلعه وجلد به الأرض فغشي عليه فأشار بأصبعه وقال‏:‏ الأمان يا خالد‏.‏
فقال له خالد‏:‏ يا كلب النصرانية لا يعطى الأمان إلا لأهل الأمان أنت رجل أردت أن تمكر والله خير الماكرين فلما سمع ضرار ذلك لم يمهله دون أن ضربه بالسيف على عاتقه الأيمن فأطلع السيف يلمع من عاتقه الأيسر فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وتبادرت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعوا السيف فيهم فلما رأى الروم ما حل بهم حملوا بأجمعهم وتقدمت أصحاب الفيلة وعلى ظهورها الرجال والتقى الجمعان الفريقان واشتد القتال وعظم النزال وصفت الصفوف وازدحمت وتلفت النفوس وقطعت الرؤوس وبطل القيل والقال وقتلت الرجال وزمجرت الأبطال واشتد القتال واتسع المجال وعظم البلاء واسودت السماء وثار الغبار وقدحت حوافر الخيل الشرار وطمطمت السودان وكفروا بالرحمن وثار العجاج وزمجرت الأعلاج وقاتلت أصحاب الفيلة قتالًا شديدًا وقد قسموهم أربع فرق‏:‏ فرقة مما يلي الميمنة وفرقة مما يلي الميسرة وفرقة مما يلي القلب وفرقة مما يلي العسكر وتصايحت النوبة والبجاوة والروم فلله در خالد بن الوليد لقد قاتل قتالًا شديدًا فكان تارة في القلب وتارة في الميمنة وتارة في الميسرة وكذلك الأمير عمرو بن العاص والزبير بن العوام والفضل بن العباس الهاشمي والقعقاع بن عمرو التميمي وغانم بن عياض الأشعري رضي الله عنهم على الساقة مع النساء والولدان والذراري والصبيان وانقطع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وهاشم بن المرقال إلى كردوس ينوف على ألف فارس من الروم والسودان فغاصوا في أوساطهم وكان فيهم بطريق من بطارقة الكورة اسمه عرنالن بن ميخائيل فلما رأى ما حل به وبأصحابه بادر إلى الصليب ليقبله وينظر إليه ثم رطن الروم بلغتهم وأحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يتمكنوا منهم فعندها وثب عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى ذلك البطريق فحمل عليه وكان عليه ديباجة صفراء من فوق درعه وعلى رأسه بيضة تلمع كأنها كوكب وفي وسطه منطقة من الجوهر فتعاركا مليًا وتصادما سويًا ثم إن عبد الرحمن ضربه بالسيف في نحره فأطاح رأسه عن بدنه فلما رأى الروم ذلك حملوا على عبد الرحمن وأصحابه بأجمعهم حملة واحدة وصبر لهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل منهم مشتغل بنفسه عن نصرة صاحبه وأيقنوا بالهلاك‏.‏
وخرج عبد الرحمن وفي يده جرح هائل والدم يسيل عن درعه فتناول السيف بيده اليسرى وجعل يقاتل بها وجرح هاشم بن المرقال أحد عشر جرحًا في يده وفي وجهه وهو يمسح الدم مرارًا فأيقنوا بالهلاك‏.‏
وكان الفضل بن العباس وبنو عمه ممن ذكرنا تارة في الميمنة وتارة في الميسرة وحملوا في أعراض القوم حتى وصلوا الكردوس الذي فيه عبد الرحمن وعبد الله بن عمر وهاشم بن المرقال فوجدوا الروم قد أحاطوا بعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعقروا جواده من تحته وأصحابه يذبون عنه وعبد الله بن عمر تارة يمنع عنه بالسيف وتارة بالرمح وجراحاته تتدفق لحمًا وقد جرح عبد الله بن عمر في يده ست جراحات هائلة فلما رأى الفضل ذلك بادر هو وأصحابه وكانوا عشرين فارسًا وخرقوا الصفوف وضرب فارسًا ممن أحاط بعبد الرحمن على رأسه فقطع البيضة ونزل إلى أضراسه فانجدل صريعًا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فلما سقط عن جواده ابتدره عبد الرحمن وركب الجواد وقاتلوا أولئك حتى دفعوهم عن أصحابهم وكانت جماعة من الأوس وهمدان مما يلي الجناح الأيسر فعطف عليهما كردوس من الروم والسودان فأزالوهم عن أماكنهم وكشفوهم عن مراتبهم وفروا بين أيديهم فصاح بهم أبو هريرة رضي الله عنهم وابنه عبد الله ومالك بن الأشتر‏:‏ يا قوم لا تولوا فرارًا من الموت أتريدون أن تكونوا عارًا عند العرب فما عذركم غدًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
أما سمعتم قول الله عز وجل ‏{‏فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ الآية الله الله الجنة تحت ظلال السيوف والموعد عند قبر المصطفى‏.‏
قال‏:‏ فلم يلتفتوا إليهم ولم يقبلوا كلامهم ووصلت الهزيمة إلى غانم بن عياض الأشعري وأصحابه والنساء والصبيان فلما رأت النساء ذلك صحن في وجوههم وفعلن كما فعلن يوم اليرموك وصرن يضربن وجوه الخيل بالأعمدة وقاتلت خولة بنت الأزور قتالًا شديدًا فلما رأى غانم ذلك وكان معه قيس بن الحرث ورفاعة بن زهير المخزومي وخمسمائة فارس من أهل العدة والنجدة صاح غانم‏:‏ النجدة يا أصحاب رسولا الله فتواثبوا إليهم وحملوا عليهم حملة واحدة بصدق نية وثبات فلما رأوا ذلك ولوا منهزمين‏.‏
قال الواقدي‏:‏ ولم يزل السيف يعمل في الرجال من أول النهار إلى وقت العصر وأنزل الله النصر على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأفيال والرجال الذين على ظهورها تضرب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنشاب فجاء مفرج بن عيينة الفزاري إلى فيل مقدم على أربعمائة فيل فطعنه في إحدى عينيه فاشتبك الرمح في عينه وما قدر أن يجذبه فبرطع الفيل هاربًا وألقى ما على ظهره من الرجال وداسهم برجليه فقتلهم فتبعته الفيلة التي خلفه وألقت ما على ظهورها من الرجال وداستهم بأرجلها فصاح مفرج‏:‏ دونكم وخراطيمها ومشافرها فإنها مقاتلة فابتدر بنو فزارة وبنو قراد وبنو عبس يضربون مشافر الفيلة حتى قتلوا منها مائة وستين فيلًا وقتلوا من على ظهورها من الرجال ولم يزل القوم في الكر والفر والقتال الشديد حتى جاء الليل وحجز الفريقين ورجعت الروم والسودان إلى أماكنهم وتفقد المسلمون من قتل منهم فإذا هم مائتان وأربعون رجلًا ختم الله لهم بالشهادة وتفقد المشركون قتلاهم فإذا هم خمسة آلاف من النوبة والبجاوة والروم فبات المسلمون يتحارسون إلى الصباح ويقرؤون القرآن ويدفنون قتلاهم فلما أصبح الصباح وقاموا إلى إصلاح شأنهم إذا بالروم والسودان قد أقبلوا بعددهم وعديدهم وقد أظهروا زينتهم واصطفوا خمسة كل صف أربعون ألفًا والمشاة بين أيديهم خمسون ألفًا‏.‏
قال قيس بن علقمة‏:‏ لقد دخلت الشام والعراق ورأيت جنود كسرى والجرامقة واليرموك وأجنادين ووقعة مصر والقبط وفتح إسكندرية ودمياط فلم أر مثل كسرتهم في مرج دمنور فلما رأيناهم وقد ركبوا ركب خالد وجعل يتخلل الصفوف ويقول لهم‏:‏ إنكم لستم ترون بمصر والصعيد جيوشًا بعد هدا اليوم مثل هولاء وإن كسرتموهم فلا تقوم لهم قائمة أبدًا فاصدقوا في الجهاد وعليكم بالصبر وإياكم أن تولوا الأدبار فتستوجبوا بذلك النار وألصقوا المناكب ولا تحملوا حتى آمر بالحملة‏.‏
قال الراوي
‏:‏وإن البطارقة لما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عولوا على ضربهم شجع بعضهم بعضًا وقال لهم بطرس أخو بولس المقتول‏:‏ اعلموا أنكم إن انكسرتم لا تقوم لكم قائمة بعد هذا أبدًا ويملكون بلادكم ويقتلون رجالكم ويسبون حريمكم وعليكم بالصبر ولتكن حملتكم واحدة ولا تتفرقوا وقدموا الفيلة أمامكم والرجالة خلف ظهوركم واستعينوا بالصليب فهو ينصركم‏.‏
قال الراوي‏:‏ وأما عمرو وخالد فإنهما قالا‏:‏ نريد من يكشف لنا عن القوم ويعود فوثب الفضل بن العباس رضي الله عنه وقال‏:‏ أنا فسار حتى قرب من القوم ورأى زيهم وأهبتهم ورأى شعاع البيض والبيارق والرايات كأجنحة النسور فلما رآه القوم قالوا‏:‏ فارس قد طلع ولا شك أنه طليعة فأيكم يبتدره فابتدره ثلاثون فارسًا فلما نظرهم ولى كأنه منهزم وركض قليلًا حتى بعد ثم لوى عنان الجواد نحوهم وطعن أول فارس والثاني والثالث فدخل رعبه في قلوبهم فانهزموا وتبعهم وهو يصرع فارسًا بعد فارس حتى صرع منهم عشرين فارسًا فلما قرب من الروم ولى راجعًا إلى المسلمين وأعلمهم بذلك فقالوا له‏:‏ غررت بنفسك يا ابن عم رسول الله فقال‏:‏ إن القوم طلبوني وخفت أن يراني الله منهزمًا فجاهدت بإخلاص فنصرني الله عليهم واعلموا أنهم لنا غنيمة إن شاء الله تعالى‏.‏


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة مايو 16, 2008 5:29 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
فأقبل عمرو وخالد يرتبان العساكر ميمنة وميسرة وجناحين كما تقدم في اليوم الأول فجعل في الساقة زياد بن أبي سفيان بن الحرث في ألف فارس حول البنين والبنات والأموال وكانت فيهم النساء اللاتي تقدم ذكرهن في أجنادين واليرموك وهن‏:‏ عفيرة بنت غفار وأم أبان بنت عتبة أخت هند وخولة بنت الأزور ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت ذراع ولبنى بنت سوار وسلمى بنت النعمان وهند بنت عمرون وزينب الأنصارية فهؤلاء من النساء اللاتي عرفن بالشجاعة فقال لهن خالد‏:‏ يا بنات العرب لقد فعلتن فعالًا أرضيتن الله ورسوله والمسلمين بها وقد بقي لكن ذكر يتحدث به جيلًا بعد جيل وهذه أبواب الجنان قد فتحت لكن وأبواب النيران قد فتحت لأعدائكن وإني أحرضكن إذا جاءت الروم والسودان إليكن فقاتلن عن أنفسكن كما قاتلتن في يوم أجنادين ويوم اليرموك فإن رأيتن أحدًا هاربًا فدونكن وإياه بالعمد وأشرفن عليه بولده وقلن له‏:‏ إلى أين تولي عن أهلك وولدك وحريمك وحرضن المسلمين على ذلك فقلن‏:‏ أيها الأمير ما يفرحنا إلا أن نموت أمامك يا أبا سليمان لنضربن وجوه الروم والسودان حتى لا يبقى لنا عذر‏.‏
قال‏:‏ فشكرهن على ذلك‏.‏
ثم عاد خالد إلى الصفوف وجعل يدور بينها بجواده ويحرض الناس على القتال وهو يقول‏:‏ أيها الناس انصروا الله ينصركم وقاتلوا من كفر واحبسوا أنفسكم في سبيل الله واصبروا على قتال أعداء الله وقاتلوا عن حريمكم وأولادكم ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة ولتكن سهامكم تخرج من كبد قوس واحد فإن السهام إذا خرجت جميعًا لم يخل أن يكون فيها سهم صائب واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون‏.‏
واعلموا أنكم لا تلقون بالوجه القبلي مثل هؤلاء اللئام فإنهم حماتهم وبطارقتهم وملوكهم فقالوا‏:‏ سمعًا وطاعة وأقبل خالد ووقف في القلب مع عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقيس بن هبيرة ورافع بن عميرة الطائي والمسيب بن نجيبة الفزاري وذوي الكلاع الحميري وربيعة بن عباس ومالك بن الأشتر والعباس بن مرداس السلمي ونظائرهم من بقية الأمراء‏.‏
ثم زحفوا بسكينة ووقار‏.‏
فلما رأى الروم ذلك والسودان زحفوا وكانوا ملء الأرض طولًا وعرضًا فلما التقى الفئتان وتراكم الجمعان وقد أظهر أعداء الله في زينتهم الصلبان والأعلام ورفعوا أصواتهم بالكفر والبهتان فبينما الناس كذلك إذ خرج راهب كبير عليه جبة سوداء وقلنسوة وزنار فنادى بلسان عربي‏:‏ أيكم أمير القوم فيخاطبني ويخرج إلي فخرج إليه خالد‏.‏
فقال له‏:‏ أنت أمير القوم قال خالد‏:‏ كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله وسنة رسوله‏.‏
فإن أنا بدلت أو غيرت فلا طاعة لي عليهم ولا إمارة‏.‏
فقال القس‏:‏ اعلم أنكم قد ملكتم بلادًا وقدمتم إلى بلاد ما جسر ملك من الملوك أن تتعزض لها ولا يدخلها وإن ملوكًا كثيرة أرادوها فرجعوا خائبين وأفنوا أنفسهم عليها وإن النصر لا يدوم لكم وإن الملوك أرسلوني إليكم‏.‏
فإن سمحتم نجمع لكم مالًا ونعطي لكل واحد منكم ثوبًا وعمامة ودينارًا ولك أنت مائة ثوب ومائة عمامة ومائة دينار ولكل واحد حمل من البر وحمل من الشعير ولك عشرة أحمال ولصاحبكم عمرو عشرة آلاف دينار ومثلها ثياب ومثلها عمائم ومائة حمل بر ومائة حمل شعير وارحلوا عنا وأنتم موقرون أنفسكم فإننا عدد الجراد ولا تظنونا كمن لاقيتم من الفرس والروم وأهل الشام والقبط‏.‏
فإن في هذا الجيش من النوبة والبجاوة والسودان والروم وكبار البطارقة والأساقفة ونجمع عليكم ما لا طاقة لكم به من بلاد السودان والواحات وكأنكم بالنجدة قد وردت علينا وإن بقية الروم لم تأت إليكم وإنما أرسلوا من يقاتل عنهم فقال خالد‏:‏ والله ما نوجع عنكم إلا بإحدى ثلاث خصال‏:‏ إما أن تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية أو القتال وأما ما ذكرت أنكم عدد الجراد فالله قد وعدنا بالنصر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزله في كتابه وأما ما ذكرت أنكم تعطوننا من الثياب والعمائم فعن قريب نلبس ثيابكم وعمائمكم ونملك بلادكم جميعها كما ملكنا الشام ومصر والعراق واليمن والحجاز والروم فقال الراهب‏:‏ أنا أرجع أخبر أصحابي بذلك‏.‏
فإني قد أتيت من قبل البطليوس صاحب مدينة البهنسا وقد أرسلني إلى صاحب أهناس واتفق الملوك والبطارقة وأرسلوني إليكم وأنا أرجع إليهم وأخبرهم بجوابك‏.‏
ثم إن القس لوى راجعًا من حيث جاء فلما رجع إليهم وأخبرهم بذلك كاتبوا ملوكهم على ذلك وأرسلوا جوابهم بالقتال فلما وصلت الكتب تقدمت الروم والسودان وقدموا بين أيديهم الفيلة وأمامهم الرجالة بالقسي والسيوف والدرق والمزاريق فصاح الفضل بن العباس ورفاعة بن زهير المحاربي والقعقاع بن عمرو التميمي وشرحبيل بن حسنة والمقداد بن الأسود الكندي ومعاذ بن جبل وقالوا‏:‏ معاشر المسلمين اعلموا أن الجنان قد فتحت والملائكة قد أشرفت والحور تزينت وأشرفت من الجنان ثم قرأ ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏‏.‏
ثم رتبوا الصفوف فتقدم خالد وقال‏:‏ اقرنوا المواكب واثبتوا واعلموا أن هؤلاء أكثر منكم بعشرة أمثالكم وأزيد فطاولوهم إلى وقت العصر‏.‏
فإنها ساعة النصر على الأعداء وإياكم أن تولوا الأدبار وازحفوا على بركة الله وعونه‏.‏
قال الراوي‏:‏ وتزاحمت السودان والبربر والنوبة والبجاوة فلما تقارب الجمعان رمت أصحاب الفيلة نشابهم فكانت كالجراد المنتشر فقتلوا رجالًا وجرحوا أبطالًا وخالد تارة يضرب بسيفه في الميمنة وتارة في الميسرة وكان في أصحاب الفيلة من السودان والبربر سواكن يسمونهم القواد شفاههم العليا مشقوقة وبها خزام من نحاس‏.‏
فإذا كان وقت الحرب لا يخرجون القواد إلا إذا حمي الحرب واشتد الطعن والضرب وكانوا سودًا طوالًا طول كل واحد منهم عشرة أذرع فإذا أرادوا الحرب جعل في كل خزام سلسلة بطرفين في كل طرف واحد من البربر‏.‏
فإذا وقع صلح بين الفريقين وإلا زحفوا بهم وأطلقوا السلاسل ودفعوا لهم أعمدة من حديد طوالا فيضرب الواحد الفارس والفرس فيقتلها بضربة ومنهم من يركب الفيلة ويقاتل على ظهورها فلما التقى الجمعان خرجت تلك القواد وعلى أجسادهم جلود النمور وفوق أكتافهم مربوطة على صدورهم وفي أوساطهم مثل ذلك وهم عراة الأجساد والرؤوس ليس عليهم غير ما ذكرنا وبأيديهم الأعمدة والرجال يقودونهم بتلك السلاسل والجيوش ينظرون متى يؤمرون بالحملة‏.‏
فلما رأى المسلمون ذلك فمنهم من ثبت ومنهم من جزع‏.‏
قال‏:‏ وبرز البطريق أخو بولص المقتول وهو راكب على جواد عال وعليه لحاف من جلود الفيلة وقاتل‏.‏
قال الراوي‏:‏ حدثني خالد بن أسلم عن طريف بن طارق وكان من الأزد‏.‏
قال‏:‏ لما فعل البطريق ذلك ولت الأزد من بين يديه منهزمين وإذا بفارس قد أقبل يركض بجواده وهو عاري الجسد حتى قرب من القوم وأنشد يقول‏:‏ لقد ملكت يدي سنانًا وصارمًا أذل عداة السوء إن جئت قادما وأتركهم شبه الرخام إذا مشى عليه شجاع لا يزال مصادما وإلا كأغنام مضين بقفرة وأصبح مولاها عن السعي نائما وقد ملك الليث الغضنفر جمعها وأصبح فيها بالمخالب حاطما قال الراوي‏:‏ وصاح الفارس‏:‏ أنا ضرار بن الأزور أنا قاتل ملوك الشام أنا ضرار دين الإسلام والمسلط على من يكفر بالرحمن أنا قاتل بولص الكلب في الطغيان‏.‏
قال فلما سمع الروم كلامه عرفوه فتقهقروا إلى ورائهم فطمع فيهم وحمل عليهم فقال بطرس‏:‏ من هذا البدوي الذي لم يزل عاري الجسد ويقاتل بالسيف مرة وبالرمح مرة قالوا‏:‏ هذا ضرار بن الأزور فتحير الملعون وقال‏:‏ هذا قاتل أخي ولقد اشتهيت أن آخذ بثأره ثم عزم على الخروج إليه فسبقه بولص رأس بطارقة الكورة وقال‏:‏ أنا آخذ بثأرك‏.‏
ثم حمل على ضرار فتجاولا طويلًا واعتركا مليًا فما كان أكثر من ساعة حتى طعنه ضرار طعنة صادقة في صدره خرقت الدروع وخرجت من ظهره فانجدل صريعًا وعجل الله بروحه إلى النار فقال بطرس‏:‏ هذا جني وليس للإنسان أن يقاتل الجن ثم لبس لامة حربه وتعصب بعصابة من اللؤلؤ الرطب ولبس فوق درعه مثل ذلك وخرج يطلب ضرارًا فسبقه شذم أدرس أحد بطارقة الكورة وحلف لا يخرج إليه وغيره وحمل على ضرار وقال‏:‏ دونك والقتال فلم يفهم ضرار ما يقول‏.‏
ثم حمل عليه وأخرج صليبًا من الذهب كان معلقًا في عنقهفضحك ضرار عليه وقال‏:‏ أنت تستعين بالصلبان وأنا أستعين بالملك الديان‏.‏
ثم أرى كل منهما ما أدهش الناس من الحرب فصاح خالد وبقية الأمراء‏:‏ ما هذه الفترة يا ضرار والجنة قد فتحت لك ولعدوك قد فتحت النار‏.‏
فاستيقظ ضرار وحمل على البطريق وصاحت الروم بصاحبها وصاروا في حرب عظيم وحميت عليهم الشمس وثارت الحرب حتى كل منهما الساعدان وعرق تحتهما الجوادان فأشار البطريق إلى ضرار أن يترجل ويترجل البطريق معه شفقة على الجوادين وإذا برأس بطارقة أهناس قد أخرج له جوادًا مجملًا بالحرير ليركبه فلما نظر ضرار إلى ذلك صاح بجواده‏:‏ اثبت معي هذه الساع وإلا أشكوك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذرفت عين الجواد بالدموع وحمحم وجرى أكثر من جريه المعتاد وتلقى ضرار البطريق وحمل عليه وطعنه بعقب الرمح فأرداه وأخذ جواده وأراد قتله وإذا بكردوس خرج من الروم ومعهم الكلب الكبير شاول أحد بطارقة الأشمونيين وأحاطوا بضرار وكان على رأس شاول تاج من الذهب الأحمر فلما رأى الصحابة الكردوس الذي خرج على ضرار والتاج يلمع على رأسه‏.‏
قالوا لخالد‏:‏ ما سبب قعودنا عن نصرة صاحبنا وقد أحاطت به الروم فعندها خرج خالد رضي الله عنه في عشرة عن خيار قومه وهم الفضل بن العباس بن عبد المطلب وأخوه وعبد الله بن جعفر ومسلم وعلي أولاد عقيل وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المقداد وقوموا الأسنة وأطلقوا الأعنة وصبر ضرار للروم حتى وصلت إليه الأمراء وقالوا‏:‏ أبشر يا ضرار فقد أتاك النصر والفرج وقد ذهب عنك الخوف والجزع فلا تخف من الكفار واستعن بالله الواحد القهار فقال ضرار‏:‏ ما أقرب الفرج من الله والتقت الرجال بالرجال وطلب خالد صاحب التاج والعصابة وضرار مع خصمه فلما رأى شاول البطريق المسلمين قد أحدقوا به وما حل بجماعته اندهش وارتعد هذا وضرار مع خصمه وقد أراد الهرب فألقى ضرار نفسه من على جواده وتبعه حتى لحقه‏.‏
ثم رمى الرمح من يده وتواخذا بالمناكب وتصارعا وكان عدو الله كأنه قطعة من جبل وضرار نحيف الجسم غير أن الله أعطاه حولًا وقوة فلما طال بينهما العراك ضرب ضرار بيده في بطن عدو الله فقلعه وجلد به الأرض فصاح يستنجد بالبطارقة وتصارخت الروم والسودان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يمهله ضرار دون أن ركب عليه وهو يعج كالبعير فعندها أظهر ضرار سيفه ومكنه من نحره فقتله فزعق زعقة سمعها العسكران فحملت الروم والسودان هذا وضرار قد احتز رأسه وقام عن صدره وهو ملطخ بالدماء‏.‏
ثم كبر المسلمون ودنا الفريقان بعضهم من بعض والتحمت الأبطال وقوي القتال وعظم النزال وسال العرق وازورت الحدق وعظمت الرزايا وأظلمت الدنيا ودارت رحى الحرب وقوي الطعن والضرب وضاقت الصدور واشتدت الأمور وضاقت المذاهب وقطعت المناكب وما كنت ترى إلا دمًا فائرًا وكفا طائرًا وجوادًا غائرًا هذا وقد زحفت السودان وأصحاب السلاسل ذوو الكفر والطغيان وضربوا بالأعمدة الحديد ويومهم يوم شديد وبانت الشجعان وفر الجبان وبقي حيران وعمرو بن العاص يحرض الناس على القتال ويقول‏:‏ يا أيها الناس ويا حملة القرآن اذكروا غرف الجنان فسر الناس بقوله ونشطوا وصارت السودان يضربون الفارس مع الفرس بالعمد الحديد فيقتلونهما جميعًا وكذلك أصحاب الفيلة يرمون بالنشاب ويضربون بالحراب إلى أن جاء وقت العصر وقد قتل من الفريقين خلق كثير وظفر خالد بخصمه شاول لعنه الله وضربه بالسنان في صدره فخرج السنان يلمع من ظهره ووقع على الأرض يخور بدمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار‏.‏
قال ولما عظم القتال والبلاء قال رفاعة المحاربي وقد انتخب من بني محارب ولبيد ومالك خمسمائة فارس وقصد الفيلة وقاد‏:‏ يا وجوه العرب دونكم وأعينها ودنا من الفيل الأبيض وهو قائدها وهي خمسمائة فيل وتقدم إليه والسيف في يده وهو ينشد ويقول‏:‏ يالك من ذي جثة كبيرة لقيت كل شدة خطيرة اليوم قد ضاقت بك الحظيرة حتى ترى ملقى على الحفيرة قال‏:‏ ثم ضربه بالسيف فولى هاربًا‏.‏
ثم برك وكان عليه عدة من السودان في قبة من الأديم فلما سقط الفيل إلى الأرض قام علج على ظهره وفي يده عمود فضرب به رفاعة فزاغ عنه وضربه رفاعة على عاتقه الأيمن فأطلع السيف يلمع من عاتقه الأيسر فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فتلاحقت العرب بأعجاز الفيلة وصاروا يطعنون الفيلة في أعينها كما ذكرنا فولوا منهزمين‏.‏
قال‏:‏ وقصد خالد والمقداد وأجواد الأمراء القواد الذين تقدم ذكرهم وطلبوا من الله النصر والثبات وصاروا يأتونهم وهم فارس عن اليمين وفارس عن اليسار فيقتلون مساك السلاسل ثم يمسكون أطراف السلاسل ويطلقون الأعنة فينقاد معهم كالبعير الشارد فيأخذون العمود من يده ويقتلونه شر قتلة ولم يزل القوم في قتال ونزال وأهوال حتى جاء الليل وحجز بين الفريقين وقد قتل من الفريقين خلق كثير فأما المسلمون فقد قتلوا منهم اثني عشر ألفًا من الملوك والبطارقة خمسة عشر بطريقًا وملكًا من السودان وغيرهما وبات المسلمون يتحارسون إلى الصباح‏.‏
قال الراوي‏:‏ وكان قد أثخن بالجراح جماعة من المسلمين في ذلك النهار وكان المسلمون طائفة يدفنون القتلى وطائفة يداوون الجرحى وطائفة يقرؤون القرآن وطائفة يصلون وطائفة نيام من كثرة ما لحقهم من التعب وخالد بن الوليد والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم يدورون حول العسكر إلى الصباح فلما لاح الفجر أذن المؤذنون وصلى عمرو بن العاص بالناس الصبح بسورة الفتح‏.‏
ثم دعوا الله عز وجل أن يرزقهم النصر‏.‏
ثم تبادروا إلى خيولهم فركبوها ورتبوا صفوفهم كما ذكرنا فيما تقدم بالأمس فلما فرغ المسلمون من تعبية الصفوف أقبل الأمراء يحرضون الناس على القتال وقد جعلوا على الساقة رافع بن عميرة الطائي والحرث بن قيس ورفاعة بن زهير في خمسمائة فارس‏.‏
قال الراوي‏:‏ قال عبادة بن رافع حدثنا سالم بن مالك عن عبد الله بن هلال وكان في خيل رافع‏.‏
قال‏:‏ لما رتبت الصفوف والتقى الجمعان وكثر القتال وكل واحد اشتغل بنفسه ونحن نذب عن النساء والصبيان والنساء اللاتي تقدم ذكرهن يقاتلن أشد القتال إذ جاءنا كردوس عظيم من البطارقة والسودان والبجاوة ومعهم زهاء من ستمائة فيل وغافلونا ونحن مشغولون بالقتال واقتطعوا قطعة كبيرة من الإبل والرجال والنساء والصبيان زهاء من ألف بعير ومائتي امرأة وغير ذلك وكان في ذلك زائد بن رباح البكري وعباد بن عاصم الغنوي ومعهما مائتا فارس فقاتلوا قتال الموت حتى أثخنوا بالجراح وقاتلت النساء بالأعمدة والخناجر فلله در عفيرة بنت غفار وسلمى بنت زاهر ونظائرهما من النساء لقد قاتلن حتى ضربن بالسيف على رؤوسهن وسالت الدماء على وجوههن وهن يقلن‏:‏ الله الله يا نساء العرب قاتلن عن العسكر وعن أنفسكن وإلا صرتن بأيدي الأعلاج الغلف والسودان فقاتلن قتال الموت وقتل من المسلمين خمسة عشر نفرًا ختم الله لهم بالشهادة وساقوا النساء والصبيان‏.‏
فرجع فارس إلى خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأعلمهما بذلك وهم في أشد القتال فتصايح المسلمون وخرج جماعة من الأمراء من وسط المعركة وهم الفضل بن العباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وزياد بن أبي سفيان وعبد الله بن أبي طلحة وضرار بن الأزور وجماعة من الأمراء وتبعهم ستمائة فارس من العرب من صناديد القوم وأدركوهم عند أول الجبل وهم يريدون جهة الفيوم فعند ذلك زعق ضرار والفضل بن العباس‏:‏ إلى أين يا أعداء الله‏.‏
فتراجعت الروم والسودان عنهم واقتتلوا قتالًا شديدًا فابتدر ضرار إلى مقدم السودان وطعنه في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره وكذلك الفضل بن العباس تقدم إلى بطريق عظيم وطعنه في لبته فأطلع السنان يلمع من قفاه فانجدل يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار‏.‏
قال واستمروا يقاتلون حتى قتلوا مقتلة عظيمة فلما عاينوا ذلك ألقوا ما بأيديهم من الغنيمة وولوا وتواثب المسلمون وردوا السبي والحريم وردوا الأسارى وحلوهم وساعدتهم النساء بالأعمدة والسيوف والخناجر فكانت النساء يضربن وجوه الخيل بالعمد فيكبو الجواد بصاحبه فتتعلق المرأة بالفارس وتجذبه إلى الأرض فتجلد به الأرض ثم تضربه فتقتله حتى قتلن جماعة من الروم والسودان والبجاوة وغيرهم‏.‏
فلما رأوا ذلك ولوا منهزمين من بين أيديهم وتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا منهم نحو ستمائة أسير من الروم والسودان وزحفوا وقد غنموا أسلابهم وخيولهم‏.‏
قال الواقدي‏:‏ هذا ما جرى لهؤلاء وأما العسكر فإنهم لم يزالوا في قتال شديد وأمر عتيد وضرب وطعان وقتل رجال وجندلة أبطال وفرسان وقد قامت الحرب على قدم وساق وضربت الأعناق وصالت الشجعان وولى الجبان حيران ودارت رحى الحرب واشتد الطعن والضرب وقطعت المعاصم وطارت الجماجم وحامت طيور المنايا وعظمت الرزايا واشتد الزحام وعظم المرام وضاقت الصدور وعظمت الأمور واشتد الغبار وقل الاصطبار وقاتلت الأمراء بالرايات وبربرت السودان بلغاتها ورفعت الروم أصواتها وضربت ببوقاتها وطعنت برماحها ورمت بنشابها وحارت الأفكار وعميت الأبصار وثار الغبار وأظلم النهار وكان شعار المسلمين‏:‏ يا نصر الله انزل وصبر المسلمون لهم صبر الكرام فلله در الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود والفضل بن العباس وعقبة بن عامر والمسيب بن نجيبة الفزاري ونظائرهم من الأمراء فلقد قاتلوا قتالًا شديدًا وأبلوا بلاء حسنًا وصبروا صبر الكرام‏.‏
وأما عمرو وخالد والقعقاع بن عمرو وسعيد بن زيد فلقد كانوا يقاتلون قتال الموت وزحفت الفيلة برجالها وقاتلت الروم بأبطالها والسودان بأفيالها وقد كانت أصحاب الفيلة تعطف على خيل العرب ويرمون بالنشاب فيخرج كالجراد المنتشر حتى قلعت أعين كثيرة في ذلك اليوم فما كنت تسمع إلا من يصيح وايداه والفيلة تحطم والسودان يرمون الأبطال فعندها وثب رفاعة بن زهير المحاربي وأتى إلى خالد وعمرو وقال‏:‏ أيها الأمراء إن دام هذا الأمر هكذا هلكنا عن آخرنا‏.‏
قالا‏:‏ فما الرأي يا أبا حازم قال‏:‏ الرأي أن نجمع ثيابناونغمسها زيتًا ودهنًا ونجعلها على رؤوس الرماح ونجعل في أعلاها نارًا ثم نأمر رجالًا يجمعون القيصوم وغيره ونجعله في غرائر على ظهور الجمال عريًا ونشغلهم بالقتال ثم نأتي الفرسان تمانعم وتساق عليهم الجمال فإنها إذا أحست بالنار حطمتهم فلا يصبرون على ذلك والمعونة من الله تعالى فاستصوبوا رأيه وأعدوا رجالًا لذلك وناوشوهم القتال فلم يكن إلا ساعة حتى تهيأت المكيدة وجعلوا من الفرسان ألف فارس وصبغوا تلك الثياب بالدهن والزيت وأطلقوا النيران برؤوس الأسنة وحملوا الغرائر بالقيصوم وغيره وأشعلوا فيه نارًا ووضعوا الحراب في أجناب الإبل فلما أحست بالحراب في أجسامها والنار في ظهورها فعندها حطمت الروم والسودان فلما رأت الفيلة ذلك طارت عقولها وقطعت سلاسلها وداست قوادها ورمت ما على ظهورها من الرجال وداستهم بأخفافها ورجعت خيل الروم وبراذينها وهرب بغالها وذابت قلوب رجالها وضربت الأمراء في الأعداء بسيوفها وطعنت برماحها ورمت بنشابها‏.‏
قال المسيب بن نجيبة‏:‏ ولقد رأينا طيورًا أظلتنا في زي النسور وكان الطائر يرفرف بجناحه على وجه الكافر ورأسه ثم يضع مخاليبه في عينيه فيرميه إلى الأرض فلم تكن إلا ساعة بعد صلاة العصر حتى ولت الروم الأدبار وركنوا إلى الفرار وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون حتى جاء الليل وأظلم النهار ووصلت الهزيمة إلى القرية المعروفة بالدير وإلى اللاهون وإلى أهناس وإلى ميدوم وتبعتهم المسلمون الليل كله إلى الصباح وقد تفرق شملهم وشرد جمعهم وأسر منهم جماعة كثيرة نحو خمسة آلاف وقتل قال رافع بن أزد الجهني‏:‏ لما رجعنا إلى مكان المعركة وجدنا الأرض قد امتلأت من قتلى الروم والسودان والبجاوة وغيرهم واختلط جماعة من قتلى المسلمين بهم ما عرفناهم من الروم إلا أن الروم كان بأيديهم صلبان والمسلمون ليس لهم ذلك فميزناهم منهم بذلك وجمعنا جريد النخل والقصب ووضعنا على كل قتيل جريدة أو قصبة وذلك في مكان المعركة ثم جمعناها وحصرناها فإذا الكفار تسعون ألفًا وقتل في الجبال والطرقات ما لا يحصى وتفقد المسلمون من قتل منهم فإذا هم خمسمائة وثلاثون رجلًا وجمعت المسلمون الغنائم والأموال ثم قسمت وأخرج عمرو منها الخمس وكتب كتابًا بالفتح وما جمعه من الخمس واستدعى بالأمير هاشم بن المرقال رضي الله عنه وندب معه ثلاثين رجلًا من خيار الجند وأمره بالمسير إلى المدينة وأقام المسلمون بالمرج بعد الوقعة خمسة أيام حتى استراحوا ورجع من كان خلف المنهزمين ثم اجتمعوا إلى عمرو واستأذنوه في المسير إلى الوجه القبلي فأذن لهم وودعهم ودعا لهم وقال‏:‏ يعز علي فراقكم ولو أن أمير المؤمنين لم يأمرني بالمسير ما فارقتكم ثم رجع معه ثلاثة آلاف ومائة وعشرون وكان جملة من قتل ثمانمائة وثمانين ختم الله لهم بالشهادة وقيل‏:‏ ألف وقيل‏:‏ تسعمائة وأربعون على اختلاف الرواة والله أعلم أي ذلك كان‏.‏
قال الراوي‏:‏ ما أخذت في هذا الكتاب إلا على قاعدة الصدق والمعونة من الله تعالى فلما ملكت المسلمون البلاد وأذلت أهل الشرك والفساد وذلك ببركة الصحابة رضي الله عنهم فهم الرجال الأبطال والسادة الأخيار والمهاجرون والأنصار وأصحاب محمد المختار الذين فتحوا بسيوفهم الأمصار وأذلوا الكفار وأرضوا العزيز الغفار وباعوا نفوسهم لله الواحد القهار بجنات تجري من تحتها الأنهار‏.‏
قال الراوي‏:‏ لما رجع المنهزمون إلى الملوك والبطارقة وأخبروهم بذلك وقع الرعب في قلوبهم وجاروا في نفوسهم ولم يدروا ما يدبرون وما يصنعون‏.‏
قال‏:‏ فصعب على بطريق أهناس وعلى صاحب البهنسا ما صنع ببطارقتهما وعولوا على الحصار وجمعوا الآلة وصاروا يخرجون ما يحتاجون إليه وتيقنوا أن لا بد للحرب من أرضهم ووطنوا أنفسهم وكذلك بطارقة الصعيد وملوكه وضاقت نفوسهم مما حل بهم‏.‏
قال الراوي‏:‏ ووصل الكتاب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففرح بذلك فرحًا شديدًا وقرأ الكتاب على علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا ثم قسمت الغنائم على أهل المدينة وقسم لنفسه كأحدهم رضي الله عنه وكتب جواب الكتاب ودفعه لهاشم وقال له‏:‏ قل لعمرو يحث الصحابة ويحرضهم على فتح الصعيد‏.‏
قال الراوي‏:‏ وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فإنه لم يرجع إلى مصر حتى قسم الغنائم بين الصحابة وفضل أصحاب الولاء وأهل السابقة ورجع إلى مصر بعد أن جهز العساكر إلى الصعيد‏.‏
قال الراوي‏:‏ ولما فارق عمرو بن العاص خالد بن الوليد والأمراء رضي الله عنهم استشار بعضهم بعضًا أي مكان يقصدون‏.‏
فاتفق رأيهم أن يسيروا ألف فارس طليعة وأقر عليهم قيس بن الحرث ومعه جماعة من أمرائهم‏.‏
منهم رفاعة بن زهير المحاربي والقعقاع بن عمرو التميمي وعقبة بن عامر الجهني وذو الكلاع الحميري رضي الله عنهم وصاروا يسيرون في وسط البلاد وبقية العساكر قريبة منهم فمن أطاعهم وطلب الأمان أمنوه وصالحوه ووضعوا عليه الجزية ومن أبى قاتلوه ومن أسلم تركوه وسار خالد ببقية الجيش يريدون أهناس فإنها كانت أعظم مدائن الوجه القبلي بعد الكورة وكانت حصينة آهلة بالخيل والآلة والعدة ولما أحس بطريقها بمجيء الصحابة إليهم جمع البطارقة وقد انكسرت جنودهم وخمدت نيرانهم وكلمتهم بانهزام جيوشهم وشاورهم في أمرهم وقال لهم‏:‏ خذوا أهبتكم وقاتلوا عن حريمكم وأموالكم وإلا صرتم عبيدًا للعرب يفعلون بكم ما يختارون وإن شئتم صالحناهم حتى يعلم ما يكون من بطارقته فأجابوه وقالوا‏:‏ لا نسلم البلاد حتى نغلب ونجمع أموالنا في هذه المدينة الحصينة ونقاتل فإن غلبنا عولنا على الحصار واتفق رأيهم على ذلك فكان الذي أجابهم إلى ذلك خرج بنفسه وأمواله ومن لم يجبهم إلى ذلك أقام وكذلك بطارقة البهنسا‏:‏ منهم من انتقل إلى البهنسا بماله وأولاده ومنهم من أقام ببعض المدائن ممن عولوا على الإقامة والحصار والقتال‏.‏
وسار خالد بالجيش حتى قرب من أهناس وبين يديه الطلائع والأمراء وهم يشنون الغارات على السواحل والبلاد فمن خرج إليهم وصالحهم وعقد معهم صلحًا صالحوه ولهم الميرة والعلوفة والضيافة ومن أبي دعوه إلى الإسلام فإن أبى طلبوا منه الجزية فان أبوا شنوا عليهم الغارة حتى وصلوا قريبًا من أهناس وبلغ الخبر إلى عدو الله‏.‏
فقال‏:‏ لا بد من لقائهم وقتالهم حتى أنظر ما يكون من أمرهم ثم خرج إلى ظاهر المدينة قريبًا من السور ولم يبعد عنها وكان للمدينة أربعة أبواب فأغلق ثلاثة وفتح الباب الشرقي وأخرج الخيام والسرادقات وأكثر من العدة والزينة وقال‏:‏ إن دخلنا المدينة من غير قتال طمعت العرب في جانبنا‏.‏
ثم فرق بطارقته وعرض جيشه فكانت عدتهم خمسين ألفًا وقال اثبتوا وقاتلوا عن حريمكم ولا تكونوا أول جند أخذوا وأقاموا يتأهبون للقتال وينتظرون قدوم الصحابة رضي الله عنهم‏.قال الواقدي
‏:‏ وأما خالد فلما قرب من أهناس استدعى بالزبير بن العوام وضم إليه ألف فارس من الأمراء وغيرهم وأمره بالمسير ثم استدعى بالفضل بن العباس وضم إليه ألف فارس وسار على أثره ثم استدعى بميسرة بن مسروق العبسي وضم إليه ألف فارس وسار على أثره ثم استدعى بزياد بن أبي سفيان وضم إليه ألف فارس وسار على أثره ثم استدعى بمالك الأشتر النخعي وضم إليه ألف فارس وسار على أثره وسار خالد ببقية الجيش‏.‏
قال‏:‏ حدثنا عون بن سعيد‏.‏
قال‏:‏ حدثنا هاشم بن نافع عن رافع بن مالك العلوي‏.‏
قال‏:‏ كنت في خيل الزبير بن العوام رضي الله عنه لما توسطنا البلاد وتعرضنا لأهلها وشننا الغارة على السواد فوجدنا قطيعًا من الغنم ومعها رعاة فلما أحسوا بنا تركوها ومضوا فسقناهم ثم سرنا قليلًا وإذا بنساء وصبيان مشرفة ونصارى من القبط وغيرهم فلما رأونا فروا وكانا معهم عشرون فارسًا من العرب المتنصرة من جذام ومعهم بطريق من البطارقة عليه الزينة الفاخرة فلما عاينونا فروا من بين أيدينا فأطلقنا الغارة عليهم فما كان غير بعيد حتى أدركناهم وقبضنا عليهم وسألناهم فأجابوا بأنهم من قرى شتى وأنهم يريدون أهناس فعرضنا عليهم الإسلام فامتنعوا فأردنا قتلهم فمنعنا من ذلك الزبير رضي الله عنه وقال‏:‏ حتى يحضر الأمير خالد ويفعل ما يريد‏.‏
قال‏:‏ وسرنا حتى قربنا من أهناس ورأينا المضارب والخيام والسرادقات فأعلن الزبير بالتهليل والتكبير وكبر المسلمون حتى ارتجت الأرض لتكبيرهم وخرجت الروم إلى ظاهر خيامهم ينظرون إلينا وعدو الله مارنوس بن ميخائيل ينظر إلينا والحجاب والنواب وأرباب الدولة من البطارقة حوله وعليهم أقبية الديباج وعلى رؤوسهم التيجان المكللة وبأيديهم العمد المذهبة والسيوف وهم محدقون به عن يمينه وشماله‏.‏
قال‏:‏ فلما أقبلنا عليهم تصايحوا ورطنوا بلغتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم واستقلونا في أعينهم ولما قرب الزبير من القوم هز الراية وأنشد يقول‏:‏ أيا أهل أهناس الطغاة الكوافر ويا عصبة الشيطان من كل غادر أتتكم ليوث الحرب سادات قومها على كل مشكول من الخيل ضامر فإن لم تجيبوا سوف تلقون ذلة ونقتل منكم كل كلب وفاجر قال الراوي‏:‏ ثم نزلنا من القوم فلم يكن غير قليل حتى أقبل الفضل بن العباس رضي الله عنه وحوله السادات الأماجد فكبر وكبروا معه وهز الراية وأنشد يقول‏:‏ أيا أهل أهناس الكلاب الطواغيا أتتكم ليوث الحرب فأصغوا مقاليا أقروا بأن الله لا رب غيره وألا تروا أمرًا عظيما مدانيا أقروا بأن الله أرسل أحمدًا نبيًا كريمًا للخلائق هاديا قال الراوي‏:‏ ثم نزل قريبًا من أصحابه فلم تكن إلا ساعة حتى أقبل الأمير ميسرة بن مسروق العبسي وكبر هو والمسلمون فأجابه المسلمون فهز الراية وأنشد يقول‏:‏ أتينا لأهناس بكل غضنفر على كل صاهل من الخيل أجرد ونخرب أهناسًا ونقتل أهلها إذا خالفوا دين النبي محمد قال الراوي‏:‏ ونزل قريبًا من الفضل ولما كان غروب الشمس أقبل زياد بن أبي سفيان رضي الله عنه بمن معه وكبر هو والمسلمون وهز الراية وأنشد يقول‏:‏ هلموا إلى أهناس يا آل هاشم ويا عصبة المختار نسل الأعاظم ودونكم ضرب السهام بشدة وقطع رؤوس ثم فلق جماجم لننصر دينا للنبي محمد نبي الهدى المبعوثمن آل هاشم قال الراوي‏:‏ وبات المسلمون رضي الله عنهم يقرؤون القرآن ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتحارسون حتى لاح الفجر ثم أقبل المقداد رضي الله عنه بأصحابه وكبر هو والمسلمون ولما قرب من أصحابه هز الراية وأنشد يقول‏:‏ أنا الفارس المشهور في كل موطن وناصر دين النبي محمد لعل ننال الفوز عند إلهنا فيا فوز من أضحى نزيل المؤيد ونقتل عباد الصليب جميعهم بأسمر خطى وعضب مهند قال الراوي‏:‏ ونزل بإزاء الفضل وتكلم الأمراء المتقدم ذكرهم‏.‏
قال‏:‏ ولما رأونا ظنوا ألن ليس وراءنا أحد وقعدنا ذلك اليوم ولم نكلمهم ولم يكلمونا‏.‏
فلما كان اليوم الثاني عند طلوع الشمس إذا بالغبار قد طلع والقتام قد ارتفع من خيول عادية وعليها فوارس حجازية وكبر المسلمون ورفعوا راياتهم الإسلامية وأعلامهم المحمدية فسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصياح فخرج الأمراء إلى لقائهم وإذا في أوائلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وإلى جانبه غانم بن عياض الأشعري وأبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي واسمه عبد الرحمن وبقية الأمراء المهاجرون والأنصار فلما رأت الروم ذلك من قريب دخل الرعب في قلوبهم ونزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبًا من أهناس كل منهم في مركزه وأقاموا ذلك اليوم فلما كان اليوم الثالث جمع خالد الأمراء وأصحاب الرايات واستشارهم فيمن يمضي إلى بطريق أهناس‏.‏
فقال المقداد‏:‏ أنا له‏.‏
فقال خالد‏:‏ أنت له فخد من شئت‏.‏
فأخذ معه ضرار بن الأزور وميسرة بن مسروق العبسي وقال لهم خالد‏:‏ ادعوه إلى الإسلام فإن أبى فالجزية فإن أبى فالقتال واحرصوا على أنفسكم‏.‏
قال الراوي‏:‏ وساروا إلى القوم حتى قربوا من العسكر وهم يدوسون بخيولهم أطناب الخيام والسرادقات فصاحت بهم الحجاب‏:‏ من تكونون‏.‏
فقالوا‏:‏ نحن رسل فأعلموا البطريق بذلك فأمر بإحضارهم فلما حضروا بين يديه صاحت بهم الحجاب والنواب أن قبلوا الأرض للملك فلما يلتفتوا إليهم ولم ينزلوا إلا على باب سرادق الملك ووقفوا على الباب فأذن لهم في الدخول فدخلوا وأمسكوا لجم خيولهم فأراد الغلمان أن يمسكوها فامتنعوا من ذلك فأشار إليهم البطريق فتركوهم ثم دخلوا عليه فإذا هو جالس على سرير من الذهب مرضع بالدر والجوهر وحوله البطارقة جلوس والحجاب والنواب وأرباب الدولة قيام وبأيديهم السيوف والأعمدة والرماح فلما رآهم تغير لونه واندهش وأذن لهم بالجلوس‏.‏
فقالوا‏:‏ لا نجلس على هذه الفرش فإنه حرام علينا فأمر بالبسط الحرير فرفعت حتى فرش أنطاعا من الصوف ثم أشار إليهم فقالوا‏:‏ لا نجلس حتى تنزل عن سريرك‏.‏
قال‏:‏ فرطنت الروم فأشار إليهم فسكتوا وأرادوا أن ينزعوا منهم سيوفهم فامتنعوا من ذلك فتركوهم وكلمهم الملك فأبوا حتى ينزل عن سريره فنزل وكلمهم بلسان عربي وسألهم عن حالهم فأجابوا أنهم لا يفارقونه حتى يسلم هو وقومه أو يؤذوا الجزية أو القتال فامتنع عن ذلك وقال‏:‏ اذهبوا والموعد غدا للقتال وخرجوا من عنده على ذلك ورجعوا إلى خالد وأعلموه بذلك فتأهب الأمراء للحرب فلما أصبح خالد صلى بأصحابه صلاة الصبح وبادروا للحرب والقتال وصاحوا‏:‏ النصر النصر يا خيل الله اركبي وللجنة اطنبي فركب المسلمون خيولهم وركزوا راياتهم واصطفوا ميمنة وميسرة وقلبًا وجناحين وخالد في وسط الجيش وعلى الساقة ميسرة بن مسروق العبسي ومالك الأشتر النخعي في خمسمائة فارس من المهاجرين والأنصار‏.‏
قال الراوي‏:‏ فلم تكن غير ساعة حتى برزت الروم وأظهرت صلبانها‏.‏
قال‏:‏ حدثنا رافع بن مالك عن عباد بن مازن عن محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه‏.‏
قال‏:‏ لما أقبلت رايات القوم عددناها فإذا هي خمسون صليبًا تحت كل صليب ألف فارس فكان أول من افتتح الحرب بطريق عليه ديباجة حمراء وعلى رأسه بيضة معصب عليها بعصابة من جوهر فبرز إليه فارس من خثعم يقال له زيد بن هلال فقتله ثم طلب البراز فبرز إليه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يمهله أن ضربه بالسيف على عاتقه الأيمن فخرج يلمع من عاتقه الأيسر فانجدل عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وطلب البراز فبرز إليه فارس من الروم فقتله ثم آخر فقتله وطلب الميمنة وشوش صفوفهم وقتل أبطالهم ثم عاد إلى القلب ثم أخرج من بعده شرحبيل بن حسنة وفعل كفعله ثم حمل من بعده الفضل بن العباس ثم حمل من بعده العباس بن مرداس ثم من بعده أبو ذر الغفاري ثم تبادر المسلمون بالحملة فلما رأى الروم ذلك أيقظوا أنفسهم في عددهم وعديدهم وتظاهروا بالبيض والدرع ولم يزل القتال بينهم حتى توسطت الشمس في قبة الفلك‏.‏
قال الراوي‏:‏ فعندها حمل خالد بن الوليد وغاص في الميمنة فقلبها على الميسرة وغاص في الميسرة فقلبها على الميمنة وقاتلت العرب قتالًا شديدًا حتى جاء الليل وحجز بين الفريقين وبات المسلمون يتحارسون وتفقد المسلمون بعضهم بعضًا فإذا قد قتل منهم اثنان وأربعون رجلًا ختم الله لهم بالشهادة الأعيان منهم ربيعة بن عامة الداودي وزيد بن ربيعة المحاربي وغانم بن نوفل المحاربي وصفوان بن مرة اليربوعي والبقية من أخلاط الناس وقتل من أعداء الله ألف وثلثمائة وأزيد ولما خلا عدو الله بأصحابه تذاكروا ما وقع في الحرب وصعب عليهم ما لقوه من العرب فأراد الملك الصلح فغلب البطارقة عليه وأعدوا للحرب والقتال فلما أصبح الله الصباح وبارق الفجر لاح صلى المسلمون صلاة الصبح ثم اصطفوا على ظهور خيولهم واصطفت الروم وبرزت البطارقة وأظهروا زينتهم وبرز بطريق عظيم يقال له صاحب طنسا وعليه لامة حربه وطلب البراز فبرز إليه الفضل بن العباس فتجاولا وتعاركا وتخالفا بضربتين فكان السابق بالضربة الفضل بن العباس فضربه بالسيف على رأسه فوصل إلى أضراسه فانجدل صريعًا يخور في دمه وعجل الله بروحة إلى النار وبئس القرار وبرز بطريق ثان فقتله ولم يزل كذلك حتى قتل أربعة من خيارهم فحملت الروم حملة واحدة وحمل المسلمون وحمل ضرار بن الأزور رضي الله عنه وأظهر شجاعته وحمل مذعور بن غانم الأشعري والفضل بن العباس ومحمد بن عقبة بن أبي معيط ومسلم وجعفر وعلي أبناء عقيل وعبد الله بن جعفر وسليمان بن خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر وتجاهرت الأمراء وعظم الخطب وكثر الطعن والضرب وثار القتام حتى صار النهار كالظلام وتراشقوا بالنبال واشتد القتال وقطعت المعاصم وطارت الجماجم فما كنت ترى إلا جوادًا غائرًا ودمًا فائرًا واشتد الكرب وكثر الطعن والضرب وسال العرق واحمرت الحدق وجال خالد كالأسد وأرغى وأزبد فعند ذلك رفع غانم بن عياض طرفه إلى السماء‏.‏
وقال‏:‏ يا عظيم العظماء أنزل علينا نصرك كما أنزلته علينا في مواطن كثيرة وانصرنا على القوم الكافرين فآمنت جماعة من الأمراء على دعائه فما كان غير بعيد حتى رأيت الرجال والكفار يتساقطون لا ندري بماذا يقتلون فلما رأى الروم ذلك فروا إلى الباب وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون والحجارة تأخذهم من أعلى السور وهم لا يلتفتون إلى ذلك ودخلوا إلى الأبواب ودخل اللعين وصال عليهم خالد وجماعة من الأمراء واقتطعوا قطعة من الروم نحو خمسة آلاف وكان المسلمون قريبين من اللعين فاقتتلوا عند الباب ورموهم بالحجارة فقتلوا منهم نحوا من ثلاثة آلاف وخرج من الباب نحو من ألف فارس وحملوا ودخل الباقون وأغلقوا بابهم وطلعوا على الأسوار واشتد القتال والحصار ورموا بالحجارة والنبال حتى فرق الليل بينهم‏.‏
قال الراوي‏:‏ وأقام المسلمون على حصار أهناس ثلاثة أشهر وفي كل يوم يناوشونهم بالقتال والأسوار رفيعة والأبواب منيعة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم يشنون قال الراوي‏:‏ وأقام المسلمون على حصار أهناس ثلاثة أشهر وقد قلت عنهم المدد وضاقت أنفسهم وطمعت فيهم الصحابة ثم إن خالدًا استشار أصحابه ماذا يصنعون وقد أعياه فتح الباب فقال له المرزبان رضي الله عنه وكان من مرازبة كسرى وقد أسلم وخرج إلى الجهاد وحبس نفسه لله عز وجل وهو المقتول بالبهنسا قريبًا من البلد شرقي لبحر اليوسفي في وقعة صاحب طنجة ذات الأعمدة وسيأتي ذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏
فقال المرزبان‏:‏ إننا كنا في بلاد الفرس إذا حاصرنا مدينة ولم نقدر على فتحها أخذنا زيتًا وكبريتًا ووضعناه في صناديق من خشب وجعلنا لها أعوادًا تحملها رجال ورجال يذبون عنهم إلى أن يصلوا إلى الباب أو إلى قريب منه ويجعلون في الصناديق نارًا ويولون فتعلق النار في الأبواب ويذوب الحديد فتفتح الأبواب وتعلق النار في الحطب والخشب والحجارة فتهدمها فقال خالد‏:‏ نفعلها إن شاء الله تعالى فلما أصبحوا فعلوا ذلك وأسرعوا في جمع ما ذكرنا ووضعوه في صناديق وجعلوا في أطرافها أعوادًا طوالًا من أسفلها وحملتها الرجال وخرج خلفهم الفرسان يقاتلون والمرزبان أمامهم يعلمهم كيف يصنعون وهم مستترون بالحرق والحجف والحجارة والنبال تتساقط عليهم من أعلى السور حتى وصلوا إلى أول باب من أبواب المدينة وهو الباب الشرقي وهو أعظم أبوابها‏.‏
فلما قربوا من الباب رفعوا الصناديق على الباب وألقوا النار في الزيت والكبريت ووضعوها وانقلبوا فلم يكن أسرع من لحظة حتى تعلق النار بحجارة الباب والأخشاب والحديد وثارت النار إلى أعلى السور حتى وصلت إلى البرج فسقط البرج بمن فيه من الروم وهلك منهم جماعة كثيرة وتبادرت المسلمون إلى الباب وملئوا قرب الماء وأطفئوا تلك النار ودخلوا من الباب وقصدوا قصر الملك وكان حصينًا على أعمدة من الحجارة المنحوتة وكانوا أغلقوا أبوابه ففعلوا به كما ذكرنا ولما رأى الملعون ذلك لم يطق أن يصبر وأمر بفتح الباب وصاح الأمان ومعه جماعة من حشمه وخدمه وبطارقته فعرضوا عليهم الإسلام فأبوا فأمر خالد بضرب أعناقهم فمن أسلم تركوه ومن أبى قتلوه واستغاثت بهم السوقة والرعية وقالوا‏:‏ مغلوبون فمن أسلم تركوه ومن بقي على دينه ضربوا عليه الجزية وهدموا دورًا وأماكن حتى صارت تلالًا وغنم المسلمون أموالًا كثيرة من أواني النصب والفضة والفرش الفاخرة ووضعوا فيها عبادة بن قيس قيمًا ومعه ثلثمائة من المسلمين وخرجوا بظاهر المدينة ولم يبق إلا من أسلم ومن وضعت عليه الجزية وعمروا بها مسجدًا ولما فرغ خالد من ذلك جمع الغنائم وأخرج خمسها وأرسله إلى عمرو بن العاص يرسله إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة وأرسل لعمرو بن العاص سهمه ولأصحابه المؤمنين المقيمين بمصر ونواحيها وأقام خالد بعد ذلك بأهناس هو وجماعته من الأمراء أربعين يومًا واستدعى خالد بعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه وأضاف إليه ميمون بن مهران وضم إليه ألف فارس وأمرهم أن ينازلوا أول بلاد البطليوس لعنه الله وينازلوا أهل الكورة وإذا وصل إلى قيس بن الحرث يأمره بالمسير إلى قريب البهنسا ويقاتل من يقاتله ويسالم من يسالمه ويصالح من يصالحه حتى يأتيه المدد ثم أرسل في أثره غانم بن عياض الأشعري رضي الله عنه وضم إليه ألف فارس فيهم الفضل بن العباس والمسيب بن نجيبة الفزاري وأبو ذر الغفاري والمرزبان الفارسي وكذلك جعفر ومسلم وعلي وعبد الله بن المقداد وولد خالد سليمان ومحمد بن طلح وعمرو بن سعد بن أبي وقاص وشرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم خالد‏:‏ سيروا حتى تصلوا إلى مدينة البهنسا وأنا في أثركم ما لم يحصل لي ولأصحابي مانع وأدعو القوم إلى الإسلام فإن أجابوكم فلهم ما لنا وعليهم ما علينا ومن أبى فالجزية ومن أبى فالحرب والقتال ونازلوا المدائن وأقرنوا المواكب ولا تسيروا إلا يدًا واحدة وفرقوا الكتائب وكونوا قريبين بعضكم من بعض غير متباعدين‏.‏
فإاذا وقعت كتيبة منكم بما لا طاقة لها به تبعت النفير وثبتوا هممكم وأخلصوا نياتكم وقووا عزائمكم فإذا وصلتم إلى البهنسا التي هي دار ملكهم ومحل ولايتهم فأرسلوا إلى الملك وادعوه إلى الإسلام فإن أطاع فاتركوه في ملكه وإن أبى فالجزية عن يد وهم صاغرون وإن أبى فالسيف حكم حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين وبلغني أنها مدينة كثير أهلها وأنها كثيرة الخيل وحولها مدائن وبلاد وقرى ورساتيق فمن سالمكم وصالحكم فصالحوه ومن قاتلكم فقاتلوه وعليكم بالحزم وإخلاص النية وصدق العزيمة‏.‏
قال الله تعالى في كتابه المكنون‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 200‏]‏‏.‏ ثم استدعى بالمغيرة بن شعبة رضي الله عنه وكان معه زياد الأكبر أبو المغيرة جد زياد الذي هو بقرية ديروط بقرب طنبدا وسيأتي ذكر زياد بن المغيرة وأصحابه هناك إن شاء الله تعالى عند وقعة الدير واستدعى بسعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنهم وأبان بن عثمان بن عفان وجدد عليهم الوصية وودعهم‏.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت مايو 31, 2008 2:09 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
وسار علي بن حاتم الطائي وميمون حتى وصلا ميدوم وما حولها فوجدوا قيس بن الحرث قد صالح أهل تلك الأرض وعقد لهم صلحًا وأقرهم بالجزية ما عدا جماعة وكذلك أهل برنشت بعد قتل بطريقهم وكذلك أهل تلك البلاد إلى دهشور ونادى في ذلك الإقليم بالأمان وجبوا له أموالًا عظيمة على الصلح والجزية وعبر جماعة من المسلمين إلى البر الشرقي وهم‏:‏ رفاعة بن زهير المحاربي وعقبة بن عامر الجهني وذو الكلاع الحميري وألف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشنوا الغارات من العقبة التي هي قريب من قبلي حلوان على تلك القرى والبلاد فمن صالحهم صالحوه ومن أبى قاتلوه حتى وصلوا إلى أطفيح ثم إلى البرنيل وكان هناك بطريق يعرف بصول فخرج إليهم أهلها فصالحوهم على الجزية وعبروا من هناك وسار عدي بن حاتم حتى اجتمع بقيس بن الحارث قريبًا من القرية المعروفة بقمن ونزل ميمون هو وجماعته بالقرية المعروفة بالميمون‏.‏
فقال له قيس بن الحرث‏:‏ لا تنزل هنا حتى يفتح لنا ما حولها من البلاد ويأتي خبر من الأمير خالد بن الوليد ويأذن لنا بما يريد فأجاب إلى ذلك ونرد عدي بأصحابه بالقرية المعروفة ببني عدي ثم سار وترك ابنه حاتمًا وإخوته وأحاطوا بالقرية وسار قيس وأصحابه حتى وصلوا إلى القرية المعروفة بنوس والبلد المعروف بدلاص فخرج إليهم أهلها بعد قتل بطريقهم وصالحوهم وتوسطوا البلاد على ساحل البحر حتى نزلوا ببا الكبرى وغانم بن عياض على أثرهم وكان بها دير عظيم يعرف بدير أبي جرجا وكان له عيد عظيم يجتمعون إليه من سائر البلاد فوافق قدوم الصحابة قريبًا من عيدهم فجاءهم رجل من المعاهدين وأعلمهم بذلك فانتدب قيس بن الحرث رضي الله عنه ومعه جماعة من أصحابه خمسمائة فأمر عليهم رفاعة بن زهير المحاربي وأمرهم أن يشنوا الغارة على الدير قال‏:‏ وكان جماعة من رؤساء الكورة من الروم والقبط والخيول المسومة حول الدير يحرسونهم وهم في أكلهم وشربهم وزينتهم وبيعهم وشرائهم فما أحسوا إلا والخيل على رؤوسهم فما قاتلوا إلا قليلًا وانهزموا ونهب أصحابه جميع ما في السوق من أثاث وغيره وساقوا الغنائم وأحاطوا بالدير فقاتلوا من على الدير فقطعوا السلاسل والأقفال وتعلق جماعة من الصحابة على الحيطان ودخلوا الدير وأخذوا منه أمتعة وأثاثًا وأواني من ذهب وفضة وأسروا مائة أسير وساروا حتى توسطوا البلاد وكان بالقرب من البحر اليوسفي قرى كثيرة وبلدان وكان فيها مدينة تعرف بسحاق وكان بها بطريق من عظماء بطارقة البطليوس فلما بلغه قدوم الصحابة جمع جنوده إلى البلد المعروف بأقفهس وإلى البلدين المعروفين بشمسطا واليسلقون وإلى البلد المعروفة بنشابة فلما بلغه قدوم الصحابة جمع الخيل والروم والفلاحين والنصارى ستة آلاف وخرج يكشف بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيس بن الحرث خرج إليه أهل ببا الكبرى وما حولها من السواد وكذلك أهل هوريت وعقد لهم صلحًا وساروا فلما قربوا من القرية المعروفة الآن ببني صالح فبينما هم سائرون إذا بالغبار قد طلع وانكشف عن ستة صلبان تحت كل صليب ألف فلما رآهم المسلمون لم يمهلوهم دون أن حملوا عليهم واقتتلوا قتالًا شديدًا وثار الغبار وقدحت حوافر الخيل الشرار والتقى الجمعان واصطدم الفريقان فلله در رفاعة بن مسروق المحاربي وعقبة بن عامر الجهني وعمار بن ياسر العبسي وميسرة بن مسروق العبسي‏.‏
قال الراوي‏:‏ وقاتلت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالًا شديدًا وصبروا صبر الكرام وكان عدو الله لاوي بن أرمياء صاحب شيزا فارسًا شديدًا وبطلًا صنديدًا فجال وصال وقتل الرجال فعندها برز إليه فارس من المسلمين يسمى سنان بن نوفل الدوسي فقتله فخرج إليه عمار بن ياسر العبسي فتجاولا وتعاركا وتضاربا وتطاعنا ووقع بينهما ضربتان وكان السابق بالضربة عمار فطعنه بالرمح في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره فانجدل عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فعندها غضب الروم لأجل قتل صاحبهم وحملوا على عمار في كبكبة من الخيل فعقروا الجواد من تحته وتكاثروا عليه فقتلوه وقتل من المسلمين خمسة عشر رجلًا‏.‏
قال‏:‏ حدثنا سنان بن نوفل عن مالك عن غانم اليربوعي وكان في خيل رفاعة بن زهير المحاربي‏.‏
قال‏:‏ نحن في القتال وقد عظم النزال ووطنا أنفسنا على الموت ورفاعة يحرض الناس على القتال وهو ينشد ويقول‏:‏ يا معشر الناس والسادات والهمم ويا أهيل الصفا يا معدن الكرم فسدوا العزم لا تبغوا به فشلًا ومكنوا الضرب في الهامات والقمم وخلفوا القوم في البيداء مطرحة على الثرى خمشا بالذل والنقم قال الواقدي‏:‏ وجعل يحرضهم ويقول‏:‏ يا معشر السادات والأقيال أبشروا فإن الروم لم تقم لهم قائمة أبدًا وأبشروا بالحور والولدان في غرفات الحنان وإن الجنة تحت ظلال سيوفكم‏.‏
قال رفاعة‏:‏ فبينما نحن في أشد القتال إذا بغبرة قد لاحت وانقشعت وانكشف الغبار عن ألف فارس في الحديد غواطس عليهم الدروع الداودية وعلى رؤوسهم البيض العادية المجلية معتقلين بالرماح الخطية راكبين الخيول العربية فتأملناهم فإذا هم سليمان بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد وعبد الله بن طلحة وأخوه محمد وزياد بن المغيرة والوليد ومحمد بن عتبة ومحمد بن أبي هريرة وجماعة من الصحابة والأمراء وأبناؤهم رضي الله عنهم وكان غانم بن عياض الأشري جهزهم طليعة قدامه فلما رأونا كبروا وكبرنا لتكبيرهم وخاضوا في أوساطنا وطلب كل واحد منهم بطريقًا من البطارقة فقتله فلما رأت الروم ذلك ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وتبعهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلون وينهبون ويأسرون إلى البلدة شيزا وما حولها من السواد إلى سلقوس فأسروا منهم نحو خمسمائة أسير وقتل منهم ثلاثة آلاف وهرب الباقون إلى القرى والبلاد ولما قتل بطريق شندا خرج إليهم أهلها من النصارى والسوقة وعقدوا معهم صلحًا واتفقوا على أداء الجزية وكذا من حولهم من القرى ونزل هناك عمرو بن الزبير وجماعة من المسلمين وسار قيس بن الحرث أمام القوم حتى نزل قريبًا من طبندا والبلد المعروف بأسنا وكان بها بطريق يسمى بولياص بن بطرس وكان كافرا لعينًا فخرج إلى لقاء المسلمين هو وجماعته ومعه ميرة وعلوفة فكان ذلك مكيدة منه وعقد مع المسلمين صلحًا ووافقهم على أداء الجزية عن بلده وعن أسنا وكانت تحت حكمه وارتحل قيس بن الحرث ومن معه وتأخر زياد بن المغيرة ونزل بالقرية المعروفة بدهروط فعقد مع أهلها صلحًا ونزل سليمان بن خالد وعبد الله بن المقداد وجماعة قريبًا من البلد ومنهم من نزل عند القرية المعروفة بأطينة وصار جماعة يدخلون البلد ليلًا ثم يعودون خوفًا من المكيدة ولا حذر من قدر الله عز وجل‏.‏
قال الواقدي‏:‏ وكان المتخلفون خمسمائة فارس فجعلوا يسيرون على جانب البحر ويشنون أي يغيرون على أهل السواد فمن صالحهم صالحوه ومن أسلم تركوه وسار قيس بن الحرث حتى نزل بالبلد المعروف الآن بالقيس وبه سميت وكان فيها بطريق من بطارقة البطليوس وكان من بني عمه اسمه شكور بن ميخائيل والله أعلم باسمه فدخل أهل السواد كلهم البلد وحاصروها حصارًا شديدًا نحو شهرين ثم أعانهم الله تعالى وحرقوا بابًا من أبوابها ففتحت ودخلوا إليها وكان ذلك بعد وقعة جرت بينهم في مكان يعرف بكوم الأنصار فهزموهم هناك وحاصروهم وفتحوا المدينة وقتلوا البطريق ونهبوا الأموال وأخذوا جميع ما فيها بعد أن دعوهم إلى الإسلام فامتنعوا من ذلك ثم شنوا الغارات على ما حولها من البلدان والبلد المعروف بماطي ثم إلى الكفور فخرج إليهم بطريق كان ابن عم المقتول بدهشور لعنه الله وأخوه بطرس وعقدوا مع المسلمين عقدًا على الصلحوأعطوا الجزية وسارت العرب إلى البلد المعروف بالدير وسملوط وما حولها من القرى ونزل زهير وجماعة من العرب بالمكان الذي يعرف بزهرة وأما بقية السواد الذي حول البهنسا شرقًا وغربًا فلما تحققوا مجيء العرب هربوا إلى البهنسا بأموالهم ونسائهم وذراريهم وتركوا البلاد جميعها خرابًا وكان البطليوس لعنه الله أرسل إليهم بطارقته فحملوهم إلى البهنسا واستعد للحصار وجمع عنده ما يحتاج إليه مدة الحصار‏.‏
قال الواقدي‏:‏ هذا ما جرى لهؤلاء وأما عدو الله بولياص صاحب طبندا فإنه كاتب البطليوس يقول‏:‏ إني ما صالحت العرب إلا مكيدة وإني أريد الغدر بهم فجهز لي جيشًا من البطارقة على أن أظفر بجماعة من أبطال المسلمين ونأخذ بثأر من قتل منكم قريبًا‏.‏
قال‏:‏ وكان عدو الله كل يوم تأتيه الأخبار من العرب المتنصرة ومن غيرهم من أهل البلاد والسواد بما جرى للعرب وبأخبار من قتل من البطارقة وأخذ البلاد والأموال فحمل همًا عظيمًا ولم يظهر ذلك لأحد من بطارقته وإنما كان يطيب قلوبهم ويقول‏:‏ بلدنا حصينة وإن قاتلونا قاتلناهم وإن غلبونا دخلنا بلدنا فلو جاءنا أهل الحجاز جميعهم ما وصلوا إلينا ولو أقاموا عشرين سنة والله غالب على أمره وناصر دين الإسلام ومذل الكفرة اللئام فلما بلغ البطليوس مكاتبة عدو الله بولياص فرح بذلك فرحًا شديدًا‏.‏
قال‏:‏ واستدعى ببطريق من بطارقته يسمى روماس وضم إليه خمسة آلاف فارس من الروم والنصارى وغيرهم من أهل القرى وأمرهم أن يسيروا تحت ظلام الليل فما جاء نصف الليل حتى وصلوا إلى طنبدا ودخلوا إلى بولياص ففرح بذلك فرحًا شديدًا واستعدوا للهجمة على المسلمين‏.‏
قال وأصبح المسلمون وقد صلوا صلاة الصبح وإذا بالخيل قد أقبلت إليهم فنادوا‏:‏ النفير هاجمونا وغدرونا فركب المسلمون خيولهم وساروا إلى قريب الدير وإذا بالروم مقبلين في عشرة آلاف فارس وكان أعداء الله قد كمنوا كمينًا قريبًا من قناطر كانت هناك ونهر يجري فيه الماء من النيل في أوانه عميق غربي الدير قريب من البلد‏.‏
قال الواقدي‏:‏ ولما رأى المسلمون لمعان الأسنة والبيض وخفقان الأعلام وبريق الصلبان الذهب والفضة تبادروا إلى خيولهم فركبوا وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وأقبلوا مسرعين نحوهم ولم يفزعوا من كثرتهم وحرض بعضهم بعضًا على القتال وكانوا قد سبقوا إلى شرذمة من المسلمين كانوا نزولًا قريبًا من الدير ووضعوا فيهم السيف وأحاطوا بهم وجالوا واتسع المجال إلى قريب من دهروط فخرج سليمان بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد وعامر بن عقبة بن عامر وشداد بن أوس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم واشتد القتال وعظم النزال وعميت الأبصار وقدحت حوافر الخيل الشرار ولمعت الأسنة وقرعت الأعنة ودهشت الأنظار وحارت الأفكار وأحاطوا بالمسلمين من كل جانب فلله در سليمان بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد لقد قاتلا قتالًا شديدًا وأبليا بلاء حسنًا ولله در زياد بن المغيرة لقد كان يقاتل تارة في الميمنة وتارة في الميسرة وتارة في القلب وأحاط بهم أعداء الله من كل جانب وقد صار المسلمون بينهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود وصبروا لهم صبر الكرام وكان أكثر المسلمين قد أثخن بالجراح واشتد الكفار هذا والمسلمون قد انتدبوا أبطالًا وجعلوها خلف ظهورهم وقاتلوهم قتالًا عظيمًا هذا وأعداء الله قد أحاطوا بهم وحجزوا بينهم وبين البلد وقاتل سليمان وأصحابه قتالًا شديدًا ووطنوا أنفسهم على الموت وشجع بعضهم بعضًا وصار سليمان بن خالد يقول‏:‏ الله الله الجنة تحت ظلال السيوف والموعد عند حوض النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل قتالًا شديدًا حتى أثخن بالجراح وقتل من المسلمين نحو مائتين وعشرين قريبًا من التل الذي هو غرب البلد المذكور وما قتل الواحد منهم حتى قتل من أعداء الله خلقًا كثيرًا‏.‏
قال الواقدي
‏:‏ ولما رأى المسلمون وسليمان بن خالد ما حل بأصحابه صار تارة يكر في الميسرة وتارة يكر في الميمنة وأعانه بالحملة عبد الله بن المقداد وبقية الصحابة وتقدم سليمان ابن خالد وطعن بطريق أسنا طعنة صادقة فأرداه عن جواده وغاص في القلب‏.‏
قال‏:‏ حدثنا أوص بن شداد عن علقمة بن سنان عن زيد بن رافع قال‏:‏ كنت في الخيل صحبة سليمان بن خالد وقد حجزنا المشركين وتقهقروا من بين أيدينا ولم نشعر أن لهم كمينًا إذ خرج الكمين علينا وقاتلناهم قتال الموت وقتل منهم جماعة نحو ألفي فارس وقتل سليمان بن خالد من الصناديد والبطارقة من خيارهم نحو ثلاثين فارسًا وكذلك عبد الله بن المقداد فأحاط بسليمان بن خالد رضي الله عنه كردوس نحو ألفي فارس وعقروا جواده من تحته فضرب بالسيف فيهم حتى قطعت يده اليمنى فتناول السيف بيده اليسرى فضرب بها حتى قطعت فأحاطوا به فلما تيقن بالقتل التفت وقال‏:‏ يعز عليك يا خالد بن الوليد ما حل بولدك ولكن هذا في رضا الله عز وجل وكان قد طعن في صدره نحو عشرين طعنة حتى قل حيله وسقط إلى الأرض ثم تنفس وقال‏:‏ الساعة نلقى الأحبة ولما رآه عبد الله بن المقداد على ذلك المصرع صاح‏:‏ لا حياة بعدك يا أبا محمد والملتقى في جنات عدن ثم غاص يقاتل فأحاطوا به واشتبكت عليه الأسنة وضرب ضربات كثيرة في وجهه وهو يقطع الرماح ويمسح الدم عن وجهه حتى سقط به الجواد وصاح‏:‏ واشوقاه إليك يا مقداد ثم تبسم وقال‏:‏ مرحبًا ثم مات وأيقنا كلنا بالموت وأن القيامة هناك وإذا بغبرة قد لاحت وانكشفت عن رايات إسلامية وعصائب محمدية وفي أوائل القوم القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري وسمرة بن جندب والفضل بن العباس وزياد بن أبي سفيان وبنو هاشم وبنو عبد المطلب وسادات الأوس والخزرج وغانم بن عياض الأشعري ومن معه من الأمراء والساعات فلم يمهلوهم دون أن حملوا عليهم حملة رجل واحد حتى أجلوهم وقتل البطريق بولياص لعنه الله ومعه بطريق البطليوس وانهزمت الروم واتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون حتى بلغت الهزيمة إلى البحر اليوسفي ورموهم في البحر وغرق منهم جماعة كثيرة وقتل منهم في المعركة نحو أربعة آلاف وأسروا نحو ألف ومائتي أسير وهرب منهم إلى البطليوس جماعة واختفوا إلى الليل ودخلوا البطليوس وأعلموه بذلك فضاقت عليه الدنيا وضاق صدره وحار في أمره واستعد للقاء المسلمين‏.‏
قال الواقدي‏:‏ هذا ما جرى لهؤلاء وأما أهل طنبدا وأهل أسنا وكانوا لم يخرجوا ولم يقاتلوا فإنهم لما وردت عليهم الأخبار ومعهم البطارقة سألوا بطريقهم القتال وكان نصرانيًا ولم يكن روميًا وكان اسمه لوص وبه سميت البلد فأبى فلما انهزم البطارقة وخرج أهل طنبدا وأهل أسنا من السوقة والرعية وأولادهم وغيرهم وبكوا في وجوههم وقالوا‏:‏ نحن قوم رعية وكنا مغلوبين على أمرنا فإنا أهل ذمتكم ورعيتكم‏.‏
قالوا بشرط أن تدلونا على من هربوا إليكم فأجابوهم إلى ذلك وصاروا يأخذون المسلمين ويدخلون النور والمساكن ويقبضون على الروم ويسقمونهم إلى المسلمين وكان النصراني يقبض على الرومي ويأتي به إلى المسلمين حتى قبضوا من طنبدا وأسنا نحو من ألف وخمسمائة رجل من المطامير والأبيار التي كانوا يحبسون فيها الأسارى من المسلمين وغيرهم ولما اجتمعت الأسارى من الروم والنصارى أمر غانم بن عياض بضرب رقابهم على تل هناك يعرف بالكوم ورجعت المسلمون إلى مكان المعركة فلما عاينوا القتلى ورأوا سليمان بن خالد وعبد الله بن المقداد وعبيد بن الداري بكوا عليهم وعلى من قتل معهم من الأمراء رضي الله عنهم وحزنوا عليهم حزنًا شديدًا وأنشد عمار بن ياسر ينعي سليمان بن خالد وعبد الله بن المقداد ومن معهما‏:‏ يا عين أذري الدمع منك الصبيب ثم اندبي يا عين فقد الحبيب وانعي لمقتول غدا في الفلا مجندلًا وسط الفيافي غريب وابكي سليمان ولا تغفلي فأمره والله أمر عجيب قد كان لا يفكر كل العدا إن سل من غمد السيف قضيب وتحفر الأعداء من بأسه لو أنهم أعداد رمل الكثيب فيا حمام الأيك نوحي إذا على فتى قد كان غصنا رطيب وأعلمي بما جرى خالدًا لعله يبكي بدمع صبيب وأخبري المقداد من بعده بأن عبد الله أضحى سليب بل واندبي الأخيار من بعدهم وكل قرم للمعالي مصيب قد كمنوا جيشًا لنا عامدًا يوم الوغى من كل كلب مريب وحق من أعطى لنا نصره في كل واد ثم فتحًا قريب لنأخذن الثأر من جمعهم جهرًا ونطفي من فؤاد لهيب قال الواقدي‏:‏ وإن غانمًا رضي الله عنه جمع الشهداء ودفنهم في ثيابهم ودروعهم‏.‏
قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يحشر الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يوم القيامة وجراحاتهم تقطر دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك‏)‏‏.‏ قال الواقدي‏:‏ وأقام غانم رضي الله عنه بعد أن دفن الشهداء قريبًا من التل والأمراء يشتون الغارات على السواحل وعدي بن جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو أيوب والمسيب بن نجيبة الفزاري في ألف فارس فأغاروا على أهل شرونة فخرج إليهم بطريق يعرف بصندراس الجاهل وبطريق أهريست في خمسة آلاف فارس واقتتلوا قتالًا شديدًا عند سفح الجبل فبلغ الخبر غانم بن عياض الأشعري فأرسل إليهم كتيبة أخرى صحبة بن المنذر والفضل بن العباس والمرزبان في ألف فارس فلما رأى الروم ذلك وقع الرعب في قلوبهم وكان بينهم حروب عظيمة ثم إن الفضل بن العباس قصد البطريق الجاهل وضربه ضربة هاشمية على رأسه فقطع الخوذة والبيضة والرفادة إلى أن سمع خشخشة السيف في أضراسه فكبر وكبرت المسلمون لتكبيره فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وكان الفضل بن العباس فارسًا شديدًا وبطلًا صنديدًا فغاص في وسط المشركين وفتك فيهم والمرزبان حمل على بطريق شرونة فقتله وحمل ابن المنذر على بطريق أهريت فقتله فلما رأى الروم ذلك ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون ينهبون إلى المكان المعروف بالدير وأهريت وغرق منهم خلق كثير وقتل منهم ألف وخمسمائة فارس وأسر منهم ألف وخمسمائة وتحصن منهم جماعة من الروم والنصارى في مدينة الجاهل وكانت حصينة فحاصرها المسلمون سبعة أيام وحرقوا الأبواب وهدموا الجدران وأخرجوهم من البيوت وأخربوا تلك المدينة إلى يومنا وخرج إلى المسلمين نصارى من شرونة وأهريت وعقدوا مع المسلمين صلحًا وأعطوا الجزية وأنزلوا مرة الكلبي في مائتين من أصحابه وغيرهم وابن عمرو بن العاص في المكان المعروف ببناء خالد في مائتي فارس وعبر المسلمون البحر ونزل عامر بالعرب في مائتي فارس قريبًا من طنبدا واسنا وببا القرية وارتحل غانم بن عياض رضي الله عنه ببقية الجيش ولما تكاملت المسلمون أرسل بين يديه المسيب بن نجيبة الفزاري والعباس بن مرداس السلمي والفضل بن العباس الهاشمي وعامر بن عقبة الجهني وزياد بن أبي سفيان بن الحرث في ألف وخمسمائة فارس فساروا إلى مكان يعرف باتجرنوس وكان هناك قلعة ومرج للملك البطليوس وكان في زمن الربيع ينزل هناك بالخيام والمضارب حول القلعة وتجتمع عنده البطارقة ويقيم أشهرًا ثم ينزل على الإقليم ثم يعود إلى البهنسا‏.‏
قال الواقدي‏:‏ وأرسل لوص إلى البطليوس يطلب منه جيشًا صحبته بطريق من بطارقته فأرسل إليه بطريقًا كافرًا لعينًا اسمه شلقم وبه سميت البلد التي هي قريب من البهنسا وكان الجيش عشرة آلاف فارس والله أعلم‏.‏
قال‏:‏ حدثنا مسلم بن سالم اليربوعي عن شداد بن مازن عن طارق بن هلال أنه كان في خيل العباس بن مرداس السلمي‏.‏
قال‏:‏ بينما نحن نسير إذ رأينا غبرة قد ثارت وكان ذلك وقت الضحى فتأملناها فانكشف عن عشرة أعلام وعشرة صلبان من الذهب الأحمر كل صليب يلمع كأنه كوكب فتأهبنا الحملة وتأهبوا لنا فلم يمهلونا دون أن حملوا علينا وحملنا عليهم وأحاطوا بنا وقاتلت الروم قتالًا شديدًا ورطنوا بلغتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم وصبرنا لهم صبر الكرام وقاتلنا قتال الموت فلله در غانم بن عقبة والمسيب بن نجيبة الفزاري والفضل بن العباس لقد قاتلوا قتالًا شديدًا وعصب الفضل رأسه بعصابة حمراء وكذلك فعل زياد بن أبي سفيان بن الحرث كما كان يصنع عمهما حمزة وقاتلا قتال الموت فلم تكن إلا ساعة وقد قوي الحرب والقتال حتى أشرف علينا الأمير غانم بن عياض الأشعري مع بقية الجيش فقوي قلبنا وكبرنا فأجابونا بالتهليل والتكبير فتقدم الفضل بن العباس إلى بطريق شلقم وكان فارسًا شديدًا وعليه ديباجة مفصصة بالذهب وفي وسطه منطقة بالذهب مرصعة بالجواهر وقد عصب رأسه بعصابة من الجواهر وبيده عمود من الذهب طوله ثلاثة أشبار وأزيد وهو تارة يضرب بالسيف وتارة يضرب بالعمود فلما رآه الفضل ظن أنه يريده فحمل عليه الفضل وهو ينشد ويقول‏:‏ يا أيها الكلب اللعين الطاغيا ومن أتى لجيشنا معاديا أبشر لقد وافاك ليث ضاريًا بحد سيف في عداه ماضيا كان له الرب العظيم واقيًا من كل كلب إذ يكون طاغيا قال‏:‏ فلم يفهم ما يقول الفضل وحمل عليه وتعاركا وتجاولا وضرب الفضل رضي الله عنه فحاد عنها وعطف عليه وانتزع العمود من يده وضربه ضربة هاشمية قرشية أبان بها رأسه عن بدنه ونظر إليه لم يسقط فعاد عليه وهو جثة بلا رأس فتلقاه فارس من المسلمين اسمه زهير فوجده مكلبًا بكلاليب في سرجه فنزع الكلاليب فسقط عدو الله كالطود بعد أن تضمخ تاجه ومنطقته دمًا‏.‏
فقال له الفضل‏:‏ إن السلب لي فخذه لك فقد وهبتك إياه‏.‏
فقال‏:‏ لا أعدمنا الله مكاركم يا بني هاشم وعطف على لوص فقتله وقتل كل أمير بطريقًا غيره وحملت المسلمون حملة رجل واحد فبددوا شملهم فولوا منهزمين بين أيديهم واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون إلى أن وصلوا إلى البحر اليوسفي والقوهم في مكان قريب من شاقولة فسميت القرية بذلك وتحصنت جماعة بقلعة المرج فأحاط بها المسلمون وحرقوا الأبواب وهدموا الجدران واستخرجوا ما هناك وقتلوا من الروم مقتلة عظيمة نحوا من ثلاثة آلاف وأسروا نحوا من ألف وقتل من المسلمين ثمانية وأربعون رجلًا من أعيانهم سيف الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين ودفن هو وأصحابه بمكان الوقعة وكان زياد بن المغيرة وجماعته نزولًا في أماكنهم قريبًا من طنبدا كما ذكرنا حول البلد المعروف بدهروط وكان زياد صديقًا للأمير سليمان بن خالد بن الوليد فكتب كتابًا للأمير خالد بن الوليد يعزيه في ولده سليمان ويقول‏:‏ يا خالد إن هذا الدهر فجعنا في سيد كان يوم الحرب مقداما مجندل الفرس في الهيجا إذا اجتمعت وللصناديد يوم الحرب خصاما لا يملك الضد من أبطالنا أملًا إن حاز ساعده القصاص صمصاما يا طول ما هزم الأعداء بصارمه أنالهم منه تنكيسًا وإرغاما كأنه الليث وسط الغاب إذ وردت له العدا وعلى الأشبال قد حامى يا عين جودي بفيض الدمع منك دمًا بل واندبي فارسًا قد كان ضرغاما نجم الفتى العلم المقداد خير فتى قد كان في ملتقى الأعداء هجاما قال الواقدي‏:‏ فلما وصل الكتاب إلى خالد بن الوليد كان قريبًا من الدير ببقية الجيش وهو ينفذ السرايا وأهل البلاد يأتونه بما صالحوه عليه من المال وغيره وقد جهز عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعقبة بن نافع الفهري والزبير رضي الله عنهم بألف فارس إلى الفيوم وسيأتي ذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى فلما ورد الكتاب على خالد سقط إلى الأرض وخر مغشيًا عليه ثم أفاق واسترجع وقال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ‏{‏إنا لله وإنا إليه راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ اللهم إني احتسبت سليمان إليك‏:‏ اللهم اجعله فرطًا وذخرًا وأعقبني عليه صبرًا وأعظم لي بذلك أجرًا ولا تحرمني الثواب برحمتكم يا أرحم الراحمين ثم قال‏:‏ والله لآخذن فيه ألف سيد من ساداتهم ولأقطعن ساداتهم وفرسانهم وإنني أرجو أن آخذ بثأره إن شاء الله تعالى ولأقتلن البطليوس شر قتلة لعلي أشفي بذلك غليل صدري وحرارة كبدي وليكونن على يدي خراب دياره وانهزام جيوشه وزوال ملكه وهطلت مدامعه على وجنته أحر من الجمر ثم جعل يسترجع ويقول‏:‏ جرى مدمعي فوق المحاجر منهمل وحر فؤادي من جوى البين يشتعل وهام فؤادي حين أخبرت نعيه فليت بشير البين لا كان قد وصل سأبكي عليه كلما أقبل المسا وما ابتسم الصبح المنير وما استهل وكان كريم العم والخال سيدا إذا قام سوق الحرب لا يعرف الوجل أحاطت به خيل اللئام بأسرهم وقد مكنوا منه المهند والأسل وعيشك تلقاهم صراعًا على الثرى عليهم يسوق الوحش والطير محتفل فوا أسفًا لو أنني كنت حاضرًا بأبيض ماضي الحد في الحرب مكتمل وحق الذي حجت قريش لبيته وأرسل طه المصطفى غاية الأمل لأقتل منهم في الوغى ألف سيد إذا سلم الرحمن واتسع الأجل قال الواقدي‏:‏ وأقبلت الأمراء يعزون خالدًا ومدامعهم تفيض من عيونهم ويقولون‏:‏ أعظم الله لك أجرًا وأعقبك عليه صبرًا وجعله لك غدًا في المعاد ذخرًا والله لقد عدمنا القوى وقد أبيد القلب من حشاشتنا واكتوى ونحن لقتله ذاهلون ‏{إنا لله وإنا إليه راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏‏.‏ وكذلك يعزون المقداد في ولدى عبد الله وبلغ الخبر عمرو بن العاص بمصر وهو مقيم بها فكتب لهما كتابًا بالتعزية وبلغ الخبر المدينة لعمر بن الخطاب فاسترجع هو وبقية الصحابة مثل علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبد الله ومن كان حاضرًا من الصحابة بالمدينة الطيبة رضي الله عنهم وكتبوا إلى خالد والمقداد كتابًا يعزونهما فلما وصل الكتاب إلى خالد قال الواقدي‏:‏ هذا ما جرى لهؤلاء وأما البطليوس لعنه الله فإنه لما تحقق مجيء العرب إلى مدينة البهنسا فتح خزائن الأموال وفرق المال والسلاح والعدة من الملبوس والدروع وغير ذلك وفرق على البطارقة وعلى غيرهم من الجند وكان هناك بيت مقفل كما ذكرنا فيه صفة العرب وأسماؤهم فأمر بفتحه وهو يظن أن فيه مالًا مدخرًا فمنعه القسوس والرهبان من ذلك فأبى ففتحه فلم يجد فيه إلا صفة الرب وأسماءهم كما ذكرنا أول الكتاب فنظر لذلك ودخل الكنيسة وجلس على سريره وجمع حوله البطارقة فاستشارهم في أمره فقام شيخ كبير راهب وكان مطاعًا عنده مسموع الكلام كبير السن وكان عمره مائة وعشرين سنة فقام وعليه جبة سوداء وعلى رأسه قلنسوة وفي يده عكازة من الآبنوس ملبسة بالعاج والذهب فقرب من الهيكل وتكلم بكلام لا يفهم ثم قال بعد ذلك‏:‏ يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية قد كانت دولتكم قائمة وكلمتكم مسموعة ما دمتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتعدلون في الرعية وتأخذون للمظلوم من الظالم وتنصفون الضعيف من القوي وتواسون الفقير ولا تمدون أيديكم إلى شيء من أموال الناس وتهابون الزنا وكانت الدولة لكم وقلوب الرعية منجذبة إليكم وداعية لكم وكان الملك فيكم ولما لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر وظلمتم الرعية وجرتم في الأحكام وحكمتم بغير الحق ولا تأخذون للضعيف حقه من القوي ومددتم أيديكم إلى أموال الرعية وفشت فيكم المعاصي فتغيرت قلوب الرعية ومدوا أيديهم بالدعاء عليكم ودعاء المظلوم مستجاب وكثرة الظلم خراب فيوشك أن تنزع هذه النعمة من أيديكم وتعود إلى غيركم بكثرة ذنوبكم وشؤم معاصيكم وبدعاء المظلومين عليكم فلأجل ذلك سقطت عليكم العرب فملكوا بلادكم وقتلوا رجالكم ونهبوا أموالكم وسكنوا منازلكم واستولوا على معاقلكم فتيقظوا من غفلتكم وذلوا عن حريمكم وأموالكم ولا تمكنوا العرب من جانبكم وهذه مقالتي لكم جميعًا فلما سمع البطليوس لعنه الله كلام القس وما تكلم به التفت إلى بطارقته وجماعته ونوابه وقال‏:‏ هل سمعتم ما قال أبوكم‏.‏
قالوا‏:‏ سمعنا‏.‏
قال‏:‏ فما عندكم من الرأي‏.‏
قالوا‏:‏ نحن معك وبين يديك ونقاتل العرب ولا نطمعهم فينا كما طمعوا في غيرنا وإن غلبونا استعددنا للحصار وعندنا من الميرة والعلوفة ما يكفينا عشر سنين وأزيد وبلدنا حصين ولا نسلم أنفسنا وإلا يكون علينا عارًا عند الملوك قال فشكرهم البطليوس على ذلك ووثب قس آخر وكان يناظر ذلك القس في المعرفة واستخرج كتابًا معلقًا كان عنده في صندوق من الآبنوس مقفل بإقفال من الفولاذ وقال‏:‏ يا أهل دين النصرانية وبنى ماء المعمودية اسمعوا ما نعته لكم العلماء والكهان والحكماء أنه يبعث نبي في آخر الزمان يسمى محمد بن عبد الله من بني عدنان يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه يبعثه الله نبيًا إلى جميع البشر مولده بمكة ودار هجرته طيبة ثم يقيم أعوامًا ويتوفاه الله عز وجل ثم يتولى الأمر من بعده رجل يسمى أبا بكر وتزداد العرب به فخرًا ويجهز العساكر إلى الشام ثم لم يلبث إلا أيامًا قلائل ويتوفاه الله تعالى ويتولى الأمر من بعده الرجل الأصلع الأحور المسمى بعمر وهو صاحب الفتوح ومصبح الأعداء بأشأم صبوح تفتح على يديه الأمصار ويبعث سراياه إلى سائر الأقطار وإنا نجد في الكتب القديمة أن هذه المدينة تفتى على يد رجل أسمر وشجاع غضنفر فارس شديد وبطل صنديد يسمى بخالد بن الوليد فإن سمعتم قولي وقبلتم فاعقدوا مع العرب صلحًا فإن الدولة لهم ودينهم الحق ولو قاتلهم أهل المشرق والمغرب غلبوهم ببركة الله وببركة نبيهم محمد‏.‏
قال‏:‏ فلما سمع البطارقة كلامه غضبوا غضبًا شديدًا وأرادوا قتله فمنعهم البطليوس من ذلك وقال له‏:‏ كأنك خفت من سيوف العرب وأنا أكلم أن الرهبان والقسوس لا قلوب لهم لأنهم ليس لهم أكل إلا العدس والزيت والليمون والأشياء الرديئة‏.‏
لا يعرفون اللحم فلأجل ذلك ضعفت قلوبهم فلولا مقامك من قديم الزمان ورؤيتك للملوك القدماء لبطشت بك ولئن عدت إلى مقالتك هذه لأقتلنك شر قتلة‏.‏
قال فسكت القس الراهب وخرج البطليوس من وقته وساعته وجلس في قصره في الأعمدة ثم استدعى ببطارقته وخلع عليهم ورفع‏.‏
لهم الأعلام والصلبان وعرض عليه جيشه فإذا هم ثمانون ألفًا غير السوقة المشاة فسر بذلك سرورًا عظيمًا ثم استدعى ببطريق من بطارقته يدعى قابيل وكان لا يقطع أمرًا دونه فخلع عليه ودفع له الثمانين ألفًا وأمره بملاقاة العرب ثم استشار خواص مملكته في الإقامة في البلد أو الخروج إلى ظاهرها‏.‏
فقال له ذوو الرأي من بطارقته‏:‏ أيها الملك إنك إذا أقمت في البلد استضعفوا رأينا وأمرنا وإذا كنت بجانب المدينة لا تجد العرب أن تصل إلينا ونجعل البلد خلف ظهرنا ونقاتل من خارج الأبواب ويساعدونا من فوق الأبراج فإذا عظم الأمر فلا ندخل المدينة إلا من أمر عظيم فاستصوب رأيهم ثم إنه أمر الفراشين أن يخرجوا الخيام والسرادقات والقباب بظاهر المدينة وأخرجوا له سرادقًا عظيمًا سعته سبعون ذراعًا وارتفاعه مثل ذلك على أعمدة من الخشب المصفح بالذهب والفضة وهو من الحرير الملون‏:‏ الأزرق والأحمر والأخضر والأبيض والأصفر والأسود ومقصب بقضبان الذهب والفضة مرصع باللؤلؤ وفيه تصاوير من داخله ومن خارجه من جميع أجناس الطير والوحوش والكواكب وفرش فيه من الفرش وبسط الحرير الملون ووضع فيه المساند والوسائد والأنطاع وأطناب السرادقات حرير ملون بأوتاد من عاج وآبنوس في حلق من ذهب وفضة وعلق فيه قناديل وسلاسل من ذهب وفضة ووضع فيه سريرًا من خشب الساج المنقوش المصفح بالذهب الوهاج على قوائم بزمامين من ذهب وفضة طوله سبعة أذرع وعرضه مثل ذلك وارتفاعه مثل ذلك يصعد إليه بحرج من خشب مصفح بصفائح من ذهب وفضة وعليه فرش من حرير ووسائد ومساند ونمارق وحوله ثمانين كرسيًا مصفحة بالخشب الآبنوس يجلس عليها أرباب الدولة وأصحاب الصولة وضرب حوله من الخيام والسرادقات ما لا يوصف له عد‏.‏
قال الراوي‏:‏ حدثنا جماعة من الصحابة ممن شهد الفتح وعاين السرادقات أنه لما هرب الملعون ودخل المدينة وكان السرادق منصوبًا مقابل الباب البحري المعروف بباب قندوس أمر بطريقًا من بطارقته اسمه سمعان أن ينصب سرادقه الذي وهبه له عند باب توما وهو الباب القبلي وأمر بطريقًا اسمه أصطافين أن ينزل في الجانب الشرقي قريبًا من القناطر على ساباط معقود على أعمده من الحجارة فأمره أن ينزل ومعه عشرة آلاف فارس حول القلعة‏.‏
قال هبار بن أبي سفيان أو سلمه بن هاشم المخزومي‏:‏ ما نزلنا على مدينة من مدائن الشام ولا رأينا أكثر عددًا ولا أكثر زينة من مدينة البهنسا ولا أقوى قلوبًا منهم وأكثروا من الصلبان ونصبوا السرادقات والمنجنيقات على الأسوار وأسبلوا على الأسوار جلود الفيلة المصفحة بصفائح الفولاذ ورتبوا الرماة والمنجانيق والسهام وغير ذلك‏.‏
قال الراوي‏:‏ هذا ما جرى لهؤلاء وأما الأمير عياض بن غانم الأشعري رضي الله عنه فإنه لما قرب من البهنسا استشار أصحابه مثل أبي ذر الغفاري وأبي هريرة الدوسي ومعاذ بن جبل وسلمة بن هاشم المخزومي ومالك الأشتر النخعي وذي الكلاع الحميري رضي الله عنهم ومعهم ألفان من أصحابهم وأمرهم بالنزول في الجهة الشرقية وقال لهم‏:‏ إن قاتلوكم قاتلوهم ونازلوا القلعة حتى تأخذوها وعبر الأمير عياض من الجهة البحرية ومعه أصحاب الرايات والأمراء والطليعة من هؤلاء السادات وهم الفضل بن العباس وأخوه عبيد الله بن العباس وشقران وصهيب ومسلم وجعفر وعلي أولاد عقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر وزياد بن أبي سفيان وتتابعت خلفهم السادات وأصحاب المروءات مثل نعيم بن هاشم بن العاص وهبار بن أبي سفيان وعبد الله بن عمرو الدوسي وسعيد بن زبير الدوسي وحسان بن نصر الطائي وجرير بن نعيم الحيري وسالم بن فرقد اليربوعي وسيف بن أسلم الطائفي ومعمر بن خويلدة السبكي وسنان بن أوس الأنصاري ومخلد بن عون الكندي وابن زيد الخيل ومثل هؤلاء السادات أصحاب الرايات رضي الله عنهم وتتابعت الكتائب يتلو بعضها بعضًا وعبروا إلى الجانب الغربي فبينما هم سائرون وإذا بعدو الله قابيل قد أقبل بالبطارقة المتقدم ذكرهم فلما التقى الجمعان عند سفح الجبل تحت المغارة أشار إلى أصحابه فأمسكوا عن المسير وتقدم إلى رابية عالية وإلى جانبه رجل من العرب المتنصرة وأمره بأن ينادي برفيع صوته‏:‏ قربوا إلى البطريق رجلًا منكم ذا خبرة يكلمه فوثب إليه جرير الحميري وأتى إلى عياض وقال‏:‏ أيها الأمير أتأذن لي أن أكلمه‏.‏
قال‏:‏ نعم إن طلبوا الصلح ورفعوا القتال صالحناهم حتى يحضر الأمير خالد بن الوليد ويفعل أمره وأن أرادوا القتال قاتلناهم واستعنا بالله تعالى عليهم وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏
قال الراوي‏:‏ فعندها سار حتى وقف بإزاء البطريق وقال له‏:‏ سل حاجتك‏.‏
فقال له‏:‏ أأنت أمير القوم قال‏:‏ لا ولكني متكلم عن الأمير‏.‏
فقال له‏:‏ لم تركتم بلاد الشام والنعم العظام وأتيتم إلى هذه البلاد‏.‏
وكنتم في بلاد الحجاز تقاسون جوعًا وعريًا فذقتم فواكه الشام وثمار الحجاز وخيرات اليمن فلم يكفكم ذلك حتى أتيتم إلى مصر وقهرتم القبط وأتيتم إلى بلاد الفرس وقهرتم ملوكها ولم تكتفوا حتى أتيتم إلينا وهجمتم علينا في بلدنا وقتلتم أبطالنا ونهبتم أموالنا ونحن نتغافل عنكم ونهمل أمركم حتى غلظت شوكتكم وقصدتم مدينتنا التي هي دار ملكنا ومحل ولايتنا ولقد طلبها من قبلكم من الفراعنة والجبابرة والقبط والقياصرة والأكاسرة والجرامقة ورجعوا خائبين وأنتم هجمتم علينا وقتلتم رجالنا فقولوا لنا ما الذي تريدون منا فإن كنتم تريدون مالًا وترجعون عنا قمت أنا عن الملك بذلك وترحلون عنا وتردون لنا ما ملكتم من بلادنا وأن الملك لا يخالف لي أمرًا فأخبروني ما الذي تريدون وما الذي تطلبون‏.‏
فقال له جرير‏:‏ أفرغت من كلامك فقال له‏:‏ نعم‏.‏
قال له جرير‏:‏ خذ جوابك‏.‏
أما قولك كنا في ضيق حال فهو كما ذكرت ولكن أنعم الله علينا بالإسلام وهو أول نعمة ثم أمرنا بالجهاد وإن الله تعالى أباح لنا أموال المشركين ما داموا محاربين وأمرنا أن نجاهدكم حتى تؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون أو تسلموا أو تقاتلوا ‏{‏حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 87‏]‏‏.‏
وأما قولك المال فليس هو غرضنا ولا متاع الدنيا شهواتنا وإن بلادكم عن قريب تكون لنا وأموالكم غنيمة لنا نتقاسمها‏.‏
قال الواقدي‏:‏ فلما سمع البطريق الكلام غضب غضبًا شديدًا وقال‏:‏ أنا كفء لكم دون الملك ثم أمر أصحابه بالحملة على جرير قال فما لويت عنان جوادي إلا والخيل قد ركبتني عندها تواثب المسلمون واقتتلوا قتالًا شديدًا وتبادرت الرجال وزمجرت الأبطال وزحفت الأفيال وتراشقوا بالنبال وتضاربوا بالنصال وتطاعنوا بالعوال والتقى الجمعان واصطدم الفريقان واشتد النزال وكثرت الأهوال وتقاتلت الفرسان وولى الجبان حيران فلله در المغيرة بن شعبة وعون بن ساعدة وعبادة بن تميم والفضل بن العباس رضي الله عنهم لقد قاتلوا قتالًا شديدًا وأبلوا بلاء حسنًا ولم يزل القتال يشتد من ارتفاع الشمس إلى الغروب فعندها وثب عبد الله بن جعفر إلى قابيل وضربه ضربة فحاد عنها عدو الله وولى هاربًا وحمته جماعة نحو ثلثمائة فارس ولم يزل الفريقان في قتال ونزال إلى أن غابت الشمس وافترق الجمعان وقد قتل من المسلمين نحو خمسين رجلًا ختم الله لهم بالشهادة وقتل من الروم نحو ألفي فارس‏.‏
قال‏:‏ واجتمعت الروم حول قابيل حين ولى هاربًا إلى أن وصل إلى البطليوس فلما رآهم وبخهم وقال لهم‏:‏ بأي وجه تفرون من العرب ولم تصبروا لهم وقد فشلتم وجزعتم‏.‏
فقال له قابيل‏:‏ أيها الملك ليس الخبر كالعيان وهؤلاء ليسوا بإنس وإنما هم جن في القتال ولولا الأجل حصين ما عدت إليك فغضب الملك وقال‏:‏ اسكت قد تمكن رعب العرب من قلبك وستنظر ما يكون من أمرهم ثم بات في قلق شديد حتى أصبح الصبح ولم يأمر قومه بالركوب وقال‏:‏ أمهلوا حتى أنظر ما يكون من أمرهم‏
.‏


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت مايو 31, 2008 2:10 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
وسار علي بن حاتم الطائي وميمون حتى وصلا ميدوم وما حولها فوجدوا قيس بن الحرث قد صالح أهل تلك الأرض وعقد لهم صلحًا وأقرهم بالجزية ما عدا جماعة وكذلك أهل برنشت بعد قتل بطريقهم وكذلك أهل تلك البلاد إلى دهشور ونادى في ذلك الإقليم بالأمان وجبوا له أموالًا عظيمة على الصلح والجزية وعبر جماعة من المسلمين إلى البر الشرقي وهم‏:‏ رفاعة بن زهير المحاربي وعقبة بن عامر الجهني وذو الكلاع الحميري وألف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشنوا الغارات من العقبة التي هي قريب من قبلي حلوان على تلك القرى والبلاد فمن صالحهم صالحوه ومن أبى قاتلوه حتى وصلوا إلى أطفيح ثم إلى البرنيل وكان هناك بطريق يعرف بصول فخرج إليهم أهلها فصالحوهم على الجزية وعبروا من هناك وسار عدي بن حاتم حتى اجتمع بقيس بن الحارث قريبًا من القرية المعروفة بقمن ونزل ميمون هو وجماعته بالقرية المعروفة بالميمون‏.‏
فقال له قيس بن الحرث‏:‏ لا تنزل هنا حتى يفتح لنا ما حولها من البلاد ويأتي خبر من الأمير خالد بن الوليد ويأذن لنا بما يريد فأجاب إلى ذلك ونرد عدي بأصحابه بالقرية المعروفة ببني عدي ثم سار وترك ابنه حاتمًا وإخوته وأحاطوا بالقرية وسار قيس وأصحابه حتى وصلوا إلى القرية المعروفة بنوس والبلد المعروف بدلاص فخرج إليهم أهلها بعد قتل بطريقهم وصالحوهم وتوسطوا البلاد على ساحل البحر حتى نزلوا ببا الكبرى وغانم بن عياض على أثرهم وكان بها دير عظيم يعرف بدير أبي جرجا وكان له عيد عظيم يجتمعون إليه من سائر البلاد فوافق قدوم الصحابة قريبًا من عيدهم فجاءهم رجل من المعاهدين وأعلمهم بذلك فانتدب قيس بن الحرث رضي الله عنه ومعه جماعة من أصحابه خمسمائة فأمر عليهم رفاعة بن زهير المحاربي وأمرهم أن يشنوا الغارة على الدير قال‏:‏ وكان جماعة من رؤساء الكورة من الروم والقبط والخيول المسومة حول الدير يحرسونهم وهم في أكلهم وشربهم وزينتهم وبيعهم وشرائهم فما أحسوا إلا والخيل على رؤوسهم فما قاتلوا إلا قليلًا وانهزموا ونهب أصحابه جميع ما في السوق من أثاث وغيره وساقوا الغنائم وأحاطوا بالدير فقاتلوا من على الدير فقطعوا السلاسل والأقفال وتعلق جماعة من الصحابة على الحيطان ودخلوا الدير وأخذوا منه أمتعة وأثاثًا وأواني من ذهب وفضة وأسروا مائة أسير وساروا حتى توسطوا البلاد وكان بالقرب من البحر اليوسفي قرى كثيرة وبلدان وكان فيها مدينة تعرف بسحاق وكان بها بطريق من عظماء بطارقة البطليوس فلما بلغه قدوم الصحابة جمع جنوده إلى البلد المعروف بأقفهس وإلى البلدين المعروفين بشمسطا واليسلقون وإلى البلد المعروفة بنشابة فلما بلغه قدوم الصحابة جمع الخيل والروم والفلاحين والنصارى ستة آلاف وخرج يكشف بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيس بن الحرث خرج إليه أهل ببا الكبرى وما حولها من السواد وكذلك أهل هوريت وعقد لهم صلحًا وساروا فلما قربوا من القرية المعروفة الآن ببني صالح فبينما هم سائرون إذا بالغبار قد طلع وانكشف عن ستة صلبان تحت كل صليب ألف فلما رآهم المسلمون لم يمهلوهم دون أن حملوا عليهم واقتتلوا قتالًا شديدًا وثار الغبار وقدحت حوافر الخيل الشرار والتقى الجمعان واصطدم الفريقان فلله در رفاعة بن مسروق المحاربي وعقبة بن عامر الجهني وعمار بن ياسر العبسي وميسرة بن مسروق العبسي‏.‏
قال الراوي‏:‏ وقاتلت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالًا شديدًا وصبروا صبر الكرام وكان عدو الله لاوي بن أرمياء صاحب شيزا فارسًا شديدًا وبطلًا صنديدًا فجال وصال وقتل الرجال فعندها برز إليه فارس من المسلمين يسمى سنان بن نوفل الدوسي فقتله فخرج إليه عمار بن ياسر العبسي فتجاولا وتعاركا وتضاربا وتطاعنا ووقع بينهما ضربتان وكان السابق بالضربة عمار فطعنه بالرمح في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره فانجدل عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فعندها غضب الروم لأجل قتل صاحبهم وحملوا على عمار في كبكبة من الخيل فعقروا الجواد من تحته وتكاثروا عليه فقتلوه وقتل من المسلمين خمسة عشر رجلًا‏.‏
قال‏:‏ حدثنا سنان بن نوفل عن مالك عن غانم اليربوعي وكان في خيل رفاعة بن زهير المحاربي‏.‏
قال‏:‏ نحن في القتال وقد عظم النزال ووطنا أنفسنا على الموت ورفاعة يحرض الناس على القتال وهو ينشد ويقول‏:‏ يا معشر الناس والسادات والهمم ويا أهيل الصفا يا معدن الكرم فسدوا العزم لا تبغوا به فشلًا ومكنوا الضرب في الهامات والقمم وخلفوا القوم في البيداء مطرحة على الثرى خمشا بالذل والنقم قال الواقدي‏:‏ وجعل يحرضهم ويقول‏:‏ يا معشر السادات والأقيال أبشروا فإن الروم لم تقم لهم قائمة أبدًا وأبشروا بالحور والولدان في غرفات الحنان وإن الجنة تحت ظلال سيوفكم‏.‏
قال رفاعة‏:‏ فبينما نحن في أشد القتال إذا بغبرة قد لاحت وانقشعت وانكشف الغبار عن ألف فارس في الحديد غواطس عليهم الدروع الداودية وعلى رؤوسهم البيض العادية المجلية معتقلين بالرماح الخطية راكبين الخيول العربية فتأملناهم فإذا هم سليمان بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد وعبد الله بن طلحة وأخوه محمد وزياد بن المغيرة والوليد ومحمد بن عتبة ومحمد بن أبي هريرة وجماعة من الصحابة والأمراء وأبناؤهم رضي الله عنهم وكان غانم بن عياض الأشري جهزهم طليعة قدامه فلما رأونا كبروا وكبرنا لتكبيرهم وخاضوا في أوساطنا وطلب كل واحد منهم بطريقًا من البطارقة فقتله فلما رأت الروم ذلك ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وتبعهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلون وينهبون ويأسرون إلى البلدة شيزا وما حولها من السواد إلى سلقوس فأسروا منهم نحو خمسمائة أسير وقتل منهم ثلاثة آلاف وهرب الباقون إلى القرى والبلاد ولما قتل بطريق شندا خرج إليهم أهلها من النصارى والسوقة وعقدوا معهم صلحًا واتفقوا على أداء الجزية وكذا من حولهم من القرى ونزل هناك عمرو بن الزبير وجماعة من المسلمين وسار قيس بن الحرث أمام القوم حتى نزل قريبًا من طبندا والبلد المعروف بأسنا وكان بها بطريق يسمى بولياص بن بطرس وكان كافرا لعينًا فخرج إلى لقاء المسلمين هو وجماعته ومعه ميرة وعلوفة فكان ذلك مكيدة منه وعقد مع المسلمين صلحًا ووافقهم على أداء الجزية عن بلده وعن أسنا وكانت تحت حكمه وارتحل قيس بن الحرث ومن معه وتأخر زياد بن المغيرة ونزل بالقرية المعروفة بدهروط فعقد مع أهلها صلحًا ونزل سليمان بن خالد وعبد الله بن المقداد وجماعة قريبًا من البلد ومنهم من نزل عند القرية المعروفة بأطينة وصار جماعة يدخلون البلد ليلًا ثم يعودون خوفًا من المكيدة ولا حذر من قدر الله عز وجل‏.‏
قال الواقدي‏:‏ وكان المتخلفون خمسمائة فارس فجعلوا يسيرون على جانب البحر ويشنون أي يغيرون على أهل السواد فمن صالحهم صالحوه ومن أسلم تركوه وسار قيس بن الحرث حتى نزل بالبلد المعروف الآن بالقيس وبه سميت وكان فيها بطريق من بطارقة البطليوس وكان من بني عمه اسمه شكور بن ميخائيل والله أعلم باسمه فدخل أهل السواد كلهم البلد وحاصروها حصارًا شديدًا نحو شهرين ثم أعانهم الله تعالى وحرقوا بابًا من أبوابها ففتحت ودخلوا إليها وكان ذلك بعد وقعة جرت بينهم في مكان يعرف بكوم الأنصار فهزموهم هناك وحاصروهم وفتحوا المدينة وقتلوا البطريق ونهبوا الأموال وأخذوا جميع ما فيها بعد أن دعوهم إلى الإسلام فامتنعوا من ذلك ثم شنوا الغارات على ما حولها من البلدان والبلد المعروف بماطي ثم إلى الكفور فخرج إليهم بطريق كان ابن عم المقتول بدهشور لعنه الله وأخوه بطرس وعقدوا مع المسلمين عقدًا على الصلحوأعطوا الجزية وسارت العرب إلى البلد المعروف بالدير وسملوط وما حولها من القرى ونزل زهير وجماعة من العرب بالمكان الذي يعرف بزهرة وأما بقية السواد الذي حول البهنسا شرقًا وغربًا فلما تحققوا مجيء العرب هربوا إلى البهنسا بأموالهم ونسائهم وذراريهم وتركوا البلاد جميعها خرابًا وكان البطليوس لعنه الله أرسل إليهم بطارقته فحملوهم إلى البهنسا واستعد للحصار وجمع عنده ما يحتاج إليه مدة الحصار‏.‏
قال الواقدي‏:‏ هذا ما جرى لهؤلاء وأما عدو الله بولياص صاحب طبندا فإنه كاتب البطليوس يقول‏:‏ إني ما صالحت العرب إلا مكيدة وإني أريد الغدر بهم فجهز لي جيشًا من البطارقة على أن أظفر بجماعة من أبطال المسلمين ونأخذ بثأر من قتل منكم قريبًا‏.‏
قال‏:‏ وكان عدو الله كل يوم تأتيه الأخبار من العرب المتنصرة ومن غيرهم من أهل البلاد والسواد بما جرى للعرب وبأخبار من قتل من البطارقة وأخذ البلاد والأموال فحمل همًا عظيمًا ولم يظهر ذلك لأحد من بطارقته وإنما كان يطيب قلوبهم ويقول‏:‏ بلدنا حصينة وإن قاتلونا قاتلناهم وإن غلبونا دخلنا بلدنا فلو جاءنا أهل الحجاز جميعهم ما وصلوا إلينا ولو أقاموا عشرين سنة والله غالب على أمره وناصر دين الإسلام ومذل الكفرة اللئام فلما بلغ البطليوس مكاتبة عدو الله بولياص فرح بذلك فرحًا شديدًا‏.‏
قال‏:‏ واستدعى ببطريق من بطارقته يسمى روماس وضم إليه خمسة آلاف فارس من الروم والنصارى وغيرهم من أهل القرى وأمرهم أن يسيروا تحت ظلام الليل فما جاء نصف الليل حتى وصلوا إلى طنبدا ودخلوا إلى بولياص ففرح بذلك فرحًا شديدًا واستعدوا للهجمة على المسلمين‏.‏
قال وأصبح المسلمون وقد صلوا صلاة الصبح وإذا بالخيل قد أقبلت إليهم فنادوا‏:‏ النفير هاجمونا وغدرونا فركب المسلمون خيولهم وساروا إلى قريب الدير وإذا بالروم مقبلين في عشرة آلاف فارس وكان أعداء الله قد كمنوا كمينًا قريبًا من قناطر كانت هناك ونهر يجري فيه الماء من النيل في أوانه عميق غربي الدير قريب من البلد‏.‏
قال الواقدي‏:‏ ولما رأى المسلمون لمعان الأسنة والبيض وخفقان الأعلام وبريق الصلبان الذهب والفضة تبادروا إلى خيولهم فركبوا وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وأقبلوا مسرعين نحوهم ولم يفزعوا من كثرتهم وحرض بعضهم بعضًا على القتال وكانوا قد سبقوا إلى شرذمة من المسلمين كانوا نزولًا قريبًا من الدير ووضعوا فيهم السيف وأحاطوا بهم وجالوا واتسع المجال إلى قريب من دهروط فخرج سليمان بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد وعامر بن عقبة بن عامر وشداد بن أوس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم واشتد القتال وعظم النزال وعميت الأبصار وقدحت حوافر الخيل الشرار ولمعت الأسنة وقرعت الأعنة ودهشت الأنظار وحارت الأفكار وأحاطوا بالمسلمين من كل جانب فلله در سليمان بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد لقد قاتلا قتالًا شديدًا وأبليا بلاء حسنًا ولله در زياد بن المغيرة لقد كان يقاتل تارة في الميمنة وتارة في الميسرة وتارة في القلب وأحاط بهم أعداء الله من كل جانب وقد صار المسلمون بينهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود وصبروا لهم صبر الكرام وكان أكثر المسلمين قد أثخن بالجراح واشتد الكفار هذا والمسلمون قد انتدبوا أبطالًا وجعلوها خلف ظهورهم وقاتلوهم قتالًا عظيمًا هذا وأعداء الله قد أحاطوا بهم وحجزوا بينهم وبين البلد وقاتل سليمان وأصحابه قتالًا شديدًا ووطنوا أنفسهم على الموت وشجع بعضهم بعضًا وصار سليمان بن خالد يقول‏:‏ الله الله الجنة تحت ظلال السيوف والموعد عند حوض النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل قتالًا شديدًا حتى أثخن بالجراح وقتل من المسلمين نحو مائتين وعشرين قريبًا من التل الذي هو غرب البلد المذكور وما قتل الواحد منهم حتى قتل من أعداء الله خلقًا كثيرًا‏.‏
قال الواقدي
‏:‏ ولما رأى المسلمون وسليمان بن خالد ما حل بأصحابه صار تارة يكر في الميسرة وتارة يكر في الميمنة وأعانه بالحملة عبد الله بن المقداد وبقية الصحابة وتقدم سليمان ابن خالد وطعن بطريق أسنا طعنة صادقة فأرداه عن جواده وغاص في القلب‏.‏
قال‏:‏ حدثنا أوص بن شداد عن علقمة بن سنان عن زيد بن رافع قال‏:‏ كنت في الخيل صحبة سليمان بن خالد وقد حجزنا المشركين وتقهقروا من بين أيدينا ولم نشعر أن لهم كمينًا إذ خرج الكمين علينا وقاتلناهم قتال الموت وقتل منهم جماعة نحو ألفي فارس وقتل سليمان بن خالد من الصناديد والبطارقة من خيارهم نحو ثلاثين فارسًا وكذلك عبد الله بن المقداد فأحاط بسليمان بن خالد رضي الله عنه كردوس نحو ألفي فارس وعقروا جواده من تحته فضرب بالسيف فيهم حتى قطعت يده اليمنى فتناول السيف بيده اليسرى فضرب بها حتى قطعت فأحاطوا به فلما تيقن بالقتل التفت وقال‏:‏ يعز عليك يا خالد بن الوليد ما حل بولدك ولكن هذا في رضا الله عز وجل وكان قد طعن في صدره نحو عشرين طعنة حتى قل حيله وسقط إلى الأرض ثم تنفس وقال‏:‏ الساعة نلقى الأحبة ولما رآه عبد الله بن المقداد على ذلك المصرع صاح‏:‏ لا حياة بعدك يا أبا محمد والملتقى في جنات عدن ثم غاص يقاتل فأحاطوا به واشتبكت عليه الأسنة وضرب ضربات كثيرة في وجهه وهو يقطع الرماح ويمسح الدم عن وجهه حتى سقط به الجواد وصاح‏:‏ واشوقاه إليك يا مقداد ثم تبسم وقال‏:‏ مرحبًا ثم مات وأيقنا كلنا بالموت وأن القيامة هناك وإذا بغبرة قد لاحت وانكشفت عن رايات إسلامية وعصائب محمدية وفي أوائل القوم القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري وسمرة بن جندب والفضل بن العباس وزياد بن أبي سفيان وبنو هاشم وبنو عبد المطلب وسادات الأوس والخزرج وغانم بن عياض الأشعري ومن معه من الأمراء والساعات فلم يمهلوهم دون أن حملوا عليهم حملة رجل واحد حتى أجلوهم وقتل البطريق بولياص لعنه الله ومعه بطريق البطليوس وانهزمت الروم واتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون حتى بلغت الهزيمة إلى البحر اليوسفي ورموهم في البحر وغرق منهم جماعة كثيرة وقتل منهم في المعركة نحو أربعة آلاف وأسروا نحو ألف ومائتي أسير وهرب منهم إلى البطليوس جماعة واختفوا إلى الليل ودخلوا البطليوس وأعلموه بذلك فضاقت عليه الدنيا وضاق صدره وحار في أمره واستعد للقاء المسلمين‏.‏
قال الواقدي‏:‏ هذا ما جرى لهؤلاء وأما أهل طنبدا وأهل أسنا وكانوا لم يخرجوا ولم يقاتلوا فإنهم لما وردت عليهم الأخبار ومعهم البطارقة سألوا بطريقهم القتال وكان نصرانيًا ولم يكن روميًا وكان اسمه لوص وبه سميت البلد فأبى فلما انهزم البطارقة وخرج أهل طنبدا وأهل أسنا من السوقة والرعية وأولادهم وغيرهم وبكوا في وجوههم وقالوا‏:‏ نحن قوم رعية وكنا مغلوبين على أمرنا فإنا أهل ذمتكم ورعيتكم‏.‏
قالوا بشرط أن تدلونا على من هربوا إليكم فأجابوهم إلى ذلك وصاروا يأخذون المسلمين ويدخلون النور والمساكن ويقبضون على الروم ويسقمونهم إلى المسلمين وكان النصراني يقبض على الرومي ويأتي به إلى المسلمين حتى قبضوا من طنبدا وأسنا نحو من ألف وخمسمائة رجل من المطامير والأبيار التي كانوا يحبسون فيها الأسارى من المسلمين وغيرهم ولما اجتمعت الأسارى من الروم والنصارى أمر غانم بن عياض بضرب رقابهم على تل هناك يعرف بالكوم ورجعت المسلمون إلى مكان المعركة فلما عاينوا القتلى ورأوا سليمان بن خالد وعبد الله بن المقداد وعبيد بن الداري بكوا عليهم وعلى من قتل معهم من الأمراء رضي الله عنهم وحزنوا عليهم حزنًا شديدًا وأنشد عمار بن ياسر ينعي سليمان بن خالد وعبد الله بن المقداد ومن معهما‏:‏ يا عين أذري الدمع منك الصبيب ثم اندبي يا عين فقد الحبيب وانعي لمقتول غدا في الفلا مجندلًا وسط الفيافي غريب وابكي سليمان ولا تغفلي فأمره والله أمر عجيب قد كان لا يفكر كل العدا إن سل من غمد السيف قضيب وتحفر الأعداء من بأسه لو أنهم أعداد رمل الكثيب فيا حمام الأيك نوحي إذا على فتى قد كان غصنا رطيب وأعلمي بما جرى خالدًا لعله يبكي بدمع صبيب وأخبري المقداد من بعده بأن عبد الله أضحى سليب بل واندبي الأخيار من بعدهم وكل قرم للمعالي مصيب قد كمنوا جيشًا لنا عامدًا يوم الوغى من كل كلب مريب وحق من أعطى لنا نصره في كل واد ثم فتحًا قريب لنأخذن الثأر من جمعهم جهرًا ونطفي من فؤاد لهيب قال الواقدي‏:‏ وإن غانمًا رضي الله عنه جمع الشهداء ودفنهم في ثيابهم ودروعهم‏.‏
قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يحشر الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يوم القيامة وجراحاتهم تقطر دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك‏)‏‏.‏ قال الواقدي‏:‏ وأقام غانم رضي الله عنه بعد أن دفن الشهداء قريبًا من التل والأمراء يشتون الغارات على السواحل وعدي بن جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو أيوب والمسيب بن نجيبة الفزاري في ألف فارس فأغاروا على أهل شرونة فخرج إليهم بطريق يعرف بصندراس الجاهل وبطريق أهريست في خمسة آلاف فارس واقتتلوا قتالًا شديدًا عند سفح الجبل فبلغ الخبر غانم بن عياض الأشعري فأرسل إليهم كتيبة أخرى صحبة بن المنذر والفضل بن العباس والمرزبان في ألف فارس فلما رأى الروم ذلك وقع الرعب في قلوبهم وكان بينهم حروب عظيمة ثم إن الفضل بن العباس قصد البطريق الجاهل وضربه ضربة هاشمية على رأسه فقطع الخوذة والبيضة والرفادة إلى أن سمع خشخشة السيف في أضراسه فكبر وكبرت المسلمون لتكبيره فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وكان الفضل بن العباس فارسًا شديدًا وبطلًا صنديدًا فغاص في وسط المشركين وفتك فيهم والمرزبان حمل على بطريق شرونة فقتله وحمل ابن المنذر على بطريق أهريت فقتله فلما رأى الروم ذلك ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون ينهبون إلى المكان المعروف بالدير وأهريت وغرق منهم خلق كثير وقتل منهم ألف وخمسمائة فارس وأسر منهم ألف وخمسمائة وتحصن منهم جماعة من الروم والنصارى في مدينة الجاهل وكانت حصينة فحاصرها المسلمون سبعة أيام وحرقوا الأبواب وهدموا الجدران وأخرجوهم من البيوت وأخربوا تلك المدينة إلى يومنا وخرج إلى المسلمين نصارى من شرونة وأهريت وعقدوا مع المسلمين صلحًا وأعطوا الجزية وأنزلوا مرة الكلبي في مائتين من أصحابه وغيرهم وابن عمرو بن العاص في المكان المعروف ببناء خالد في مائتي فارس وعبر المسلمون البحر ونزل عامر بالعرب في مائتي فارس قريبًا من طنبدا واسنا وببا القرية وارتحل غانم بن عياض رضي الله عنه ببقية الجيش ولما تكاملت المسلمون أرسل بين يديه المسيب بن نجيبة الفزاري والعباس بن مرداس السلمي والفضل بن العباس الهاشمي وعامر بن عقبة الجهني وزياد بن أبي سفيان بن الحرث في ألف وخمسمائة فارس فساروا إلى مكان يعرف باتجرنوس وكان هناك قلعة ومرج للملك البطليوس وكان في زمن الربيع ينزل هناك بالخيام والمضارب حول القلعة وتجتمع عنده البطارقة ويقيم أشهرًا ثم ينزل على الإقليم ثم يعود إلى البهنسا‏.‏
قال الواقدي‏:‏ وأرسل لوص إلى البطليوس يطلب منه جيشًا صحبته بطريق من بطارقته فأرسل إليه بطريقًا كافرًا لعينًا اسمه شلقم وبه سميت البلد التي هي قريب من البهنسا وكان الجيش عشرة آلاف فارس والله أعلم‏.‏
قال‏:‏ حدثنا مسلم بن سالم اليربوعي عن شداد بن مازن عن طارق بن هلال أنه كان في خيل العباس بن مرداس السلمي‏.‏
قال‏:‏ بينما نحن نسير إذ رأينا غبرة قد ثارت وكان ذلك وقت الضحى فتأملناها فانكشف عن عشرة أعلام وعشرة صلبان من الذهب الأحمر كل صليب يلمع كأنه كوكب فتأهبنا الحملة وتأهبوا لنا فلم يمهلونا دون أن حملوا علينا وحملنا عليهم وأحاطوا بنا وقاتلت الروم قتالًا شديدًا ورطنوا بلغتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم وصبرنا لهم صبر الكرام وقاتلنا قتال الموت فلله در غانم بن عقبة والمسيب بن نجيبة الفزاري والفضل بن العباس لقد قاتلوا قتالًا شديدًا وعصب الفضل رأسه بعصابة حمراء وكذلك فعل زياد بن أبي سفيان بن الحرث كما كان يصنع عمهما حمزة وقاتلا قتال الموت فلم تكن إلا ساعة وقد قوي الحرب والقتال حتى أشرف علينا الأمير غانم بن عياض الأشعري مع بقية الجيش فقوي قلبنا وكبرنا فأجابونا بالتهليل والتكبير فتقدم الفضل بن العباس إلى بطريق شلقم وكان فارسًا شديدًا وعليه ديباجة مفصصة بالذهب وفي وسطه منطقة بالذهب مرصعة بالجواهر وقد عصب رأسه بعصابة من الجواهر وبيده عمود من الذهب طوله ثلاثة أشبار وأزيد وهو تارة يضرب بالسيف وتارة يضرب بالعمود فلما رآه الفضل ظن أنه يريده فحمل عليه الفضل وهو ينشد ويقول‏:‏ يا أيها الكلب اللعين الطاغيا ومن أتى لجيشنا معاديا أبشر لقد وافاك ليث ضاريًا بحد سيف في عداه ماضيا كان له الرب العظيم واقيًا من كل كلب إذ يكون طاغيا قال‏:‏ فلم يفهم ما يقول الفضل وحمل عليه وتعاركا وتجاولا وضرب الفضل رضي الله عنه فحاد عنها وعطف عليه وانتزع العمود من يده وضربه ضربة هاشمية قرشية أبان بها رأسه عن بدنه ونظر إليه لم يسقط فعاد عليه وهو جثة بلا رأس فتلقاه فارس من المسلمين اسمه زهير فوجده مكلبًا بكلاليب في سرجه فنزع الكلاليب فسقط عدو الله كالطود بعد أن تضمخ تاجه ومنطقته دمًا‏.‏
فقال له الفضل‏:‏ إن السلب لي فخذه لك فقد وهبتك إياه‏.‏
فقال‏:‏ لا أعدمنا الله مكاركم يا بني هاشم وعطف على لوص فقتله وقتل كل أمير بطريقًا غيره وحملت المسلمون حملة رجل واحد فبددوا شملهم فولوا منهزمين بين أيديهم واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون إلى أن وصلوا إلى البحر اليوسفي والقوهم في مكان قريب من شاقولة فسميت القرية بذلك وتحصنت جماعة بقلعة المرج فأحاط بها المسلمون وحرقوا الأبواب وهدموا الجدران واستخرجوا ما هناك وقتلوا من الروم مقتلة عظيمة نحوا من ثلاثة آلاف وأسروا نحوا من ألف وقتل من المسلمين ثمانية وأربعون رجلًا من أعيانهم سيف الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين ودفن هو وأصحابه بمكان الوقعة وكان زياد بن المغيرة وجماعته نزولًا في أماكنهم قريبًا من طنبدا كما ذكرنا حول البلد المعروف بدهروط وكان زياد صديقًا للأمير سليمان بن خالد بن الوليد فكتب كتابًا للأمير خالد بن الوليد يعزيه في ولده سليمان ويقول‏:‏ يا خالد إن هذا الدهر فجعنا في سيد كان يوم الحرب مقداما مجندل الفرس في الهيجا إذا اجتمعت وللصناديد يوم الحرب خصاما لا يملك الضد من أبطالنا أملًا إن حاز ساعده القصاص صمصاما يا طول ما هزم الأعداء بصارمه أنالهم منه تنكيسًا وإرغاما كأنه الليث وسط الغاب إذ وردت له العدا وعلى الأشبال قد حامى يا عين جودي بفيض الدمع منك دمًا بل واندبي فارسًا قد كان ضرغاما نجم الفتى العلم المقداد خير فتى قد كان في ملتقى الأعداء هجاما قال الواقدي‏:‏ فلما وصل الكتاب إلى خالد بن الوليد كان قريبًا من الدير ببقية الجيش وهو ينفذ السرايا وأهل البلاد يأتونه بما صالحوه عليه من المال وغيره وقد جهز عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعقبة بن نافع الفهري والزبير رضي الله عنهم بألف فارس إلى الفيوم وسيأتي ذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى فلما ورد الكتاب على خالد سقط إلى الأرض وخر مغشيًا عليه ثم أفاق واسترجع وقال‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ‏{‏إنا لله وإنا إليه راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ اللهم إني احتسبت سليمان إليك‏:‏ اللهم اجعله فرطًا وذخرًا وأعقبني عليه صبرًا وأعظم لي بذلك أجرًا ولا تحرمني الثواب برحمتكم يا أرحم الراحمين ثم قال‏:‏ والله لآخذن فيه ألف سيد من ساداتهم ولأقطعن ساداتهم وفرسانهم وإنني أرجو أن آخذ بثأره إن شاء الله تعالى ولأقتلن البطليوس شر قتلة لعلي أشفي بذلك غليل صدري وحرارة كبدي وليكونن على يدي خراب دياره وانهزام جيوشه وزوال ملكه وهطلت مدامعه على وجنته أحر من الجمر ثم جعل يسترجع ويقول‏:‏ جرى مدمعي فوق المحاجر منهمل وحر فؤادي من جوى البين يشتعل وهام فؤادي حين أخبرت نعيه فليت بشير البين لا كان قد وصل سأبكي عليه كلما أقبل المسا وما ابتسم الصبح المنير وما استهل وكان كريم العم والخال سيدا إذا قام سوق الحرب لا يعرف الوجل أحاطت به خيل اللئام بأسرهم وقد مكنوا منه المهند والأسل وعيشك تلقاهم صراعًا على الثرى عليهم يسوق الوحش والطير محتفل فوا أسفًا لو أنني كنت حاضرًا بأبيض ماضي الحد في الحرب مكتمل وحق الذي حجت قريش لبيته وأرسل طه المصطفى غاية الأمل لأقتل منهم في الوغى ألف سيد إذا سلم الرحمن واتسع الأجل قال الواقدي‏:‏ وأقبلت الأمراء يعزون خالدًا ومدامعهم تفيض من عيونهم ويقولون‏:‏ أعظم الله لك أجرًا وأعقبك عليه صبرًا وجعله لك غدًا في المعاد ذخرًا والله لقد عدمنا القوى وقد أبيد القلب من حشاشتنا واكتوى ونحن لقتله ذاهلون ‏{إنا لله وإنا إليه راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏‏.‏ وكذلك يعزون المقداد في ولدى عبد الله وبلغ الخبر عمرو بن العاص بمصر وهو مقيم بها فكتب لهما كتابًا بالتعزية وبلغ الخبر المدينة لعمر بن الخطاب فاسترجع هو وبقية الصحابة مثل علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبد الله ومن كان حاضرًا من الصحابة بالمدينة الطيبة رضي الله عنهم وكتبوا إلى خالد والمقداد كتابًا يعزونهما فلما وصل الكتاب إلى خالد قال الواقدي‏:‏ هذا ما جرى لهؤلاء وأما البطليوس لعنه الله فإنه لما تحقق مجيء العرب إلى مدينة البهنسا فتح خزائن الأموال وفرق المال والسلاح والعدة من الملبوس والدروع وغير ذلك وفرق على البطارقة وعلى غيرهم من الجند وكان هناك بيت مقفل كما ذكرنا فيه صفة العرب وأسماؤهم فأمر بفتحه وهو يظن أن فيه مالًا مدخرًا فمنعه القسوس والرهبان من ذلك فأبى ففتحه فلم يجد فيه إلا صفة الرب وأسماءهم كما ذكرنا أول الكتاب فنظر لذلك ودخل الكنيسة وجلس على سريره وجمع حوله البطارقة فاستشارهم في أمره فقام شيخ كبير راهب وكان مطاعًا عنده مسموع الكلام كبير السن وكان عمره مائة وعشرين سنة فقام وعليه جبة سوداء وعلى رأسه قلنسوة وفي يده عكازة من الآبنوس ملبسة بالعاج والذهب فقرب من الهيكل وتكلم بكلام لا يفهم ثم قال بعد ذلك‏:‏ يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية قد كانت دولتكم قائمة وكلمتكم مسموعة ما دمتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتعدلون في الرعية وتأخذون للمظلوم من الظالم وتنصفون الضعيف من القوي وتواسون الفقير ولا تمدون أيديكم إلى شيء من أموال الناس وتهابون الزنا وكانت الدولة لكم وقلوب الرعية منجذبة إليكم وداعية لكم وكان الملك فيكم ولما لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر وظلمتم الرعية وجرتم في الأحكام وحكمتم بغير الحق ولا تأخذون للضعيف حقه من القوي ومددتم أيديكم إلى أموال الرعية وفشت فيكم المعاصي فتغيرت قلوب الرعية ومدوا أيديهم بالدعاء عليكم ودعاء المظلوم مستجاب وكثرة الظلم خراب فيوشك أن تنزع هذه النعمة من أيديكم وتعود إلى غيركم بكثرة ذنوبكم وشؤم معاصيكم وبدعاء المظلومين عليكم فلأجل ذلك سقطت عليكم العرب فملكوا بلادكم وقتلوا رجالكم ونهبوا أموالكم وسكنوا منازلكم واستولوا على معاقلكم فتيقظوا من غفلتكم وذلوا عن حريمكم وأموالكم ولا تمكنوا العرب من جانبكم وهذه مقالتي لكم جميعًا فلما سمع البطليوس لعنه الله كلام القس وما تكلم به التفت إلى بطارقته وجماعته ونوابه وقال‏:‏ هل سمعتم ما قال أبوكم‏.‏
قالوا‏:‏ سمعنا‏.‏
قال‏:‏ فما عندكم من الرأي‏.‏
قالوا‏:‏ نحن معك وبين يديك ونقاتل العرب ولا نطمعهم فينا كما طمعوا في غيرنا وإن غلبونا استعددنا للحصار وعندنا من الميرة والعلوفة ما يكفينا عشر سنين وأزيد وبلدنا حصين ولا نسلم أنفسنا وإلا يكون علينا عارًا عند الملوك قال فشكرهم البطليوس على ذلك ووثب قس آخر وكان يناظر ذلك القس في المعرفة واستخرج كتابًا معلقًا كان عنده في صندوق من الآبنوس مقفل بإقفال من الفولاذ وقال‏:‏ يا أهل دين النصرانية وبنى ماء المعمودية اسمعوا ما نعته لكم العلماء والكهان والحكماء أنه يبعث نبي في آخر الزمان يسمى محمد بن عبد الله من بني عدنان يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه يبعثه الله نبيًا إلى جميع البشر مولده بمكة ودار هجرته طيبة ثم يقيم أعوامًا ويتوفاه الله عز وجل ثم يتولى الأمر من بعده رجل يسمى أبا بكر وتزداد العرب به فخرًا ويجهز العساكر إلى الشام ثم لم يلبث إلا أيامًا قلائل ويتوفاه الله تعالى ويتولى الأمر من بعده الرجل الأصلع الأحور المسمى بعمر وهو صاحب الفتوح ومصبح الأعداء بأشأم صبوح تفتح على يديه الأمصار ويبعث سراياه إلى سائر الأقطار وإنا نجد في الكتب القديمة أن هذه المدينة تفتى على يد رجل أسمر وشجاع غضنفر فارس شديد وبطل صنديد يسمى بخالد بن الوليد فإن سمعتم قولي وقبلتم فاعقدوا مع العرب صلحًا فإن الدولة لهم ودينهم الحق ولو قاتلهم أهل المشرق والمغرب غلبوهم ببركة الله وببركة نبيهم محمد‏.‏
قال‏:‏ فلما سمع البطارقة كلامه غضبوا غضبًا شديدًا وأرادوا قتله فمنعهم البطليوس من ذلك وقال له‏:‏ كأنك خفت من سيوف العرب وأنا أكلم أن الرهبان والقسوس لا قلوب لهم لأنهم ليس لهم أكل إلا العدس والزيت والليمون والأشياء الرديئة‏.‏
لا يعرفون اللحم فلأجل ذلك ضعفت قلوبهم فلولا مقامك من قديم الزمان ورؤيتك للملوك القدماء لبطشت بك ولئن عدت إلى مقالتك هذه لأقتلنك شر قتلة‏.‏
قال فسكت القس الراهب وخرج البطليوس من وقته وساعته وجلس في قصره في الأعمدة ثم استدعى ببطارقته وخلع عليهم ورفع‏.‏
لهم الأعلام والصلبان وعرض عليه جيشه فإذا هم ثمانون ألفًا غير السوقة المشاة فسر بذلك سرورًا عظيمًا ثم استدعى ببطريق من بطارقته يدعى قابيل وكان لا يقطع أمرًا دونه فخلع عليه ودفع له الثمانين ألفًا وأمره بملاقاة العرب ثم استشار خواص مملكته في الإقامة في البلد أو الخروج إلى ظاهرها‏.‏
فقال له ذوو الرأي من بطارقته‏:‏ أيها الملك إنك إذا أقمت في البلد استضعفوا رأينا وأمرنا وإذا كنت بجانب المدينة لا تجد العرب أن تصل إلينا ونجعل البلد خلف ظهرنا ونقاتل من خارج الأبواب ويساعدونا من فوق الأبراج فإذا عظم الأمر فلا ندخل المدينة إلا من أمر عظيم فاستصوب رأيهم ثم إنه أمر الفراشين أن يخرجوا الخيام والسرادقات والقباب بظاهر المدينة وأخرجوا له سرادقًا عظيمًا سعته سبعون ذراعًا وارتفاعه مثل ذلك على أعمدة من الخشب المصفح بالذهب والفضة وهو من الحرير الملون‏:‏ الأزرق والأحمر والأخضر والأبيض والأصفر والأسود ومقصب بقضبان الذهب والفضة مرصع باللؤلؤ وفيه تصاوير من داخله ومن خارجه من جميع أجناس الطير والوحوش والكواكب وفرش فيه من الفرش وبسط الحرير الملون ووضع فيه المساند والوسائد والأنطاع وأطناب السرادقات حرير ملون بأوتاد من عاج وآبنوس في حلق من ذهب وفضة وعلق فيه قناديل وسلاسل من ذهب وفضة ووضع فيه سريرًا من خشب الساج المنقوش المصفح بالذهب الوهاج على قوائم بزمامين من ذهب وفضة طوله سبعة أذرع وعرضه مثل ذلك وارتفاعه مثل ذلك يصعد إليه بحرج من خشب مصفح بصفائح من ذهب وفضة وعليه فرش من حرير ووسائد ومساند ونمارق وحوله ثمانين كرسيًا مصفحة بالخشب الآبنوس يجلس عليها أرباب الدولة وأصحاب الصولة وضرب حوله من الخيام والسرادقات ما لا يوصف له عد‏.‏
قال الراوي‏:‏ حدثنا جماعة من الصحابة ممن شهد الفتح وعاين السرادقات أنه لما هرب الملعون ودخل المدينة وكان السرادق منصوبًا مقابل الباب البحري المعروف بباب قندوس أمر بطريقًا من بطارقته اسمه سمعان أن ينصب سرادقه الذي وهبه له عند باب توما وهو الباب القبلي وأمر بطريقًا اسمه أصطافين أن ينزل في الجانب الشرقي قريبًا من القناطر على ساباط معقود على أعمده من الحجارة فأمره أن ينزل ومعه عشرة آلاف فارس حول القلعة‏.‏
قال هبار بن أبي سفيان أو سلمه بن هاشم المخزومي‏:‏ ما نزلنا على مدينة من مدائن الشام ولا رأينا أكثر عددًا ولا أكثر زينة من مدينة البهنسا ولا أقوى قلوبًا منهم وأكثروا من الصلبان ونصبوا السرادقات والمنجنيقات على الأسوار وأسبلوا على الأسوار جلود الفيلة المصفحة بصفائح الفولاذ ورتبوا الرماة والمنجانيق والسهام وغير ذلك‏.‏
قال الراوي‏:‏ هذا ما جرى لهؤلاء وأما الأمير عياض بن غانم الأشعري رضي الله عنه فإنه لما قرب من البهنسا استشار أصحابه مثل أبي ذر الغفاري وأبي هريرة الدوسي ومعاذ بن جبل وسلمة بن هاشم المخزومي ومالك الأشتر النخعي وذي الكلاع الحميري رضي الله عنهم ومعهم ألفان من أصحابهم وأمرهم بالنزول في الجهة الشرقية وقال لهم‏:‏ إن قاتلوكم قاتلوهم ونازلوا القلعة حتى تأخذوها وعبر الأمير عياض من الجهة البحرية ومعه أصحاب الرايات والأمراء والطليعة من هؤلاء السادات وهم الفضل بن العباس وأخوه عبيد الله بن العباس وشقران وصهيب ومسلم وجعفر وعلي أولاد عقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر وزياد بن أبي سفيان وتتابعت خلفهم السادات وأصحاب المروءات مثل نعيم بن هاشم بن العاص وهبار بن أبي سفيان وعبد الله بن عمرو الدوسي وسعيد بن زبير الدوسي وحسان بن نصر الطائي وجرير بن نعيم الحيري وسالم بن فرقد اليربوعي وسيف بن أسلم الطائفي ومعمر بن خويلدة السبكي وسنان بن أوس الأنصاري ومخلد بن عون الكندي وابن زيد الخيل ومثل هؤلاء السادات أصحاب الرايات رضي الله عنهم وتتابعت الكتائب يتلو بعضها بعضًا وعبروا إلى الجانب الغربي فبينما هم سائرون وإذا بعدو الله قابيل قد أقبل بالبطارقة المتقدم ذكرهم فلما التقى الجمعان عند سفح الجبل تحت المغارة أشار إلى أصحابه فأمسكوا عن المسير وتقدم إلى رابية عالية وإلى جانبه رجل من العرب المتنصرة وأمره بأن ينادي برفيع صوته‏:‏ قربوا إلى البطريق رجلًا منكم ذا خبرة يكلمه فوثب إليه جرير الحميري وأتى إلى عياض وقال‏:‏ أيها الأمير أتأذن لي أن أكلمه‏.‏
قال‏:‏ نعم إن طلبوا الصلح ورفعوا القتال صالحناهم حتى يحضر الأمير خالد بن الوليد ويفعل أمره وأن أرادوا القتال قاتلناهم واستعنا بالله تعالى عليهم وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏
قال الراوي‏:‏ فعندها سار حتى وقف بإزاء البطريق وقال له‏:‏ سل حاجتك‏.‏
فقال له‏:‏ أأنت أمير القوم قال‏:‏ لا ولكني متكلم عن الأمير‏.‏
فقال له‏:‏ لم تركتم بلاد الشام والنعم العظام وأتيتم إلى هذه البلاد‏.‏
وكنتم في بلاد الحجاز تقاسون جوعًا وعريًا فذقتم فواكه الشام وثمار الحجاز وخيرات اليمن فلم يكفكم ذلك حتى أتيتم إلى مصر وقهرتم القبط وأتيتم إلى بلاد الفرس وقهرتم ملوكها ولم تكتفوا حتى أتيتم إلينا وهجمتم علينا في بلدنا وقتلتم أبطالنا ونهبتم أموالنا ونحن نتغافل عنكم ونهمل أمركم حتى غلظت شوكتكم وقصدتم مدينتنا التي هي دار ملكنا ومحل ولايتنا ولقد طلبها من قبلكم من الفراعنة والجبابرة والقبط والقياصرة والأكاسرة والجرامقة ورجعوا خائبين وأنتم هجمتم علينا وقتلتم رجالنا فقولوا لنا ما الذي تريدون منا فإن كنتم تريدون مالًا وترجعون عنا قمت أنا عن الملك بذلك وترحلون عنا وتردون لنا ما ملكتم من بلادنا وأن الملك لا يخالف لي أمرًا فأخبروني ما الذي تريدون وما الذي تطلبون‏.‏
فقال له جرير‏:‏ أفرغت من كلامك فقال له‏:‏ نعم‏.‏
قال له جرير‏:‏ خذ جوابك‏.‏
أما قولك كنا في ضيق حال فهو كما ذكرت ولكن أنعم الله علينا بالإسلام وهو أول نعمة ثم أمرنا بالجهاد وإن الله تعالى أباح لنا أموال المشركين ما داموا محاربين وأمرنا أن نجاهدكم حتى تؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون أو تسلموا أو تقاتلوا ‏{‏حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 87‏]‏‏.‏
وأما قولك المال فليس هو غرضنا ولا متاع الدنيا شهواتنا وإن بلادكم عن قريب تكون لنا وأموالكم غنيمة لنا نتقاسمها‏.‏
قال الواقدي‏:‏ فلما سمع البطريق الكلام غضب غضبًا شديدًا وقال‏:‏ أنا كفء لكم دون الملك ثم أمر أصحابه بالحملة على جرير قال فما لويت عنان جوادي إلا والخيل قد ركبتني عندها تواثب المسلمون واقتتلوا قتالًا شديدًا وتبادرت الرجال وزمجرت الأبطال وزحفت الأفيال وتراشقوا بالنبال وتضاربوا بالنصال وتطاعنوا بالعوال والتقى الجمعان واصطدم الفريقان واشتد النزال وكثرت الأهوال وتقاتلت الفرسان وولى الجبان حيران فلله در المغيرة بن شعبة وعون بن ساعدة وعبادة بن تميم والفضل بن العباس رضي الله عنهم لقد قاتلوا قتالًا شديدًا وأبلوا بلاء حسنًا ولم يزل القتال يشتد من ارتفاع الشمس إلى الغروب فعندها وثب عبد الله بن جعفر إلى قابيل وضربه ضربة فحاد عنها عدو الله وولى هاربًا وحمته جماعة نحو ثلثمائة فارس ولم يزل الفريقان في قتال ونزال إلى أن غابت الشمس وافترق الجمعان وقد قتل من المسلمين نحو خمسين رجلًا ختم الله لهم بالشهادة وقتل من الروم نحو ألفي فارس‏.‏
قال‏:‏ واجتمعت الروم حول قابيل حين ولى هاربًا إلى أن وصل إلى البطليوس فلما رآهم وبخهم وقال لهم‏:‏ بأي وجه تفرون من العرب ولم تصبروا لهم وقد فشلتم وجزعتم‏.‏
فقال له قابيل‏:‏ أيها الملك ليس الخبر كالعيان وهؤلاء ليسوا بإنس وإنما هم جن في القتال ولولا الأجل حصين ما عدت إليك فغضب الملك وقال‏:‏ اسكت قد تمكن رعب العرب من قلبك وستنظر ما يكون من أمرهم ثم بات في قلق شديد حتى أصبح الصبح ولم يأمر قومه بالركوب وقال‏:‏ أمهلوا حتى أنظر ما يكون من أمرهم‏
.‏


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 21 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة 1, 2  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: [AhrefsBot] و 5 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط