موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 123 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 3, 4, 5, 6, 7, 8, 9  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة نوفمبر 02, 2012 10:03 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث التاسع عشر

أخبرنا الفقيه الصالح بندار بن بختيار الواسطي ، قال: أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد المهدي الهاشمي ، قال أنبأنا أبو عثمان إسماعيل بن محمد ، قال : أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله الضبي ، قال أنبأنا سليمان بن أحمد ، قال : أنبأنا إدريس بن جعفر العطار ، قال: أنبأنا يزيد بن هارون بن محمد ، عن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو ، قال: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فقال : " يا عبد الله بن عمرو ، ألم أخبر أنك َتكلَّف قيام الليل وصيام النهار ؟ قلت : إني أفعل ، قال: إن حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، الحسنة بعشر أمثالها ، فكأنك صمت الدهر كله ".

ففي هذا الحديث الشريف أسرار ، منها البشارة بتواصل نور الأعمال بنور الأعمال من دون انقطاع ، وإن تباعدت الأوقات ، ومنها مضاعفة ثواب العمل لهذه الأمة ، الحسنة بعشر أمثالها ، لتنشط قلوبهم لعمل الخير ، ومنها الأمر بعدم التكلف الذي يفضي بالعبد إلى السأم والملل ، ومنها لزوم التذكر حتى لا َتطم القلوب الغفلة ، ومنها الإيمان القطعي بوعد الله وحسن كرمه ، وكل هذه الخصال خصال العارفين الذين انقطعوا عن كل الهموم الدنيوية والأخروية ، وصار همهم ربهم ومن كان همه ربه فلا هم له.

قال يحيى بن معاذ في مناجاته: إلهي إن عرفتك فأنت الذي قد هديتني ، وإن طلبُتك فأنت الذي أردتني ، وإن أجبتك فأنت الذي اخترتني ، وإن أطعتك فأنت الذي وفقتني ، وإن أنبت إليك فأنت الذي آويتني ، وإن الله تعالى لا يكلُ العارفين إلى أنفسهم ولا إلى طاعاتهم ولا إلى ذكرهم ، بفضله ورحمته ، بل يكلؤهم بأكاليل شفقته ، ويمطر عليهم أمطار رحمته ، من سحائب فضله وعنايته.

وروي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب كيف لي أن أؤدي شكر نعمك ، ولك علي في كل شعرة نعمتان ؟ فقال له: يا موسى ، إذا عرفت أنك عاجز عن شكري فقد شكرتني ، وقيل: إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام: اشكر نعمتي عليك. فقال : إلهي كيف لي أن أشكرك وشكري لك على النعم أعظم نعمة علي ؟ فأوحى الله تعالى إليه: إذا علمت ذلك فأنت أشكر العباد لي.

وقال محمد بن السماك اذ ُكر من كان ذكره لك قبل ذكرك ، وحبه قبل حبك ، وما ذكرته إلا بذكره لك ، وما أحببته إلا بحبه لك . وقال أبو بكر الواسطي : من نسى ذكر الله تعالى كان مستدرجًا.

واعلم أن أدنى أوصاف العارف ، عيش القلب مع الله بلا علاقة ، وذلك من ذكر الله إياه ، وذلك بين في قول الله تعالى : " وَلذكْر اللهِ أَكْبر ".
وقيل في قوله تعالى : " وَقليلٌٌ من عبادي الشَّكور " أي قليل من يرى منَّتي عليه عند شكره لي.

وروي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: إلهي كيف استطاع آدم أن يشكر نعمتك ، إذ خلقته بيديك ، ونفخت فيه من روحك ، وأسكنته جنتك ، وأمرت الملائكة فسجدوا له ؟ فقال الله: يا موسى ، علم آدم ذلك مني فحمدني عليه.

فمن أطاعه فبتوفيقه أطاعه ، فله المنة ، ومن عصاه فبمقدوره عصاه ، فله الحجة عليه ، فقد سبق فضله لمن أطاعه قبل طاعته ، وقد سبق عدله لمن عصاه قبل معصيته إياه ، لأنه الفعال لما يريد.

وروي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال : إلهي لولا أنت كيف كنت أعرف من أنت ؟ وقيل لأبي عبد الله: ما لنا نحب المدح والثناء ؟ فقال : لنسيان امتنان الله عليكم ، وحسن عنايته التي سبقت منه لكم ، فمن نسي المنة وجحد النعمة ، ُقلبت له النعمة نقمة.

يا بَني ، إن الله تعالى أعطاك المعرفة ، ووّفقك لطاعته من غير إحسان سبق منك ، ومن غير شفاعة كانت لأجلك ، فينبغي أن تشتغل بذكره وخدمته ، من غير طلب عوض ومكافأة منه ، فأهل الذكر أصناف مختلفة ، فمنهم من يذكر على جهة منَّة الإسلام ، ومنهم على جهة السنة والجماعة ، ومنهم من يذكره على جهة منَّة ذكره حتى يصير قلبه والهًا ولسانه كليلا ًوعقله هائمًا ويصير في عظمته مبهوتًا ، ويتيه في كرمه ، ويدهش في محبته ، لما علم أن الأعمال لا تقوم إلا به ، والذكر على جهتين ، ذكر يتولد منه الخوف والخشية ، وذكر يتولد منه الشوق والمحبة ، فأما ما ينتج الخوف والخشية ، فهو ذكر من يذكر الله مع نفسه ، ويرى ذكر الله له سبب ذكر الله تعالى ، ويعلم أنه بذكر الله يصل إلى ذكره إياه ، وأما الأخر فهو الذكر الذي تذكر ذكر الله له في الأزل ، حيث لم يكن موجودًا ، إلى أن يصير في الدنيا مفقودًا ، ثم إلى الأبد ، فوجد ذكر الله له سابقًا أزليًا ، خالدًا أبديًا ، وذكره مكدرًا بالشهوات ، ممزوجًا بالغفلات ، فشتان بين من يدخل على الله برؤية ذكره ، وبين من يدخل على الله برؤية فضله ومنته ، واعلم أن ذكر العبد لله تعالى ، في إضافة ذكر الله للعبد ، كالغبار تحت الأمطار.

بذكرك تحيا مهجتي يا مؤَملي
وذكرك لي من قبل ذكري أكبر
مننت ِبطول لا أقوم بشكره
فأي أياديك الجزيلة أشكر ؟


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت نوفمبر 03, 2012 7:02 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث العشرون

أخبرنا الشيخ الحجة الثقة العارف أبو بكر بن يحيى النجاري الأنصاري الواسطي ، قال أنبأنا أبو القسم طلحة الكتاني ، قال : أنبأنا أبو الحسين أحمد بن عثمان الآدمي ، قال: حدثنا أحمد بن ماهان السمسار ، قال أنبأنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن شعبة ، عن النعمان بن سالم ، قال : سمعت عمر بن أوس يحدث عتبة بن أبي سفيان ، عن أم حبيبة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى اثنتي عشرة ركعة تطوعًا كل يوم غير الفريضة بنى الله له بيتًا في الجنة ".

هذا الحديث الشريف يحث على ملازمة النوافل ، فإنها من المَقربات إلى الله تعالى ، وهي زاد العارفين في طريقهم إليه سبحانه ، وشأن المتجردين لجنابه جلَّت قدرته.

أَي بَني ، اعلم أن من تجرد بسره عن الكل ، وتفرد بسر السر للَفرد ، ُكشف له الغطاء واستبانت له البراهين عند مشاهدة نور الحق سبحانه ، وهنالك يسقيه الله بكأس محبته ، حتى يسكره به عن غيره ويزيل عنه التعب والَنصب ، ويصير سكوته ذكرًا ، وأنفاسه تسبيحًا ، وكلامه تقديسًا ، ونومه صلاة ، ولا يزال العبد يركب بسره مركب المعرفة ، حتى يتصل بالمعروف ، فإذا اتصل بالمعروف ، بقي معه إلى الأبد ، من غير أن يلتفت منه إلى ما سواه ، واعلم أن مَثلَ القلب كالقصر ، والمعرفة فيه كالسلطان ، والعقلُ أمير على الأركان ، له تبع وأعوان ، واللسان كالترجمان ، والسر من خزائن الرحمن ، ولا بد لكل واحد منها من الاستقامة في مواضعه ، ودوران كلها على استقامة السر مع الحق ، فإذا استقام السر استقامت المعرفة ، فيستقيم العقل ، وإذا استقام العقل ، استقام القلب ، وإذا استقام القلب ، استقامت النفس ، وإذا استقامت النفس ، استقامت الأحوال ، فالسر مَنور بنور الجمال والجلال ، والعقل منور بنور اليقظة والاعتبار ، والقلب منور بنور الخشية والأفكار ، والنفس منورة بنور الرياضة والانزجار ، فالسر بحر من بحور العطايا ، وأمواج الهمة فيه لا يحصى عددها ، ولا ينقطع مددها ، وإن استقامة السر مع الحق هي الدوام على بساط المشاهدة مع فقد رؤية الاستقامة ، واعلم أن صراط استقامة السر أَدقُّ من صراط الآخرة ، والمرور على جسرها أصعب من المرور على جسر الآخرة ، وأن عالم الأسرار غيور ، لا يحب أن يكون في قلب العبد حب أو ذكر لغيره ، قال الله تعالى في بعض كتبه : " إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي ، جعلت لذته وهمته في محبتي ، ورفعت الحجاب فيما بيني وبينه" ودخل رجلٌ على سري السقطي رضي الله عنه فقال له : أي شيء أقرب إلى الله ، ليتقرب به العبد إلى الله ؟ فبكى السري ، فقال : أمثلك يسأل عن هذا ؟ إن أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله سبحانه ، أن يطَّلع اللهُ على قلبك وأنت لا تريد من الدارين غيره.

وقال إبراهيم بن أدهم: غاية همتي ومرادي من الله تعالى ، أن يجعل لي الميل إليه ، فلا أرى شيئًا دونه ، ولا أشتغل بأحد سواه ، ثم لا أبالي إلى التراب صيرني ، أم إلى العدم رجعني ، وقيل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: بأي شيء وجدت الخلة ؟ فقال: بانقطاعي إلى ربي ، واختياري إياه على ما سواه ، وبأني ما أكل ُ ت قط إلا مع الضيف.

وقالت رابعة البصرية إلهي: همي ومرادي في الدنيا من الدنيا ذكرك وفي الآخرة من الآخرة رؤيُتك ، ثم افعل بينهما ما شئت.

وقال أبو يزيد البسطامي : رفعت السر إلى مواصلة الحق ، فطار بأجنحة المعرفة ، بنور الفطنة ، في هواء الوحدانية ، فاستقبلته النفس وقالت : أين تذهب ؟: أنا نفسك ، لا بد لك مني ، فلم يلتفت السر إليها ، ثم استقبله الخلق ، وقالوا أين تذهب ؟: نحن رفقاؤك وندماؤك ، ولابد لك منا ومن معاونتنا إياك ، فلم يلتفت إليهم ، ثم استقبلته الجنة بكل ما فيها ، وقالت : أين تذهب؟ فإني لك ، ولابد لك مني ؟ فلم يلتفت إليها ، ثم استقبلته العطايا والمواهب والكرامات كذلك ، حتى جاوز المملكة ، وبلغ سرادقات الفردانية ، وجاوز الكلية والأنانية حتى وصل إلى الحق ، وهو المطلوب. وروي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال في بعض مناجاته: يا رب عجبت ممن يجدك ثم يرجع عنك ، فقال الله تعالى : يا موسى ، إن من وجدني لا يرجع عني ، وما رجع من رجع إلا عن الطريق.

وقال أبو العباس بن عطاء: متى َظهرتْ على عبد الآخرُة ، فنيت في جنبها الدنيا ، وبقي العبد مع دار البقاء ، ومتى ظهرت على العبد مشاهدُة الحق تعالى ، فني عنده ما دون الحق ، وبقي العبد مع الحق.

وقال رجل لأبي يزيد: بلغني أن عندك اسم الله الأعظم ، أُحب أن تعلمني ذلك ، فقال أبو يزيد : ليس لاسم الله حد محدود ، ولكنه فراغ قلبك لوحدانيته ، وترك الالتفات منه إلى غيره ، فإذا كنت كذلك ، فخذ أي اسٍم شئت تسير به من المشرق إلى المغرب في ساعة ثم تجيء.

قال ذو النون: كنت حاجًا فإذا بشاب يقول: إلهي قد اجتمع وفدك ، وأنت أعلم ، فما أنت صانع بهم ؟ فسمعت صوتًا يقول : وفدي كثير وطلابي قليلٌ ، وسئل بعضهم: كم بين الحق والعبد ؟ قال: أربعة أقدام ، يرفع قدمًا من الدنيا ، وقدمًا من الخلق ، وقدمًا من النفس ، وقدمًا من الآخرة ، فإذا هو ، ثم قال السري: من قام على طاعة الله بغير علاقة ، سقاه الله َشربة من عين محبته ، وبلَّغه إلى مقعد صدق.

قال علي رضي الله عنه : العارف إذا خرج من الدنيا لم يجده السائق ولا الشهيد في القيامة ، ولا رضوان في الجنة ، ولا مالك النار في النار ، قيل: وأين يوجد؟ قال : في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، إذا قام من قبره لا يقول : أين أهلي وولدي ؟ ، ولا أين جبريل وميكائيل والجنة والثواب ، ولكن يقول أين حبيبي وأنيسي.

قلوب العارفين لها عيون
ترى ما لا يراه الناظرونا
وألسنةٌ بسر قد تناجي
تدقُّ عن الكراِم الكاتبينا
وأجنحةٌ تطير بغير ريش ٍ
فتأوي عند رب العالمينا
فترعى في رياض الُقدس طورًا
وتشرب من بحار المرسلينا
عباد قاصدون إليه حتى
دنوا منه وصاروا واصلينا


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت نوفمبر 03, 2012 9:24 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الواحد والعشرون

أخبرنا الشيخ العارف بالله تعالى سيدي عبد الملك بن الحسين بن ميمون بن الحسين الحربوني الواسطي قدس الله سره قال: أنبأنا الشيخ الثقة عبد الحق بن عبد الخالق ابن أحمد ، أقول: وبهذا السند عن عبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد ، بزيادة لفظة" ابن يوسف" بعد أحمد ، أجازنا كتابة مولانا الخليفة المفترض الطاعة في الأرض ، القائم لله بإحياء السنة والفرض ، أبو العباس الناصر لدين الله العباسي الهاشمي أعز الله به كلمة الدين والمسلمين ، وأيد باقتداره شريعة سيد المرسلين ، عليه صلوات رب العالمين ، وعبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد بن يوسف المتقدم ذكره ، قال أنبأنا أبو الحسن محمد بن مرزوق بن عبد الرزاق قراءة ، قال : أنبأنا علي بن أحمد بن علي ، قال: أنبأنا عمي الحسن بن علي. قال: محمد بن مرزوق: وقرأت علي أبي نصر محمد بن سلمان ، أخبركم ذو النون بن محمد بن عامر فأقر به ، قال: أنبأنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد ، قال: حدثنا محمد بن هارون ، قال: أنبأنا محمد بن العباس الننسي ، قال: أنبأنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : حدثنا صدقة ، عن الأصبغ ، عن ابن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صنائع المعروف َتقي مصارع السوء ، وإن صدقة السر ُتطْفئُ غضب الرب ، وإن صلة الرحِم تزيد العمر وتنفي الفقر ".

وفي هذا الحديث الشريف من مكارم الأخلاق ، ما يصعد بهمة العارف إلى حضرة ربه ، فإن أُس المعرفة بالله مكارم الأخلاق ، وأما سوء الأخلاق فهو والعياذ بالله من انحجاب السر عن الله تعالى.

أَي بَني ، اعلم أن أعظم مصائب السر حجابه عن الله تعالى ، فكل من حلت به هذه المصيبة ، فقد تلاشت سائر مصائبه في جنبها ، فإن المحب سكران ، والسكران لا يجد حالة سكره وجع المصيبة ، فإذا أفاق وجد الألم ، ومصيبة المحجوب عن الله لا تنجبر أبدًا ، إلا بتجريد السر عن كل ما دون الله تعالى ، ولا وعيد في القرآن أصعب من قوله تعالى : " َ كلا بل ران عَلى ُقُلوِبهم " فكم من طاعة حجبت صاحبها عن المطاع ، وكم من نعمة قطعت صاحبها من المنْعِم ، ورب نائم رزق الانتباه بعد رقدته ، ومنتبه نام بعد طول الانتباه ، ورب فاجر رزق الولاية وبلغ منازل الأبرار ، وزاهد سقط عن ولايته وسلك مسالك الفجار ، وكم من عامل قد حجبته رؤية أعماله عن رؤية امتنان ربه حتى عمي بصره فصار مبعدًا وهو يحسب أنه واصلٌ ، ولا مصيبة أشد على العارف من الحجاب ولو طرفة عين ، وأعظم عقوبة على العبد من الله البعد والحجاب.

وحكي أن رجلاً من العباد قال : إلهي كم أعصيك ولا تعاقبني ، فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان أن قل له : إلى كم أعاقبك وأنت لا تدري ، ألم أحجبك عن لطائف أُنسي ، ألم أخرج عن قلبك حلاوة مناجاتي ؟.

وقال : أبو موسى خادم أبي يزيد: دخل الشيخ مدينة فتبعه خلقٌ كثير ، فلما نظر أبو يزيد إليهم وإلى ازدحامهم نحوه ، قال: اللهم إني أعوذ بك أن تحجبني عنك بهم ، وأعوذ بك أن تحجبهم عنك بي . رحمه الله ما أكثر إنصافه ، ما أصدقه بربه ، ما أشفقه على إخوانه المسلمين ، أراد لهم الخير وصحة النظر ، كما أراد لنفسه ، تنبه يا من يريد اجتماع الناس عليه ، واعتقادهم به ، كم طيرت طقطقة النعال حول الرجال من رأس ، وكم أذهبت من دين ، اللهم سلم ، اللهم سلم.

إعلم أن الناس أربعة أصناف ، رجلٌ جعل اللهُ قلبه بصيرًا ينظر بنور اليقين إلى لطائف صنْعه وكمال قدرته ، ورجلٌ جعل اللهُ عَقله بصيرًا ينظر بنور الفطنة إلى الوعد والوعيد ، ورجلٌ جعل الله سره بصيرًا ينظر في كل الأوقات بنور المعرفة إلى الله تعالى ، ورجلٌ جعله الله مكفوفًا لا يبصر شيئًا ، فهو مظْهر قوله تعالى " ومن كان في هذه أَعمى َفهو في الآخرة أَعمى وأَضلُّ سِبيلاً " .

واعلم أن الكفار محجوبون بظلمة الضلالة عن نور الهدى ، وأهل المعصية محجوبون بظلمة الغفلة عن أنوار التقوى ، وأهل الطاعة محجوبون بظلمة رؤية الطاعة عن أنوار رؤية التوفيق وعناية المولى ، فإذا رفع الله عنهم هذه الحجب ، نظروا بأعين النور إلى النور ، فعند ذلك يحجبون عن غيره به ، فكل من نظر إلى حركاته وأفعاله في طاعة الله صار محجوبًا عن وليها مفلسًا ، ومن نظر إلى وليها صار محجوبًا به عن رؤيتها ، لأنه إذا رأى عجزه عن تحقيقها وإتمامها صار مستغرقًا في امتنانه ، وربما يحجب برؤية العبادة عن وجدان حلاوتها وربما يحجب برؤية وجدان الحلاوة عن صحة الإرادة ، وربما يحجب برؤية المنة عن المنان سبحانه ، قال النساج: من رأى نفسه عند الطاعة لم يتخلص من العجب ، ومن رأى الخلق لم يتخلص من الرياء ، ومن رأي الطاعة لم يتخلص من الغرور ومن رأي الثواب لم يتخلص من الحجاب ، ومن رأي الرب تعالى فذلك في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وقال بكر بن عبد الله من اشتغل بطرائف الحكمة ودقائقها ، صار محجوبًا عن حقائقها ، وما أعرف معصية أضر بصاحبها من نسيان الرب وعلاقة القلب بغيره ، وقال: كل هم وذكر لغير الله تعالى فهو حجاب بينك وبين الله ، وفي الخبر : " رب حسنة يعملها الرجل لا يكون له سيئة أضر عليه منها ، ورب سيئة يعملها الرجل لا يكون له حسنة أنفع له منها " قيل في معناه: لأن الحسنة محمودة ، والسيئة مذمومة ، فمادام العبد في الحسنة مع رؤية الحسنة فهو في ميدان الدلال والافتخار ، وما دام العبد في السيئة مع رؤية السيئة فهو في ميدان الانكسار والافتقار ، وحال العبد في وقت الافتقار أحسن.

قال الإمام أبو بكر الصديق رضي الله عنه : اللهم إني أعوذ بك من الشرك الخفي ، قالت رابعة رضي الله عنها: حجبتْ الدنيا قلوب أهلها عن الله ، فلو تركوها لجالت في ملكوته ، ثم رجعت بطرائف الفوائد.

قيل لسيدي منصور الرباني رضي الله عنه : بأي شيء يعرف العبد أنه غير محجوب عن ربه ؟ قال: إذا طلبه ولم يطلب منه ، وأراده ولم يرد منه ، وأن لا يختار على اختياره شيئًا ، وإن اختار له النار ، وكل من ليس في قلبه سلطان الهيبة ونار المحبة وأُنس الصحبة ، فهو محجوب ، وقال: كفاك من المعرفة أن تعلم أن اللهَ مطَّلع عليك ، وكفاك من العبادة أن تعلم أن الله مستغن عنك ، وكفاك من المحبة أن تعلم أن حبه سابقٌ على حبك ، وكفاك من الذكر أن تعلم أن ذكره متقدم على ذكرك.

القلوب إذا قعدت على بساط الهيبة زالت عنها الشهوات ، وإذا قعدت على بساط المعرفة زالت عنها الغفلات ، وإذا قعدت على صدق الفردانية بالفرد للفرد فذلك مقعد الصدق.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين نوفمبر 05, 2012 7:30 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الثاني والعشرون

أخبرنا الشيخ الثقة العارف بالله تعالى عبد الملك بن الحسين الحربوني قدس الله روحه ، قال: أخبرنا أبو مطيع محمد بن عبد الواحد الأديب ، قال: أنبأنا أبو بكر عبد الله بن أحمد بن العباس الباطرقاني ، قال: أنبأنا سليم بن أحمد الطبراني ، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الديري ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال: أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا وكونوا إخوانًا كما أمركم الله تعالى ".

هذا الحديث الشريف تضمن من أسرار المعرفة بالله العجائب ، فإنه أمر بالتخلي عن الصفة الإبليسية وهي الحسد ، ثم بالتجرد من الصفة النفسانية وهي البغض لغير الله تعالى ، ثم بالترفع عن الصفة السافلة الهوائية وهي التجسس ، ثم بعد أن أكمل درجات التنقية ، أمر برؤية عدم الَفرقية بين المرء وبين إخوانه ، وأن هذا من أمر الله تعالى ، وإذا كملت للعبد هذه الخصال ، فقد أحكم شأن المعرفة بالله ، ومن هذا السر قول سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه " من عرف نفسه فقد عرف ربه ".

أَي بَني ، اعلم أن العبد بين الله وخلقه ، إن التفت منه إلى الخلق تجرد عن الحق وصار متروكًا محرومًا مخذولاً ، وإن التفت إلى الله عن الخلق قربه الله وأدناه وأوصله إلى ُقربه ، فإن الله تعالى إذا أحب عبدًا غار عليه َقدر قربه منه وحبه له ولم يحتمل منه الالتفات إلى شيء سواه ، فإنه إن نظر إلى شيء دونه عذَّبه الله بذلك الشيء وجعله وبالاً عليه ، أما ترى أن إبليس لعنه الله نظر إلى نفسه ، وقال عن آدم : أنا خير منه ، فلعنه وطرده ، وكذلك نظر فرعون إلى ملكه وقال : أليس لي ملك مصر فغرقه ، وقارون نظر إلى ماله وقال: إنما أوتيته على علٍم عندي فخسف الله به وبداره الأرض ، وكذلك الملائكة نظروا إلى تسبيحهم وتقديسهم حيث قالوا " وَنحن ُنسبح ِبحمدك وُنَقدس َلك " فابتلاهم الله تعالى بالسجدة لآدم ، وكذلك كل من قال أنا ، يقول الله تعالى لا بل أنا ، ثم يرده إلى أسفل السافلين ، وكل من يقول: أنت ، الله يرفعه إلى أعلى عّليين.

والالتفات على وجهين ، التفات العين ، والتفات القلب ، فالتفات العين مثل ما قال الله تعالى لمحمد حبيبه عليه الصلاة والسلام : " ولا َتمدن عيَنيك إلى ما متَّعَنا به " الآية ، ثم من عليه لِما عصمه حيث قال تعالى " وَلولا أَن ثبتَْناك َلَقد كدت َتركن إَِليهم شيئًَا َقليلاً " ، ثم مدحه بترك الالتفات إلى ما سواه ، في قوله تعالى " ما زاغ البصر وما طغى " ، ثم أورثه ذلك الترك الكّلي أن رفع له الحجاب ، حتى رأى ما رأى في قوله تعالى " وَلَقد راءه َنزَلة أُخْرى " وإن موسى عليه الصلاة والسلام " َقالَ ربي أَرني أَنْظر إَِليك " قال: انظر إلى الجبل ، ولن تراني بعد أن نظرت إلى غيري.

كان بعض العارفين يطوف حول الكعبة ، فناداه واحد ، فخطر بباله أن يلتفت إليه ، فسمع هاتفًا يقول : ليس مّنا من التفت إلى غيرنا.

وحكي أن آخر كان يطوف حول الكعبة ، فنظر إلى امرأة ، فظهرت يد من الهواء وفقأت عينه ، ثم نودي نظرت بعينك إلى دوننا ففقأناها ولو نظرت بقلبك إلى غيرنا لكويناه.

وقال ذو النون: من نظر من توحيده إلى نفسه لم ينجه التوحيد من النار ، ومن التفت من الصلاة إلى غيرها فقد سقط عن درجة المصلين ، ومن التفت من وقته إلى وقته ذهب عنه الوقت وهو لا يشعر ، وفي الخبر : " إذا التفت العبد في الصلاة ، يقول الله: عبدي تلتفت إلى من هو خير لك مني ؟ أَقِْبلْ ولا ُتعرض بوجهك عني فإني إذًا أعرض عنك ".

قال النبي عليه الصلاة والسلام : " أتاني جبريل بمفاتيح خزائن الدنيا ، فلم ألتفت إليها ولم أقبلها " ، قيل لبعضهم: كيف أصبحت ؟ قال: أصبحت وقد مَنع الكونين عني ، ومنعني أن أنظر إليهما.

وقال العارف السقطي رضي الله عنه : كنت في طلب صديق لي ثلاثين سنة فلم أظفر به ، فمررت يومًا في بعض الجبال ، فإذا هو قائم على صخرة ، فدنوت منه وأخذت ذيله ، فقال ، خل عني يا سري ، فإن الحق غيور ، فلا يراك تأنس بغيره ، فتسقط من عينه.

وحكي أن رابعة كانت في طريق مكة فأقبل إليها رجل وقال: يا هذه ُ كّلي بكلِّك مشغول ، فقالت : إن كنتَ صادقًا فكّلي لكلِّك مبذول ، إلا أن لي أختًا أحسن مني وهي وراءك ، فالتفت الرجل فلطمته رابعة على وجهه ، وقالت : إليك عني يا بطال ، ادعيت محبتنا ثم نظرت إلى غيرنا ، رأيتك من بعيد ، فقلت: وجدت عارفًا ، فلما تكلمت قلت: وجدت عارفًا ، فلما جربتك وجدتك كذابًا ، ما رأيت معك صفاوة العارفين ومروءتهم ، ولا طريقة العاشقين وصيانتهم ، فصاح الرجل ، وجعل التراب على رأسه ، وقال : ادعيت محبة مخلوق فأعرضت عنه ، فجاءت اللطمة على وجهي ، فأخاف أن أدعي محبة الخالق ، فإذا أعرضت بقلبي أن تكون اللطمة على قلبي. وأما الالتفات بالقلب ، فقد حكي أنه كان لفتح الموصلي صبي ، فيومًا من الأيام عانقه وقبله فنودي من الهواء: يا فتح ادعيت محبتنا وفي قلبك حب غيرنا ، فصاح صيحة خر مغشيًا عليه ، ونظرت رابعة البصرية إلى رباح القيسي وهو يقبل صبيًا من أهله ، فقالت : أتحبه ؟ قال: نعم ، قالت: ما كنت حسبت أن في قلبك موضعًا فارغاً لمحبة غيره ، ففزع القيسي فزعًا شديدًا حتى غشي عليه ، فأفاق وهو يمسح العرق عن وجهه ، قال صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، لكن خليلي الله ".

وحكي أن داود عليه الصلاة والسلام استقبله رجل في بعض سياحاته ، فقال : أين تريد ؟ قال: استوحشت عن الناس ، واستأنست بالله . فقال له الرجل: هذا من قبلك أم من قبل الله ؟ قال: فسقط داود مغشيًا عليه ، ثم أفاق وقال : نبهك الله كما نبهتني.

وقال بعضهم : إن الله تعالى أمر قوم موسى بقطع رؤوسهم حين سجدوا للعجل ، بعد أن سجدوا لله تعالى ، فقال: رأس سجد لي ثم سجد لغيري فلا يصلح لي ، فكذلك القلب.

وبلغنا أن داود عليه الصلاة والسلام قال: أوتيت ما أوتي الناس وما لم يؤتوا ، وهممت بما هم به الناس وما لم يهموا ، فوجدت الأشياء كلها لله ، والأمور كلها بيد الله والحاصل من الدارين وما فيهما هو لله ، فلا ينبغي لمن ادعى محبته ، أن يكون في قلبه حب لغيره ، قالت رابعة :

يا حبيب القلوب من لي سواكا
إرحم اليوم مذنبًا قد أتاكا
يا حبيبي وصفوتي ورجائي
كذب القلب إن أحب سواكا
يا أنيسي ومنيتي ومرادي
طال شوقي متى يكون لقاكا


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس نوفمبر 08, 2012 9:02 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الثالث والعشرون

أخبرنا شيخنا الشيخ الكبير العارف بالله تعالى القاضي المقري أبو الفضل علي الواسطي رضي الله عنه قال: أنبأنا أبو الحسين عاصم بن الحسن بن المقري ، قال: حدثنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد ، قال: أنبأنا مهدي بن إسماعيل بن محمد الصفار ، قال: أنبأنا محمد بن عبيد الله المناوي ، قال: أنبأنا شبابة يعني ابن سوار ، قال : أخبرنا شعبة ابن علقمة بن مزيد ، عن سعيد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " .

هذا الحديث الشريف يفيد أن الخيرية قد صحت لمن تعلم القرآن وعلمه ، لما في القرآن العظيم من بالغ الحكم ، وغامض السر ، وخطير الشأن ، وهو حبل الله الأعظم ، به يهتدي المهتدون ، ويصل الواصلون ، وهو ُخُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وباب الله تعالى ، والمعجزة الدائمة ، والنور الذي لا ينحجب ، وعنه تأخذ أرواح العارفين أسرار المعرفة ، وما المعرفة التي لم ترجع إليه ما هي إلا زور وضلالة ، ومتى تحقق العبد بالعلم بالقرآن العظيم ، فقد صار عارفًا ، وانكشفت له الأسرار الربانية ، الملكية والملكوتية ، ومتى صار عارفًا حن وأن ، وطلب زيادة العلم بالله من كل طريق ومن كل فن ، وكل الطرق والفنون في القرآن العظيم ، والعارفون هم الراسخون بالعلم يقولون آمنا به ، وإليه منتهى سير هممهم ، وعنه يصدرون ، وبه يهيمون ، ومنه يأخذون ، ولذلك يقال فيهم: ندماء الحق ، وبهذا السر يفرقون بين الباطل والحق.

أَي بَني ، إعلم أن الله تعالى ربما يزين أعداءه بلباس أوليائه وأصفيائه ، حتى إنهم يغترون بصفاء الأوقات ويحسبون أنهم من أهل ولايته ، فهذا من الله لهم استدراج ، وربما يزينهم بالعز والجاه والرياسة والمنزلة عند الناس ، حتي يغتروا بثناء الناس ومحمدتهم ويحسبون أنهم من أهل فضله ، فهذا أيضًا من الله استدراج لهم ، وكذلك ربما يزينهم بأنواع لطائف الحكمة ، فيغترون بحسن بلاغتهم وكمال فهمهم وفطنتهم ويحسبون أنهم أحاطوا بكل حقيقة علمًا ، فهذا لهم من الله استدراج ، وربما يزينهم بلباس النعمة ، ويغرقهم في أنواع النعم فيغترون بحسن تجملهم ، وطيب عيشهم ، ويحسبون أنهم علي شيء من الله فهذا لهم من الله استدراج ، ولا يتركهم حتى يردهم إلى حقيقة معلومة ، قال سبحانه : " سَنسَتدرجهم من حيث لا يعَلمون " فهذا ما كدر عيش المريدين في دار الدنيا حتى دام كمدهم ، واصفرت ألوانهم ، وذابت نفوسهم ، ودهشت عقولهم ، وطارت أفئدتهم ، وانشقت مراراتهم ، وُفقدوا من الخلائق ، وواجب على كل ذي عقل ومعرفة أن يحَذر مولاه ، كما حّذر نفسه بقوله تعالى : " ويحذِّركم اللهُ َنفْسه " وكما قال : " واعَلموا أَن اللهَ يعَلم ما في أَنُفسكم َفاحَذروه ".

وقال صلى الله عليه وسلم : " المؤمن لا يسكن اضطرابه ، ولا تأمن روعته ، حتى يخلف جسر جهنم " ، ألا إن الله تعالى غيب مكره في حلمه ، وخداعه في لطفه ، وعدَله في كرمه ، وخذلانه في أنواع نعمه ، وسخطه في جميل ستره ، وقطيعته في إمهاله ، فينبغي للعبد أن لا يعتمد حسن أوقاته ، وكثرة حسناته ، فكم من أحد تراه في زي المريدين ، وهو في علم الله من المطرودين ، ولا يشعر أن الله تعالى ربما يزين عدوه بلباس أوليائه ثم يرده آخر الأمر إلى بعده ، وربما يكسو وليه لباس الأعداء ، ثم يرده آخر الأمر إلى حقائق كرمه ، لأنه هو يبديء ويعيد ، يعني : يبديء على أوليائه صفات أعدائه ، وعلى أعدائه صفات أوليائه ، ثم يعيدهم إلى حقائق معلومة ، وهو الفعال لما يريد ، بإظهار فضله في أهل عدله ، وإظهار عدله في أهل فضله ، ألا ترى أن الله تعالى زين إبليس بزينة عصمته ، وهو في سابق علمه من أهل اللعنة ، ستر عليه ما سبق منه إليه ، حتى أظهر أمره في العاقبة ، وكذلك زين "بلعام" بأنوار ولايته ، وهو عند الله تعالى من أهل سخطه ، وأغرق قارون في بحار نعمته ، وهو عند الله تعالى من أهل سخطه.

لا يغرنك بالله أربعة أشياء : إظهاره لك ما لم تعلم ، وستره عليك بما قد عملت ، وزيادته لك فيما لم تشكره ، وإعطاؤه إياك ما لم تسأله ، فإنه ربما أراد الله تنبيهًا لك أو استدراجًا ، وقال يوسف بن الحسين من رأى صنع الربوبية عند إقامة العبودية انقطع عن نفسه واعتصم بربه وفوض أمره إليه ، فحيئنذ يسلم من آفات الاستدراج.

وكان يحيى بن معاذ يقول: يا معشر المستورين بالنِّعم والعصم ، لا تغتروا فإن تحتها آفات النقم ، لا تغتروا بعمارة الأوقات ، فإن تحتها غوامض الآفات ، ولا تغتروا بصفات العبودية ، فإن فيها نسيان الربوبية ، والأمر كما قال : فيا رب مسَتدرج بالإحسان إليه ، ويا رب مغتر بالثناء عليه ، ويا رب مفتون بالنعم عليه ، ويا رب مستهلك بالستر عليه ، فمن لم يكن باطنه في ملازمة الحق تعالى عين ظاهره كان شكه أغلب من يقينه وإن كان ظاهره يدل على أوصاف الموقنين ، وفقدان أنوار الباطن من رؤية حركات الظاهر ، والغفلة عن غوامض آفات الاستدراج من رؤية صفاء العبودية ، فليس للموفَّق أن يعتمد ، ولا للمخذول أن ييأس ، واستدراج أهل الذنوب الركون إليها ، والإصرار على الإعراض عن الله سبحانه ، واستدراج أهل العلم طلب الجاه والمنزلة عند الخلق ، واستدراج أهل الاجتهاد الاستكثار والإعجاب ، واستدراج المريدين تطلعهم إلى العطايا والكرامات وسكونهم إليها ، واستدراج العارفين استغناؤهم بالمعرفة دون المعروف حتى جعلوا لها حدًا وغاية ونهاية ، وظنوا أنهم قد أحاطوا بها ، فكل من كانت منزلته أرفع ، كان استدراجه أعظم وأدق ، كم من مذكِّر لله ناس لله ، وكم من مخوف بالله جريء على الله ، وكم من داع إلى الله بعيد من الله ، وكم من تال كتاب الله منسلخ من آيات الله.

وقال أبو سعيد الخراز : لو كنت تركت الدنيا وافتخرت بتركها ، فالفخر أعظم من إمساكها ، ولو تركت عيوب النفس وأعجبت بتركها ، فالعجب عيبه أكبر ، ولو جهدت وتعلقت بجهدك ، فتعلقك أعظم الاستراحة ، ولو خفت وأمنت على أنك خفت ، فالأمن من الخوف أكبر ، ثم قال: رؤية القرب في القرب أقرب البعد ، ورؤية الأُنس في الأنس أعظم الوحشة ، ورؤية الذكر في الذكر أشد النسيان ، ورؤية المعرفة في المعرفة أكبر النكرة.

وقال بعض أهل المعرفة: كلما ظننت أني وجدت فحينئذ فقدت ، وكلما ظننت أني فقدت فحينئذ وجدت ، إلهي إن تركتك طلبتني ، وإن طلبتك طردتني ، لا معك قرار ، ولا مع غيرك أنس ، فالمستغاث منك إليك. وقال أبو يعقوب : أجهل ما يكون العبد بالله ، إذا ظن أنه استغنى عن الدنيا بالمعرفة.

وقال يحيى بن معاذ: ذنب افتقرت به إليه ، خير من طاعة افتخرت بها عليه ، وكان فضيل كثيرًا ما يبكي ويردد هذه الآية : " وبدا َلهم من اللهِ ما َلم يكوُنوا يحَتسبون " ويقول: عملوا أعمالاً حسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات ، حين يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.

أي بَني ، المعرفة مستقر ومستودع ، مستقر في قلوب الأولياء ، ومستودع في قلوب الأعداء ثم يسلب في آخر الأمر ، فليس للموفَّق أن يعتمد على توفيقه ويأمن من مكره ، ولا للمخذول أن ييئس من روح ربه ، وربما يرى الرجل للرجل الرؤيا الصالحة ، وهو استدراج من الله تعالى ، كما حكي أن رجلاً من أهل الشام أتى إلى العلاء بن زياد وقال له: إني رأيتك في المنام كأنك من أهل الجنة ، فترك مجلسه وأخذ في البكاء ، وقال : لعل الله أراد أمرًا.

قيل : أصل الاستدراج نسيان الحق والاستغناء بمن دونه والتعلق بما سواه والالتفات منه إلى غيره ، وليس على تحقيق في المعرفة من يغتر بكثرة العلم والعمل ، لأن إبليس كان معلم الملائكة ثم في آخر الأمر نظر إلى نفسه وعبادته وترك أمرًا من أوامر الله ، فصار من الملعونين المطرودين أبد الآبدين.

وإياك أن تغتر بعمارة الأوقات وصفاء الأحوال ، فإن برصيصًا وبلعام كانا أعبد الناس في زمانهما وأحسنهم حالاً ، وفي آخر الأمر مالا إلى النفس والهوى فصارا مفتضحين في الدنيا والآخرة ، ولا تغتر بصحبة الصالحين والزهاد بغير الحرمة والمتابعة لهم ، فالصحبة لو نفعت لنفعت امرأة نوح وامرأة لوط ، ولأن الاغترار مدرجة من مدارج الاستدراج.

قال الله تعالى : " َفلا َتغرنَّكم الحيوُة الدنْيا " الآية ، وقال تعالى : " يأيها الإنسان ما َغرك ِبربك الكريم " وذلك أن الشيطان ربما يأتي الزاهد ليغره ، فيقول : يا ولي الله ويا خيرته من خلقه ، أما ترى من ربك هذه الكرامات والعطايا والقرب والأنس ، أما تدري ما ألهمك ربك من كلام أهل المعرفة ، وحقائق أنواع الإشارات ، فهل يكون مثل هذا إلا لأهل محبته ؟ أما ترى حال قربك معه وكمال لطفه بك ، وأنك لو أقسمت على الله لأَبرك ، ولا شك أن الملائكة ينظرون إلى حركاتك وسكناتك وحسن أحوالك ، وقد رجح فضُلك على أهل زمانك ، فما أغفل الناس عما أنت فيه ، حتى يغره بأنواع مكره وخديعته ، فإن تداركه الله بالفضل والرحمة وبصره بمكائد عدوه ، وعرج ملتجئًا بسره إلى سرادقات قدرته ، فعند ذلك يسلم من درجات آفات الاستدراج.

واعلم أن قلوب أهل المحبة لا تزال تموج من خوف الاستدراج كما تموج البحار ، حتى يصير كل ما فيه بالله لله.

ورأيت مكتوبًا على عصا واحدة :



كل ذنب لك مغفور

سوى الإعراض عني



فقلت:



إن كنت أعرضت فقد تبت

عدت إلى الوصل كما كنت


وليس لي جرم سوى أََِّني

نظرت في الحب فعوقبت


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس نوفمبر 08, 2012 9:05 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الثالث والعشرون

أخبرنا شيخنا الشيخ الكبير العارف بالله تعالى القاضي المقري أبو الفضل علي الواسطي رضي الله عنه قال: أنبأنا أبو الحسين عاصم بن الحسن بن المقري ، قال: حدثنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد ، قال: أنبأنا مهدي بن إسماعيل بن محمد الصفار ، قال: أنبأنا محمد بن عبيد الله المناوي ، قال: أنبأنا شبابة يعني ابن سوار ، قال : أخبرنا شعبة ابن علقمة بن مزيد ، عن سعيد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " .

هذا الحديث الشريف يفيد أن الخيرية قد صحت لمن تعلم القرآن وعلمه ، لما في القرآن العظيم من بالغ الحكم ، وغامض السر ، وخطير الشأن ، وهو حبل الله الأعظم ، به يهتدي المهتدون ، ويصل الواصلون ، وهو ُخُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وباب الله تعالى ، والمعجزة الدائمة ، والنور الذي لا ينحجب ، وعنه تأخذ أرواح العارفين أسرار المعرفة ، وما المعرفة التي لم ترجع إليه ما هي إلا زور وضلالة ، ومتى تحقق العبد بالعلم بالقرآن العظيم ، فقد صار عارفًا ، وانكشفت له الأسرار الربانية ، الملكية والملكوتية ، ومتى صار عارفًا حن وأن ، وطلب زيادة العلم بالله من كل طريق ومن كل فن ، وكل الطرق والفنون في القرآن العظيم ، والعارفون هم الراسخون بالعلم يقولون آمنا به ، وإليه منتهى سير هممهم ، وعنه يصدرون ، وبه يهيمون ، ومنه يأخذون ، ولذلك يقال فيهم: ندماء الحق ، وبهذا السر يفرقون بين الباطل والحق.

أَي بَني ، إعلم أن الله تعالى ربما يزين أعداءه بلباس أوليائه وأصفيائه ، حتى إنهم يغترون بصفاء الأوقات ويحسبون أنهم من أهل ولايته ، فهذا من الله لهم استدراج ، وربما يزينهم بالعز والجاه والرياسة والمنزلة عند الناس ، حتي يغتروا بثناء الناس ومحمدتهم ويحسبون أنهم من أهل فضله ، فهذا أيضًا من الله استدراج لهم ، وكذلك ربما يزينهم بأنواع لطائف الحكمة ، فيغترون بحسن بلاغتهم وكمال فهمهم وفطنتهم ويحسبون أنهم أحاطوا بكل حقيقة علمًا ، فهذا لهم من الله استدراج ، وربما يزينهم بلباس النعمة ، ويغرقهم في أنواع النعم فيغترون بحسن تجملهم ، وطيب عيشهم ، ويحسبون أنهم علي شيء من الله فهذا لهم من الله استدراج ، ولا يتركهم حتى يردهم إلى حقيقة معلومة ، قال سبحانه : " سَنسَتدرجهم من حيث لا يعَلمون " فهذا ما كدر عيش المريدين في دار الدنيا حتى دام كمدهم ، واصفرت ألوانهم ، وذابت نفوسهم ، ودهشت عقولهم ، وطارت أفئدتهم ، وانشقت مراراتهم ، وُفقدوا من الخلائق ، وواجب على كل ذي عقل ومعرفة أن يحَذر مولاه ، كما حّذر نفسه بقوله تعالى : " ويحذِّركم اللهُ َنفْسه " وكما قال : " واعَلموا أَن اللهَ يعَلم ما في أَنُفسكم َفاحَذروه ".

وقال صلى الله عليه وسلم : " المؤمن لا يسكن اضطرابه ، ولا تأمن روعته ، حتى يخلف جسر جهنم " ، ألا إن الله تعالى غيب مكره في حلمه ، وخداعه في لطفه ، وعدَله في كرمه ، وخذلانه في أنواع نعمه ، وسخطه في جميل ستره ، وقطيعته في إمهاله ، فينبغي للعبد أن لا يعتمد حسن أوقاته ، وكثرة حسناته ، فكم من أحد تراه في زي المريدين ، وهو في علم الله من المطرودين ، ولا يشعر أن الله تعالى ربما يزين عدوه بلباس أوليائه ثم يرده آخر الأمر إلى بعده ، وربما يكسو وليه لباس الأعداء ، ثم يرده آخر الأمر إلى حقائق كرمه ، لأنه هو يبديء ويعيد ، يعني : يبديء على أوليائه صفات أعدائه ، وعلى أعدائه صفات أوليائه ، ثم يعيدهم إلى حقائق معلومة ، وهو الفعال لما يريد ، بإظهار فضله في أهل عدله ، وإظهار عدله في أهل فضله ، ألا ترى أن الله تعالى زين إبليس بزينة عصمته ، وهو في سابق علمه من أهل اللعنة ، ستر عليه ما سبق منه إليه ، حتى أظهر أمره في العاقبة ، وكذلك زين "بلعام" بأنوار ولايته ، وهو عند الله تعالى من أهل سخطه ، وأغرق قارون في بحار نعمته ، وهو عند الله تعالى من أهل سخطه.

لا يغرنك بالله أربعة أشياء : إظهاره لك ما لم تعلم ، وستره عليك بما قد عملت ، وزيادته لك فيما لم تشكره ، وإعطاؤه إياك ما لم تسأله ، فإنه ربما أراد الله تنبيهًا لك أو استدراجًا ، وقال يوسف بن الحسين من رأى صنع الربوبية عند إقامة العبودية انقطع عن نفسه واعتصم بربه وفوض أمره إليه ، فحيئنذ يسلم من آفات الاستدراج.

وكان يحيى بن معاذ يقول: يا معشر المستورين بالنِّعم والعصم ، لا تغتروا فإن تحتها آفات النقم ، لا تغتروا بعمارة الأوقات ، فإن تحتها غوامض الآفات ، ولا تغتروا بصفات العبودية ، فإن فيها نسيان الربوبية ، والأمر كما قال : فيا رب مسَتدرج بالإحسان إليه ، ويا رب مغتر بالثناء عليه ، ويا رب مفتون بالنعم عليه ، ويا رب مستهلك بالستر عليه ، فمن لم يكن باطنه في ملازمة الحق تعالى عين ظاهره كان شكه أغلب من يقينه وإن كان ظاهره يدل على أوصاف الموقنين ، وفقدان أنوار الباطن من رؤية حركات الظاهر ، والغفلة عن غوامض آفات الاستدراج من رؤية صفاء العبودية ، فليس للموفَّق أن يعتمد ، ولا للمخذول أن ييأس ، واستدراج أهل الذنوب الركون إليها ، والإصرار على الإعراض عن الله سبحانه ، واستدراج أهل العلم طلب الجاه والمنزلة عند الخلق ، واستدراج أهل الاجتهاد الاستكثار والإعجاب ، واستدراج المريدين تطلعهم إلى العطايا والكرامات وسكونهم إليها ، واستدراج العارفين استغناؤهم بالمعرفة دون المعروف حتى جعلوا لها حدًا وغاية ونهاية ، وظنوا أنهم قد أحاطوا بها ، فكل من كانت منزلته أرفع ، كان استدراجه أعظم وأدق ، كم من مذكِّر لله ناس لله ، وكم من مخوف بالله جريء على الله ، وكم من داع إلى الله بعيد من الله ، وكم من تال كتاب الله منسلخ من آيات الله.

وقال أبو سعيد الخراز : لو كنت تركت الدنيا وافتخرت بتركها ، فالفخر أعظم من إمساكها ، ولو تركت عيوب النفس وأعجبت بتركها ، فالعجب عيبه أكبر ، ولو جهدت وتعلقت بجهدك ، فتعلقك أعظم الاستراحة ، ولو خفت وأمنت على أنك خفت ، فالأمن من الخوف أكبر ، ثم قال: رؤية القرب في القرب أقرب البعد ، ورؤية الأُنس في الأنس أعظم الوحشة ، ورؤية الذكر في الذكر أشد النسيان ، ورؤية المعرفة في المعرفة أكبر النكرة.

وقال بعض أهل المعرفة: كلما ظننت أني وجدت فحينئذ فقدت ، وكلما ظننت أني فقدت فحينئذ وجدت ، إلهي إن تركتك طلبتني ، وإن طلبتك طردتني ، لا معك قرار ، ولا مع غيرك أنس ، فالمستغاث منك إليك. وقال أبو يعقوب : أجهل ما يكون العبد بالله ، إذا ظن أنه استغنى عن الدنيا بالمعرفة.

وقال يحيى بن معاذ: ذنب افتقرت به إليه ، خير من طاعة افتخرت بها عليه ، وكان فضيل كثيرًا ما يبكي ويردد هذه الآية : " وبدا َلهم من اللهِ ما َلم يكوُنوا يحَتسبون " ويقول: عملوا أعمالاً حسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات ، حين يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.

أي بَني ، المعرفة مستقر ومستودع ، مستقر في قلوب الأولياء ، ومستودع في قلوب الأعداء ثم يسلب في آخر الأمر ، فليس للموفَّق أن يعتمد على توفيقه ويأمن من مكره ، ولا للمخذول أن ييئس من روح ربه ، وربما يرى الرجل للرجل الرؤيا الصالحة ، وهو استدراج من الله تعالى ، كما حكي أن رجلاً من أهل الشام أتى إلى العلاء بن زياد وقال له: إني رأيتك في المنام كأنك من أهل الجنة ، فترك مجلسه وأخذ في البكاء ، وقال : لعل الله أراد أمرًا.

قيل : أصل الاستدراج نسيان الحق والاستغناء بمن دونه والتعلق بما سواه والالتفات منه إلى غيره ، وليس على تحقيق في المعرفة من يغتر بكثرة العلم والعمل ، لأن إبليس كان معلم الملائكة ثم في آخر الأمر نظر إلى نفسه وعبادته وترك أمرًا من أوامر الله ، فصار من الملعونين المطرودين أبد الآبدين.

وإياك أن تغتر بعمارة الأوقات وصفاء الأحوال ، فإن برصيصًا وبلعام كانا أعبد الناس في زمانهما وأحسنهم حالاً ، وفي آخر الأمر مالا إلى النفس والهوى فصارا مفتضحين في الدنيا والآخرة ، ولا تغتر بصحبة الصالحين والزهاد بغير الحرمة والمتابعة لهم ، فالصحبة لو نفعت لنفعت امرأة نوح وامرأة لوط ، ولأن الاغترار مدرجة من مدارج الاستدراج.

قال الله تعالى : " َفلا َتغرنَّكم الحيوُة الدنْيا " الآية ، وقال تعالى : " يأيها الإنسان ما َغرك ِبربك الكريم " وذلك أن الشيطان ربما يأتي الزاهد ليغره ، فيقول : يا ولي الله ويا خيرته من خلقه ، أما ترى من ربك هذه الكرامات والعطايا والقرب والأنس ، أما تدري ما ألهمك ربك من كلام أهل المعرفة ، وحقائق أنواع الإشارات ، فهل يكون مثل هذا إلا لأهل محبته ؟ أما ترى حال قربك معه وكمال لطفه بك ، وأنك لو أقسمت على الله لأَبرك ، ولا شك أن الملائكة ينظرون إلى حركاتك وسكناتك وحسن أحوالك ، وقد رجح فضُلك على أهل زمانك ، فما أغفل الناس عما أنت فيه ، حتى يغره بأنواع مكره وخديعته ، فإن تداركه الله بالفضل والرحمة وبصره بمكائد عدوه ، وعرج ملتجئًا بسره إلى سرادقات قدرته ، فعند ذلك يسلم من درجات آفات الاستدراج.

واعلم أن قلوب أهل المحبة لا تزال تموج من خوف الاستدراج كما تموج البحار ، حتى يصير كل ما فيه بالله لله.

ورأيت مكتوبًا على عصا واحدة :



كل ذنب لك مغفور

سوى الإعراض عني



فقلت:



إن كنت أعرضت فقد تبت

عدت إلى الوصل كما كنت


وليس لي جرم سوى أََِّني

نظرت في الحب فعوقبت


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة نوفمبر 09, 2012 8:52 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الرابع والعشرون

أخبرنا شيخنا الإمام فرد الوقت الباز الأشهب خالي أبو المكارم منصور البطايحي الرباني رضي الله عنه ، قال : أنبأنا القاضي أبوالحسين محمد بن علي بن المهتدي ، قال : أنبأنا أبو الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام ، قال أنبأنا أبوالحسين أحمد بن محمد ، قال: أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد الحربي ، قا ل: أنبأنا أبو عبد الله أحمد بن علي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي" وبهذا الحديث الشريف نظام التصفية ، فمن أدركها فقد أدرك الصفاء ، والتحق بأهل الاصطفاء.

أَي بَني ، اعلم أن للصفاء ظهرًا وبطنًا ، فأما ظهرها فأن ُتصفِّي ُكلِّيتك من أدناس النفس والخلق والدنيا ، وأما بطنها فأن ُتصفِّي ُكلِّيتك من غبار رؤية الأعمال وطلب الأعواض على الأعمال والالتفات منه إلى ما سواه.

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أسراركم أسراركم ، فإنها عند الله بواد " ، ويقال: جديدك مع الله لا ُتخلقه مع الناس ، وصفاؤك مع الله لا تكدره مع الناس ، وقال يحيى بن أبي كثير دخلت مكة فاستقبلني عطاء بن أبي رباح ، وسلم علي ، ثم أقبل على الناس فقال: تسألوني عن العلم وفيكم يحيى بن أبي كثير قال : فتضرعت إلى الله أربعين يومًا إلى أن يذهب حلاوة هذه المقالة من قلبي.

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إن أواني الله في الأرض هي القلوب ، َفأَحب الأواني إلى الله تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها" ، معناه أصفاها لله عند المراقبة ، وأصلبها في دين الله عند المخاطبة وأرقها على الإخوان عند الموافقة.

وقال يوسف ابن الحسين لما اشتغل قلب مريم بحب ابنها سمعت صوتًا : َلما كان سرك صافيًا لنا ، كنا نرزقك في الشتاء والصيف من غير واسطة ولا شدة عناء ، فلما ميلت سرك عني فلا يأتيك رزقك إلا بشدة ، وذلك قوله تعالى : " وهزي إَِليك بجذْع النَّخَْلة " الآية.

وقال أبو محمد الجريري اعلم أن العبد إذا لم يصفِّ وقته لله تعالى في إقامة العبودية انقطع عن الله وهو لا يشعر ، فمن اجتهد في صفاء معاملة الظاهر أورثه الله صفاء معاملة الباطن ، ومعنى قوله : " انقطع عن الله وهو لا يشعر" قول أبي يزيد : من ظن أنه بالحال يصل فبالحال ينقطع ، ومن طلب الأنس بالحال فبالحال يستوحش.

قال أبو محمد الجريري : إن الله تعالى حكم على أصفيائه وأحبابه ، أن لا يخرجوا من الدنيا إلا وطوق العبودية في أعناقهم ، وبحق أقول: ما اشتغل أحد بغيره إلا ضاع عمره وذهبت عنه صفاوة الوقت ، فمن أراد صفاوة الوقت َفلْيؤْثر الله على شهوته ، وقيل لواحد: ما حقيقة صفاوة الوقت ؟ فقال : تصفية الكلية لِخلاق البرية بوفاة صدق العبودية.

قال الأنطاكي: إن وجدت ريَنًا في قلبك فأدم الصيام ، فإن وجدت رينًا فأقل الكلام ، فإن وجدت رينًا فاترك الآثام ، فإن وجدت رينًا فأكثر البكاء والتضرع إلى الملك العلام.

ويقال : الجهل كله موت إلا من يرزقه الله العلم ، والعلم كله حجة إلا من وفقه الله للعمل به ، والعمل كله هباء منثور ، إلا أن يكون صافيًا لله ، وأهل الصفاء على خطر عظيم إلا أن يسلموا ذلك إلى الله تعالى بلا عيب.

ويجب على العبد أن ينظر في حال أكله وشربه ولباسه وكلامه وحركاته وإرادته ، فيدع منها ما كدر ، ويأخذ ما صفا ، لأن صفاوة الأوقات على قدر صفاوة الأحوال.

قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : " يوم لا ينَفع مالٌ ولا بُنون * إِلا من أََتى اللهَ ِبَقلْب سليٍم " وقال ذو النون: إن لله عبادًا يبلغون في درجة الصفاء مقامًا تقع فراسُتهم على سر الناس فيعرفون السعداء من الأشقياء يختص برحمته من يشاء من عباده.

وقيل لأبي عبد الله: ما فضل أهل الصفاء على غيرهم ؟ قال: رفع الحجاب عنهم واتهام الوشاة فيهم وإفشاء الأسرار إليهم ، قيل: هل يكون لأهل الصفاء حلاوة العبادة ؟ قال : أما قبل رؤية المنَّة فنعم ، وأما قبل رؤية العبادة فلا ، بلا تعليق.

وقيل لبعضهم: متى يعرف الرجل أنه من أهل الصفاء ؟ فقال: إذا ستر جميع المعاصي بستر التوبة ، وستر جميع الخيرات بستر ذكر المنَّة ، وستر ما دون الله بستر الله تعالى.

وحكي أن بهلولاً كان لا يأخذ شيئًا من أحد ، وإن أُكثر عليه الإلحاح ، فقيل له في ذلك ، فقال : أُمرَنا أن لا نأخذ بالواسطة ، لأن منها ذهاب الصفاء قيل: وما الصفاء ؟ قال: طيران القلب بأجنحة الاشتياق لرب العالمين.

ويقال: أدنى أوصاف أهل الصفاء عيش القلب مع الله بلا علاقة ، ومن لم يعرف نفسه بالفقر والفاقة والعجز والضعف لم ينل صفوة اليقين ، وإذا كان العبد لله تعالى كأن لم يكن ، يكون الله تعالى له كما لم يزل.

وقال أبو سليمان : طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى.

وقال الإمام معروف الكرخي رضي الله عنه: بينا أنا أسير في البادية ، ولم يكن معي أحد من البشر ، إذ نزل شخص من السماء ، فسألني ما الصفاء ؟ فقلت : صدق الوفاء ، فقال: صدقت ، ثم عرج وهو يقول : " يوُفون ِبالنَّذْر ويخاُفون ".

أما ترى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وضع قدمًا بصدق الوفاء على صخرة صماء ، فأمر الله تعالى أن اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
وحقيقة الصفاء : التخلق بخلق المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والاقتداء بأصحابه أولي الصدق والوفاء ، والانقطاع إلى الملك الأعلى.
وقيل: حقيقة الصفاء طرح القلب على بساط الإمتنان ، واستقامة السر مع الملك الديان ، وقيل : تصفية القلوب لعلام الغيوب ، وقيل: صدق الافتقار مع دوام الاضطرار ، وترك الاختيار مع حسن الانتظار.

وقيل: فناء الكلية تحت كمال القدرة ، وطيران الهمة بأجنحة الشوق نحو رب العزة ، وقيل: هجرة السر إلى الله من المراتب والدرجات ، والفرار إلى الله من المنازل والمقامات ، وقيل: هي مجاَنبة دواعي النفس ، ومتابعة دواعي الروح ، وإخماد صفات البشرية تحت صفات الربوبية.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت نوفمبر 10, 2012 7:40 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الخامس والعشرون

أخبرنا شيخنا القاضي العدل الثقة المقْري الكبير الشيخ أبو الفضل علي الواسطي رحمه الله رحمة واسعة ، قال : أنبأنا أبو القاسم هبة الله بن محمد الكاتب ، قال: أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد الغيلان ، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي ، قال: أخبرنا محمد بن غالب ، حدثني عبد الصمد بن ورقاء ، عن عبد الله بن دينار ، عن سعيد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يطْعمه إلا لله تعالى ، فإن الله يقلبها بيمينه ، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل " .

حث هذا الحديث الشريف على بذل المعروف ، ونبه على لزوم الإخلاص فيه ، وبشر بعد الإخلاص بمضاعفته وقبوله ، وكل هذا انطوى في الإخلاص وهو نور العارفين بالله ، إذ الأعمال بغير الإخلاص كلها ُظلمة وبه ُتَنور ، وبذلك ارتفعت همم العارفين في الأعمال إلى الإخلاص : " أَلا للهِ الدين الخالِص " .

أَلا إن المتحققين بالتصوف صفت سرائرهم وحسنت شعائرهم ، همهم ربهم و ُخُلُقهم سنة نبيهم ، عكس أهل المروق من أصحاب الدعوى.

أَي بَني ، إذا نظرت في القوم الذين ادعوا التصوف اليوم ، رأيت أن أكثرهم من الزنادقة والحرورية والمبتدعة ، ورأيتهم أكثر الناس جهلاً وحمقًا ، وأشدهم مكرًا وخديعة ، وأعظمهم عجبًا وَتطاولاً ، وأسوأهم ظنًا بأهل الزهد والتقوى وأهل الصدق والصفاء.

وعلامات أهل الصفاء أدق من أن يصفها واصف ، وأعلى من أن تحتملها الأوهام ، فمن علامة الصوفي أن يصفو في أقواله وأفعاله وحركاته من أدناس آفات النفس والخلْق والدنيا ، وتصفو خواطره من غبار الإعراض عنه تعالى والنظر منه إلى من سواه ، وأيضًا من علاماته أن يكون مع النفس بلا نفس ومع الخلق بلا َخلق ، ومع القلب بلا قلب ، ومع الحال بلا حال ، ومع الوقت بلا وقت ، ويكون مستقيمًا على بساط أمر الله ، متذللاً تحت جلال عظمة الله مستكفيًا مستغنيًا به عن غيره ، قلبه مضروب بسياط خوف القطيعة والهجران و سره مضروب بسياط خشية البعد والحرمان ، نفسه منورة بنور الخدمة وقلبه منور بنور المحبة ، وسره منور بنور المعرفة.

ومن علاماته أيضًا أن يكون فؤاده طائرًا بأجنحة الشوق ، وأركانه مستقيمة على طريق الحق بالحق للحق مع حسن الانتظام وعلى غاية الأدب ، مقبلاً بالكلية على مليكه مع ترك الالتفات منه إلى ملْكه ، مع الفرار من المخلوقين لشدة وجدانه حلاوة الأنس برب العالمين ، رجوعه إلى الحق واعتماده على الحق وقراره مع الحق من غير أن يلتفت منه إلى الخلق ، وحشي القلب ، سماوي الحديث ، رباني العلم ، فرداني الهمة ، روحاني العيش ، نوراني القدر ، وحداني المعنى ، جميع إرادته تحت إرادة المعبود ، شاكر لله في السر والإعلان كيلا يقع في أبحر الكفران ، ذاكر لله بالقلب واللسان في كل وقت وأوان كيلا يتيه في مفاوز النسيان ، يعلم أن المولى يراه ومن فوق العلا يرعاه ، فهو فان تحت عظمة نظره ، متلاش بكليته تحت كمال قدرته ، مستغرق صفاء أوقاته في أبحر امتنانه ، مع سقوط كل حلاوة غير حلاوة محبة ربه ، مستقيم على صدق العبودية من غير رؤية العبودية ، فارغ القلب عن الشغل بغير الله مع الاتكال بالقلب على الله ، متواضع لأهل الإيمان ، قائم على بساط الأحزان ، حتى يأتيه اليقين بالعفو والرضوان لسانه مثل قلبه يصدق في جميع أقواله وأفعاله ، لا كما قال الله تعالى : " لِم َتُقوُلون ما لا َتفلون " شاكر لقليل النعمة ، صابر على كثير الشدة ، راض بقضاء رب العزة ، دائم على احتراس القلب لله بالحجة ، لا يخاف دون الله ، ولا يرجو غير الله ، ولا يريد إلا الله ، لما علم أنه لا مضر ولا نافع ولا رافع ولا دافع ولا معز ولا مذل إلا الله وحده لا شريك له ، متابع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأخلاقه ومذاهب أصحابه ، خائف من سوء العاقبة ، مشتغل بالمقدر إذا اشتغل الناس بالتقدير ، وبالمدبر إذا اشتغلوا بالتدبير ، جالس على بساط الخدمة مع الحياء ، متكئٌ على سرير الفقر والفاقة ، مشرفٌ على ُغرف الُقرب والمشاهدة شارب بكأس الأنس والمحبة ، يطيل صمته ويكظم غيظه ويغلب شهوته ويفارق راحته من غير أن يلتفت إلى معاملة قلبه ، فارغ من مصالح نفسه ، تارك لجميع راحاته وشهواته ، خائف من الوحشة بينه وبين حبيبه ، يكون أحسن الناس للناس وأتقاهم وأصدق الناس وأصفاهم وأعقل الناس وأرعاهم ، ينظر إلى الدنيا بعين الاعتبار وإلى النفس بعين الاحتقار ، وإلى الآخرة بعين الاستبشار ، وإلى الرب بعين الافتخار ، في الاستقامة كالجبل الراسي لا تحركه الرياح الهائجة ، لا يطلب ما ليس له ولا يهتم بما ُقسم له ، فارغ عن خدمة المخلوقين مشتغل بخدمة رب العالمين ، لا يعرض عنه ببلواه ، ولا يختار حبيبًا سواه ، نفسه طاهرة من كل خطأٍ وزّلة ، وقلبه متبرئ من كل سهو وغفلة وسره من كل حول وقوة ، بدون الله سبحانه لا يرضى ، طعامه طعام المرضى وبكاؤه بكاء الثكلى ، لا يتوكلُ قلبه إلا عليه ولا يسلِّم إلا إليه ، ولا يشكر النعمة إلا له ، ولا يطلب الحاجة إلا منه مستأنس بالله في جميع الأحوال منقطع إليه في جميع الأعمال ، وذكر الله حديثه في جميع المقال ، تارك اختياره إلى ذي الجلال ، نومه قليل ، وحزنه طويل ، وبدنه نحيل ، وأنيسه الملك الجليل ، حسبنا الله ونعم الوكيل.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت نوفمبر 10, 2012 10:43 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث السادس والعشرون

أخبرنا شيخنا العارف بالله خالي الشيخ أبو بكر بن يحيى النجاري الأنصاري الواسطي رضي الله عنه قال: حدثني الأستاذ أبو القاسم علي بن أحمد البسري ، قال: أنبأنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن مهدي ، قال: أنبأنا محمد بن مخلد العطار ، قال : أنبأنا محمد بن علي بن خلف ، قال : أخبرنا عمرو بن عبدالغفار ، عن حسن بن حيي وسفيان الثوري ، عن سعد بن سعيد أخي يحيى بن سعيد ، عن عمر بن أيوب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر " .

وسر ذلك استغراق العبد في أداء الفرض وانغماسه في السنة المحمدية ، فإنها بركة الوقت ، وليس عند العارف أَهم من استحصال بركة الوقت بفرض أو سنة أوجمع بينهما ، وهناك منتهى الهمم ، فإن السنة المحمدية روح العارف ، بها يقوم وبها يقعد وهي منار باب العارفين ، فإن مشيد أركانها ورافع بنيانها صلى الله عليه وسلم لم ينطق عن الهوى ، بل هو جلجلة " ما زاغ البصر و ما َطغى " ولوراثه العارفين هذه الحصة من بركة إتِّباعه ، وأرواحنا وأرواح العالمين فداه.

أَي بَني ، اعلم أن قلوب أهل المعرفة خزائن الله في أرضه يضع فيها ودائع سره ، ولطائف حكمته ، وحقائق محبته ، وأنوار علمه ، وآيات معرفته ، التي لا يطلع عليها ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولا أحد دون الله بغير إذنه سبحانه فينبغي أن يكون العارف عالمًا بصلاحه وفساده ، مستقيمًا على معاملته ، عارفًا بربحه وخسرانه ، حافظًا له من مكايدة عدوه ، مستعينًا بالله في ذلك كله ، وأن لا يدع في قلبه مكانًا لغيره ، فإن الله تعالى إذا اطلع على قلب فرأى فيه غيره مقته وخذله وسلط عليه العدو ، ومعاملة القلوب لله خاصة ، ومعاملة الأركان مختلطة ، ومعاملة القلوب ُتقبل بغير الأركان ، ومعاملة الأركان لا ُتقبل بدون القلوب ولا تستوجب الثواب ، فإن كان العبد في معاملة القلب مقصرًا وفي معاملة الأركان موفِّرا ، حكم على توفير أحكامه بتقصير قلبه ، وإن كان في معاملة القلب موفِّرا وفي معاملة الأركان مقصرًا ، حكم على تقصير أركانه بتوفير قلبه.

روي أن موسى عليه الصلاة والسلام مر بقوم من بني إسرائيل قد لبسوا المسوح وقد جعلوا التراب على رؤوسهم ، ودموعهم منحدرة على خدودهم ، فبكى عليهم رحمة لهم ، وقال : " إلهي ، أما ترحم عبادك ، أما ترى حالهم ؟ فأوحى الله إليه: يا موسى انظر هل نفدت خزائني ، أولست بأرحم الراحمين ، كلا ولكن أعلمهم بأني بذوات الصدور خبير ، يدعونني بقلوب خالية عني ، مائلة إلى الدنيا ". وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر برجل ساجد على صخرة منذ ثلاثمائة سنة ، كان يبكي ودموعه تجري على الأودية ، فوقف عليه وبكى لبكائه ، وقال : " يا إلهي أما ترحم عبدك ؟ فقال الله تعالى: لا أرحمه ، قال: ولم يا إلهي ؟ قال: لأن قلبه يستريح إلى غيري ، وكان له جبةٌ يستتر بها من الحر والبرد " .

وقال النبي عليه الصلاة والسلام : " لا يستقيم عمل العبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه " .

وقال عليه الصلاة والسلام : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلحت الأعضاء كلها ، ألا وهي القلب" ، وقال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام : " يا موسى قل لبني إسرائيل أن لا يدخلوا بيتًا من بيوتي إلا بقلوب وجَلة ، وأبصار خاشعة ، وأبدان نقية ، ونية صادقة " .
قال يحيى بن معاذ : قلب المؤمن مضغة جوفانية ، حشوها جوهرة ربانية حولها روضة فردانية ، تحتها ساحة نورانية ، والله تعالى ناظر إليها في كل لحظة بالرحمة والشفقة ، ويحول بينها وبين ما يشغله عنه ، قال الله تعالى : " ومن أَوَفى ِبعهده من اللهِ " .

وقيل : معاملة القلوب أمر شديد ، والثبات عليها أشد وأصعب ، قيل لبعض أهل المعرفة: عبد فقد قلبه متى يجده ؟ قال : إذا نزل فيه الحق ، قال: متى ينزل ؟ قال: إذا ارتحل عنه ما دون الحق.

ومعاملة القلوب على عشر مدارج ، أولها الخطرات ، ثم حديث النفس ، ثم الهم ، ثم الفكر ، ثم الإرادة ، ثم الرضا ، ثم الاختيار ، ثم النية ، ثم العزيمة ، ثم القصد ، حتى يبلغ إلى عمل الظاهر:

فمن قام لله تعالى فحفظ معاملة القلب عند الخطرات ، فهو على مدارج الصديقين.

ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند حديث النفس فهو على مدارج المقربين.

ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند الهم فهو على مدارج الأوابين.

ومن قام لله على حفظ معاملة القلب عند الفكرة فهو على مدارج المخلصين.

ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند الإرادة فهو على مدارج المريدين.

ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند الاختيار فهو على مدارج المتقين.

ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند النية فهو على مدارج الزاهدين.

ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند العزم فهو على مدارج المنيبين.

ومن قام لله فحفظ معاملة القلب عند القصد فهو على مدارج المجتهدين.

ومن قام لله فحفظ معاملة القلب على عمل الظاهر فهو على مدارج العابدين من عامة الموحدين.

وقال إسحاق بن إبراهيم: لأن َترد قلبك إلى الله تعالى ذرة خير لك من جميع ما طلعت عليه الشمس ، وما من أحد صفا قلبه من أدناس الشهوات وطهره من غبار الغفلات ونقاه من كدورات الغوايات إلا أطلعه الله على غاية الغايات.

وقال بكر بن عبد الله في معنى قوله تعالى : " وجاء ِبَقلْب منيب " قال: الذي يمشي ببدنه على الأرض وقلبه معلق بالله تعالى.

وقيل لأبي عبد الله : ما القلب السليم ؟ قال : قلب منقطع من علائق الدنيا مملوء من حب المولى ، لا يشكو من الشدائد والبلوى ، ولا يهتك أستار الصيانة والتقوى ، ويقال: من لم يكن بينه وبين الله معاملة سرية كان مسيئًا وإن كان محسنًا ، ومن لا يري أن الكونين بما فيهما يسير بقدرته وسريع لحظته لم ينل معاملة القلب.

وقال أبو سعيد الخراز : اعلم أن معاملة القلب هي تجريد السر مع الانفراد به ، وملاحظة القلب على دوام حفظ الأوقات ، مع صدق الحال من غير التفات منه إلى الوقت والحال.

وقال أبو الدرداء: إن لله تعالى عبادًا تطير قلوبهم إلى الله اشتياقًا لا يدركها البرق الخاطف.

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صياٍم ولكن بحق وَقر في قلبه".

إن الله تعالى لا يرد القليل لقلته ، ولا يقبل الكثير لكثرته ، ولكن " إِنَّ ما يَتَقبلُ اللهُ من المتَّقين " ويقال: ليس على مقام الصدق من تعلق قلبه بالمقام ، ولكن الصادق من تعلق قلبه برب المقام مجردًا ، حتى لا يرى مع الله غير الله أحدًا.

ويقال : إذا صارت المعاملة إلى القلوب استراحت الأبدان ، ويقال: لا تكون معاملة القلب إلا لمن له قلب صاف ليس بساه ، صحيح ليس بجريح ، بصير ليس بضرير ، فريد ليس بطريد ، طالب ليس بهارب ، قريب ليس بغريب ، عاقل ليس بغافل ، سماوي ليس بأرضي ، عرشي ليس بوحشي.

وقال ثابت النساج : قرأت القرآن سنين بالخوف فلم أجد القلب ، ثم قرأته بالرجاء فلم أجد القلب ، ثم قرأته بتجريد القلب عن كل ما دون الله تعالى ، فعند ذلك وجدته ، ورأيت عند وجوده الولاية الكبرى والعزة العظمى والمراتب العليا.

وقال الله تعالى في بعض الكتب: القلوب بيدي ، والحب في خزائني ، فلولا حبي لعبدي ما قدر العبد أن يحبني ، ولولا ذكري له في الأزل ما قدر أن يذكرني ، ولولا إرادتي إياه في القدم ما قدر العبد أن يريدني.

قيل : إن عارفًا رأى رجلاً يدور حول المسجد ، فقال له : يا هذا ما تطلب ؟ قال: أطلب موضعًا خاليًا أصلي فيه ، فقال: خل قلبك عما دون الله ، وصلِّ في أي موضع شئت.

ويقال: بقدر إقبالك على الله يكون قرب القلب منه ، وما اطلع الله على قلب عبد فرأى فيه غيره إلا عذبه الله به ووكله إليه.

وقال يحيى بن معاذ : القلب إذا وضعته عند الدنيا خاب ، وإذا وضعته عند العقبى ذاب ، وإذا وضعته عند المولى طاب ، وقال : الدنيا خراب وأخرب منها قلب من يعمرها ، والآخرة دار عمران وأعمر منها قلب من يطلبها ، وقال: مفاوز الدنيا تقتطع بالأقدام ، ومفاوز الآخرة تقتطع بالقلوب ، وقال: خراب النفس من عمارة القلب ، وعمارة النفس من خراب القلب.

سئل واحد من أبناء القلوب : ما لك لا تتكلم ؟ فقال: قلبي يتكلم ، قيل: مع من ؟ قال: مع مقلب القلوب.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين نوفمبر 12, 2012 10:12 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث السابع والعشرون

أخبرنا شيخنا الجليل العارف بالله شيخنا أبو الفضل على الواسطي القرشي يعرف بابن القاري رضي الله عنه ، قال : أنبأنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد المظفر الداودي ، قال : أنبأنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، قال: أنبأنا أبو عبد الله بن يوسف الفربري ، قال : أنبأنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، قال : حدثنا بشر بن خالد ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المرء مع من أحب " .

وفي هذا الحديث الشريف من الإلزام بمحبة أحباب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه بلاغ للموقنين ، وهدى للمتقين ، ونور للعارفين ، فإن من تدبر سر المعية التي أفصح بها هذا النص الأشرف ، انسلخ إلا عن محبة الله تعالى ومحبة من أحبه الله وأحب الله وكذلك العارفون رضي الله عنهم ، ومن العارفين من هم أهل القلوب المنيرة أصحاب صفاء السريرة والعمدة على القلوب.

أّي بَني ، اعلم أن الله تعالى ذكر في محكِم كتابه للعباد أمره ونهيه ووعده ووعيده وترغيبه وترهيبه وقضاءه وتقديره وحكمه وتدبيره ومشيئته في خلقه ، وضرب الأمثال ، وذكر آلاءه ونعماءه ولطائف صنعه وكمال قدرته وعظيم ربوبيته ، ثم قال : " إِن في َذلِك َلذكْرى لِمن كان َله َقلْب " ، أشهد في هذه الآية جميع العباد ، َشرف مراتب أبناء القلوب ، وبين فضلهم على من دونهم ، قال بعض المفسرين في معنى قوله تعالى : " لِمن كان َله َقلْب " أي قلب واثقٌ بجميع ما ذكره الله سبحانه في كتابه من الوعد والوعيد وغيرهما ، وقال بعضهم : لمن كان له عقل يزجره عن جميع الضلالات والغوايات في جميع الحالات ، وقال بعضهم : لمن كان له ذهن يفر به عن الشرك والشك ، وقال بعضهم: لمن كان له يقين يسقط عنه وثائق الغرور في جميع الأمور إلى أن يصل إلى الملك الغفور ، وقال بعضهم : لمن كان له سر يتلاشى مع جميع أوصاف العبودية ، تحت إشارة الربوبية ، عند مشاهدة الحق ، وقال بعضهم : لمن كان له استقامة السر مع الحق من غير التفات منه إلى ما سواه ، وقال بعضهم: لمن كان له قلب مفرد لَِتَفرد الفرد.

وإن الله تعالى زين قلوب العارفين بزينة المعرفة كرمًا وامتنانًا ، وزين قلوب المريدين بالعظمة والهيبة رحمة وإحسانًا ، وحجب قلوب الغافلين بالجهل والغفلة محنة وخذلانًا ، وطبع على قلوب الكافرين بالإبعاد والُنكْرة طردًا وحرمانًا والقلوب ثلاثة :

قلب يطير في الدنيا حول الشهوات ، وقلب يطير في العقبى حول الكرامات .

وقلب يطير في سدرة المنتهى حول الأنس والمناجاة.

فقلب معلق بالدنيا ، وقلب معلق بالعقبى ، وقلب معلق بالمولى.

وقلب حريق ، وقلب غريق ، وقلب سحيق.

وقلب منتظر للعطاء ، وقلب منتظر للرضاء ، وقلب منتظر للقاء.

وقلب مشروح ، وقلب مجروح ، وقلب مطروح.

وقلب منيب ، وهو قلب آدم عليه الصلاة والسلام ، وسليم ، وهو قلب إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومنير ، وهو قلب سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس نوفمبر 15, 2012 12:31 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الثامن والعشرون

أخبرنا شيخنا القاضي الثقة المقري الجليل الشيخ أبوالفضل علي الواسطي القرشي رحمه الله رحمة واسعة ، قال: أخبرني أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، قال: أخبرني عبد الله أحمد السرخسي ، قال: حدثني أبو عبد الله محمد الفربري ، قال : حدثني أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، قال : حدثني إسحاق ابن إبراهيم ، قال : أخبرنا الحسين ، عن زائدة ، عن عبيد الملك ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : تعوذوا بكلمات كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهن : " اللهم إني أعوذ بك من الجبن ، وأعوذ بك من البخل ، وأعوذ بك من أن أُرد إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر " . استعاذ صلى الله عليه وسلم من القواطع من الله تعالى ، فإن الجبن مقْعد عن قول الحق ، والبخل مقصر عن طلب الحق ، وأرذل العمر صارف عن بذل الهمة في الحق ، وفتنة الدنيا قاطعة عن الحق ، وعذاب القبر نتيجة أولئك والعياذ بالله ، وفي مضمون هذه الاستعاذة الشريفة المحمدية إرشاد بإعلاء الهمة عن الجبن والبخل ، وحثٌ على التجرد إلى الله تعالى وهذا بغية العارفين ، اللهم وفقنا لما تحب وترضى يا مصلح الصالحين ، يا ولي المتقين ، يا دليل المتحيرين ، يا أنيس العارفين ، يا أرحم الرحمين.

أَي بَني ، اعلم أن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى حكيم فيما حكم وقدير عالم بما قضى ودبر ، وعرف أنه جاهل بالمحبوب والمكروه ، رضي عن الله في حكمته وقضائه ، والرضا هو سكون القلب إلى الحكيم ، وترك الاختيار مع التسليم ، ولا شيء أشد على النفس من الرضا بالقضاء ، لأن الرضا بالقضاء يكون على خلاف رضا النفس وهواها ، فطوبى لعبد آثر رضا الله تعالى على رضا نفسه.
وروي أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول في مناجاته: إلهي خصصتني بالكلام ولم تكلم بشرًا قبلي ، فدلني على عمل أنال به رضاك ، فقال الله تعالى : يا موسى رضائي عنك رضاك بقضائي.

وقال الداراني : أرجو أن أكون قد أُعطيت من الرضا طرفًا وذلك أن الله تعالى لو أدخلني النار لكنت بذلك راضيًا ، وإن أحق الناس بالرضا أهل المعرفة ، وهو باب الله الأعظم.

وروى في بعض الكتب : أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يهبط الأرض ، فرأى رجلاً عليه أثر السكينة ، فقال: يا رب ما أحسن هذا الرجل ، فقال الله تعالى : يا جبريل انظر اسمه في اللوح في أسماء أهل النار ، فقال : إلهي ما هذا ؟ فقال : يا جبريل إني لا أُسأل عما أفعل ، وإنه لا يبلغ أحد من َخلقي علمي إلا بما شئت ، فقال جبريل : يا رب أتأذن لي أن أخبره بما رأيت ؟ قال لك الإذن ، فهبط جبريل وأخبره بحاله ، فخر الرجل ساجدًا ، وكان يقول : لك الحمد يا مولاي على قضائك وقدرك ، حمدًا يعلو حمد الحامدين ، ويزيد على شكر الشاكرين ، قال : فما زال يحمد الله تعالى حتى ظن جبريل أنه لم يسمع ما قال ، فقال: يا عبد الله وهل سمعت ما قلت لك ؟ قال: نعم ، أخبرتني أنك وجدت اسمي بين أسماء أهل النار في اللوح المحفوظ ، قال فما هذا الحمد والشكر ؟ قال: سبحان الله يا جبريل ، إن الله تعالى قد قضى مع كمال علمه ، وسعة رحمته وحلمه ، ولطائف ربوبيته ، وحقائق حكمته ، فمن أنا حتى لا أرضى ؟ تبارك الله ربي ، ثم خر ساجدًا ، وأخذ في التسبيح والتحميد ، قال: فرجع جبريل إلى الله ، فقال الله تعالى: ارجع في اللوح المحفوظ وانظر ماذا ترى ، فرجع فإذا اسمه في أسماء أهل الجنة ، فقال : يا جبريل ، هو ما ترى ، إني لا أُسأل عما أفعل ، فقال جبريل : إلهي ائذن لي حتى أخبره بما رأيت ، فقال : لك الإذن ، قال : فهبط جبريل فأخبره بما رأى ، قال: لك الحمد يا سيدي ومولاي على قضائك وقدرك ، حمدًا يعلو حمد الحامدين ، ويزيد على شكر الشاكرين ، فرجع جبريل متعجبًا من كمال رضاه عن الله بكل ما حكم له.

وكذلك روي: أن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبيائه ، أن قل لعبدي فلان ابن فلان : إنك من أهل النار ، فلما بّلغ إليه الرسالة حمد الله تعالى ، وقال : الحمد لله على ما قضى ، فالأمر أمره ، والحكم حكمه ، فقال الله تعالى لنبيه : الحق به ثانيًا وأخبره أني قد غفرت لك ، حيث رضيت بقضائي ، فبلغ الرسالة ، فشهق الرجل شهقة وخر ميتًا.

وإن قضاء الله تعالى على أربعة أوجه:

قضاء النعمة فعلى العبد فيه الرضا والشكر.

والثاني قضاء الشدة فعلى العبد فيه الرضا والصبر.

والثالث قضاء الطاعة فعلى العبد فيه الرضا وذكر المنة والقيام بالواجب إلى الموت.

والرابع قضاء المعصية فعلى العبد فيه الرضا عن الله والتوبة.

وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن القضاء والقدر ، فقال : ليلٌ مظلم وبحر عميق وسر الله الأعظم ، فمن رضي به فله الرضا ، ومن سخط فله السخط.

وروي أنه لما وضع المنشار على رأس زكريا عليه الصلاة والسلام هم أن يستغيث بالله تعالى ، فأوحى الله إليه أن يا زكريا إما أن ترضى بحكمي لك ، وإما أن أخرب الأرض وأُهلك من عليها ، فسكت حتى ُقطع نصفين.

وحكي أن رابعة البصرية مرضت ، فقيل لها أما ندعو لك طبيبًا ؟ فقالت: من قضى علي ؟ فقالوا: الله تعالى . قالت : أو مثلي من يرد قضاء سيده ؟

ومرض أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فقيل له : أما ندعو لك الطبيب ؟ فقال : قد رآني ، قيل وما قال ؟ فقال: قال إني فعال لما أريد.

شكا نبي من الأنبياء بعض ما ناله من المكروه ، فأوحى الله إليه: كم تشكوني ولست أهل ذم ولا شكوى ، فهكذا كان بدء شأنك في علمي فلم تسخط ؟ أفتحب أن أعيد الدنيا من أجلك ؟ أو أبدل اللوح بسببك ؟ فأقضي ما يسرك كما تريد لا كما أريد ، ويكون ما تحب دون ما أحب ؟ فبعزتي حلفت لئن َتَلجَلج هذا في صدرك مرة أخرى ، لأسلبنك ثوب النبوة ولأوردنك النار ولا أبالي.

قال بعض الحكماء ليس العجب ممن ابُتلي فصبر ، إنما العجب ممن ابتلي فرضي.

قيل لعبد الواحد بن زيد : أي الرجلين أفضل: رجل أحب البقاء ليطيع ، أو رجل أحب الخروج شوقًا إليه ؟ فقال: لا هذا ولا ذاك ، ولكن رجل فوض أمره إلى الله ، وقام على قدم الصدق في الرضا ، فإن أبقاه أحب ذلك ، وإن أخرجه أحب ذلك ، فهذه منازل الرضا عنه و ُخُلق العارف معه.

قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما تشتهي ؟ قال: ما يقضي الله ، وقال أبو عبد الله النساج : إن لله عبادًا يستحيون من الصبر ويسلكون مسلك الرضا ، وإن له عبادًا لو يعلمون من أين يأتي القدر لاستقبلوه حبًا ورضًا.

وفي الخبر : " إن أول ما كتب الله سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ: لا إله إلا الله محمد رسول الله ، من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر لنعمائي كتبته صديقًا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ، ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي ، فليختر ربًا سواي " .

يقول قائلهم رضي الله عنهم: يا نفس إِنِّي أسلمتك إلى ربك ، على أنه إن شاء جوعك وإن شاء أشبعك ، وإن شاء أعزك وإن شاء أذلَّك ، وإن شاء أحياك وإن شاء أماتك ، وهو أغنى وأولى بك منك وأنت بالكّلية له ، يا نفس فما لك والحكم على من له الحكم والخلق والأمر.

وقيل ليحيى بن معاذ الرازي: متى يطيب عيش المؤمن ؟ قال: إذا رضي عن الله تعالى بكل ما قضى وقدر وحكم ودبر ، وقيل له : متى يكون العبد راضيًا عنه ؟ قال: إذا قال العبد لربه: إلهي إن أعطيتني شكرت ، وإن منعتني رضيت ، وإن دعوتني أجبت ، وإن تركتني عبدت.
والزهد عشرة أجزاء ، وأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع ، والورع عشرة أجزاء ، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ، واليقين عشرة أجزاء ، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا ، لأن الرضا أعلى درجة العبودية ، وإن الله سبحانه جعل الروح والراحة في الرضا ، وجعل الهم في السخط.

وحكي أن عطية الحمصي ، قال إن والدي قال لإبراهيم بن أدهم: يا أبا إسحاق ، لو كتبت من هذا الحديث كما كتبنا ، فقال له: اشتغلت بثلاثة أجزاء فإن فرغت منها فعلت ما تقول . قال: وما هي ؟ قال: التوكل على الله فيما تكفل به من الرزق ، وإخلاص العمل لله ، والرضا بقضاء الله ، فأما التوكل والإخلاص فقد فرغت منهما بعون الله ، وأما الرضا بقضاء الله ، فإني منه في شغل شاغل ، قال : فبكى والدي بكاء شديدًا ، وقال: ما أبعدنا عما أنت فيه ، هل يكون فوق الرضا منزلة نقدر أن نقول فيها شيئًا.

قال محمد بن واسع : إني لا أغبط إلا من أصبح وليس له غداء ولا عشاء ، وهو عن الله تعالى راض ، قيل لسفيان الثوري: متى يكون العبد عن الله راضيًا ؟ قال: إذا سرته المصيبة كما سرته النعمة.

وقال رجل عند الإمام الحسين رضي الله عنه: إن أبا ذر كان يقول : الفقر أحب إلي من الغنى ، والسقم أحب إلى من الصحة ، فقال: رحم الله أبا ذر ، أما أنا فأقول: من رضي بحسن اختيار الله تعالى لم يتمن غير ما اختاره الله له.

وقال يحيى بن معاذ : طلبت العلم فلم أسترح ، ثم طلبت العمل فلم أسترح فرضيت عن الله فغرقت في الراحة.

قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ليس الشأن في أكل خبز الشعير ، ولبس الصوف ، لكن الشأن في الرضا عن الله تعالى.

سيكون الذي ُقضي
كره العبد أم رضي
ليس هذا يدوم بل
كل هذا سينقضي

كان مكتوبًا على سيف عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

قد قضى فيك حكمه
فانقضى ما يريده
فأرد ما يكون إن
لم يكن ما تريده

كان مكتوبًا على سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

أي يوم يمن الموت أفر
يوم لا يقدر أم يوم ُقدر
يوم لا يقدر لا يأتي به
ومن المقدور لا ينجو الحذر


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت نوفمبر 17, 2012 7:30 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث التاسع والعشرون

أخبرنا خالي وسيدي أبو المكارم منصور الرباني البطايحي الأنصاري الواسطي رضي الله عنه قال: حدثني السيد الشريف حسن بن عسلة الرفاعي برواق أبي في أم عبيدة ، قال: حدثني النقيب السيد يحيى الرفاعي ، قال: حدثني أبي السيد ثابت ، قال: حدثني أبي السيد علي الحازم الرفاعي ، قال : حدثني أبي السيد علي أبو الفضائل ، قال : حدثني أبي السيد الكبير رفاعة الحسن المكي الحسيني ، نزيل إشبيلية ، قال: حدثني أبي السيد محمد أبو القاسم ، عن أبيه السيد الحسن القاسم ، عن أبيه السيد حسين عبد الرحمن الرضي المحدث القطيعي ، عن أبيه السيد أحمد الأكبر ، عن أبيه السيد موسى ، عن أبيه الأمير السيد إبراهيم المرتضى ، عن أخيه الإمام علي الرضا ، عن أبيه الإمام موسى الكاظم ، عن أبيه الإمام جعفر الصادق ، عن أبيه الإمام محمد الباقر ، عن أبيه الإمام علي زين العابدين ، عن أبيه الإمام الحسين الشهيد بكربلاء ، عن أبيه أمير المؤمنين علي المرتضى ، عن ابن عمه سيد المرسلين ، وأشرف المخلوقين نبينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حدثني جبريل عليه الصلاة والسلام ، قال : حدثني رب العزة سبحانه وتعالى قال : كلمة لا إله إلا الله حصني ، فمن قالها دخل حصني ، ومن دخل حصني أمن من عذابي " .

هذا الحديث القدسي الذي وصل إلينا بالسند النبوي فيه من إعظام شأن كلمة التوحيد ، ما يزيد العبد إيمانًا ، ويملؤه عرفانًا ، ويلزمه بالمداومة على الذكر بهذه الكلمة ، التي هي روح التوحيد ، وما على قائلها بعد الإيمان ِبمبلِّغها صلى الله عليه وسلم من بأس ، وكونها آخذة بالعبد إلى الافتقار إلى الله تعالى ، والانقهار تحت عظمة فردانيته ، فلذلك صارت حصنًا للعبد بإذن الله تعالى.

أَي بَني ، اعلم أن الغنى والفقر صفتان: صفة لله ، وصفة للعبد ، فصفة الفقر للعبد وهو صفة مدح ، كما أن صفة الغنى لله وهو صفة مدح ، والفقر بالحقيقة صفة العبد إذ لا يشوبه غنى ، والغنى بالحقيقة صفة الرب إذ لا يشوبه فقر ، وإن أشرف صفات العبد افتقاره إلى الله في كل شيء كما أن أشرف صفات الرب استغناؤه عن العبد في كل شيء قال الله تعالى : " واللهُ َ غني وأَنُتم الُفَقراء " و " يا أَيها النَّاس أَنُْتم الُفَقراء إلى اللهِ واللهُ هو الغنِّي الحميد " .

واعلم أن الافتقار إلى الله مقسوم على النفس والروح والقلب والسر ، ففقر النفس إلى الله تعالى يكون على سبيل القرب والرضاء ، وفقر السر إلى الله تعالى على سبيل المشاهدة واللقاء ، فكلما رأى العبد نفسه متحيرة على باب عهده ووفائه ، رجع بالافتقار إلى باب عفوه ، وكلما رأى روحه متحيرة على باب وده ومحبته ، رجع بالافتقار إلى باب عنايته.

ومن حقيقة الافتقار الاستكفاء بالكافي ، وطرح النفس السقيمة بين يدي المعافي ، وأيضًا حقيقُته انتظار السبب من المسبب مع عدم رؤية السبب والاشتغال بالمسبب مع نسيان السبب ، وأيضا من حقيقته دوام التبصبص والاعتذار بلسان صدق الافتقار مع غاية الانكسار ، ومن حقيقته تخليص الأسرار من رؤية الأعمال وترك الاعتماد على حسن الحال ، ومن حقيقته أن لا ينصرف العبد عنه بخلقه ولا بملكه.

قيل لأبي عبد الله بن مقاتل : متى يكون العبد غنيًا محتاجًا وهو في غناه وحاجته محمود ؟ قال: إذا كان غناه بالله عن َخلقه وحاجته إلى ربه ، قال الشيخ أبو بكر الواسطي : إن العبد لا يعرف الله حق معرفته ، حتى يعرف الفاقة الكبرى ، قيل: وما الفاقة الكبرى ؟ قال : أن يعلم أنه لم يهتد إلى ربه إلا به ، ولا ينجو من سخطه إلا به ، ويقال: الافتقار لواء أهل الولاية ، ويقال: الافتقار طرح النفس بين يدي الرب كالصبي الرضيع بين يدي الأم.

ويقال الافتقار فراغة في رعاية ورعاية في ولاية وولاية في عناية وعناية في هداية ، فمن لا فراغة له لا رعاية له ومن لا رعاية له لا ولاية له ومن لا ولاية له لا عناية له ومن لا عناية له لا هداية له.

أَي بَني ، اعلم أن الخلق بأسرهم فقراء محتاجون إلى الله تعالى ، أُسراء تحت مشيئته ، ضعفاء تحت علمه وقدرته ، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرًا ، ولا ذلاً ولا عزًا ، ولا موتا ولا حياة ، منصوبون بين سهام النعمة والرخاء ، موقوفون بين القطيعة والشقاء ، مستورة عنهم خواتيمهم ، لهم الخوف والرجاء ، والفقر والدعاء ، والتضرع والبكاء ، فما أفقر من هذه صفته ، وما أضعف من هذه حالته.

واعلم أن الافتقار أجلُّ مراتب المحبين ، وأرفع منازل المنيبين ، وأزلف حالات المريدين ، وأعظم آلات الأوابين وأجلَّ مقامات التائبين ، وأعلى وسائل المقربين ، وهو أصل العبودية ، وصدر الإخلاص ، ورأس التقوى ، ومخ الصدق ، وأساس الهدى ، فمن أراد أن يدخل في عصبة أهل الافتقار ، فينبغي أن لا يهتم بمصلحة نفسه وعياله ، وأن يتملق بين يدي الله تعالى ، وأن يكون آيسًا مما سوى الله ، مع الافتقار إلى الله تعالى ، كرجل يكون في بئر مظلمة ، ورأس البئر مسدود ، وأثره مستور ، وليس له في البئر مؤنس ، ولا للخلق على رأس البئر ممر ، فهل يكون رجاؤه وافتقاره إلى أحد دون مولاه ؟

وحكي أن رجلاً من الصالحين وقع في بئر في البادية وكان ضريرًا فمرت على رأس البئر قافلة ، فناداهم الرجل من قعر البئر ، فهتف هاتف: أيستغيث بغيري وأنا غياث المستغيثين ، قال : فسكت الرجل ، فإذا أهل القافلة سدوا رأس البئر ، وأرادوا أن يخفوه كي لا يقع فيه أحد ، فصار الرجل آيسًا من نفسه ، وانقطع رجاؤه عن الخلق ، ثم قال: إلهي الآن لم يبق لي غيرك ، وأنا فقير إليك ، فسلط الله أسدًا حتى فتح رأس البئر ، وهبط فيه ، فأخذ الرجل ِبَذَنب الأسد ، فرفعه إلى رأس البئر ، فنودي من فوقه: لا تقطع قلبك عمن ينْجيك بتلف من تلف.

واعلم أن الله وضع تحت قوله : " إِياك َنعبد " كمال وفاء صدق العبودية ، ثم علم كمال ضعف العبد وعجزه ، فأعطاه كلمة أخرى وجمع له خير الدارين ، وهو قوله تعالى : " وإِياك َنسَتعين " فكل حق الله تعالى على العبد تحت قوله " إِياك َنعبد " ، وكل فقر العبد إلى الله تعالى تحت قوله " وإِياك َنسَتعين " .

وقيل: إن أعرابيًا وقف بالموقف فقال : إلهي إليك خرجت وأنت أخرجتني ، ولك وقفت وأنت أوقفتني ، وقد عصيت أمرك وأنت خذلتني ، ومع ذلك لا عذر لي ولا حجة ، فإن رحمتني وعفوت عني فأنت أهل الإحسان ، ولا فقير لك أفقر مني يا سيدي ويا مولاي.

واعلم أن الله تعالى كلَّف العباد صدق الافتقار ، كيلا يتجاوزوا حد العبودية إلى حد الربوبية ، ومن الإرادات العقلية إلى الإرادات الهوائية ، ومن الصفاوة الروحية إلى الكدورة النفسية ، ومن الهمم العلوية إلى الهمم السفلية.

قال الله تعالى لنبيه الأعظم عليه الصلاة والسلام : " َليس َلك من الأَمر شيء " ، وقال سبحانه : " ُقلْ إِن الأَمر ُكلَّه للهِ " ، وقال : " بلْ للهِ الأَمر جميعًا " وقال : " أَلا َله الخلْق والأَمر " ، نعم صلاح العبد بالافتقار ، نعم الاستعانة بالمستعان ، َنعم سبب الوصول إلى طريق الهداية واللحوق بأهل الولاية الافتقار.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء نوفمبر 21, 2012 7:08 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الثلاثون

أخبرنا الشيخ الثقة العارف بالله تعالى خالي أبوبكر بن يحيى النجاري الأنصاري الواسطي رضي الله عنه : قال: أخبرنا أبو غالب محمد بن عبد الواحد القزاز ، قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي ، قال: أخبرنا إسحاق بن سعيد ، قال : أخبرنا محمد بن هارون ، قال: أنبأنا أبو آمنة محمد بن إبراهيم ، قال : أخبرنا محمد بن سابق ، قال : أخبرنا إبراهيم بن طهمان ، عن منصور ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا راح أحدكم الجمعة فليغتسل " .

وهذا الحديث الشريف فيه من إعظام مناجاة الله الغاية ، فإن العبد إذا صلى ناجى ربه ، سيما في يوم الجمعة ومشهدها ، فإنه من أعظم مشاهد الحضرة.

والاغتسال عبارة عن غسل القلب والقالب من الوجودات ، هذا مع ما فيه من فضيلة التطهر الشرعي ، وهذا سر من أسرار الاغتسال ، ولم يكن من حكم شرعي إلا فيه من الأسرار الباطنة والظاهرة ما تحير له العقول.

أّي بَني ، اعلم أن من نظر في حسن تدبير الله تعالى ولطائف صنعه وكمال قدرته في كل شيء ، علم أنه تعالى قائم على نفسه بما كسبت ، وأن نواصي العباد بيده يقلبهم كيف يشاء ، وأن سعادتهم وشقاوتهم في ماضي حكمته ، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، فمتى تحقق ذلك اعتصم بالله واستسلم له وفوض الكّلية إليه ، وقام بقدم الاضطرار بين يديه ، وبقي بلا حول ولا قوة ، ولا اختيار ولا تعليق ، ولا تدبير ولا سؤال ، فإن راحة الدارين وسرورهما في الاعتصام بالله ، وهمومهما في الاعتصام بغير الله ورؤية الحول والقوة بالنفس ، ألا ترى قول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : " ُقلْ لا أَملك لَِنفْسي َنفْعًا ولا ضرًا إلا ما َشاء اللهُ " ، ومعاملة الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام في التيه مكافأة لقوله : " لا أَملك إلا َنفْسي وأَخي " ، وقيل في معنى قوله تعالى : " َفاخَْلع نعَليك " أي اخلع عن قلبك أهلك وولدك وكل ما سوى الله ، ثم قال تعالى : " وما تلْك ِبيمينك يا موسى * َقالََ هي عصاي " أضافها إلى نفسه ، قال ما تصنع بها قال : " أََتوكأُ عَليها " فقال له : " أَلْقها يا موسى * َفألَْقاها َفإَِذا هي حيةٌ َتسعى " ، قال الله تعالى : يا موسى هذه التي قلت أتوكأ عليها صارت عدوة لك ، لتعلق قلبك بغيري ، فرجع موسى بقلبه إلى الله تعالى ، فلما علم ذلك منه : " َقالَ ُخذْها ولا َتخفْ " وقال لنبينا عليه الصلاة والسلام : " ُقلْ َلن يصيبَنا إلا ما َكَتب اللهُ َلَنا " .

يقول الله تعالى : " ما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماء من يديه ووكلته إلى نفسه ، وما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بي دون خلقي إلا أعطيته قبل أن يسألني وأستجيب له قبل أن يدعوني " ، وبلغنا أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام : " وعزتي وجلالي وعظمتي وارتفاعي فوق َخلقي ، لا يعتصم عبد من عبيدي بي دون خلقي فأعلم ذلك من قلبه ، فيكيده السموات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن ، إلا جعلت له من ذلك مخرجًا ، وعزتي وجلالي وعظمتي وارتفاعي فوق َخلقي ، لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني فأعلم ذلك من قلبه ، إلا قطعت عنه الأسباب ثم لا أبالي في أي واد أهلكته ، وأملأ قلبه شغلاً وحرصًا، وأملاً لا يبلغه أبدًا " .

وفي الخبر : " من اعتصم بالله واستعان به ، أحوج اللهُ إليه الناس وأنطقه بالحكمة وجعله من ملوك الدارين ، ومن اعتصم بمخلوق دونه ووكل إليه قلبه عذبه الله وقطع عنه أسباب الدنيا والآخرة ".

وروي أيضًا : " تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم ، وأقبلوا إلى الله تعالى بقلوبكم ، واعتصموا به في جميع أموركم ، لأن العبد إذا أقبل إلى الله بقلبه ، أقبل الله بقلوب العباد إليه ، ومن يعتصم بالله كفاه الله كل مؤنة " .

قيل ليحيى بن معاذ: متى يكون الرجل معتصمًا بالله ؟ فقال : إذا قطع قلبه عن كل علاقة موجودة ومفقودة ، ورضي بالله وكيلاً ، وروي أن الله تعالى قال لداود عليه الصلاة والسلام : ما يتعبد المتعبدون ، ولا يتقرب المتقربون بشيء أبلغ عندي من الاعتصام والتسليم.

وقال عامر بن قيس لأحد العارفين: ادع الله لي: فقال : لقد استعنت بمن هو أعجز منك ، أطع الله واعتصم به ، يعطك أعظم ما يعطي السائلين ، وقال : فيما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام: إن أردت أن تكون قائدًا لأهل الدنيا ، وسيدًا في المنظر الأعلى فكن مستسلمًا راضيًا بحكمي.

وقال الفضيل بن عياض : إني لأستحي من الله أن أقول إني معتصم بالله ، لأن من اعتصم بالله لا يخاف من دونه ، ولا يرجو غيره ، ويقطع قلبه عن علائقه في الدارين.

وقيل في معني قوله : " إنا لله " الآية ، أي نحن عبيد الله وإماؤه ، نتقلب في مشيئته وقضائه ، وَنواصي العباد بيده " وإنَّا إَِليه راجعون" بالرضا عنه ، والتسليم له والاعتصام به ، والتفويض إليه ، وروي أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام : " إِذْهب إلى فرعون إِنَّه َ طغى " ، فقال يا رب أهلي وغنمي ، قال الله تعالى : إذا وجدتني فأي شيء تصنع بغيري ، يا موسى اذهب واعتصم ، واستسلم لي وفوض الأمور إلي ، فإني جعلت الذئب راعيًا لغنمك ، والملائكة حافظين لأهلك ، يا موسى من أنجاك من اليم حين ألقتك أمك فيه ؟ ومن ردك إلى أمك بعده ، ومن أنجاك من عدوك فرعون حين قتلت نفسًا ، ومن أنجاك من المفازة حين فررت من فرعون ؟ وهو يقول في ذلك كله: أنت أنت.

واعلم أن من اعتصم بغيره أو بشيء دونه فهو مخذول ، خارج من حد العبودية ، لأن حد العبودية ترك الاختيار إلى الجبار.

قال الله تعالى : " وربك يخُْلق ما يشاء ويخَْتار ما َكان َلهم الخيرُة " ، " ما يفَْتح اللهُ لِلنَّاس من رحمة َفلا ممسك َلها " ، وقال : " وإن يمسسك اللهُ ِبضر َفلا َكاشف َله إلا هو " وقال تعالى : " ُقلْ َلن يصيبَنا إلا ما َكَتب اللهُ َلَنا " ، وقال تعالى : " ومن يَتوكْلَ عَلى اللهِ َفهو حسبه " .

واعلم أن العبودية مبنية على عشر خصال :

الاعتصام بالله في كل شيء.
والرضا عن الله في كل شيء.
والرجوع إليه في كل شيء.
والفقر إلى الله في كل شيء.
والإنابة إلى الله في كل شيء.
والصبر مع الله في كل شيء.
والانقطاع إلى الله في كل شيء.
والاستقامة بالله في كل شيء.
والتفويض إلى الله في كل شيء.
والتسليم له في كل شيء.

واعلم أن التسليم والاستسلام ، شعبتان من شعب الإيمان والمعرفة ، التسليم هو تسليم الكّلية إلى السلام بالسلامة بلا تخليط ، والاستسلام هو أن يستسلم راضيًا بجميع ما ينزل عليه منه.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد نوفمبر 25, 2012 7:57 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الحادي والثلاثون

أخبرنا شيخنا الجليل أبو الفضل علي القاري القرشي الواسطي رضي الله عنه قال: أنبأنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودي ، قال : أنبأنا أبو محمد عبد الله بن أحمد السرخسي ، قال أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري ، قال : أنبأنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، قال: حدثنا صدقة بن الفضل قال : أخبرنا ابن عيينة ، قال: حدثنا زياد ، هو ابن علاقة ، أنه سمع المغيرة يقول : قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له : " غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال : " أفلا أكون عبدًا شكورا ؟ ".

في هذا الحديث الشريف من الإلزام بالقيام بواجب العبودية غاية الغاية عند من يعقل ، فإن السيد الأعظم ، والكنز المطلسم صلى الله عليه وسلم حالة كونه سر الوجودات وسبب الموجودات والبرزخ الوسط بين الخلق والخالق ، قد فعل في مقام عبديته ما تورم له قدماه الشريفان ، فأين نحن ؟ هات أيها العارف ، ابذل مهجتك اتباعًا لهذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ، وامحق ُكلَّك في اليوم والليلة ألف مرة وأنت بعدها مقصر ، العبودية وصف العارف المحض.

أَي بَني ، قد ذكر اللهُ تعالى في كتب الأنبياء نعت الأصفياء ، يقول الله تعالى: عبدي بي وجدتني ، وبي وقع بيني وبينك عقد المحبة ، وبي صرت من أهل خدمتي ، وبي تعرفني وبي تذكرني وتثني علي ، وبي تتلذذ بذكري ، وبي قصدت صحبتي ، وبي قدرت أن تنظر في الآخرة إلى وجهي ، عبدي نفسك لي ، وروحك لي ، وقلبك لي ، وكلِّيتك لي ، فإن أعطيتني الكل أعطيتك الكل ، وكنت لك مع الكل.

وفي الخبر : أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام: من الذي دعاني فقطعت رجاءه ؟ ومن الذي قرع بابي فلم يفَْتح له ؟ أنا الذي جعلت آمال َخلقي بي متصلة وعندي مدخرة ، يا داود ما لعبدي يعرض عني وأنا أقول إلي ، يا داود أنا محلُّ الآمال ، أنا الذي جعلت طيران قلوب المشتاقين نحوي ، وجعلتها في الأرض مواضع نظري ، وأطلقُتها إلي حتى تزداد شوقًا إلي وقربًا مني ، يا داود بشِّر أوليائي وأحبائي بأني كل ساعة أُريهم كرامتي ولطائف صنعي وحسن امتناني عليهم ، حتى لا ينسوني ولا يميلوا إلى غيري ، وشوقُْتهم إلي حتى لا يصبروا عني ، وفتحت لهم أبواب أُنسي ، واستجبت لهم قبل أن يدعوني ، وأعطيتهم قبل أن يسألوني ، يا داود فوعزتي وجلالي لأقعدنهم في الفردوس ، ولأُ مكَِّننَّهم من رؤيتي حتى أرضى عنهم ويرضوا عني.

يا داود أخبر أهل الأرض بأني حبيب لمن أحبني ، وجليس لمن جالسني ، ومؤنس لمن أنس بي ، وصاحب لمن صاحبني ، ومطيع لمن أطاعني ، ومختار لمن اختارني ، وقل لعبادي هُلموا إلى مصاحبتي ومؤانستي ، وسارعوا إلى محبتي وقربي.

إعلم يا داود أني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي ويحيى زكيي ومحمد حبيبي ، يا داود هل رأيت حبيبًا يبخل على حبيبه ، يا داود ألا إن طال شوق الأبرار إلى لقائي فإني إليهم لأشد شوقًا ، ألا من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني.

يا داود إذا كان الغالب على عبدي الاشتياق لي ، والاشتغال بي ، جعلت راحته ولذته في ذكري وعشقته ورفعت الحجاب بيني وبينه ، أحبه ويحبني حتى لا يغفل إذا غفل الناس ، ولا يسهو إذا سها الناس ، ولا يلهو إذا لها الناس ، أولئك الأبرار حقًا ، يا داود إن طلبتني وجدتني وكفيتك الأسباب ولم أطالبك بالحقوق ، وإن طلبت غيري شغلتك بالأسباب وطالبتك بالحقوق ، يا داود إني جعلت محبتي لمن لا ينساني بلسانه وقلبه ، فإنه لا شيء أنقص عندي من الغفلة والنسيان.

يا داود إن رضيت عني رضيت عنك ، وإن أفردتني بالحاجة أفردتك بالإنجاح ، وإن شكرتني صيرتك ملكًا في الدارين ، يا داود من لم يصبر على بلائنا لا يفزع إلينا ، يا داود إني إذا أحببت عبدًا من عبيدي ملأت قلبه خوفًا مني ، وتشوقًا إلى لقائي ، وحرصًا على طاعتي.

يا داود أوليائي في قبابي لا يعرفهم إلا أحبائي ، فطوبى لأوليائي وطوبى لأحبائي.

يا داود إني لا أنسى من ينساني ، فكيف أنسى من يذكرني ، يا داود إني أجود على من يبخل علي ، فكيف أبخل على من يجود بي ، يا داود إني أحب من يبغضني ، فكيف أُبغض من يحبني ، يا داود بشِّر عبادي السائلين بأني بهم رؤوفٌ رحيم.

يا داود كلُّ حبيب يحب خلوَة حبيبه ، وأنا مطّلع على قلوب أحبائي ، قل للمتلذذين بذكري: هل وجدتم رباً أبر مني ؟ يا داود من أطاعني وهو يحبني أُسكنه جنتي وأُريه وجهي ، ومن عصاني ولم يحبني أدخله ناري وأحلُّ عليه سخطي ، يا داود وعزتي وجلالي لا يجاورني إلا من طلب جواري.

يا داود كذب من ادعى محبتي وإذا جن عليه الليل نام عني ، يا داود من عرفني أرادني ، ومن أرادني طلبني ، ومن طلبني وجدني ، ومن وجدني لا يختار حبيبًا سواي ، يا داود من طلبني قتلته ، ومن أحبني ابتليته ، ومن هرب مني أحرقته . يا داود بشر المذنبين بأني غفور ، وأنذر الصديقين بأني غيور . يا داود من لقيني وهو يخافني لم أعذبه بناري ، ومن لقيني وهو يحبني لم أحزنه بفراقي ، ومن لقيني وهو مستحي مني لم أخجله يوم يلقاني. يا داود جنتي لمن لم يقنط من رحمتي ، وغضبي عمن أخطأ خطيئة فاستعظمها في جنب عفوي ، ولو عاجلت أحدًا بالعقوبة إذًا عاجلت القانطين من رحمتي وما العجلة من شأني ، فها أنا مطَّلع على قلوب أحبائي ، إذا جن الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم ، فخاطبوني علي المشافهة ، وكلموني على الحضور.

يا داود لولا أني ربطت أرواح أحبائي في أبدانهم ، لخرجت الأرواح من أبدانهم شوقًا إلى لقائي ، يا داود إن من عبادي عبادًا جعلتهم للخير أهلاً ، وجعلت لهم المؤانسة نصيبًا ، طوبى لهم وحسن مآب.

وروي أن الله تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام : إني قضيت على نفسي أن لا يحبني عبد من عبادي أعلم ذلك من قلبه إلا كنت سمعه وبصره ولسانه ، وأُبغِّض إليه كل شيء ، وأمنعه شهوات الدنيا ولذاتها وطيب عيشها ، وأطلع عليه في كل يوم سبعين ألف مرة وأزيد له كل ساعة لذائذ حبي وحلاوة أنسي ، وأملأ قلبه نورًا مني حتى ينظر إلى كل ساعة فأمسح برأسه ، وأضع يدي على ألم قلبه حتى لا يشكو منه ، وأنا أسمع خفقان قلبه من الشوق إلى لقائي والخوف من قطيعتي وهو يقول: حقيق علي أن لا يسكن قلبي حتى أصل إليك يا ربي ، يا يحيى : وكيف يسكن قلب المشتاق وأنا غاية منيته ومنتهى أمله ، وهو كل ساعة يتقرب إلي وأتقرب إليه ، وأسمع كلامه وأعلم أسفه وأحب صوته ؟ فوعزتي وجلالي لأنقبنه يوم القيامة منقبًا يغبطه الأولون والآخرون ، ثم آمر مناديًا ينادي من تحت عرشي : هذا فلان ابن فلان ولي الله وصفيه دعاه الله ليقر عيَنه ، ثم آمر برفع الحجاب حتى ينظر حبيبي إلي وأقول : السلام عليك عبدي ووليي ، أبشِّرك.

قال : فغشي على يحيى فلم يفق ثلاثة أيام ، فلما أفاق قال: سبحانك سبحانك ما أكثر توددك إلى أوليائك وأصفيائك ، لا يفصل عنك الأمل ، يا خير صاحب وأنيس ، فنعم المولى أنت ونعم النصير.

وروي أن الله تعالى قال في بعض كتبه : " إذا كان الغالب على قلب عبدي الاشتغال والأنس بي ، رفعت الحجاب بيني وبينه في الباطن حتى كأنه ينظر إلي " .

وروي أن الله تعالى قال في بعض الكتب: وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كلِّ مؤَمل غيري بالإياس ، يؤمل عبدي غيري والخير كله بيدي ، من الذي أملني فقطعت عنه أمله ، ومن الذي رجاني فخيبت رجاءه ، ومن الذي قرع بابي بالدعاء فلم أفتح له ؟ عبدي َتَنعم بذكري فإني نعم الحبيب لك في الدنيا والآخرة ، عبدي ستذكرني إذا جربت غيري بأني لك خير من كل ما سواي ، عبدي أَما استحييت مني أن أعرضت وجهك عني وُتقِبل على غيري؟ عبدي إلى أين تذهب وطريق الوسيلة إلي لا إلى غيري ، عبدي أين من دعاني فلم أجبه ، وأين من سألني فلم أعطه ، عبدي بابي لك مفتوح وعطائي لك مبذول ، وأنا أرحم الراحمين.

وروي أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام: حقَّت محبتي للمتحابين من أجلي ، وحقت محبتي للمتواصلين من أجلي ، وحقت محبتي للمتزاورين من أجلي ، يا موسى إن ذكرتني ذكرتك ، وإن رضيت عني رضيت عنك ، وإن كنت لي فردًا كنت لك الفرد ، وإن لم ترد على حكمي واليتك واصطفيتك ، وقربت مقعدك مني ، يا موسى إذا خفت فخفني حتى أؤمنك ، وإذا أحببت فأحبني حتى أحبك وأُحببك إلى قلوب الصالحين ، وإذا نظرت فانظر إلي حتى أنظر إليك من فوق عرشي.

وروي في بعض الأخبار أن الله تعالى يقول يوم القيامة لأوليائه: يا أوليائي طالما لحظتكم ورأيتكم في دار الدنيا وقد غارت أعينكم وقلصت شفاهكم وخفت بطونكم ، فكلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية ، أوليائي وأحبائي جزائي لكم أفضل البذل ، وفضلي لكم أوفر الفضل ، ومعاملتي إياكم أحسن المعاملة ، ومطالبتي إياكم أشد المطالبة ، أنا مؤنس القلوب ، وأنا علام الغيوب.


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من المكتبة الرفاعية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين نوفمبر 26, 2012 4:57 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

الحديث الثاني والثلاثون

أخبرنا شيخنا الشيخ الجليل أبوالفضل علي الواسطي قال: أنبأنا أبو الحسن عبد الرحمن الداودي قال: أنبأنا أبو محمد عبد الله السرخسي قال : أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري ، قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال بن أبي هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن هذه الآية التي في القرآن : " يأَيها النَِّبي إِنَّا أَرسلَْناك َشاهدًا ومبشِّرًا وَنذيرًا " قال في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا وحرزًا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظٍّ ولا غليظ ، ولا سخاب بالأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا لا إله إلا الله ، فيفتح بها أعينًا عميًا ، وآذانًا صمًا ، وقلوبًا غلفًا ، ولنا بهذا السند عن البخاري قال : حدثنا خالد بن مخلد قال : حدثنا سليمان قال : حدثنا عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الرحم ُ شجَنةٌ من الرحمن ، فقال الله: من وصلك وصلته ، ومن قطعك قطعته " .

فالحديث الأول أفاد أن الله يسعف نبيه صلى الله عليه وسلم حتى يقوم العوجاء بكلمة لا إله إلا الله ، والحديث الثاني أفاد أن الرحم من أشعة نور الرحمن ، من وصلها اتصل ، ومن قطعها انقطع ، والجمع بين السرين في الحديثين ، هو فتح القلب والعين والأذن بالتوحيد الخالص وإيصال القلب بالرحمن ، بحبل الرحمة والشفقة على الخلق ، وبهذا َتعين الأقرب فالأقرب ، يفهم ذلك العارف ، فكلمة التوحيد تفيد الإيمان بالله ، وصلة الرحم تفيد التخلق بخُلق الله ، وهو الرحمن ، وإليه المرجع في المبطن والعيان ، وبه المستعان وعليه التكلان ، وما ذاك إلا لإعظام أمر الله ، وهو من إعظام الله.

قال يحيى بن معاذ: اعرف حرمة من لا تعرف الفضلَ إلا منه ، ولا ترجو الراحة إلا منه ، واستحي منه حق الحياء ، واذكر امتنانه إذ خلقك ولم تك شيئًا ، وزينك بنور المعرفة ، حتى كأنك لم تزل تعرفه ، ولولا فضله ورحمته عليك كيف كنت تعرفه بأنه مولاك من غير أن تراه بعينك ؟ ثم َ طهر سرك وضمائرك من الشك والشبهة والنفاق ، وألبسك من أحسن لباسه ، وتوجك بتاجه بلا سؤال ، ثم دعاك إلى دار السلام ، ويقال: لا يزال المؤمن عظيمًا ما أعظم الله وعظَّم أمره وعظم أولياءه وعرف قدرهم وحرمتهم.

وحكي أن رجلاًَ من ملوك الدنيا قال لشقيق سل حاجتك قال: إني لأستحي من ربي أن أسألك ، ومولاي ناظر إلي يقول سلْ حاجتك بلا حشمة حتى أرضى عنك ولا تسأل غيري فأمقتك.

ودخل على رابعة البصرية جماعةٌ من الزهاد وفيهم سفيان الثوري ، فرأوا لها حالة رثة ، فقال لها بعضهم : أما ُترسلين إلى بعض مواليك ليعطيك شيئًا ؟ فقالت : والله إني لأستحيي أن أسأل الدنيا ممن يملكها ، فكيف ممن لا يملكها.

وقيل لأبي عبد الله : ما صفة المريدين ؟ قال : أن يكونوا مع الناس بأبدانهم ، وقلوبهم تحت العرش كأنهم يرون ربهم فوق عرشه ، ويستحيون أن يسألوه شيئًا سواه.

وفي الخبر : " أرأيتم سليمان وما أُعطي من الملك ، فإنه لم يرفع رأسه إلى السماء تخشعًا لله وحياء منه حتى قبضه الله ".

وقال عامر بن عبد قيس ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إلي منه ، وأن نظره إلي قبلَ نظري إلى ذلك الشيء ، وكان يحيى بن معاذ رحمه الله إذا قرأ :" وَنحن أَقْرب إَِليه من حبل الوريد " قال: إلهي هذا قربك إلى أعدائك ، فكيف قربك إلى أوليائك ؟

وقال شهر بن حوشب رحمه الله : ما رأيت إبراهيم التيمي رافعًا رأسه وبصره إلى السماء قط ، حتى قبضه الله حياء منه ، ومرض العارف داود الطائي رضي الله عنه وهو في جوف بيته ، فقيل له: لو خرجت إلى صحن الدار حتى تهب عليك ريح الهواء ، قال: إني لأستحي من الله أن يراني وأنا أطلب الراحة لنفسي في الدنيا ، ويقال : كان في مصر رجل مجذوم فقال: إنه يعرف اسم الله الأعظم ، فقيل له : لو دعوت الله باسمه الأعظم أن يكشف عنك هذا البلاء ؟ قال : إني لأستحي منه أن يكون لي مراد بخلاف مراده.

وكان سيدنا الإمام الحسين بن الإمام علي عليهما السلام ، إذا توضأ ليصلي أصفر لونه ، وارتعدت فرائصه ، فقيل له في ذلك ، فقال : حقَّ لمن وقف بين يدي رب العرش أن يتغير لونه حياء من إجلاله ، وكان مسلم بن يسار يصلي ، فانهدمت زاوية المسجد ولم يشعر ، وكان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ترتعد فرائصه عند قضاء أمانة لم تحملها السموات والأرض ، وهي الصلاة ولدغت امرأًة حيةٌ في أربعين موضعًا ولم تشعر، من حلاوة الصلاة.

وكان مسلم بن يسار يصلي ، فوقع الحريق في بيته ، وفزع الناس إليه ، حتى أطفؤوها ولم يشعر ، قال الجريري إني لأستحيي من الله أن أنام تكلفًا حتى يصرعني النوم ، وحكي أن معاذة بنت عبد الله ما رفعت بصرها إلى السماء أربعين عامًا وكانت تقول: عجبت لعين تنام، والحبيب إليها ناظر وربما كانت تتفكر في جلاله وعظمته حتى يغشى عليها.

وكان داود عليه الصلاة والسلام لا يرفع رأسه إلى السماء هيبة من إجلاله تعالى ، وقال ابن سنان : ما اتخذ الله إبراهيم خليلاً حتى ألقى في قلبه إجلالاً منه ، بحيث يسمع خفقان قلبه كالطير في الهواء.

علامة السعداء ثلاث:

التمسك بسنة النبي المختار صلى الله عليه وسلم.
والصحبة مع الأولياء الأخيار.
والحياء من الملك الجبار.

ومكتوب في الزبور: يا داود إني لأستحيي من عبدي أن أرده إذا دعاني ، وإن عبدي لا يستحيي أن أدعوه فلا يجيبني.

قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ، قال الفضيل : إلهي ارحم من لو عقل لم يتكلم من الحياء.

وحكي أن عامر ابن قيس كان يصلي ، فاكتنفته السباع ، فلما انفلت من صلاته مسح ظهورهم بيده ، وقال : أنتم كلاب الله ، وأنا عبد الله ، فقيل له: هل هبت منهم ؟ قال : إني لأستحيي من ربي أن أهاب شيئًا دونه.

وقال صالح المري : رأيت ربي في المنام ليلة ، قلت: لبيك لبيك ، وصرت كالبعوضة من إجلاله ، فقال: يا صالح إني لخبير بالمريدين ، وإني أسمع أنينهم ، وأرى حركاتهم ، وإني لمطلع على سرائرهم وضمائرهم ، قال : فدهش عقلي حياء منه ، وحكي أن الحسن البصري صعد موضعًا يؤذن للصلاة ، فلما قال : أشهد أن لا إله إلا الله ُغشي عليه من إجلاله.

وقالت عائشة رضي الله عنها : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه ، فإذا حضرت الصلاة كأنه لم يعرفنا ولم نعرفه" ، وقال بعض أهل المعرفة في معنى قوله عليه الصلاة والسلام : " جعلت قرة عيني في الصلاة "، لم تكن الصلاة قرة عينه ، ولكن إذا قام للصلاة رأى فيها ما تقر عينه ، لقوله : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ".

وقال الفضيلُ بن عياض: صليت خلف ذي النون صلاة العصر ، فلما أراد أن يكبر ، رفع يديه وقال: الله ، َفبهتُّ وبقي كأنه جسد لا روح فيه من إجلاله ، ثم قال : أكبر ، فظننت أن قلبي ينخلع من هيبة تكبيره.

قـلَّ حيـاء النـاس من ربهـم
فـكــلـُّهـم يـظـهـر تـقـواه
ليس يبالي الخبث في ثوِبه
من بالى في عاجل دنياه
يـخـاف أن يـمـقـتـه أهُـلـه
ولا يـبـالـي مـقـت مـولاه


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 123 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 3, 4, 5, 6, 7, 8, 9  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 13 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط