بسم الله الرحمن الرحيم
دراسة شاملة عن الفرق الدينية اليهودية القديمة والمعاصرة
من عمل الاستاذ عبدالوهاب محمد الجبوري ملخص رائع
المقدمة
تقوم الديانة اليهودية ، حسبما يذكر اليهود أنفسهم ، على جملة أصول ، هي عقيدة توحيد الله ، وعقيدة الاختيار الإلهي لبني إسرائيل، وشعب الله المختار، وأبناء الله وأحباؤه ، وعقيدة توريث الأرض المقدسة فلسطين لإبراهيم عليه السلام ونسله من بني إسرائيل ، وعقيدة المخلص المنتظر أو المسيا أو الماشيح كما يسمونه ..
وحسب التيار اليهودي العام، وكما ذكر موسى بين ميمون، والذي يُعدُّ أحد أعظم علمائهم وفقهائهم، فإن اليهود يؤمنون بأن الله واحد ليس له مثيل، وأن العبادة تليق به وحده، وأنه مُنـزّه عن التجسيد وعن أعراض الجسد، وأنه الأول والآخر، وأنه عالمٌ بأحوال البشر، وأنه يجازي الذين يحفظون وصاياه ويعاقب من يخالفها، وأن هناك حياة بعد الموت ، وأن اليهود يؤمنون بشريعة موسى، وأنها غير قابلة للنسخ .. كما يؤمنون بعقيدة المخلّص المنتظر، ولا تزال الأصول الثلاثة عشر للدين اليهودي، التي ذكرها موسى بن ميمون، تمثل مرجعاً أساسياً لليهود لفهم دينهم، غير أن دراسةً أكثر دقة لعقائد اليهود وفرقهم وتوراتهم وتلمودهم مع العودة إلى ما ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم في القرآن الكريم، ستظهر مدى التشويه الذي لحق بمفهوم التوحيد، ومدى تحريف التصور عن الله سبحانه، كما سنرى في دراستنا هذه لأهم العقائد الدينية اليهودية ، وفي دراسات أخرى لاحقة عن التوراة والتناخ ( العهد القديم ) وما لحق بهما من تحريف وتبديل بنص القران الكريم وأدلة أخرى ذكرها المفسرون المسلمون والمؤرخون اليهود والمسيحيون أنفسهم سنوردها في حينه إن شاء الله ، فضلا عن هذا ، فأن الله سبحانه لم يتعهد لليهود بحفظ توراتهم، وعاشوا معظم فترات تاريخهم تحت دول وحضارات مختلفة حاولت فرض هيمنتها عليهم، وتأثروا بالثقافات والتقاليد المتعددة التي عايشوها، في أزمان وبقاع شتى ..
ويدعي اليهود أن عقيدتهم هي عقيدة القلة المثالية المختارة، وأن الرسالة اليهودية العالمية هي نشر السلام بين بني الإنسان، وتنحصر العقيدة اليهودية في بني إسرائيل وحدهم، أي أن هناك تطابقاً بين العقيدة والقومية ، وحسب اختيار التيار العام لليهودية والمتبني في الكيان الإسرائيلي فإن اليهودي هو المولود لأم يهودية بغض النظر عن إيمانه أو تدينه ..
ولقد اخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن افتراق أمة اليهود، وأنهم سيفترقون على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وما زال هذا الافتراق حاصلا إلى عصرنا الحاضر، وإن كنا نراهم يحاولون الاجتماع في دولة غاصبة ، ولكن حقيــقة أمرهم أنهم مفــترقون، وصدق الله العظيم : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر آية 14) .. وفي قراءة متأنية لتاريخ الديانة اليهودية وعقائدها والأحداث التي مرت بها نقرأ عن فرق يهودية كثيرة قديمة ومعاصرة من ابرزها : الفريسيون ، الغيورون ، الصدوقيون ، الاسينيون
( او الاساة او المتقون ) ، البناءون ، المعالجون ( ثيرابيوتاي ) ، المغارية ، عبدة الاله الواحد ، القراءون ، الكــتبة ، السامريون ، القبّالاه ، العيسوية ، اليوذعانية ، الموشكانية ، الحسيدية ، الاصلاحيون ، اليهودية المحافظة ، اليهودية الارثوذوكسية ، اليهودية الليبرالية ، النيولوج ، وفرقة اليهود البشرية ، وقبل أن نأتي عن كل فرقة أو طائفة كي يكون العرب والمسلمون على بينة من الاتجاهات التي تنتمي إليها هذه
الفرق ويكونون واعين بعدوهم المتربص بهم وعارفين بمدى ضعفه وتفرقه على حد سواء ، نشير إلى مسالة الخلافات بين الفرق الدينية اليهودية ..
الخلافات بين الفرق الدينية اليهودية و أزمة اليهودية
ظهر خلال تاريخ اليهود ، القديم والحديث ، الكثير من الفرق الدينية واختلافاتها المتشعبة من حيث المعتقدات والأصول وقدسية أجزاء العهد القديم والنظرة إلى الكون والتعامل في داخل المجتمع اليهودي وخارجه فهي في الواقع ليست كالاختلافات التي توجد بين الفرق المختلفة في الديانات التوحيدية الأخرى ، ومن ثم، فإن كلمة
( فرقة ) لا تحمل في اليهودية الدلالة نفسها التي تحملها في سياق ديني آخر، فلا يمكن، على سبيل المثال، تصوُّر مسلم يرفض النطق بالشهادتين ويُعترَف به مسلماً، أو مسيحي يرفض الإيمان بحادثة الصلب والقيام ويُعترَف به مسيحياً.. أما داخل اليهودية، فيمكن ألا يؤمن اليهودي بالإله ولا بالغيب ولا باليوم الآخر ويُعتبر مع هذا يهودياً حتى من منظور اليهودية نفسها ، وهذا يرجع إلى طبيعة اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تراكمياً يضم عناصر عديدة متناقضة متعايشة دون تمازج أو انصهار، ولذا، تجد كل فرقة جديدة داخل هذا التركيب من الآراء والحجج والسوابق ما يضفي شرعية على موقفها مهما يكن تطرفه ..
وأولى الفرق اليهودية التي أدَّت إلى انقسام اليهودية فرقة السامريين التي ظلت أقلية معزولة بسبب قوة السلطة الدينية المركزية المتمثلة في الهيكل ثم السنهدرين ..
ولكن، مع القرن الثاني قبل الميلاد، خاضت اليهودية أزمتها الحقيقية الأولى بسبب المواجهة مع الحضارة الهيلينية ، فظهر الصدوقيون والفريسيون، والغيورون الذين كانوا يُعَدون جناحاً متطرفاً من الفريسيين، ثم الأسينيون .. وقد حققت هذه الفرق ذيوعاً، وأدَّت إلى انقسام اليهودية ، ولكنها اختفت لسببين: أولهما انتهاء العبادة القربانية بعد هدم الهيكل، ثم ظهور المسيحية التي حلت أزمة اليهودية في مواجهتها مع الهيلينية ، إذ طرحت رؤية جديدة للعهد يضم اليهود وغير اليهود ويحرر اليهود من نير التحريمات العديدة ومن جفاف العبادة القربانية وشكليتها..
وجابهت اليهودية أزمتها الكبرى الثانية حين تمت المواجهة مع الفكر الديني الإسلامي ، فظهرت اليهودية القرائية كنوع من رد الفعل، فرفضت الشريعة الشفوية وطرحت منهجاً للتفسير يعتمد على القياس والعقل، أي أنها انشقت عن اليهودية الحاخامية تماماً ، ويمكن أن نضيف إلى الفرق اليهودية يهود الفلاشاه ويهود الهند الذين لا يشكلون فرقاً بالمعنى الدقيق، فهم لم ينشقوا عن اليهودية الحاخامية بقدر ما انعزلوا عنها عبر التاريخ وتطوَّروا بشكل مستقل ومختلف، فهم لا يعرفون التلمود أو العبرية، كما أن كتبهم المقدَّسة مكتوبة باللغات المحلية .. وتجدر ملاحظة أن ثمة فرقاً صغيرة، مثل الإبيونيين والمغارية والعيسوية والثيرابيوتاي وغيرها، وهي فرق صغيرة لكل منها تصوُّرها الخاص عن اليهودية، ولكنها، نظراً لعزلتها، لم تؤثر كثيراً في مسار اليهودية وقد اختفى معظمها من الوجود..
أما القرّاءون، فإنهم بعد عصرهم الذهبي في القرن العاشر، سقطوا في حرفية التفسير، الأمر الذي قلَّص نفوذهم حتى تحولوا إلى فرقة صغيرة آخذة في الاختفاء..
وقد جابهت اليهودية أزمتها الكبرى الثالثة في العصر الحديث (في الغرب) مع الانقلاب التجاري الرأسمالي الصناعي ، وقد ظهرت إرهـاصات الأزمـة في شـكل ثورة شبتاي تسفي على المؤسسة الحاخامية، فهو لم يهاجم التلمود وحسب، وإنما أبطل الشريعة نفسها، وأباح كل شيء لأتباعه، الأمر الذي يدل على أن تراث القبَّالاه الحلولي، الذي يعادل بين الإله والإنسان، كان قد هيمن على الوجدان الديني اليهودي، وقد وصف الحاخامات تصوُّر القبَّاليين للإله بأنه شرك ، وبعد أن أسلم شبتاي تسفي، هو وأتباعه الذين أصبحوا يُعرفون بالدونمة ظهر جيكوب فرانك الذي اعتنق المسيحية (هو وأتباعه) وحاول تطوير اليهودية من خلال أطر مسيحية كاثوليكية ، وقد تفاقمت الأزمة واحتدمت مع الثورة الفرنسية، حيث إن الدولة القومية الحديثة في الغرب منحت اليهود حقوقهم السياسية، وطلبت إليهم الانتماء السياسي الكامل، الأمر الذي كان يعني ضرورة تحديث اليهود واليهودية وما تسبب عن ذلك من أزمة أدَّت إلى تصدعات جعلت أتباع اليهودية الحاخامية التقليدية (أي اليهود الأرثوذكس) أقلية صغيرة، إذ ظهرت اليهودية الإصلاحية ثم المحافظة ثم التجديدية، وهي فرق أعادت تفسير الشريعة أو أهملتها تماماً، واعترفت بالتلمود أو وجدت أنه مجرد كتاب مهم دون أن يكون مُلزماً.. كما أنها عَدَّلت معظم الشعائر، مثل شعائر السبت والطعام، وأسـقطت بعضـها، وعَدَّلت أيضاً كتب الصلوات وشـكل الصلاة، أي أن فهمها لليهودية وممارستها لها يختلف بشكل جوهري عن اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية ، ومن الواضح أن هذه الفرق الجديدة هي الآخذة في الانتشار، في حين أن الأرثوذكس يعانون من الانحسار التدريجي ، ومنذ أيام الفيلسوف إسبينوزا، ظهر نوع جديد من اليهود لا يمكن أن نقول إنه فرقة ولكن لابد من تصنيفه حيث يشكل الأغلبية العظمى من يهود العالم (نحو 50%). وهذا النوع من اليهود هو الذي يترك عقيدته اليهودية، ولكنه لا يتبنى عقيدة جديدة، وهو لا يؤمن عادةً بإله على الإطلاق، وإن آمن بعقيدة ما فهو يؤمن بشكل من أشكال الدين الطبيعي أو دين العقل أو دين القلب، ولا يمارس أية طقوس.. وهؤلاء يُطلَق عليهم الآن اسم ( اليهود الإثنيون )، أي أنهم لا ينتمون إلى أية فرقة دينية تقليدية أو حديثة، ولكنهم مع هذا يسمون أنفسهم يهوداً لأنهم ولدوا لأم يهودية ، وتنعكس الخلافات بين الفرق اليهودية المختلفة على الدولة الصهيونية الأمر الذي يزيد صعوبة تعريف الهوية اليهودية ..
مما تقدم يؤكد تنوع الهويات اليهودية وعدم وجود هوية يهودية واحدة ، فهناك ثلاث جماعات يهودية أساسية ، يؤمن أعضاؤها باليهودية الحاخامية وهي: السفارد والإشكناز والإسرائيليون .. وتوجد عشرات من الجماعات الصغيرة الهامشية تؤمن بأشكال مختلفة من اليهودية بدرجات متفاوتة ، ورغم تنوع هويات أعضاء الجماعات اليهودية ، يدعى الصهاينة أن ثمة (وحدة يهودية عالمية) ، وهو تصور أبعد ما يكون عن واقع أعضاء الجماعات اليهودية وفرقها وطوائفها ، فمثلاً من الجماعات اليهودية الهامشية توجد أنواع أربعة في الهند ، لا تنتمي إلى أي من الكتل الثلاث الرئيسية ، كما أن جماعة يهود الصين تختلف عن جماعات الهند ، وفي القوقاز هناك يهود جورجيا ويهود بخارى ويهود الجبال ، وهناك
( اليهود السود ) ومنهم الفلاشا والعبرانيون السود ، والنوع الأول يعيش في إثيوبيا.. أما العبرانيون فيعيشون في أميركا .. وهناك أيضا جماعات سوداء يهودية في غرب أفريقيا، بالإضافة إلى اليهود المستعربة، الذين عاشوا في البلاد العربية وأصبحوا عربًا ، وهناك السامريون الذين يعيشون في نابلس الآن ، وهناك أيضا القراؤون ، ويهود الدونمة ، ويهود شبه جزيرة القرم واليهود الأكراد ، واليهود الإيرانيون وغيرهم كثير وكثير، مما لا يمكن معه القول بوجود (وحدة يهودية عالمية )، حيث إن هؤلاء لا يختلفون عن أهل المناطق التي يعيشون فيها ، فاليهودي العربي مثلاً يتكلم العربية وهو جزء من الثقافة والحضارة والسلوك في المنطقة ، وهكذا .. فضلا عن ذلك فان الهوية اليهودية تنقسم إلى ثلاثة أقسام أساسية ، كما يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري ، خارج فلسطين المحتلة : وهي هوية ذات ملامح يهودية عرقية أو دينية ، والبعد اليهودي فيها هامشي باهت ، لا يؤثر كثيرًا في سلوك أعضاء الجماعات اليهودية ، وداخل فلسطين المحتلة: وهي هوية جديدة تمامًا لا علاقة لها بكل الهويات السابقة ، وهي جيل ( الصابرا ) , ويتنبأ الدارسون بأن هؤلاء ( الصابرا) (وهم الجيل الذي نشأ في فلسطين المحتلة ولم يأت من الخارج) سيكونون أغيارًا (هو الاسم الذي يطلقه اليهود على غيرهم) يتحدثون العبرية ، لا تربطهم بأعضاء الجماعات اليهودية في العالم سوى روابط واهية لا تختلف كثيرًا عن روابط اليونانيين المحدثين بالإغريق القدامى ، ثم هناك اليهود المتدينون (الأرثوذكس) ، وهم أقلية صغيرة خارج إسرائيل وأقلية كبيرة داخلها . . كل هذا التنوع وكل هذه الأزمات التي مرت بها اليهودية – وما تزال – يشكل تحديا
جديا للتجمع الصهيوني داخل فلسطين وخارجها ، وقد تؤدي إلى زعزعته لكنها قد لا تؤدي إلى انهياره من الداخل ، لان المقومات الأساسية لحياة هذا التجمع ووجوده تعتمد أيضا على عنصرين مهمين جدا هما الدعم الأمريكي والغياب العربي ..
الفريسيون
كلمة ( فريسيون) مأخوذة من الكلمة العبرية ( بيروشيم) ، أي ( المنعزلون) ، وكلمة فريسي بحد ذاتها كلمة آرامية ومعناها المنعزل ، وكانوا يلقبون أيضاً بلقب
( حفيريم ) ( الفاء تلفظ v) أي ( الرفاق أو الأعضاء أو الأصدقاء ) والفريسيون هم إحدى الفئات الدينية اليهودية الرئيسية الثلاث التي كانت معروفة عند اليهود وحتى مجيء المسيح عليه السلام ، وهذه الفئات الثلاث، هي: الصدوقيون، والأسينيون والفريسيون ، وحسب بعض المؤرخين فان الفريسيين هم أضيق الفئات الدينية اليهودية من ناحية التعليم ، وقد عرفوا بهذا الاسم الخاص في عهد يوحنا هركانوس الأول ( 135 – 104 ) قبل الميلاد ، أحد عظماء أشراف اليهود في القرن الثاني قبل الميلاد ، وكان هركانوس من تلامذتهم، ولكنه تركهم فيما بعد والتحق بالصدوقيين ، أما ابنه اسكندر ينانوس فقد سعى إلى إضعافهم ، غير أن زوجته ألكساندرة التي خلفته في السلطة سنة 78 قبل الميلاد رعتهم فقوي نفوذهم وأصبحوا قادة اليهود في الأمور الدينية ، ولا شك أن الفريسيين في أول عهدهم كانوا من أنبل الناس خلقاً وأتقاهم تديّناً، غير أنه على مرّ الزمن، تغيرت اخلاقهم ، و فسد جهازهم واشتهر معظمهم بالرياء .. والفريسيون فرقة دينية وحزب سياسي ظهر نتيجة الهبوط التدريجي لمكانة الكهنوت اليهودي بتأثير الحضـارة الهيلينيـة التي تُعلي من شـأن الحكيم على حسـاب الكاهن ، ويُرجع التراث اليهودي جذورهم إلى القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، وانقسموا فيما بعد إلى قسمين: بيت شماي وبيت هليل ، وقد كان الفريسيون يشكلون أكبر حزب سياسي ديني في ذلك الوقت إذ بلغ عددهم - حسب يوسيفوس - نحو ستة آلاف، لكن هذا العدد قد يكون مبالغاً فيه نظراً لتحزبه لهم، بل لعله كان من أتباعهم ، ويُقال إنهم كانوا يشكلون أغلبية داخل السنهدرين، أو كانوا على الأقل أقلية كبيرة ، ويُعَدُّ الفكر الفريسي أهم تطوُّر في اليهودية بعد تبنِّي عبادة يهوه ، وقد كان جوهر برنامجهم يتلخص في إيمانهم بأنه يمكن عبادة الخالق في أي مكان، وليس بالضرورة في الهيكل في القدس، أي أنهم حاولوا تحرير اليهودية، كنسق أخلاقي ديني، من حلوليتها الوثنية المتمثلة في عبودية المكان والارتباط بالهيكل وعبادته القربانية ، ووسعوا نطاقها بحيث أصبحت تغطي كل جوانب الحياة ، إذ أن واجب اليهودي لا يتحدد في العودة إلى أرض الميعاد وإنما في العيش حسب التوراة، وعلى اليهودي أن ينتظر إلى أن يقرر الخالق العودة ، وبهذا، يكون الفريسيون هم الذين توصلوا إلى صيغة اليهودية الحاخامية أو اليهودية المعيارية التي انتصرت على الاتجاهات والمدارس الدينية الأخرى ..
آمن الفريسيون بوحدانية الخالق، وبالماشيَّح، وبخلود الروح في الحياة الآخرة، وبالبعث والثواب والعقاب والملائكة وحرية الإرادة التي لا تتعارض مع معرفة الخالق المسبقة بأفعال الإنسان، وهي أفكار دينية أنكرها الصدوقيون الذين حافظوا على صياغة حلولية وثنية لليهودية ، ثم تزهدوا ولم يؤمنوا بتقديم القرابين إلى المعابد ، ويؤمنون أيضا بالتلمود وبسلطة الحاخامات على اليهود وعصمتهم ، ويتمسكون بمعتقدات الأنبياء والآباء الأولين ويرفضون الإيمان بالأنبياء اليهود المتأخرين ، ويعتقدون أن لا نجاة لليهود إلا بإعلاء سلطة العقيدة اليهودية .. وهم يدعون إلى جعل الكتاب المقدس مشاعا للجميع ، ومن ابرز شعاراتهم انه لو كتبت النجاة لاثنين في الدنيا يجب أن يكون الفريسي احدهما ..
وعمل الفريسيون على وضع الحياة تحت سلطة العقيدة الدينية فتأثر اليهود بهم ونالوا تأييد الطبقات الوسطى وأصبحت لديهم قوة سياسية مؤثرة في المجتمع بفعل دورهم التربوي ، وتتلخص رسالة يسرائيل، حسب وجهة نظر الفريسيين، في مساعدة الشعوب الأخرى على معرفة الخالق وعلى الإيمان به، ولذا فإنهم لم يكونوا كالفرق القومية المغلقة، وإنما قاموا بنشاط تبشيري خارج فلسطين، الأمر الذي يفسر زيادة عدد يهود الإمبراطورية الرومانية في القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي ، وقد بيَّنت هذه الحركة التبشيرية مدى ابتعاد الفريسيين عن الحلولية الوثنية التي تولِّد نسقاً دينياً قومياً مغلقاً، يتوارثه من هو داخل دائرة القداسة ويستبعد من سواه، لأن الإيمان لا يَصلُح أساساً للانتماء ، وقد دخل الفريسيون في صراع دائم مع الصدوقيين على النفوذ والمكانة والامتيازات ، فكانوا يتصرفون مثل الكهنة كأن يأكلوا كجماعة، ويقيموا شعائر الختان، بل حاولوا فرض نفوذهم على الهيكل نفسه على حساب الصدوقيين، وذلك عن طريق ممارسة بعض الطقوس المقصورة على الهيكل خارجه ، وقد قوي نفوذ الفريسيين مع ثراء الدولة الحشمونية والرخاء الذي ساد عصرها بعض الوقت ، وبلغوا درجة من القوة حتى إنهم نجحوا في حَمْل الكاهن الأعظم على القَسَم بأنه سيقيم طقوس عيد يوم الغفران حسب تعاليمهم ، ومع ظهورهم قبل الميلاد بعدة قرون ولغاية مائتي سنة بعد الميلاد ، فأنهم ساروا على منهج عزرا واتبعوه واعتبرونه اكبر معلم يهودي بعد موسى عليه السلام ، وابرز معتقداتهم أن الأسفار الخمسة مخلوقة منذ الأزل ثم أوحيت إلى موسى وهذا المعتقد ناشي عن الاتصال بالثقافة الإسلامية التي تتحدث عن أن القران كان جملة في اللوح المحفوظ ..
الغيورون (قنَّائيم)
كلمة ( غيورون ) ترجمة للفظة العبرية ( قنَّائيم) أو ( نِلهفيم ) ، والغيورون فرقة دينية يهودية، ويُقال إنه جناح متطرف من الفريسيين وحزب سياسي وتنظيم عسكري .. وقد جاء أول ذكر لهم باعتبارهم أتباعاً ليهودا الجليلي في العام السادس قبل الميلاد ، ويبدو أن واحداً من العلماء الفريسيين، ويُدعَى صادوق، قد أيده ، ولكن يبدو أن أصولهم أقدم عهداً، إذ أنها تعود إلى التمرد الحشموني (186 ق.م). ويذكر يوسيفوس شخصاً يُدعَى حزقيا باعتباره رئيس عصابة أعدمه هيرود، وحزقيا هذا هو أبو يهودا الجليلي الذي ترك من بعده شمعون ويعقوب ومناحم (لعله أخوه) .. وقد تولَّى مناحم الجليلي، وهو زعيم عصبة الخناجر، قيادة التمرد اليهودي الأول ضد الرومان (66 ـ 70م)، وذلك بعد أن استولى على قلعة ماسادا وذبح حاميتها واستولى على الأسلحة، ثم عاد إلى القدس حيث تولَّى قيادة التمرد هو وعصبته الصغيرة، فأحرقوا مبنى سجلات الديون، وأحرقوا أيضاً قصور الأثرياء وقصر الكاهن الأعظم آنانياس ثم قاموا بقتله، ويبدو كذلك أن عصابة مناحم كانت متطرفة ومستبدة في تعاملها مع الجماهير اليهودية.. وقد كانت لدى مناحم ادعاءات مشيحانية عن نفسه، كما أنه جمع في يديه السلطات الدينية والدنيوية ، ولذا، قامت ثورة ضده انتهت بقتله، هو وأعوانه، وهروب البقية إلى ماسادا.. وقد استمر نشاط الغيورين حتى سقوط القدس وهدم الهيكل عام 70 ميلادية، ولكن هناك من يرى أنهم اشتركوا أيضاً في التمرد اليهودي الثاني ضد هادريان (132 ـ 135م) ، وكان الغـيورون منقسـمين فيما بينهم إلى فرق متطاحنة متصارعة ، ومن قياداتهم الأخرى، يوحنان بن لاوي وشمعون برجيورا .. ويُعَدُّ ظهور حزب الغيورين تعبيراً عن الانهيار الكامل الذي أصاب الحكومة الدينية وحكم الكهنة.. وقد قام الغيورون، تحت زعامة يهودا الجليلي، بحَثّ اليهود على رفض الخضوع لسلطان روما، وخصوصاً أن السلطات الرومانية كانت قد قررت إجراء إحصاء في فلسطين لتقدير الملكية وتحديد الضرائب.. وقد تبعت حزب الغيورين، في ثورته، الجماهير اليهودية التي أفقرها حكم أثرياء اليهود بالتعاون مع اليونانيين والرومان ، ويتسم فكر الغيورين بأنه فكر شعبي مفعم بالأساطير الشعبية، ولذا نجد أن أسطورة الماشيَّح أساسية في فكرهم، بل إن كثيراً من زعمائهم ادعوا أنهم الماشيَّح المخلص، وقد قدموا رؤية للتاريخ قوامها أن هزيمة روما شرط أساسي للخلاص، وأن ثمة حرباً مستعرة بين جيوش يسرائيل وجيوش يأجوج ومأجوج (روما)، وأن اليهود مكتوب لهم النصر في الجولة الأخيرة.. وعلى هذا، فإن فكرهم يتسم بالنزعة الأخروية التي انتشرت في فلسطين آنذاك، ويُقال إن معظم أدب الرؤى (أبوكاليبس) من أدب الغيورين .. ونظراً لجهل الغيورين بحقائق القوى الدولية وموازينها، وبمدى سلطان روما في ذلك الوقت، قاموا بثورة ضارية ضد الرومان واستولوا على القدس ، وقد تعاونوا مع الفريسيين في هذه الثورة، ولكن الفريسيين كانوا مترددين بسبب انتماءاتهم .. وحينما بدأت المقاومة المسلحة، استخدم الغيورون أسلوب حرب العصابات ضد روما، كما قاموا بخطف وقتل كل من تعاون مع روما، حتى أن الجماهير اليهودية ثارت ذات مرة ضدهم ، وقد قضى الرومان على ثورة الغيورين، واستسلمت القوات اليهودية، وكان آخرها القوات اليهودية في ماسادا بقيادة القائد الغيوري إليعازر بن جايـر، وهـي القـوات التـي آثرت الانتحـار على الاستسلام نظراً لأنها كانت قد ذبحت الحامية الرومانية بعد استسلامها لهم وخشي قائد الغيورين أن يذبحهم القائد الروماني، على عكس القلاع الأخرى (مثل ماخايروس وهيروديام) التي استسلمت للرومان ..
الصدوقيون
الصدوقيون مأخوذة من الكلمة العبرية ( صِّدوقيم ) ، ويُقال لهم أحياناً ( البوئيثيون ( ، وأصل الكلمة غير محدَّد.. ومن المحتمل أن يكون أصل الكلمة اسم الكاهن الأعظم ( صادوق ) (في عهد سليمان عليه السلام ) الذي توارث أحفاده مهمته حتى عام 162 ميلادية.. والصدوقيون فرقة دينية وحزب سياسي تعود أصوله إلى قرون عدة سابقة على ظهور المسيح عليه السلام ، وهم أعضاء القيادة الكهنوتية المرتبطة بالهيكل وشعائره والمدافعون عن الحلولية اليهودية الوثنية .. وكان الصدوقيون، بوصفهم طبقة كهنوتية مرتبطة بالهيكل، يعيشون على النذور التي يقدمها اليهود، وعلى بواكير المحاصيل، وعلى نصف الشيقل الذي كان على كل يهودي أن يرسله إلى الهيكل، الأمر الذي كان يدعم الثيوقراطية الدينية التي تتمثل في الطبقة الحاكمة والجيش والكهنة ، وكانوا يحصلون على ضرائب الهيكل، كما كانوا يحصلون على ضرائب عينية وهدايا من الجماهير اليهودية ، وقد حوَّلهم ذلك إلى أرستقراطية وراثية تؤلِّف كتلة قوية داخل السنهدرين ..
ويعود تزايد نفوذ الصدوقيين إلى أيام العودة من بابل بمرسوم كورش الفارسي (538 ق.م) إذ آثر الفرس التعاون مع العناصر الكهنوتية داخل الجماعة اليهودية لأن بقايا الأسرة المالكة اليهودية من نسل داود قد تشكل خطراً عليهم .. واستمر الصدوقيون في الصعود داخل الإمبراطوريات البطلمية والسلوقية والرومانية، واندمجوا مع أثرياء اليهود وتأغرقوا، وكوَّنوا جماعة وظيفية وسيطة تعمل لصالح الإمبراطورية الحاكمة وتساهم في عملية استغلال الجماهير اليهودية، وفي جمع الضرائب ، ولكن، وبالتدريج، ظهرت جماعات من علماء ورجال الدين (أهمهم جماعة الفريسيين) تلقوا العلم بطرق ذاتية، كما كانت شرعيتهم تستند إلى عملهم وتقواهم لا إلى مكانة يتوارثونها.. وكانوا يحصلون على دخلهم من عملهم، لا من ضرائب الهيكل ، وقد أدَّى ظهور الفريسيين، بصورة أو بـأخرى، إلى إضعاف مكانة الصدوقيين ، ومما ساعد على الإسراع بهذه العملية، ظهور الشريعة الشفوية حيث كان ذلك يعني أن الكتاب المقدَّس بدأت تزاحمه مجموعة من الكتابات لا تقل عنه قداسة..
كما أن الكتب الخفية والمنسوبة وغيرها من الكتابات كانت قد بدأت في الظهور ، وقد ساهم الأثر الهيليني في اليهود في إضعاف مكانة الصدوقيين الكهنة، فقد كان اليونانيون القدامى يعتبرون الكهنة من الخدم لا من القادة ، وكانت جماعات العلماء الدينيين (الفريسيين) أكثر ارتباطاً بالحضارة السامية وبالجماهير ذات الثقافة الآرامية.. لكل هذا، زاد نفوذ الفريسيين داخل السنهدرين وخارجه، حتى أنهم أرغموا الكاهن الأعظم على أن يقوم بشعائر يوم الغفران حسب منهجهم هم. وقد وقف الصدوقيون، على عكس الفريسيين، ضد التمرد الحشموني (168 ق.م)، ولكنهم عادوا وأيدوا الملوك الحشمونيين باعتبار أن الأسرة الحشمونية أسرة كهنوتية (ابتداءً من 140 ق.م) ، ولا يمكن فَهم الصراعات التي لا تنتهي بين ملوك الحشمونيين إلا في إطار الصراع بين الحزب الشعبي (الفريسي) وحزب الصدوقيين .. تنكر هذه الفرقة التلمود ولم تقدس التوراة بشكل مطلق وأتباعها ينكرون البعث واليوم الآخر والثواب والعقاب ، وهم يؤمنون بحرية الاختيار ولا يترقبون مسيحا قادما ..
ومن المهم أن نشير إلى أنهم، برغم رؤيتهم المادية الإلحادية، كانوا يُعتبَرون يهوداً، بل كانوا يشكلون أهم شريحة في النخبة الدينية القائدة ، وقد اعترف بيهوديتهم الفريسيون، وكذلك الفرق اليهودية الأخرى كافة رغم رفضهم بعض العقائد الأساسية التي تشكل الحد الأدنى بين الديانات التوحيدية ، ولعل هذا يعود إلى طبيعة العقيدة اليهودية التي تشبه التركيب الجيولوجي التراكمي، وإلى أن الشريعة اليهودية تُعرِّف اليهودي بأنه من يؤمن باليهودية، أو من وُلد لأم يهودية حتى ولو لم يؤمن بالعقيدة ، وكان الصدوقيون يرون أن الخالق لا يكترث بأعمال البشر، وأن الإنسان هو سبب ما يحل به من خير وشر، ولذا، فقد قالوا بحرية الإرادة الإنسانية الكاملة.. وكانوا لا يؤمنون إلا بالشريعة الشفوية، كما كانوا يقدمون تفسيراً حرفياً للعهد القديم، ويحرِّمون على الآخرين تفسيره ، وكانوا يدافعون أيضاً عن الشعائر الخاصة بالهيكل والعبادة القربانية، ويرون أن فيها الكفاية، وأنه لا توجد حاجة إلى ديانة أو عقيدة دينية مجردة، ولا حاجة إلى إقامة الصلاة أو دراسة التوراة باعتبار أن ذلك شكل من أشكال العبادة .. كانت هذه الفرقة من طبقة الارستقراطيين التي كانت تحمي مصالحها فمالت إلى احترام القوانين طالما اعترفت السلطات الحاكمة بيهوة ، واحترمت ديانة اليهود لذلك لا يميلون الى العنف ... وقيل أن عيسى عليه السلام كان على اتصال بهم في بدء دعوته إلا انه انفصل عنهم بسبب معتقداتهم وإنكار البعث ، ولأنه أدان إدارتهم للهيكل وطرد التجار والصيارفة منه شكل خطرا عليهم الأمر الذي دفعهم إلى مقاومته وعملوا على تسليمه ومحاكمته وقتله حسب التوراة ( ولكن الحقيقة معروفة للمسلمين بنص القران الكريم ) .. والفرق بينهم وبين الفريسيين ان ولاء الصدوقيين كان للدولة في حين جعل الفريسيون ولاءهم للدين ، ويرى الصدوقيون أن يهوه هو اله بني إسرائيل وحدهم وهو اله قومي ، في حين رأى الفريسيون أن يهوه اله جميع العالمين ، ويدعي الصدوقيون أن العزير هو ابن الله ، ويُقال إنه بينما كان الصدوقيون يحاولون (كما هو الحال مع الديانات الوثنية) أن ينزلوا بالخالق إلى مقام الإنسان والمادة، حاول الفريسيون (على طريقة الديانات التوحيدية) الصعود بالإنسان كي يتطلع إلى الخالق ويتفاعل معه ، ويُعَدُّ الصدوقيون في طليعة المسئولين عن محاكمة المسيح في السنهدرين ، وقد اختفت هذه الفرقة تماماً بهدم الهيكل (70م) نظراً لارتباطها العضوي به ..
الأسينيون أو المتقون
الاسم مشتق من اللفظ الآرامي ( اسيا ) بمعنى الطبيب او المداوي ، وسموا بهذا الاسم لأنهم كانوا يتعاطون طب الأرواح ويدعون إبراء المرضى بالصلوات والأوراد كما يدعون العلم بخصائص العقاقير .. ويُقال أيضا أن الكلمة أصلها سرياني ( هاسي ) ، كما يُقـال إنهـا تعـود إلى كلمـة (هوسيوس ) اليونانيــة، أي ( المقــدَّس )، ولعلهـا النطق اليوناني ( أسيديم ) للكلمـة العبرية ( حسيديم ) ، أي ( الأتقيـاء )، ولعلهـا تصحيف للكلمـة العبرية ( حَاشـائيم ) ، أي ( الساكتين ) ، والأسـينيون فرقة دينية يهـودية لم يـأت ذكرها في العهـد الجديـد، ومـا ذُكر عنهـا فـي كتاـبات فيلون ويوسيفوس متناقض ، ولعل هذا يدل على وجـود خـلافات في صفوف الأســينيين أنفسهم الذين لم يزد عددهـم عن أربعة آلاف، وكانـوا يمارسون شعائرهم شمال غرب البحر المـيت في الفترة ما بين القرنين الثاني قبل الميلاد والأول الميلادي .. والأسينيون (فيما يبدو) جناح متطرف من الفريسيين، وتقترب عقائدهم من عقائد ذلك الفريق، ويظهر هذا في ابتعادهم عن اليهودية كدين قرباني مرتبط بهيكل القدس. آمن الأسينيون بخلود الروح والثواب والعقاب، ووقفوا ضد العبودية والملكية الخاصة، بل ضد التجارة، وانسحبوا تماماً من الحياة العامة (على عكس الفريسيين) ،وقد قسَّم الأسينيون الناس إلى فريقين: البقية الصالحة من جماعة يسرائيل، وأبناء الظلام ..
وترقبوا نزول الماشيَّح لينشئ على الأرض ملكوت السماء ويحقق السلام والعدالة في الأرض ، وقد عاش الأسينيون في جماعة مترابطة حياة النساك يلبسون الثياب البيض ويتطهرون ويطبقون شريعة موسى تطبيقاً حرفياً، وكانوا أحياناً يتعبدون في اتجاه الشمس ساعة الشروق .. عاش الأسينيون على عملهم بالزراعة، وكانوا لا يتناولون من الطعام إلا ما أعدوه بأنفسهم، وهو ما زاد ترابط الجماعة (الأمر الذي جعل عقوبة الطرد منها بمنزلة حكم الإعدام) ، ويبدو أنه كان لهم تقويمهم الخاص ..
كان فكر الأسينيين متأثراً بالفكر الهيليني وأفكار فيثاغورث، وبآراء البراهمة والبوذيين، وهو ما كان منتشراً في فلسطين (ملتقى الطرق التجارية العالمية في القرن الأول قبل الميلاد)..
وقد كشفت مخطوطات البحر الميت عن كثير من عقائد الأسنيين ، ومن أهم كتبهم كتاب الحرب بين أبناء النور وأبناء الظلام، وهو من كتب الرؤى (أبوكاليبس)، وهو ذو طابع أخروي حاد.. ويُقال إن الأسينيين آمنوا بيسوع الناصري كواحد من أنبياء يسرائيل المصلحين، ولكنهم رفضوا دعوة بولس إلى العقيدة المسيحية وظلوا متمسكين بالنواميس اليهودية ، ويُقال أيضاً إن الأبيونيين هم الأسينيون في مرحلة تاريخية لاحقة .. ولما ظهرت هذه الفرقة حوالي القرن الثاني قبل الميلاد كـــان عددهم في فلسطين يبلغ أربعة آلاف شخص .. وهي تختلف عن باقي الفرق اليهودية إذ تتكون من جماعة متصوفة متطرفة في تقواها ، وهم يؤمنون بالملائكة والشياطين ويعتقدون بتسلط الأرواح الشريرة على الآدميين ويحاولون طردها بالتعاويذ .. وظل أتباعهم يمارسون طقوسهم الدينية إلى القرن الأول الميلادي ، وحياتهم اقرب إلى الرهبنة ويكرهون الزواج ويمتنعون عن الخمر وكانوا يميلون إلى الاشتراكية ، ويحرمون الأضاحي والقرابين ويحرصون على الطهارة وينكرون التفرقة العنصرية ويحرمون نظام الرق ويسعون إلى سلام دائم ويسعون إلى الاتصال بالله عن طريق التأمل والصلاة .. وكانوا يسمون أنفسهم أبناء النور وحكموا على الآخرين بأنهم أبناء الظلمة .. وهم يؤمنون باليوم الآخر رائدهم في طلب الرضا من الله النبي عاموس ، ويرجح أن يوحنا المعمدان كان واحدا منهم ولا دليل أن السيد المسيح كانت له صلة بهم .. وقد حرموا الذبائح، ولذلك فقد كانوا يقدمون للهيكل قرابين نباتية وحسب ، كما حرموا على أنفسهم، أو على الأقل على الأغلبية العظمى منهم، الزواج ، وقد انقرض الأسينيون كلية في أواخر القرن الأول الميلادي .. ومن الفرق الأسينية جماعة تسمى ( المستحمون في الصباح ) (هيميروبابتست) وهي ترجمة للكلمة اليونانية ( طوبلحاشحريت ) أو ( هيميروبابتست ) والمستحمون في الصباح فرقة يهودية أسينية كان طقس التعميد بالنسبة إليها أهم الشعائر.. ولذا، فقد كان هذا الطقس يُمارَس بينهم كل يوم بدلاً من مرة واحدة في حياة الإنسان .. كما أنهم كانوا يتطهرون قبل النطق باسم الإله ، ويبدو أن يوحنا المعمدان كان واحداً منهم ، وقد ظلت بقايا من هذه الفرقة حتى القرن الثالث الميلادي ..
البناءون (بنائيم)
البناءون ترجمة لكلمة ( بنائيم) العبرية ، وهم فرقة يهودية صغيرة ظهرت في فلسطين في القرن الثاني الميلادي ، ومعنى الكلمة غير معروف بصورة محددة، فيذهب بعض العلماء إلى أن الاسم مشتق من كلمة ( بنا) بمعنى ( يبني ) ، وأن أتباع هذه الفرقة علماء يكرسون جلّ وقتهم لدراسة تكوين العالم (كوزمولوجي) ، ويذهب آخرون إلى أن (البنائيم) فرع من الأسينيين ، ويذهب فريق ثالث إلى أن الاسم مشتق من كلمة يونانية بمعنى ( حمام ) أو (المستحمون) ، ويذهب فريق رابع إلى أنهم أتباع الراهب الأسيني بانوس .. ولعل ربط البنائيم بالأسينيين يرجع إلى اهتمامهم البالغ بشعائر الطهارة والحفاظ على نظافة ملابسهم ..
المعالجون (ثيرابيوتاي)
المعالجون ترجمة لكلمة ( ثيرابيوتاي) المأخوذة من الكلمة اليونانية ( ثيرابي ) أي ( العلاج ) ، وتعني ( المعالجون) ، والمعالجون (ثيرابيوتاي) فرقة من الزهاد اليهود تشبه الأسينيين استقرت على شواطئ بحيرة مريوط قرب الإسكندرية في القرن الأول الميلادي، ويشبه أسلوب حياتهم أسلوب الأسينيين وإن كانوا أكثر تشدداً منهم ، وقد كانت فرقة المعالجين تضم أشخاصاً من الجنسين، وأورد فيلون في كتابه كل ما يعرفه عنهم، فيذكر إفراطهم في الزهد وفي التأمل وبحثهم الدائب عن المعنى الباطـني للنصـوص اليهودية المقدَّسـة.. كمـا يذكـر فيلـون أنهـم كانوا يهتمـون بدراسـة الأرقـام ومضمونها الرمـزي والروحـي، كما كانـوا يقضـون يومهـم كلـه في العبادة والدراسة والتدريب على الشعائر .. أما الوفاء بحاجة الجسد، فلم يكن يتم إلا في الظلام (وهو ما قد يوحي بأصول غنوصية) ..
المغاريــــة
فرقة يهودية ظهرت في القرن الأول الميلادي حسبما جاء في القرقشاني ، وهذا الاسم مشتق من كلمة ( مغارة ) العربية، أي كهف، فالمغارية إذن هم سكان الكهوف أو المغارات، وهذه إشارة إلى أنهم كانوا يخزنون كتبهم في الكهوف للحفاظ عليها، ويبدو أنها فرقة غنوصية، إذ يذهب المغارية إلى أن الإله متسام إلى درجة أنه لا تربطه أية علاقـة بالمادة (فهو يشبه الإله الخفي في المنظومة الغنوصية)، ولهذا فإن الإلـه لم يخـلق العالم، وإنما خلقـه ملاك ينـوب عن الإله في هذا العالم ، وقد كتب أتباع هذه الفرقة تفسيراتهم الخاصة للعهد القديم وذهبوا إلى أن الشريعة والإشارات الإنسانية إلى الإله إنما هي إشارات لهذا الملاك الصانع ، وقد قرن بعض العلماء المغارية بالأسينيين والثيرابيوتاي ..
عبدة الإله الواحد (هبسستريون)
( عبدة الإله الواحد ) ترجمة للكلمة اليونانية ( هبسستريون )، وهؤلاء فرقة شبه يهودية كانت تعبد الإله الواحد الأسمى (والاسم مشتق من كلمة يونانية لها هذا المعنى) ، وقد كان أعضاء هذه الفرقة يعيشون على مضيق البسفور في القرن الأول الميلادي وظلت قائمة حتى القرن الرابع .. ومن الشعائر اليهودية التي حافظوا عليها شعائر السبت والطعام، وكانت عندهم شـعائر وثنيـة مثل تعظيـم النـور والأرض والشـمس، وخصوصاً النار، ومع هذا يُقال إن الأمر لم يصل بهم قط إلى درجة تقديس النار كما هو الحال مع المجوس ..
القراءون
القرّاءون مصطلح يقابله في العبرية ( قرائيم) أو ( بني مقرّا) ، أو ( بعلي هامقرّا) أي (أهل الكتاب ) ، وقد ُسمِّي القرّاءون بهذا الاسم لأنهم لا يؤمنون بالشريعة الشفوية (السماعية) وإنما يؤمنون بالتوراة (المقرّا) فقط (ولذا يمكن القول بأنهم أتباع اليهودية التوراتية، مقابل اليهودية التلمودية أو الحاخامية) ، والقرّاءون فرقة يهودية أسسها عنان بن داود في بابل بالعراق في القرن الثامن الميلادي وانتشرت أفكارها في كل أنحاء العالم ، ولم تُستخدَم كلمة ( قرّائين) للإشارة إليهم إلا في القرن التاسع إذ ظل العرب يشيرون إليهم بالعنانية نسبةً إلى مؤسس الفرقة .. وهذه الفرقة نمت بعد تدهور الفريسيين فورثت الكثير من أتباعها ، وقد اعــترف خلفاء المسلمين بعنان بن داود رئيسا لليهود في المهجر .. وطالب القراءون بنبذ التلمود وعدم الاعتراف إلا بأسفار موسى الخمسة ، ويبدو أن ظهور هذه الفرقة يعود إلى عدة أسباب وعوامل داخل التشكيل الديني اليهودي وخارجه، من أهمها انتشار الإسلام في الشرق الأدنى وطرحه مفاهيم دينية وأطراً فكرية جديدة كانت تشكل تحدياً حقيقياً للفكر الديني اليهودي وبخاصة بعد أن غلبت عليه النزعة الحلولية الموجودة داخله.. وتأثر القرّاءون بعلم الكلام عند المسلمين، وبالعقلانية الإسلامية بشكل عام .. أما مؤسس الفرقة ، عنان بن داود، فقد تأثر بأصول الفقه على مذهب أبي حنيفة ، ويُقال إن اليهود القرّائين يمثلون احتجاج الفرد وضميره الحر ضد عبء السلطة المركزية والتقاليد الجامدة ..
ويبدو أيضاً أنه كانت هناك، منذ هدم الهيكل عام 70م، عناصر دينية رافضة لليهودية الحاخامية من بين بقايا الصدوقيين والعيسويين أتباع أبي عيسى الأصفهاني، وأتباع يودغان ، وقد أخذ القرّاءون عن الصدوقيين فكرة منع إشعال النار يوم السبت،وأخذوا عن العيسويين إيمانهم بأن عيسى (عليه السلام) ومحمداً (صلى الله عليه وسلم) رسولان من عند الله،كما أخذوا الترهب عن أتباع يودغان .. وهناك نظرية تذهب إلى أن يهود الجزيرة العربية الذين وُطِّنوا في عهد عمر في البصرة وغيرها من بقاع العالم الإسلامي، ولم يكونوا يعرفون التلمود، كانوا من أهم العناصر التي ساعدت على انتشار المذهب القرّائي .. ويرجع القرّاءون تاريخهم إلى أيام يُربعـام الأول، حينما انقسـمت المملكة العـبرانية المتحـدة إلى مملكتين: المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية (928 ق.م). أما المؤسسة الحاخامية فكانت تشـيع أن عنان بن داود أسَّـس الفرقـة لأسباب شخصية .. وبعد تطــورات وأحداث تم تنصيب حنانيا الأخ الأصغر لعنن رئيسا عليهم ( أو كما يسمونه الاجزيلارك ) .. وعمل هذا على إعادة النظر في الأسفار الخمسة واحتج على ما ادخله علماء التلمود من تبديل في الشريعة الموسوية ، وامتدح عنن عيسى عليه السلام وقال انه رجل صالح لم يرغب في نبذ شريعة موسى عليه السلام ، وقد تشدد القراءون في تطبيق الطقوس الدينية وامنوا بالجبر لا بالاختيار وحرموا زواج العم من ابنة أخيه وزواج الخال من ابنة أخته وساووا بين الابن والبنت في الميراث وقرروا أن الزوج لا يحق له ترك زوجته وفتحوا باب الاجتهاد في فهم النصوص المقدسة ..
وبعد انشقاقهم عن اليهودية الحاخامية، ظل القرّاءون (حتى بداية القرن العاشر) في حالة جمود يختلفون فيما بينهم وينقسمون .. ويُقال إن يهود الخزر اعتنقوا يهودية قرّائية، وأنهم انتشروا في شرق أوربا بعد سقوط مملكة الخزر، ولذا نجد أن كثيراً من القرّائين في روسيا وبولندا يذكرون أن لغتهم هي التركية ، ومع هذا، دافع القرقساني (أحد مفكريهم) عن هذا الانقسام بقوله : إن القرّائين يصلون إلى آرائهم الدينية عن طريق العقل، ولذا فإن الاختلاف بينهم أمر طبيعي .. أما الحاخامون، فإنهم يدَّعون أن آراءهم، أي الشريعة الشفوية، مصدرها الوحي الإلهي .. فإن كان هذا هو الأمر حقاً، فلا مجال للاختلاف في الرأي بينهم. ومن ثم، فإن وجود مثل هذه الاختلافات يدحض ادعاءاتهم التي تنسب الشريعة الشفوية لأصل إلهي .. ويُلاحَظ أثر التفكير الديني الإسلامي على فكر القرّائين، وخصوصاً في عصرهم الذهبي في منتصف القرن التاسع ، ويُعَدُّ بنيامين النهاوندي، وهو أول من استخدم مصطلح ( قرّائي )، أهم مفكري القرّائين، كما يُعتبَر ثاني مؤسسي الفرقة حيث عاش في بلاد فارس في أواخر القرن التاسع، ثم تبعه مفكرون آخرون من أهمهم أبو يوسف يعقوب القرقساني الذي عاش في القرن العاشر .. وفي الفترة الممتدة بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر، انتشر المذهب القرّائي بين مختلف أعضاء الجماعات اليهودية، خصوصاً في مصر وفلسطين وإسبانيا الإسلامية ، وفي الإمبراطورية البيزنطية قبل الفتح العثماني ، ومع حلول القرن السابع عشر، انتقل مركز النشاط القرّائي إلى ليتوانيا وشبه جزيرة القرم التي يعود استيطان القرّائين إياها إلى القرن الثاني عشر .. وابتداءً من القرن التاسع عشر، يبدأ فصل جديد في تاريخ القرّائين بعد ضم كل من ليتوانيا (عام 1793) وشبه جزيرة القرم (عام 1783) إلى روسيا .. فحتى ذلك الوقت، كانت المجتمعات التقليدية التي وُجد فيها اليهود تُصنَّف كلاًّ من اليهود الحاخاميين واليهود القرّائين باعتبارهم يهوداً وحسب دون تمييز أو تفرقة ، ولكن الدولة الروسية اتبعت سياسة مختلفة إذ بدأت تعامل القرّائين كفرقة تختلف تماماً عن الحاخاميين، فأعفت أعضاء الجماعة القرّائية من كثير من القوانين التي تطبَّق على اليهود، مثل: تحديد الأماكن التي يمكنهم السكنى فيها (منطقة الاستيطان)، وتحديد عدد المسموح لهم بالزواج والخدمة العسكرية الإجبارية، وعدم امتلاك الأراضي الزراعية في مناطق معيَّنة .. وقد حاول القرّاءون قدر استطاعتهم أن يقيموا حاجزاً بينهم وبين الحاخاميين، فقدموا مذكرات للحكومة القيصرية يبينون فيها أنهم ليسوا كسالى أو طفيليين مثل اليهود الحاخاميين، وهي اتهامات كانت شائعة ضد اليهود في ذلك الوقت .. كما أن القرّائين كانوا يؤكدون أنهم لا يؤمنون بالتلمود الذي كانت الحكومة الروسية ترى أنه العقبة الكأداء في سبيل تحديث يهود روسيا .. وقد قام المؤرخ والعالم القرّائي أبراهام فيركوفيتش بإعداد مذكرة موثقة للحكومة القيصرية تبرهن على أن اليهود هاجروا من فلسطين قبل التهجير البابلي، وبالتالي فإن تطورهم الديني والتاريخي مختلف تماماً عن اليهود الحاخاميين. وقد أُعيد تصنيف اليهود القرّائين بحيث اعتُبروا قرّائين روس من أتباع عقيدة العهد القديم .. وقد أثَّر هذا في الهيكل الوظيفي للقرّائين، فبينما كان معظم اليهود الحاخاميين (في القرم) من الباعة الجائلين والحرفيين وأعضاء في جماعات وظيفية وسيطة، كان القرّاءون يحصلون على امتيازات استغلال مناجم الفحم، وكانوا من كبار الملاك الزراعيين الذين تخصصوا في زراعة التبغ (وقد احتكروا تجارته في أوديسا)، كما كانت تربطهم علاقة جيدة مع السلطات القيصرية .. وبلغ عدد اليهود القرّائين في القرم حين ضمها الروس نحو 2400، ووصل العدد إلى 12.907 عام 1910، وإلى عشرة آلاف عام 1932 .. ويصل عددهم الآن حوالي 4571 ، وحينما ضمت القوات الألمانية القرم وأجزاء أخرى من أوربا إبان الحرب العالمية الثانية، قرَّر النازيون أن القرّائين يتمتعون بسيكولوجية عرْقية غير يهودية.. ولذا، فلم تُطبق عليهم القوانين التي طُبِّقت على الحاخاميين ، وقد جاء في بعض المصادر أن موقف القرّائين من أحداث الحرب العالمية الثانية كان يتراوح بين عدم الاكتراث والتعاون مع النازيين .. ويوجد تجمُّع قرّائي آخر في ولاية كالـيفورنيا يضـم حوالي 1200 يهـودي معظــمهم من أصل مصري .. وعند إنشاء الكيان الإسرائيلي ، كان القرّاءون معادين له بطبيعة الحال، ولكن الدعاية الصهيونية والسياسية التي انتهجتها بعض الحكومات العربية والمبنية على عدم إدراك الاختلافات بين الحاخاميين والقرّائين جعلت معظمهم يهاجر من البلاد العربية إلى إسرائيل وغيرها من الدول .. ويبلغ عدد القرّائين في إسرائيل نحو عشرين ألفاً، توجد أعداد كبيرة منهم في الرملة، وزعيمهم وحاخامهم الأكبر هو حاييم هاليفي، ويعيش بعضهم في أشدود.. وهناك اثنا عشر معبداً قرّائياً ومحكمة شرعية ، ويمكن القول بأن معظم القرّائين في إسرائيل من أصل مصري (حيث هاجروا إليها عام 1950)، والواقع أن انتماءهم الديني القرّائي لا يزال قوياً، ولذا فإن ثمة خلافات دائمة بينهم وبين اليهود الحاخامين، الأمر الذي ينعكس على العلاقات فيما بينهم حتى داخل المستوطنات المشتركة ..
الكتبة
أطلقت هذه التسمية على جماعة كانت مهمتها كتابة الشريعة فعرفوا الكثير من المعلومات التي دونوها من الكتب المقدسة واختاروا وظيفة الوعظ والإرشاد وسيلة للرزق ..تسموا بالحكماء والآباء وكانوا يمثلون الزعامة الدينية أيام الحكم الفارسي واليوناني والروماني .. وتطــورت وظيفتهم الدينية إلى فتــح المدارس الخاصة لنشر برامج للتعليم الديني ، وكانت مهمتهم تفسير الشريعة للشعب وابتدأ تنظيمهم مع عزرا الذي كان رئيسهم وهؤلاء الكتبة هم أول من علّم التوراة وهم واضعو الشريعة الشفوية – التلمود ..
السامريون
ظهرت فرقة من اليهود يقطنون منطقة السامرة ( التي كانت عاصمة مملكة إسرائيل التي انشقت بعد وفاة سليمان عليه السلام ) ينكرون قدسية أسفار الأنبياء والمكتوبات من العهد القديم ولا يعترفون بغير الأسفار الخمسة إلى جانب سفر يشوع ، وهذا يعني أن كتابهم المقدس هو أسفار موسى الخمسة أو التوراة وحتى هذه الأسفار الخمسة المتداولة بينهم تختلف عن الأسفار المدونة في نحو ستة آلاف موضع (ويتفق نص التوراة السامرية مع الترجمة السبعينية في ألف وتسعمائة موضع من هذه المواضع ، الأمر الذي يدل على أن مترجمي الترجمة السبعينية استخدموا نسخة عبرية تتفق مع النسخة السامرية وهم ينكرون الشريعة الشفوية ، شأنهم في ذلك شأن الصدوقيين والقرّائين (ومن هنا التشابه بين الفرق الثلاث في بعض الوجوه) كما أنهم يأخذون بظاهر نصوص التوراة ..هذه المجموعة سميت بالسامريين نسبة إلى السامرة ..
يقول الشهرستاني في الملل والنحل : إنهم اثبتوا نبوة موسى وهارون ويوشع بن نون عليهم السلام ، وأنكروا نبوة من بعدهم إلا نبيا واحدا ، وقالوا : إن التوراة ما بشرت إلا بنبي واحد بعد موسى يصدق ما بين يديه من التوراة ويحكم بحكمها ولا يخالفها البتة ، وظهر في السامرة رجل يقال له ( الألفان ) ادعى النبوة وزعم انه هو الذي بشر به موسى ، وانه الكوكب الذي ورد في التوراة انه يضيء ضوء القمر .. وذكر ابن حزم ، أنهم يبطلون كل نبوة في إسرائيل بعد موسى ويوشع ( عليهما السلام ) ويقولون أن مدينة القدس هي نابلس ، ولا يعرفون حرمة البيت المقدس ولا يعظمونه ولا يستحلون الخروج إلى الشام ..
وقد اشتدت العداوة بين هذه الفرق وبقية اليهود عندما رفضوا بناء الهيكل الثاني - حسب رواياتهم - إذ كانوا يعتبرون المكان المقدس لليهودية هو جبل جرزيم ( الجبل المختار ) وليس جبل صهيون وأورشليم ، وهم يؤمنون بعودة الماشيَّح إلى جبل جرزيم برغم أنه لا توجد في أسفار موسى الخمسة أية إشارة إليه ، حتى أنهم أضافوا إلى توراتهم عبارات توحي بقدسية هذا الجبل ، وهم يعتبرون اليهود ضلوا عن طريق اليهودية الصحيح ، لذا فهم يعيشون في عزلة ولا يتزاوجون مع بقية اليهود ، وكان من نتيجة هذه العزلة أن انتشر الجهل بينهم ..
والسامريون كلمة معربة من كلمة ( شوميرونيم) العبرية، أي سكان السامرة ، ويُشار إليهم في التلمود بلفظة ( كوتيم ) وتعني ( الغرباء) .. لكن هذه التسميات هي تسميات اليهود الحاخامين لهم ، وكان يوسيفوس يسميهم الشكيميين نسبةً إلى (شكيم ) (نابلس الحالية) ، ويدعي اليهود أن السامريين ينتمون إلى سلالات غريبة عن بني إسرائيل ، ولكن السامريين يعتبرون أنفسهم من بني إسرائيل أو ( بنو يوسف ) ، باعتبار أنهم من نسل يوسف ، كما يطلقون على أنفسهم اسم ( شومريم ) ، أي (حفظة الشريعة ) ، باعتبار أنهم انحدروا من صلب يهود السامرة الذين لم يرحلوا عن فلسطين عند تدمير المملكة الشمالية عام 722 ق.م ، فاحتفظوا بنقاء الشريعة ..
ومهما كانت التسمية ومهما كان تفسيرها، فمن المعروف تاريخياً أنه، بعد تهجير قطاعات كبيرة من سكان المملكة الشمالية قام الأشوريون بتوطين قبائل من بلاد عيلام وسوريا وبلاد العرب لتحل محل المهجّرين من اليهود، وتسكينهم في السامرة وحولها ، وامتزج المستوطنون الجدد مع من تبقَّى من اليهود، واتحدت معتقداتهم الدينية مع عبادة يهوه ، وقد نتج عن ذلك اختلاف عن بقية اليهود ، لكن الانشقاق النهائي حدث عام 432 ق.م ، بين اليهود والسامريين، بعد عودة عزرا ونحميا من بابل ، حيث دافعا عن فكرة النقاء العرقي ،وثمة قصتان لتاريخ الانشقاق، أولاهما ترد في العهد القديم (نحميا 13/23 ـ28 ): ( في تلك الأيام، كان واحد من بني يوياداع بن الياشيب الكاهن العظيم صهراً لسنبلط الحوروني فطردته من عندي) ، وقد وردت عن يوسيفوس رواية أخرى مفادها أن منَسَّى شقيق الكاهن الأعظم تزوج من ابنة حاكم السامرة سنبلط الثالث (الفارسي)، فخيَّره الكهنة بين أن يطلق زوجته أو أن يتخلى عن مكانته وسلطاته الكهنوتية ، فلجأ منَسَّى لحميه الذي بنى لزوج ابنته هيكلاً على عادة العبرانيين القدامى على جبل جريزيم لينافس هيكل القدس، وأصبح الشاب المطرود كاهن السامريين ، وبعد أن أسس الهيكل انضم إليه عشرات الكهنة الآخرين المتزوجين من أجنبيات وعناصر يهودية أخرى غير راضية عن المؤسسة الدينية في القدس ، ومن الواضح أن ثمة عناصر مشتركة بين القصتين تتمثل في بعض الأسماء والعلاقات الأساسية وفي عملية الطرد ، ومع أن هناك قرناً من الزمان يفصل بين القصتين الأولى والثانية ، فإن من الواضح أنهما تشيران إلى الواقعة نفسها ، ويميل المؤرخون إلى الأخذ بقصة يوسيفوس ويرجعوا بتاريخها إلى زمن نحميا ..
وقد نشبت صراعات بين السامريين وبقية اليهود، لكنهم تعرضوا لكثير من التوترات التي تَعرَّض لها اليهود في علاقتهم بالإمبراطوريات التي حكمت المنطقة.. فبعد أن فتح الإسكندر المنطقة عام 323 ق.م ، هاجر بعض السامريين إلى مصر وكونوا جماعات فيها، وهذه هي بداية الشتات السامري أو الدياسبورا السامرية التي امتدت وشملت سالونيكا وروما وحلب ودمشق وغزة وعسقلان ، وحينما قرر أنطيوخوس الرابع (175 ـ 164 ق.م) دَمْج يهود فلسطين في إمبراطوريته لتأمين حدوده مع مصر، كان السامريون ضمن الجماعات التي استهدف دمجها وإذابتها رغم أنهم أعلنوا أنهم لا ينتمون إلى الأصل اليهـودي ، وحينمـا اسـتولى الحشـمونيون على الحكم (164 ق.م)، واجه السامريون أصعب أزمة في تاريخهم إذ سيطر الحشمونيون على شكيم وجرزيم واستولوا على مدينة السامرة وحطموها، كما حطم يوحنا هيركانوس هيكلهم عام 128 ق.م. ، ومع هذا ، فقد استمر السامريون في تقديم قرابينهم على جبل جرزيم..
كما أن هَدْم الهيكل لم ينتج عنه انتهاء طبقة الكهنة على عكس اليهود أو بني إسرائيل الذين انتهت عبادتهم القربانية المركزية وطبقـة الكهنـة التي تقـوم بها بهـدم هيكـل القـدس ، ويبـدو أن السامريين لم يساعدوا اليهود أثناء التمرد اليهودي الأول، ومـع هذا نشـب تمـرُّد مستـقل في صفـوفهم ضد فســبسيان عام 67 ق.م، وتم قمعـه.. كمــا ثـار السـامريون ضـد الرومان عام 79 ـ 81 م ، فهُدمت شكــيم وبُني مكانها نيابوليس (نابلس) أي ( المدينة الجديدة ) .. وتمتع السامريون بمرحلة ازدهار فكري في القرن الرابع الميلادي تحت قيادة زعيمهم القومي بابا رابا ، ومن أهم مفكريهم الدينيين مرقه الذي عـاش في القرن نفسـه، وكاتب الأناشـيد التي تُسـمَّى ( إمرالم دارا) ..
وقد عانى السامريون من الاضطهاد على يد الإمبراطورية البيزنطية ، وفي عام 529 الميلادي، قام جوستينيان بشن هجمة شرسة عليهم لم تقم لهم قائمة بعدها ، ويُقال إن الرومان سمحوا للسامريين ببناء هيكلهم الذي دمره الحشمونيون حينما رفضوا الانضمام إلى ثورة بركوخبا ، ولكن هذا الهيكل دُمِّر بدوره عام 484 ميلادية ..
وثمة نقاط اتفاق بين السامريين واليهود الحاخاميين قبل ظهور القبَّالاه وحركات الإصلاح الديني اليهودي ، فكلا الفريقين يؤمن بالله الواحد وباليوم الآخر والملائكة ، ولكن السامريين احتفظوا بقدر أكبر من الوحدانية التي تراجعت في اليهودية إلى أن اختفت تماماً تقريباً ، وكانوا يشيرون إلى الخالق بلفظة (إل ) ، أو ( أللا ) القريبة من كلمة ( الله ) ، ولكنهم كانوا أيضاً يسمونه
( يهوه ) .. كما كانوا يؤمنون بأن موسى نبي الله الأوحد وخاتم رسله وبأنه تجسيد للنور الإلهي والصورة الإلهية ، وقبلة السامريين جبل جرزيم بين المقدس ونابلس ، دون سائر اليهود ، ولغة العبادة عندهم هي العبرية السامرية، وكان كتابهم المقدَّس يُكتَب بحروف عبرية قديمة
( مع تحفظ الباحث على تسمية العبرية القديمة التي كانت في أصلها إحدى اللهجات الكنعانية الممزوجة بالفينيقية والآرامية ) ويزعم السامريون أن اللغة والحروف جاءتهم صحيحة من عهد النبي موسى ، ويحتفل السامريون بالأعياد اليهودية مثل يوم الغفران وعيد الفصح، ولكن كانت لهم أعياد مقصورة عليهم وتقويم خاص بهم ، وهم لا يعترفون بداود أو سليمان ( عليهما السلام ) ، ويُلاحَظ أن الأفكار الأخروية لم تلعب دوراً مهماً في التفكير الديني لدى السامريين رغم إيمانهم بالقيامة والحساب في يوم القيامة ، كما حدث مع اليهودية بعد العودة من بابل ، وينفي بعض اليهود عن السامريين صفة الانتساب إلى اليهودية، كما أنهم يعاملونهم معاملة الأغيار في أمور الزواج والموت ، وقد استمر العداء بين السامريين واليهود الحاخاميين، إذ يذهب السامريون إلى أن اليهودية الحاخامية هرطقة وانحراف ، وأن قيادة اليهود الدينية أضافت إلى التـوراة وأفسـدت النص ليتفق مع وجهة نظرها .. ويُعَدُّ السامريون جماعة شبه منقرضة ، وهم، في واقع الأمر، أصغر جماعة دينية في العالم، فعددهم لا يتجاوز خمسمائة، يعيش بعضهم في نابلس ويعيش البعض الآخر في حولون (إحدى ضواحي تل أبيب) وفـــي بعـــض طبعات التلمود، تحــل كلمة
( السامريين) محل كلمة ( الأغيار) حتى تبدو عبارات السباب العنصري وكأنها موجهة إلى السامريين وحدهم وليس إلى كل الأغيار ..
القبالاه ( الصوفية اليهودية )
يعرف التـراث الصـوفي اليهـودي باســم ( القبَّــالاه ) التي مرت بمراحــل عديدة أهمــها
( قبَّــالاة الزوهار) وتُسمَّى أيضاً ( القبَّالاه النبـوية )، و( القبَّالاه اللوريانية ) التـــي يمكن أن تُسمَّى ( القبَّالاه المشـيحانية) ..أما كلمـة ( الصوفية) ، فلها (داخل النسق الديني اليهودي) دلالات خاصة، فهذا النسق يتَّسم بوجود طبقة جيــولوجية ذات طابع حلولي قوي تراكمت داخله ،ابتداءً من العهد القديم، مروراً بالشريعة الشفوية، وقد انعكست هذه الحلوليـة من خـلال شـيوع أفكار، مثل:الشعب المختار وأمة الروح والأرض المقدَّسة ، وتراث القبَّالاه الصوفي تراث ضخم وضع أسس التفسيرات الصوفية الحلولية في الزوهار والباهير وغيرهما من الكتب، وحل محل التوراة والتلمود ، ومن الملاحَظ أيضاً انتشار الحركات المشيحانية الصوفية الحلولية بين الجماعات اليهودية في العالم عبر التاريخ ، فكان التفكير الفلسفي بين اليهود نادراً، ولم يظهر إلا تحت تأثير الحضارات الأخرى، كما أنه كان ينحو منحى حلولياً في أغلب الأحيان، ففيلون السكندري، مثلاً، كان واقعاً تحت تأثير الحضارة الهيلينية، ولم يكن يعرف العبرية مطلقاً، ومع هذا فإن ثمة نزعة حلولية قوية في فلسفته، ولم يترك فكره الفلسفي أي أثر في تطور اليهودية اللاحق ، وكذلك موسى بن ميمون، بطل كل المفكرين العقلانيين اليهود، فقد كان متأثراً تأثراً عميـقاً بحضارته العـربية الإسـلامية .. أما في العصر الحديث، مع ظهور فكر فلسفي يهودي حديث، فإننا نجد إسبينوزا بفلسفته الحلولية على رأس المفكرين.. كما أن أهم مفكر ديني يهودي، مارتن بوبر، كان مهتماً بالتصوف أشد الاهتمام، بل نجده أحد عُمُد التصوف في تاريخ الفكر الحديث في الغرب. والواقع أن الفكر الديني اليهودي الحديث ينحو، في جوهره، هذا المنحى الصوفي الحلولي، والصهيونية هي النقطة التي تظهر عندها الحلولية بدون إله ..
ويعتقد أن القبَّالاه، بمعناها الحالي، ظهرت في فرنسا، وكان من أهم العارفين بالقبَّالاه أبراهام بن داود وابنه إسحق الأعمى اللذان بدآ يتداولان كتاب الباهير (الذي ظهر أول ما ظهر في بروفانس في فرنسا) في القرن الثاني عشر، وانتقل مركز القبَّالاه بعد ذلك إلى إسبانيا حيث نشأت حلقات متصوفة تحاول أن تتواصل مع الإله من خلال التأمل في التجليات النورانية العشرة (سفيروت).. كما كان هؤلاء المتصوفون يهدفون إلى تجديد تقاليد النبوَّة، وإلى الكشف الإلهي من خلال الشطحات الصوفية، ومن خلال التأمل في حروف الكتاب المقدَّس وقيمها العددية وأسماء الإله المقدَّسة ، ومن أهم القبَّاليين أبراهام بن شموئيل أبو العافية (1240 ـ 1291)، وقد وصلت الحركة القبَّالية إلى قمتها بظهور الزوهار الذي وضعه موسى دي ليون المتوفى عام 1305، والذي تستند إليه الأنساق القبَّالية التي ظهرت بعد ذلك ، وكانت مدينة جيرونا في قطالونيا من أهم مراكز القبَّالاه في إسبانيا، وقد قام القبَّاليون بإنشاء مركز لهم في مدينة صفد في فلسطين عام 1421 ..
وكان شيوع القبَّالاه في هذه المرحلة تعبيراً عن رفض التراث التلمودي الذي وضعه الحاخامات وعلماء الدين الذين ارتبطوا بالطبقات الثرية وبيهود البلاط في إسبانيا ،وقد شجع أعضاء هذه الفئات الفلسفة العقلانية واتبعوا في حياتهم العامة والخاصة سلوكاً يتفق مع هذه الفلسفة، ولا ينم عن كبير احترام لبعض العقائد اليهودية (من وجهة نظر العوام على الأقل).. وقد ساهمت القبَّالاه في عزل أعضاء الجماعات اليهودية عن هذا التراث الفلسفي العقلاني الذي أشاعه موسى بن ميمون وغيره من الفلاسفة المتأثرين بكتابات الفلاسفة المسلمين العرب ، وقد كانت كتب الفلسفة تُسمَّى ( الكتب الشيطانية )، وبعد ذلك، انتشرت التقاليد القبَّالية بعد أن أخذت شكلها المحدد في الزوهار، في القرنين الرابع عشر والخامس عشر في إسبانيا ثم في كل إيطاليا وبولندا ، وتُسمَّى القبَّالاه النابعة من الزوهار قبَّالاة الزوهار (ويسميها جيرشوم شولم - القبَّالاه النبوية) ، وازداد الاهتمام بالقبَّالاه بعد طرد يهود إسبانيا وتَصاعُد الحمىَّ المشيحانية، وخصوصاً بما اشتملت عليه القبَّالاه من عقيدة خلاص جماعة يسرائيل ، وقد وُجد واحد من أهم مراكز القبَّالاه في صفد، وكان يضم مجموعة من اليهود السفارد الذين طُردوا من إسبانيا، ومن هنا كان عمق إحساسهم بالكارثة التي حاقت باليهود وبعجزهم الكامل وعزلتهم عن أية مشـاركة حقيقيـة في العمليـات التاريخية ..
ومنذ القرن الثالث عشــر أصــبحت كلمة القبالة تستعمل لوصـف العقيدة السرية بجميع مظاهرها ، وهذه العقيدة السرية ترجع إلى كتاب ظهر في القرن الأول ميلادي يعرف باسم
( يصيرا ) أي كتاب الخلق ، وقد استبدل بعض علمائهم فكرة خلق العالم عن طريق الفيض الرباني كما في ( يصيرا ) بفكرة الضوء والحكمة والعقل ، وعرضوا العقيدة السرية على أنها دراسة أعمق وأكثر نفعا من التلمود واستخدموا في وصف الصلاة بين الله والنفس البشرية لغة الحب الشهواني والزواج التي كان يستخدمها بعض المتصوفة ..
في سنة 1295 نشر موسى بن شيم طــوف الكتاب الثالث من كتب القبالة المــسمى سفر
( زوهر ) أو كتاب المجد ، وجمعت في هذا الكتاب كل عناصر القبالة ، فكرة الإله الشامل لكل شيء والحروف الأربعة المكونة لاسم يهوه وأزلية الروح والأعداد والحروف والتفسير الرمزي لنصوص الكتاب المقدس وتاريخ ظهور المسيح وأزلية الروح والنقط والشرط واستعمال الكتابات الجفرية ... الخ
ويمكن التمييز بين نمطين من التصوف : نظري خاص بالطريق إلى المعرفة والفيض الإلهي ، وعملي اقرب إلى السحر الذي يستخدم التسبيح ورموز الحروف والأرقام .. وكان لهم دراية في الفراسة وقراءة الكف وعمل الأحجية وتحضير الأرواح .. كما يسعون إلى الاتصال الروحي بالله عن طريق الصلاة والتأمل كالأسينيين .. وكانوا ينتظرون نزول المسيح لإقامة مملكة يتمتع فيها الناس بالمساواة .. وبعض القبالين هاجموا التلمود ، وانتشر الاعتقاد بصدق القبالة وبأنها وحي من عند الله انتشارا واسعا بين يهود أوربا ، والحديث يطول عن القبالاه ومراحلها وأنواعها وتصنيفاتها وشخصياتها لكننا نكتفي بهذا القدر منها ، وبقدر تعلقه بدراستنا هذه ..
العيسوية
نسبة إلى عيسى اسحق بن يعقوب الأصفهاني ، وذُكر أن اسمه ( عوفيد الوهيم ) ، أي عابد الله ، كان زمن المنصور وابتدأ دعوته زمن مروان بن محمد ، فاتبعه كثير من اليهود وادعوا له آيات ومعجزات وزعموا انه لما حورب خطّ على أصحابه خطاَ بعود آس ، وقال : أقيموا في هذا الخط ، فليس ينالكم عدو ، فكان العدو إذا بلغوا الخط رجعوا خوفا من طلسم أو عزيمة ، ومع هذا فقد قضى المنصور عليه وعلى أصحابه ، وزعم أبو عيسى انه نبي ، وانه رسول المسيح المنتظر وان للمسيح خمسة من الرسل يأتون قبله .. كما زعم أن المسيح أعلى منزلة من الأنبياء جميعا ولأنه رسوله فهو أفضل الجميع أيضا ، وحرم في كتابه الذبائح كلها ،ونهى عن أكل كل ذي روح ، طيرا كان أو بهيمة ، واوجب عشر صلوات ذكر أوقاتها وخالف اليهود في كثير من أحكام الشريعة المذكورة في التوراة ..
اليوذعانية
نسبة إلى يوذعان ، وهو رجل من همدان ، ذكر أن اسمه كان ( يهوذا ) وقد حث على الزهد وكثرة الصلاة ،ونهى عن اللحوم والأنبذة ، وكان يزعم أن للتوراة ظاهرا وباطنا ، تنزيلا وتأويلا ، وخالف بتأويلاته اليهود عامة ، وخالفهم في التشبيه ومال إلى القدر واثبت أن العقل حقيقة للعبد ، وقدر الثواب والعقاب عليه وشدد في ذلك ..
الموشكانية
أصحاب موشكا ، على مذهب يوذعان ، غير انه يوجب الخروج على مخالفيه ونصب القتال معه ، وقد قتل في منطقة ( قم ) ..
الحسيدية
معنى الحسيد بالعبرية ( التقي ) وهي علم على الحركة الدينية الصوفية التي أسسها باعل شيم طوف ( 1700 – 1761 ) وانتشرت في شرق أوربا بين الطبقات الفقيرة من فقراء الوعاظ والمنشدين والمدرسين .. انقسمت الحسيدية الى فرق عدة ، كل فرقة تدور حول الصدّيق ( القديس ) تتشبه به وتأخذ بأقواله ، وبقدر تفاوت هؤلاء في القدرات الذهنية كان التفاوت بين الفرق على مستويات من النزعات الصوفية مما أشاع جوا من الغيبة الصوفية والشعوذات التي زادت في عزلة اليهود الشرقيين عن التيارات الحضارية في أوربا .. وتحتوي الحسيدية على قدر كبير من الخرافات مثل الإصرار على أن القوة المقدسة الكامنة في حروف اسم ( يهوه ) وإيمانها بظهور المسيح وتأكيدها الخاص بوجـــود الملائكة وعبادتها ، وكان لكل صديق معبد خاص يجتمع فيه مع أتباعه المقربين للصلاة ، وكان الحسيديم يقدمون للصديق الفدية ويكرمونه حتى بعد موته لأنه لا يعد ميتا بنظرهم ، إذ يستمر في الوساطة بينهم وبين الرب وشعب إسرائيل ويلغي الأحكام الإلهية السيئة ..
ومع تأسيس إسرائيل أزداد تقوقعها بالرغم من حالات الإنعاش التي قام بها كبار الحسيديم ، وخاصة مؤسسها الذي كان من دعاة الاستيطان اليهودي في فلسطين .. وقد هاجر الكثير من أبناء الطائفة إلى أمريكا واستقرت غالبيتهم في حي بروكلين بنيويورك حيث المقر الرسمي للرئاسة الدينية للطائفة ، وقد استطاعت الحسيدية ان تجمع بين المبدأ الشخصي والمبدأ القومي في مصطلح الخلاص وأصبحت فكرة الهجرة إلى فلسطين تجسد العلاقة بين خلاص الفرد وخلاص الشعب ، إذ أن انتشار الحسيدية هو الذي يعجل بمجيء المسيح ..
وفي فلسطين شكل الحسيدية طلائع اليهود الاشكناز أواخر القرن الثامن عشر وكانوا يتلقون الدعم المالي من مواطنهم الأصلية .. ومع أن التوجه العام داخل الحركة الحسيدية كان ضد الهجرة إلى فلسطين ، بعد ظهور الحركة الصهيونية ، لكن هذا لم يمنع استمرار الهجرة وتأسيس قرى ومستوطنات خاصة بهم ..
واليهود الحسيديم من الفرق اليهودية التي ظهرت في القرن الثامن عشر الميلادي في أوربا، وقد ساعد على ظهورها سوء الحالة التي كان يعيشها اليهود آنذاك وخيبة أملهم بالمسيح الدجال شبتاي صبي في القرن السابع عشر، وبمرور الزمن كبرت هذه الفرقة وكثر عدد المنتمين إليها حتى أصبح اليوم عدد أفرادها يعدون بمئات الآلاف منتشرين في كثير من بلدان العالم ولهم تأثير كبير في عالم اليهود في داخل إسرائيل وخارجها ، واليهود الحسيديم لا يختلفون كثيراً في معتقداتهم وممارساتهم الدينية عن اليهود الأرثودكس المتشددين الذين يسمون بالعبرية (حريديم (، لكنهم يتميزون عنهم بتركيزهم على الغناء والرقص كجزء من عباداتهم وعلى التزامهم مبدأ اللذة والسعادة كجزء من معتقدهم.. كما أنهم يعتمدون التفسير الباطني (القبلاه) للكتب الدينية اليهودية المقدسة عندهم ، ويتميز هؤلاء أيضاً بتقديسهم لزعيمهم الروحي الذي الصديق الذي هو عادة يرث الزعامة عمن قبله ، وللزعيم الروحي مكانة لا تضاهيها مكانة عند أتباعه.. إذ هو محور حياتهم وموضع أسرارهم ومحل ثقتهم والقاضي بينهم في حل خلافاتهم ، و يعترفون عنده بذنوبهم ويلجأون إليه في حل مشاكلهم ، والحسيديم اليوم مجموعات كثيرة ومتعددة لكل واحدة منها زعيمها ومرشدها الخاص بها . ومن أكبر هذه المجموعات مجموعة اللوبافتش التي يقدر عدد أعضائها بمأتي ألف شخص والتي أصبح مقرها الرئيس في نيويورك بعد الحرب العالمية الثانية ، وهذه المجموعة تقدس زعيمها الروحي أكثر من بقية المجموعات الأخرى ، وكان آخر زعيم لها (مناحم مندل شنيرسون) قد توفي عام 1994 ولشدة تقديس أتباعه له فإنهم يحفظون أقواله وخطبه عن ظهر قلب ويقلدون أفعاله، ويطلبون بركته (وكان يعطيهم دولاراً رمزاً لهذه البركة) وكانوا يحضّرون أنفسهم ليوم أو يومين قبل لقائه والمثول أمامه ويوصون أولادهم بطاعته والإخلاص له ، ومن جملة ما تميز به زعيمهم في حياته تأكيده على قرب ظهور المسيح المخلص وحديثه عنه وذكره له ، وقد طلب من أتباعه أن يجعلوا التفكير بالمسيح المخلص وانتظاره والتطلع إليه نصب أعينهم ومن أهم أولوياتهم ، وكان يقول لأتباعه ( إن كل يهودي له القدرة وعليه الواجب، أن يساعد في مجيء المسيح المخلص ليس غداً أو في وقت ما في المستقبل، ولكن الآن، وفي هذه اللحظة، حتى وكأن الإنسان يفتح عينيه فيرى المخلص أمامه هنا ومعنا في هذا الكنيس لحماً ودماً وروحاً وجسماً ) .. كذلك أمرهم أن ينادوا بعبارة ( نريد المسيح الآن ) وهم يضيفون الكلمة العبرية ( ממש ) ( ممش) التي تعنى حقيقة .. ولكنها أيضا تحتوي على الحروف الأولى من أسم مرشدهم وكان هؤلاء يصرخون بها كلما اجتمعوا تعبيراً عن توقعهم لظهور المسيح وتطلعهم إليه ورغبتهم في رؤيته ، كما أخذوا يضعون في الأماكن العامة في كثــير من مدن العالم الــتي يعيشون فيها لافتات مكــتوب عليها ( المسيح قادم ) ، وأثناء حياة مرشدهم الروحي كان هؤلاء يفسرون بعض الإشارات والرموز في كلامه على أنه هو المسيح الذي وعد به اليهود ، وبدأوا يتناقلون هذا المعتقد سراً فيما بينهم كما أخذوا ينشرون صور زعيمهم ويكتبون تحتها ما يشير إلى أنه هوالمسيح ، وعلى الرغم من أن زعيمهم كان يعرف ذلك، إلا أنه لم يمنعهم وكان يغض الطرف عن فعلهم ، وبعد وفاته حلّت اللغة الصريحة محل لغة الإشارة وأخذوا يعلنون أن زعيمهم الروحي هو المسيح المخلص الذي وعدت به اليهودية والذي سيظهر من قبره في يوم من الأيام ليحقق العدل والسلام في العالم ، وتأكيداً لذلك، فإنهم لم ينتخبوا شخصاً يخلفه كما هي عادة الحسيديم عند موت المرشد الروحي، وهم في الوقت الحاضر لا زعيم روحياً لهم أملاً في ظهور زعيمهم الميت وينتقد بعض اليهود(وبعضهم من أعضاء الفرقة) الحسيديم اللوبافتش ويعتبرون ما يؤمنون به منافياً لما هو منصوص عليه في معتقدات اليهودية التي تقول بأن المخلص هو الذي يولد في آخر الأيام ويعلن عن مسيحانيته عندما يكون حياً ، ولكن اللوبافتش يردون على هذا النقد بأدبيات وكتب نشروها، يؤكدون فيها على صحة معتقدهم ومسيحانية زعيمهم وظهوره من قبره في يوم ما ، ويقولون إن بعث الموتى هو أحد المبادئ الرئيسة في اليهودية ومن أصول الدين فيها فلماذا لا يجوز بعث المسيح .. وهم منذ فترة يقومون بحملات بين اليهود يؤكدون فيها على أن زعيمهم هو المسيح المخلص الموعود الذي سيظهر ويخلص العالم من شروره ، وهم يلصقون صوره في الأماكن العامة في إسرائيل وغيرها، ويضعون تحتها كلمة ( المسيح) ، وفي مستوطنتهم ( كفارخبد ) التي أقاموها في إسرائيل في السبعينات بأمر زعيمهم الروحي، يلصقون على الشبابيك صورته مكتوب تحتها (عاش الملك ) ، وهم بهذا يشيرون إلى زعيمهم .. كما أنهم يوزعون بعض أقواله ويكتبون تحتها ( المسيح الملك ) ، وفي مدارسهم - وهي كثيرة - يبدأ التلاميذ يومهم بجملة (عاش زعيمنا الملك المسيح ) ، كما أن الأولاد في المستوطنة عندما يردون على التلفون يبدأون ردهم بعبارة (عاش الملك المسيح ) ، وفي أحد مواقعهم على الإنترنت ، وهو خاص بمسيحهم ، يقولون إن الموقع صمم بأمر المسيح الملك وهم يذكرون عبارة ( طال عمره إلى الأبد ) بعد أسمه .. ويطلبون من أتباع الفرقة أن يكتبوا رسالة لطلب البركة من مسيحهم وأن يدعو الله أن يعجل ظهوره ، ويقول هؤلاء ( إن الحاخام الذي أحب أتباعه كما لو كانوا أولاده لا يمكن أن يتركهم بلا قيادة، ولأنه فعل ذلك فلابد أنه كان يعلم بأنه سيظهر مرة أخرى ويملأ الفراغ ) ..
ولكي يؤكدوا اعتقادهم هذا، فقد عقدوا مؤتمراً في لندن في نهاية عام 2000 حول موضوع مسيحانية زعيمهم وأسموه المؤتمر الأول ، وقد حضر المؤتمر عدد كبير من أتباع هذه الفرقة وحضره أيضاً بعض الحاخامين من الفرقة ومن غيرها، وقد قال أحد المنظمين لهذا المؤتمر ( إن الهدف من المؤتمر هو التأكيد على إيماننا ومعتقدنا بزعيمنا الروحي نبي هذا الجيل ، ونحن نعتقد اعتقاداً عميقاً بأنه ما زال حياً ويعيش بيننا وسوف لا يخيب أملنا فيه ) ، ولم يكتف هؤلاء بنشر الأدبيات وعقد المؤتمرات عن ظهور مسيحهم، وإنما أخذوا يقومون بخطوات عملية لتأكيد واقعية الفكرة ومصداقيتها ، وأهم هذه الخطوات هي بناء قصر لسكنى مسيحهم ، وقد طلبوا من معماري شهير تصميم قصر ضخم يسكنه زعيمهم عندما يبعث من قبره معلناً مسيحانيته كما يعتقدون .. واختاروا أن يكون موقع قصره في مستوطنتهم المذكورة ، وقد وافق مجلس بلديتها على المشروع .. وقد عمل المعماري نموذجاً للقصر، الذي سيقام على مساحة عشرة آلاف متر مربع ، وهو كما يبدو انه سيكون قصراً ضخماً بكل المقاييس وكتبوا في وصف القصر أنه سيحتوي على قاعات عديدة وغرف كثيرة وحمامات وحدائق ونوافير ماء، وستغطى أرضه بأفضل أنواع المرمر، كما ستكون أبوابه من الذهب، وسيقسم داخله إلى قسمين، أحدهما للمسيح الموعود نفسه، والآخر لزوجته !!
كما سيعلو القصر تاج ضخم مصنوع من الذهب الخالص ، وهم عندما يتحدثون عن القصر يطلقون عليه قصر المسيح الملك ، وأخذوا ينشرون صورته ويقومون بالدعاية له والكتابة عن ضخامته وجماله ، ومنذ فترة يقومون بجمع الأموال لبنائه ، وعندما ينتقدون على ما يقومون به يقولون بأن زعيمهم الروحي هو الذي طلب منهم أن يعملوا كل شيء من أجل المسيح المخلص وقدومه وأنه هو كذلك قد أشار ببناء القصر، وهم يردون على منتقديهم أيضاً بالقول : ( إن كل ملك له قصر وخاصة ملك الملوك ثم كيف لا نبني له سكناً فأين يذهب عندما يظهر؟ هل يذهب إلى الفندق ؟) ! واللوبافتش في عملهم هذا لا يختلفون كثيراً عما قام به أتباع فرقة ( شهود يهوه ) المسيحية الذين بنوا بيتاً ضخماً في إحدى الولايات الأمريكية وسجلوه باسم الأنبياء إبراهيم واسحق وداوود ليكون سكناً لهم عندما يظهرون صحبة المسيح عيسى عندما يظهر مرة أخرى ..
الحسيديــة والصهيونيـة
من المعروف أن معظم المفكرين والزعماء الصهاينة إما نشأوا في بيئة حسيدية، أو تعرَّفوا إلى فكرها الحلولي بشكل واع أو غير واع .. بل إن الصهيونية ضرب من ( الحسيدية اللادينية ) أو الحسيدية داخل إطار حلولية بدون إله ووحدة الوجود المادية .. والدارس المدقق يكتشف أن ثمة تشابهاً بين الحسيدية والصهيونية، فالجماهير التي اتبعت كلاًّ من الصهيونية والحسيدية كانت في وضع طبقي متشابه ، أي جماهير توجد خارج التشكيلات الرأسمالية القومية بسبب الوظائف المالية والتجارية التي اضطلعت بها مثل نظام الأرندا.. لذلك، نجد أن جماهير الحسيدية، شأنها شأن جماهير الصهيونية، تتفق على حب صهيون، الأرض التي ستشكل الميراث الذي سيمارسون فيه شيئاً من السلطة .. كما قامت الحسيدية بإضعاف انتماء يهود اليديشية الحضاري والنفسي إلى بلادهم، وهذه نتيجة طبيعية لأية تطلعات مشيحانية الأمر الذي جعل اليهود مرتعاً خصباً للعقيدة الصهيونية .. كما أن الحسيدية والصهيونية تؤمنان بحلولية متطرفة تضفي قداسة على كل الأشياء اليهودية وتفصلها عن بقية العالم ، وفي الحقيقة، فقد كانت الهجرة الحسيدية التي تعبِّر عن النزعة القومية الدينية فاتحةً وتمهيداً للهجرة الصهيونية .. والصهيونية، مثل الحسيدية، حركة مشيحانية تهرب من حدود الواقع التاريخي المركب إلى حالة من النشوة الصوفية، تأخذ شكل أوهام عقائدية عن أرض الميعاد التي تنتظر اليهود ، ويعتقد المفكر النيتشوي الصهيوني بوبر أنه لا يمكن بعث اليهودية دون الحـماس الحسـيدي، بل يرى أن الرواد الصهاينة قد بعثوا هذا الحــماس ..
ولكن الحسيدية تظل، في نهاية الأمر، حركة صوفية حلولية واعية بأنها حركة صوفية، ولذا فإن غيبيتها منطقية داخل إطارها، ولا تتجاوز أفعالها، النابعة من المشيحانية الباطنية، نطاق الفرد المؤمن بها وأفعاله الخاصة، أما سلوكه العام فقد ظل خاضعاً إلى حدٍّ كبير لمقاييس المجتمع .. ولذا، ظل حب صهيون بالنسبة إلى هذه الجماهير حباً لمكان مقدَّس لا يتطلب الهجرة الفعلية .. أما الصهيونية، فهي حركة علمانية، ذات طابع عملي حرفي .. كما أن الفكرة الصهيونية لا تنصرف إلى السلوك الشخصي لليهودي وإنما إلى سلوكه السياسي.. ولكي تتحقق الصهيونية، لابد أن تتجاوز حدودها الذاتية لتبتلع فلسطين، وتطرد الفلسطينيين بحيث يتحول حب صهيون إلى استعمار استيطاني .. ومما لا شك فيه أن الحسيدية قد ساهمت في إعداد بعض قطاعات جماهير شرق أوربا لتتقبل الأفكار الصهيونية العلمانية الغيبية، عن طريق عزلها عن الحضارات التي كانت تعيش فيها، وإشاعة الأفكار الصوفية الحلولية شبه الوثنية التي لا تتطلب أيَّ قدر من إعمال العقل أو الفهم أو الممارسة ، ولكن هذا لا يعني أن الحسيدية مسئولة عن ظهور الصهيونية، فكل ما هناك أنها خلقت مناخاً فكرياً ودينياً مواتياً لظهورها .. جدير بالذكر أن بعض الحسيديين عارضوا فكرة الدولة الصهيونية وأسسوا حزب أغودات إسرائيل ، ولكن بعد إنشاء الكيان الإسرائيلي ، بل قبل ذلك، أخذوا يساندون النشاط الصهيوني، وهم الآن من غلاة المتشددين في المطالبة بالحفاظ على الحدود الآمنة و( الحدود المقدَّسة) و( الحدود التاريخية لأرض إسرائيل ) ، ولكن هناك فرقاً حسيدية قليلة لا تزال تعارض الصهيونية ودولة إسرائيل بعداوة، من بينها جماعة ساتمار (ناطوري كارتا) ..