مقدمة المترجم : د/ محمد الحداد وهو كاتب وجامعي تونسي، حاصل على الدكتوراه من جامعة السوربون (باريس)، معلّق بصحيفة "الحياة".
النصّ الحقيقي والكامل للمناظرة بين رينان والأفغاني .
لا تكاد تقرأ كتابا عن فكر النهضة إلا وتجد حديثا يطول أو يقصر عن مناظرة مشهورة حدثت سنة 1883 بين الفيلسوف الفرنسي أرنست رينان وأحد روّاد النهضة جمال الدين المعروف بالأفغاني.
لكنّ بحثك سيطول إذا أردت أن تطلع على النصوص الحقيقيّة والكاملة لهذه المناظرة.
فلقد أصبح عاديّا عندنا أن نحذف أجزاء من النصوص أو نغيّبها عن التداول ولا نتحدث إلا عما يروق لنا منها. وهذه إحدى سمات القراءة الأبويّة" التي تمنح الكاتب الحقّ في أن يحدّد لقارئه ما هو مسموح له بقراءته وما هو غير مسموح له.
وهو تصرّف يشبه سلوك الأب الذي يوجّه أبناءه القصّر في ما يقرأون أو ما يشاهدون على شاشات التلفزيون، مع فارق أنّ القرّاء المعنيّين هنا ليسوا أطفالا بل هم كهول راشدون.
لقد ابتدعنا "القراءة الأبويّة" لتكون منهج تعامل مع كلّ ما ندعوه الاستشراق، بمعنى كلّ ما يكتب عنّا من غير وجهة نظرنا وعلى خلاف رؤيتنا لأنفسنا.
ونعتقد طبعا أنّ ذلك لا يمكن أن يكون إلاّ خطأ كلّه لأنّ الحقيقة الكاملة هي بين أيدينا.
ومن العادي أن تجد المؤلفين في المواضيع المختلفة يبدأون بذمّ الاستشراق كما كان القدامي يبدأون بالاستعواذ من الشياطين، وهذا يعني أنّهم قد قرأوا هذا الفكر المدنّس الذي يذمّون واعتبروا ذلك جائزا لهم كما اعتبروا من حقّهم منع أنظار قرّائهم من الاطلاع عليه والاكتفاء بروايتهم له وحكمهم فيه.
كانت هذه الطريقة مستعملة في عهود الهيمنة المدرسية (السكولاستيكيّة) في العصر الوسيط، عندما كانت السلطات الدينيّة تمنح بعض الأشخاص الإذن بالاطلاع على النصوص المريبة للحكم عليها أو ردّ محتوياتها، وتعاقب كلّ من يسعى إلى الاطلاع على نفس النصوص دون ترخيص منها.
مثال ذلك ما حدث سنة 1277 عندما حرّمت جامعة باريس التي كانت آنذاك سلطة لاهوتية في المسيحيّة قراءة نصوص ابن رشد وتداولها مع تشجيعها اللاهوتيّين على الردّ على فلسفة ابن رشد.
وكان ذلك أحد أسباب نشأة صورة أوروبية عن ابن رشد ("الرشدية اللاتينية") مختلفة اختلافا كبيرا عن ابن رشد الحقيقي.
فقد كان من نتائج ذلك الوضع أن انبرى مفكرون أحرار من أوروبا يناصرون ابن رشد بالذبّ عن الآراء التي نسبها له اللاهوتيون وهم يعتقدون أنّها آراؤه الحقيقية.
ومثل هذه الأمثلة كثيرة في تاريخ السكولاستيكية المسيحيّة والإسلاميّة واليهوديّة.
كان من فتوحات الحداثة التي بدأت مع القرن السادس عشر التخلّي عن القراءة الأبويّة حتّى أصبحت تُعتبر من علامات التخلّف الكبرى، وأصبحت القاعدة أن يعامل القارئ معاملة الراشد وأن يقرأ بعينيه لا بعيني غيره، وأن يكون الدافع للقراءة حبّ الفضول قبل أن يكون البحث عن الحقائق المطلقة.
ونشأت على هذا الأساس الفيلولوجيا التي لم تكن مجرّد منهجيّة في التعامل مع النصّ لكنّها فلسفة كاملة حوله، فعملت على اعتبار كلّ نصّ مهما كان نوعه وأهميّته حمى وملكا خاصا لا يجوز التصرّف فيه لا بالحذف ولا بالزيادة ولا بالتأويل المتعسّف.
وهكذا بدأ النشاط المعروف بتحقيق النصوص، وقد أصبح بعد ذلك مهنة لا يطلب من صاحبها أن يكون موافقا أو مخالفا للنصّ داعما أو ناقضا له، بل المطلوب منه أن يكون وفيّا في عرضه للقرّاء.