أقرّ بأن الإسلام حاول خنق العلم وعرقلة تطوّره، فنجح في تعطيل حركة الفكر والفلسفة وأثنى العقول عن البحث عن الحقائق العلمية.
لكن الديانة المسيحية لم تكن على علمي براء مما يشبه هذا، فرؤساء الكنيسة الكاثوليكية وهم الممثلون للأغلبية لم يلقوا إلى الآن أسلحتهم في المعركة ضد العلم.
ومازالوا يحاربون حربا ضروسا ما يدعونه التدليس والضلالة.
إني أدرك أن المسلمين سيواجهون مصاعب جمة في سبيل بلوغ المدنية لأنهم ممنوعون من اقتحام الطرق الفلسفية والعلمية.
والمؤمن عندهم مدعوّ إلى الابتعاد عن طلب الحقيقة العلمية التي هي حقيقة الحقائق، كما يشهد ذلك الأوروبيون.
فهو مثل الثور المقرون إلى العربة، إنه مقرون إلى العقيدة مستعبد لها مدفوع أبدا إلى السير في المنهاج الذي خطه له الفقهاء.
كما نراه مقتنعا بأن دينه حاو كل الأخلاق والعلوم فلا يرى حاجة إلى التطلع إلى مصدر غيره ولا يشعر بفائدة في أن يرهق نفسه بتفكير يبدو غير ذي جدوى بعد أن ساد لديه اليقين بأنه يمتلك كل الحقائق.
هل يفقد الإيمان ويترك ما هو عليه من سعادة أو يدرك أن الكمال ليس الدين الذي يدين به؟
إن الخشية من لفح الحيرة تجعله نفورا من إعمال العقل.
أدرك هذا تمام الإدراك، لكني أخالف السيد رينان في الوصف الذي قدّمه لكم للفتى العربي المسلم عندما رسم هيأته في عبارات قاسية، قائلا إنه يتحوّل بتقدّم السن إلى متعصب أحمق متكبر لشعوره بامتلاك الحقيقة المطلقة.
إن هذا الفتى ينتمي إلى جنس ترك بالغ الأثر عند دخوله حلبة التاريخ، ولم يكن أثره السيف وحده فقد قدّم أيضاً الأعمال الجليلة التي تثبت ولعه بالعلوم، العلوم جميعا ومنها الفلسفة التي اعترف أنه لم يتحمّلها إلا فترة قصيرة.
أراني أساق هنا إلى الحديث عن المسألة الثانية التي طرحها السيد رينان في محاضرته ببراعة واضحة.
لا ينكر أحد أن الأمة العربية خرجت من وضع التوحش الذي كانت عليه في الجاهلية وأخذت تسير في طريق التقدم العلمي والذهني في سرعة لا تعادلها إلا سرعة الفتوحات، فاستوعبت خلال قرن كل العلوم الإغريقية والفارسية التي كانت في منشئها الأصلي قد ّتطوّرت ببطء وامتدّ تطورها قرونا.
وفي مدة لم تتجاوز القرن أيضاً امتدت فتوحات العرب من الجزيرة العربية إلى جبال الهمالايا وقمم البيرنيس.
فتقدمت العلوم تقدّما مدهشا في تلك الفترة وشملت كل مجتمعات العرب والمجتمعات الخاضعة لسلطانهم.
كانت رومية وبيزنطة في السابق مهدين للعلوم اللاهوتية والفلسفية ومركزي أنوار المعارف الإنسانية جميعا، وقد دخل اليونان والرومان عصر المدنية منذ أمد بعيد فكانت لهم القدم الراسخة في ميدان العلم والفلسفة.
ثم جاء عصر توقف فيه علماء اليونان وروما عن البحث وتخلوا عن الدرس، فهدمت النصب التي أقاموها للعلم ودرجت كتبهم القيمة في طي النسيان.
وقد كان العرب في وضعهم الأصلي من الجهل والتعصب حين ورثوا عن الحضارات المتمدنة ما تخلت عنه، ومع ذلك فقد أحيوا العلوم المندثرة وطوروها وأعادوها إلى الحياة بما لم يسبق له مثيل.
أليس هذا دليلا على تعلقهم الفطري بالعلم؟