من مقدمة دكتور محمود محمد شاكر لتعليقه على كتاب أسرار البلاغة للإمام عبد القاهر الجرجاني.
[فقد كنت في صدر شبابي وفي إبان طلبي العلم حين قرأت مقدمة الشيخ رشيد لأسرار البلاغة ، ورأيت ما فيها من الغمز في عمل السكاكي ثم الطعن الشديد في كتب السعد التفتازاني وحواشيه على تلخيص المفتاح للخطيب القزويني ، حتى سماها الرسوم الميتة التي سماها الجهل علما ، واو كما قال فراعني يومئذ ما يقوله الشيخ في السعد التفتازاني الذي أثنى عليه كل من ترجم له ، حتى قالوا : انتهت إليه علوم البلاغة في المشرق ، ولكني حملت ذلك على أنه أراد الرواج لكتابه الذي طبعه ، وهو أسرار البلاغة للإمام الجرجاني ، وظننت أنها زلة تغتفر للشيخ رحمه الله .
ومع ذلك فقد دعاني ما كتبه عن كتب السعد أن أنظر فيها وأقرأها ، فوجدت أنه قد ظلم السعد ظلما بيناً ، لأن الرجل كان يكتب لأهل زمانه ، وما ألفوا من العبارة عن علمهم ، وأنه فيه من النظر الدقيق في البلاغة قدراً لا يستهين به أحد يحمل في نفسه قدرا من الإنصاف .
ومضت سنون ، حتى دخلت الجامعة ، وسمعت ما يقوله الدكتور طه في كتابه في الشعر الجاهلي الذي رج حياتي رجاً شديداً زلزل نفسي ، فعزمت على أن أعيد النظر في كتب السلف المتقدمين ، ويومئذ عرفت كتاب التلخيص في علوم البلاغة الذي شرحه الأستاذ الجليل عبد الرحمن البرقوقي فرأيته في مقدمته يغمز في عمل السكاكي ثم يقول أيضا في الحواشي على تلخيص المفتاح للخطيب القزويني مثل ما قال الشيخ رشيد ، يقول البرقوقي:
"ظهر حوالي ذلك قوم درجوا من عش الفلسفة ، فوضعوا على الكتاب الشروح والحواشي ، وسلكوا بهذا العلم مسلكا تنكره اللغة ويستهجنه البلغاء ، فأغمضوا عن أسرار البلاغة ، وتشبثوا بالفلسفة ، حمى بينهم وطيس المناظرة ، حتى أتوا على الذماء الباقي من هذا العلم ، وحتى أضحى وقد انهالت دعائمه ، وتنكرت معالمه :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر يمكة سامر
ثم يذكر الشيخ محمد عبده وفضله ويقول : أتى على ذلك حين من الدهر ... حتى أتيح له في هذا العصر إمام تولى الله تأديبه ... وأوحى إليه صالح العلم ، وأيده بآيات الحق ، إمام أرسله الله رحمة للغة والدين ... من النفوس جذور الباطل ... فما هو إلا أن سطع فينا نور هذين الكوكبين (يعني كتاب أسرار البلاغة ، وكتاب دلائل الإعجاز) حتى استبان لنا سوء ما كنا نعتسف فيه ، ورحمنا أنفسا أنصبناها في غير طائل ، ومطايا من العمر أنضيناها في سبيل الباطل."