موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 4 مشاركة ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: الدُّرَّةُ الْمُضِـيَّـة في الرَّدِّ علَى ابنِ تَيمِيَّة
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين أغسطس 14, 2006 7:20 pm 
غير متصل

اشترك في: الجمعة فبراير 27, 2004 11:21 pm
مشاركات: 2200
مكان: مصر
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام علي سيدنا محمد الصديق الأكبر عبد الله حقيقة وعلى آله اللؤلؤ المنثور حق قدره ومقداره العظيم[/align]



[align=center]كتاب "الدُّرَّةُ الْمُضِـيَّـة في الرَّدِّ علَى ابنِ تَيمِيَّة"[/align]
[align=center]للإمام الفقيه المجتهد
أبي الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الكبير (رضي الله عنه)
(683 – 756 هـ)
[/align]


[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]

الحمد لله الذي أرسلَ رسولَه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
والصلاة والسلام على سيدنا محمَّدٍ الذي نصر دينه بالجلاد والجدال، وتكفَّلَ لأمَّته أن لا يزالوا على الحق ظاهرين حتى يقاتل آخرَهم الدجال، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الذين وصفهم بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، وألحق التابعين بإحسان في رضاه بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد ...



فإنه لما أحدثَ ابنُ تيمية ما أحدثَ في أصول العقائد، ونقضَ من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب والسنة، مظهراً أنه داعٍ إلى الحق هادٍ إلى الجنة، فخرج عن الاتِّباع إلى الابتداع، وشذَّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة، وأن الافتقار إلى الجزء ليس بمحال، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى، وأنَّ القرآن محدَثٌ تكلَّم اللهُ به بعد أن لم يكن، وأنه يتكلم ويسكت ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم (والتزامه) بالقول بأنه لا أول للمخلوقات !!، فقال بحوادث لا أول لها فأثبت الصفة القديمة حادثة، والمخلوق الحادث قديماً، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملّةٍ من الملل، ولا نحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين التي افترقت عليها الأمة، ولا وقفت به مع أمة من الأمم همة .




وكلُّ ذلك وإن كان كفراً شنيعاً مما تَقِـلُّ جملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع، فإن متلقي الأصول عنه وفَاهِمَ ذلك منه هم الأقلُّون ، والداعي إليه من أصحابه هم الأرذلون، وإذا حُوققوا في ذلك أنكروه وفروا منه كما يفرون من المكروه، ونبهاء أصحابه ومتدينوهم لا يظهر لهم إلا مجرَّد التبعية للكتاب والسنة والوقوف عند ما دلت عليه من غير زيادة ولا تشبيه ولا تمثيل.

وأما ما أحدثه في الفروع فأمرٌ قد عمَّت به البلوى، وهو الإفتاء في تعليق الطلاق على وجه اليمين بالكفارة عند الحنث.

وقد استروحَ العامَّة إلى قوله وتسارعوا إليه وخَـفَّت عليهم أحكام الطلاق، وتعدى إلى القول بأن الثلاثَ لا تقع مجموعة إذا أرسلها الزوج على الزوجة، وكتب في المسألتين كراريسَ مطوَّلة ومختصرة، أتى فيها بالعجب العجاب، وفتح من الباطل كلَّ باب !!


وكان الله تعالى قد وفَّقَ لبيان خطئه وتهافت قوله ومخالفته لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة.

وقد عرف ذلك خواصُّ العلماء ومن يفهم من عوام الفقهاء.
ثم بلغني أنه بثَّ دعاته في أقطار الأرض لنشر دعوته الخبيثة، وأضلَّ بذلك جماعة من العوام ومن العرب والفلاحين وأهل البلاد البرَّانية، ولبَّس عليهم مسألة اليمين بالطلاق حتى أوهمهم دخولها في قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) الآية، وكذلك في قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم).

فعسر عليهم الجواب وقالوا: هذا كتاب الله سبحانه!!
وبقي في قلوبهم شُبَهٌ من قوله، حتى ذاكرني بذلك بعض المشايخ ممن جمع علماً وعمَلاً، وبلغ من المقامات الفاخرة الموصلة إلى الآخرة أملاً، ورأيتُه متطلعاً إلى الجواب عن هذه الشبهة، وبيان الحق في هذه المسألة على وجه مختصر يفهمه من لم يمارس كتب الفقه ولا ناظر في الجدل، فكتبت هذه الأوراق على وجهٍ ينتفع به من نوَّر الله قلبه وأحب لزوم الجماعة، وكره تبعية من شذَّ من الشياطين، وبالله أستعين وعليه توكلتُ، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وقد رتبت الكلام على ثلاثة فصول:

الفصل الأول: في بيان حكم هذه المسألة.
الفصل الثاني: في كلام إجمالي يدفع الاستدلال المذكور.
الفصل الثالث: في الجواب عن ذلك الاستدلال بخصوصه تفصيلاً.





[twh][align=center]يتبع بإذن الله تعالى[/align][/twh]


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس أغسطس 17, 2006 2:54 pm 
غير متصل

اشترك في: الجمعة فبراير 27, 2004 11:21 pm
مشاركات: 2200
مكان: مصر
[align=center]الفصل الأول


بيان مجمل عن أنواع الطلاق
[/align]



اعلم أن الطلاق يقع على وجهٍ محرَّمٍ، ويسمى طلاقَ البدعة، كالطلاق في الحيض، وعلى وجهٍ غير محرم ويسمى الطلاق السني.

وقد أجمعت الأمة على نفوذ الطلاق البدعي كنفوذ السني، إلا ما يحكى في جمع الثلاث على قولنا إنه بدعي، فإذا طلق امرأته على الوجه المنهي عنه، وهذا ليس فيه بين الأمة خلافٌ يعتبر.

إلا أن الظاهرية الذين يخالفون الإجماع في مسائل من الطلاق وغيره خالفوا في هذه المسألة، وهم محجوجون بالإجماع والحديث، فقد طلَّق ابن عمر رضي الله عنهما امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (مُرْهُ فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلّق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلَّق لها النساء)، وهو في الصحيحين.
وفي لفظٍ قال ابن عمر: (فطلقها وحسبت لها التطليقة التي طلقها)، وهو في الصحيح، مع أن أهل الظاهر يقولون لو طلقها في الحيض ثلاثاً نَفَذَ، وكذلك لو طلقها في طُهرٍ مسها فيه.

والقصدُ أن الطلاق في الحيض على وجه البدعة نافذٌ على ما دلَّ عليه الحديث المذكور.
وما ورد في بعض روايات هذا الحديث أن عبد الله بن عمر قال: (فردَّها عليَّ ولم يرها شيئاً) متأوَّلٌ عند العلماء، ومحمولٌ على معنى الرواية الأخرى.

وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما من غير وجهٍ الاعتدادُ بتلك الطلقة وإنفاذُها عليه، وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) يعني لقبل عدتهن، وقد قرئ كذلك.

والمراد أن يوقع الطلاق على وجه تستقبل المرأة العدّة بعدَه، وإذا وقع الطلاق في الحيض لم تعتد المرأة بأيام بقية الحيض من عدتها، فتطول عليها العدة.

وقيل ليطلق في الطهر فربما كان الطلاق في الحيض لعدم حل الوطء فيه.

وقد جاء في بعض ألفاظه هذا الحديث: (فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء)، يعني في هذه الآية فقد دل الكتاب والسنة على أن الطلاق في الحيض محرم ومع ذلك فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بنفوذه والاعتداد به، وإن كان قد خالف الوجه الذي شرع الطلاق فيه، فرأينا الشرع أوقع بدعة الطلاق كما أوقع سنته، وما ذلك إلا لقوة الطلاق ونفوذه، وكذلك إذا جمع الطلقات الثلاث في كلمةٍ فهو مخالفٌ لوجه السنة في قول جماعة من السلف، بل أكثرهم، ومع ذلك يلزمونه الثلاث.

وقد أتى ابنَ العباس رجلٌ فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثاً، فقال: إنَّ عمك عصى الله، فأندمه الله ولم يجعل له مخرجاً.
وعن أنس قال كان عمر رضي الله عنه إذا أتى برجل طلق امرته ثلاثاً في مجلس واحدٍ أوجعه ضرباً وفرق بينهما.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثاً في مجلس قال: أثم وحرمت عليه امرأته.

وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما قال:من طلق امرأته ثلاثاً فقد عَصَى ربَّه، وبانت منه امرأته.
فهذه أقوال الصحابة في إثم من جمع الطلقات الثلاث لمخالفته السنة، ومع ذلك يوقعونها عليه، وما ذلك إلا لقوة الطَّلاق ونفوذه.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة)، فجعل هزل الطلاق جداً.

ولم نعرف بين الأمة خلافاً في إيقاع طلاق الهازل، وما ذلك إلا لأنه أطلق لفظ الطلاق مريداً معناه، ولكنه لم يقصد حِلَّ قَيدِ نكاحِ امرأته بذلك ولا قصد إيقاع الطلاق عليها، بل هزل ولعب، ومع ذلك فلم يعتبر الشارع قصده وإنما ألزمه موجب لفظه الذي أطلقه وواخذه به، وما ذلك إلا لقوة الطلاق ونفوذه.

ثم إن الطلاق يكون منجَّزاً، ويكون معلَّقاً على شرط:
فالمنجز كقوله: (أنت طالق)، والمعلَّق كقوله: (إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق، وإن دخلت الدار فأنت طالق)، وقد أجمعت الأمة على وقوع المعلَّق كوقوع المنجَّز، فإن الطلاق مما يقبل التعليق، لم يظهر الخلاف في ذلك إلا عن طوائف من الروافض.

ولما حدث مذهب الظاهرية المخالفين لإجماع الأمة المنكرين للقياس خالفوا في ذلك فلم يوقعوا الطلاق المعلَّق، ولكنهم قد سبقهم إجماع الأمة فلم يكن قولهم معتبراً؛ لأن من خالف الإجماع لم يعتبر قوله، وقد سبق إجماع الأمة على وقوع الطلاق المعلق قبل حدوث الظاهرية.

وإنما اختلف العلماء إذا علَّق الطلاق على أمرٍ واقع أو مقصودٍ، كقوله: (إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق)، هل يتنجز الطّلاقُ من حين علَّق ولا يتأخر إلى وقوع الشرط، وهو مجيء رأس الشهر، أو يتأخر إلى مجيء رأس الشهر؟
فيه قولان للعلماء مشهوران؛ لأنه لمّا عُلِّق على شرط واقع فقد قصد إيقاع الطلاق ورضي به فتنجز من وقته.


وهذا ابن تيمية لم يخالف في تعليق الطلاق، وقد صرَّح بذلك، فليس مذهبه كمذهب الظاهرية في منع نفوذ الطلاق المعلق.

ثم إن الطلاق المعلَّق منه ما يعلق على وجه اليمين، ومنه ما يعلَّق على غير وجه اليمين: فالطلاق المعلَّق على غير وجه اليمين كقوله: (إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق) أو (إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق)، والذي على وجه اليمين كقوله: (إن كلمت فلاناً فأنت طالق) أو (إن دخلت الدار فأنت طالق) وهو الذي يقصد به الحث أو المنع أو التصديق، فإذا علَّق الطلاق على هذا الوجه ثم وجد المعلق عليه وقع الطلاق.


وهذه المسألة التي ابتدأ ابن تيمية بدعته، وقصد التوصل بها إلى غيرها إن تمت له.

وقد اجتمعت الأمة على وقوع الطلاق المعلَّق، سواء كان على وجه اليمين أو لا على وجه اليمين، هذا مما لم يختلفوا فيه وإجماع الأمة معصوم من الخطأ.

وكل من قال بهذا من العلماء لم يفرِّق بين المعلَّق على وجه اليمين أو لا على وجه اليمين، بل قالوا: الكلُّ يقع.


وقد لبَّس ابن تيمية بوجود خلاف في هذه المسألة، وهو كذب وافتراء وجرأة منه على الإسلام.
وقد نقل إجماع الأمة على ذلك أئمة لا يرتاب في قولهم، ولا يتوقف في صحة نقلهم.

فممن نقل ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه، وناهيك به فانه الإمام القرشي الذي ملأ طبق الأرض علماً، وثناء إمام هذا المبتدع الذي ينتسب إليه وهو برئ من بدعته -وهو الإمام أحمد رضي الله عنه- على الشافعي معروف، وتبعيته له ومشيه في ركابه وأخذه عنه مشهور.

وممن نقل الإجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد، وهو من أئمة الاجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهما.
وكذلك نقله أبو ثور وهو من الأئمة أيضاً.
وكذلك نقل الإجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطَّبري، وهو من أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة.
وكذلك نقل الإجماع الإمام أبو بكر بن المنذر.
ونقله أيضاً الإمام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد ابن نصر المروزي.
ونقله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه (التمهيد) و(الاستذكار)، وبسط القول فيه على وجهٍ لم يبق لقائل مقالاً.
ونقل الإجماع الإمام ابن رشد في كتاب (المقدمات) له.
ونقله الإمام الباجي في (المنتقى)، وغير هؤلاء من الأئمة.

وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة، بل كلهم نصُّوا على وقوع الطلاق وهذا مستقر بين الأمة، والإمام أحمد أكثرهم نصاً عليها، فإنه نص على وقوع الطلاق ونص على أن يمين الطلاق والعتاق ليست من الأيمان التي تكفر ولا تدخل فيها الكفارة،

وذكرَ العتقَ وذكر الأثر الذي استدل به ابن تيمية فيه، وهو خبر ليلى بنت العجماء، الذي بنى ابن تيمية حجَّته عليه وعلَّله وردَّه، وأخذ بأثر آخر صحَّ عنده، وهو أثر عمان بن حاضر، وفيه فتوى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجابر رضي الله عنهم بإيقاع العتق على الحانث في اليمين به، ولم يعمل بأثر ليلى بنت العجماء، ولم يُبقِ في المسألة إلباساً رضي الله عنه، بل كان قصده الحق.


وإذا كانت الأمة مجمعة على وقوع الطلاق لم يجز لأحد مخالفتهم، فإن الإجماع من أقوى الحجج الشرعية، وقد عصم الله هذه الأمة عن أن تجتمع على الخطأ فان إجماعهم صواب.


وقد أطلق كثيرٌ من العلماء القول بأن مخالف إجماع الأمة كافرٌ.


وشرطُ المفتي أن لا يفتي بقول يخالف أقوال العلماء المتقدمين، وإذا أفتى بذلك ردتْ فتواه ومُنع من أخذ بقوله.

ودل الكتاب والسنة على أنه لا يجوز مخالفة الإجماع قال الله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً)، فقد توعد على مخالفة سبيل المؤمنين واتباع غير سبيلهم بهذا الوعيد العظيم، ومخالف إجماع الأمة متبع غير سبيل المؤمنين فكيف يعتبر قوله.

وقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) والوسط الخيار، والشهداء على الناس العدول عليهم، فلا يجتمعون على الخطأ.

وقال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) وهذا يدل على أن مجموعهم يأمرون بكلِّ معروف وينهون عن كل منكر، فلوا أجمعوا على الخطأ لأمروا ببعض المنكر ونهوا عن بعض المعروف، ومحال أن يتصفوا بذلك وقد وصفهم الله بخلافه!!

وقد ورد في الأحاديث ما يدلُّ مجموعه على عصمة جماعتهم لهن عن الخطأ والضلال، والمسألة مبسوطة مقررة في موضعها.

والقصد هنا أن الأمةَ مجتمعةٌ على وقوع هذا الطلاق، فمن خالفهم فقد خالف الجماعة وخالف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره بلزوم الجماعة، وكان الشيطان معه فان الشيطان مع الواحد.

ثم إن هذا المبتدع ابن تيمية ادَّعى أن هذا القول قال به طاوس، واعتمد على نقلٍ شاذٍ وجَدَه في كتاب ابن حزم الظاهري عن مصنف عبد الرزاق.

ولم يُنقل هذا القول عن أحدٍ بخصوصه في الطلاق إلا عن طاوس كما ذكر وعن أهل الظاهر.

أما طاوس فقد صحَّ النقل عنه بخلاف ذلك، وقد أفتى بوقوع الطلاق في هذه المسألة، ونقل ذلك عنه بالسند الصحيح في عدة مصنفات جليلة منها كتاب (السنن) لسعيد بن منصور، ومنها (مصنف عبد الرزاق) الذي ادعى المخالف أن النقل عنه بخلاف ذلك، وقد وَضَحَ كذبه في هذا النقل، فإن المنقول في مصنَّف عبد الرزاق عن طاوس خلاف هذا الذي نسبه ابن تيمية، والأثر الذي نقله عن طاوس إنما ذكره عبد الرزاق في طلاق المكره، فلبس ابن حزم الظاهري النقل وتبعه هذا المبتدع.


وعن كلام طاوس لو صحَّ عنه أجوبةٌ كثيرة غير هذا مبينة في كتابنا (الرد على ابن تيمية).


وأما أهل الظاهر فيقولون إن الطلاق المعلَّق كلَّه لا يقع، ولم يقل ابن تيمية بذلك، وهم مخالفون للإجماع لا يعتبر قولهم، ويقولون إن الطلاق المعلَّق على وجه اليمين لا كفارة فيه، ولم يقل ابن تيمية بذلك، فهو مخالف لهم في بدعته متمسك بقولهم الذي لا يعتبر.


وقد قال ابن حزم: إن جميع المخالفين له لا يختلفون في أن اليمين بالطلاق والعتق لا كفارة في حنثه، بل إما الوفاء بالمحلوف عليه أو باليمين.



وقال هذا المبتدع: إن هذه المسألة لم يتكلم فيها الصحابة، لأنه لم يكن يحلف بالطلاق في زمانهم، ثم بعد هذا القول نسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم أنهم يقولون بقوله فكذب أولاً وآخراً:

أما كذبه أولاً فلأنه قال: (إن الصحابة لم تتكلم في هذه المسألة)، وليس كذلك، ففي صحيح البخاري فتوى ابن عمر رضي الله عنهما بالإيقاع.

قال البخاري: قال نافع: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء.

وهذه فتوى ظاهرها في هذه المسألة بإيقاع الطلاق البتة إن خرجت، وهو وقوع المعلَّق عليه، وبه يحصل الحنث، فأوقع ابن عمر الطلاق على الحالف به عند الحنث في يمينه، ومن مثل ابن عمر رضي الله عنهما في دينه وعلمه وزهده وورعه وصحة فتاويه؟!


ولا يُعرَفُ أحدٌ من الصحابة خالف ابن عمر في هذه الفتوى ولا أنكرها عليه، وقد قضى علي رضي الله عنه في يمين بالطلاق بما يقتضي الإيقاع، فإنهم رفعوا الحالف إليه ليفرقوا بينه وبين الزوجة بحنثه في اليمين فاعتبر القضية، فرأى فيها ما يقتضي الإكراه، فردَّ الزوجة عليه لأجل الإكراه، وهو ظاهرٌ في أنه يرى الإيقاع لولا الإكراه.

وفي (سنن البيهقي) بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته: إن فعلتْ كذا وكذا فهي طالق ففعلته، قال: هي واحدة، وهو أحقُّ بها، فأوقع الطلاق واحدة عند الحنث بمقتضى اللفظ ولم يوجب كفارة.


ومن مثل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنيف مليء علماً)، وقال: (من أراد أن يقرأ القرآن غضَّاً كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد)، ولم يخالفه أحد من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك.

وقول الصحابة حجَّةٌ شرعيةٌ في قول جمهور العلماء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أنهم كالنجوم يُهتدى بهم، فلا هدي أتمَّ من هديهم.

وأما كذبه ثانياً فلأنه قال: (لم يكن يحلف بالطلاق في عهد الصحابة)، وهذه وقائع فيها الحلف بالطلاق.

ونُقلت أيضاً حكومة أخرى وقعت عند علي رضي الله عنه في رجل حلف بالطلاق أنه لا يطأ امرأته حتى يعظم ولده، بل نقل عن بعض الصحابة أنه حلف بالطلاق وهو أبو ذر رضي الله عنه لما سألته امرأته عن الساعة التي يستجاب الدعاء فيها يوم الجمعة وأكثرت فقال لها: (زيغ الشمس) يشير إلى ذراع فإن سألتني بعدها فأنت طالق، فحلف عليها بالطلاق أن لا تعاود المسألة، وفي ذلك آثار كثيرة غير هذا مذكورة في المصنَّف المبسوط.


وأما كذبه آخراً فلأنه نسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم القول بأن الطلاق لا يقع، وأنه تجب الكفارة، مع اعترافه أن ذلك لم يقع في عهدهم.


وهذه مكابرة قبيحة وكذبٌ صريح، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (كل يمين وإن عظمت ليس فيها طلاق ولا عتاق ففيها كفارة يمين)، فاستشنت يمين الطلاق ويمين العتاق من الكفارة.
وهذا الأثر نقله ابنُ عبد البر في (التمهيد) وفي (الاستذكار) بهذا اللفظ مسنداً، ونقلَه هذا المبتدع فأسقط منه قولها: (ليس فيها طلاق ولا عتاق) ليوهم أن عائشة رضي الله عنها تقول بالكفارة في يمين الطلاق والعتق، (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون).
فهذا عصر الصحابة لم ينقل فيه إلا الإفتاء بالوقوع.


وأما التابعون رضي الله عنهم فأئمة العلم منهم معدودون معروفون، وهم الذين تنقل مذاهبهم وفتاويهم، ولم ينقل هذا المبتدع عن أحدٍ منهم بعينه نصَّاً في هذه المسألة غير ما نسبه إلى طاوس، مع أنه يدعي إجماعهم على قوله مكابرة كما فعل في الصحابة.


وقد نقلنا من الكتب المعروفة الصحيحة (كجامع عبد الرزاق) و(مصنف ابن أبي شيبة) و(سنن سعيد بن منصور) و(السنن الكبرى للبيهقي) وغيرها فتاوى التابعين أئمة الاجتهاد، وكلهم بالأسانيد الصحيحة أنهم أوقعوا الطلاق بالحنث في اليمين ولم يقضوا بالكفارة، وهم: سعيد بن المسيب أفضل التابعين، والحسن البصري، وعطاء، والشعبي، وشريح، وسعيد بن جبير، وطاوس، ومجاهد، وقتادة، والزهري، وأبو مخلد.


والفقهاء السبعة فقهاء المدينة وهم: عروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وخارجة بن زيد وأبو بكر بن عبد الرحمن وسالم بن عبد الله بن عمر وسليمان بن يسار، وهؤلاء إذا أجمعوا على مسألة كان قولهم مقدَّماً على غيرهم.

وأصحاب ابن مسعود السادات وهم: علقمة والأسود ومسروق وعبيدة السلماني وأبو وائل شقيق بن سلمة وطارق ابن شهاب وزر بن حبيش.

وغير هؤلاء من التابعين مثل ابن شبرمة وأبو عمرو الشيباني وأبو الاحوص وزيد بن وهب والحكم وعمر بن عبد العزيز وخلاس بن عمرو.
كل هؤلاء نقلت فتاويهم بإيقاع الطلاق لم يختلفوا في ذلك، ومن هم علماء التابعين غير هؤلاء.
فهذا عصر الصحابة وعصر التابعين كلهم قائلون بالإيقاع، ولم يقل أحدٌ أن هذا مما يجري به الكفارة.


وأما من بعد هذين العصرين فمذاهبهم معروفة مشهورة كلها تشهد بصحة هذا القول، كأبي حنيفة وسفيان الثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر وابن جرير الطبري، وهذه مذاهبهم منقولة بين أيدينا ولم يختلفوا في هذه المسألة.


فإذا كان الصدر الأول وعصر الصحابة رضي الله عنهم وعصر التابعين لهم بإحسان بعدهم وعصر تابعي التابعين لم ينقل عنهم خلاف في هذه المسألة، وهذا المبتدع يسلِّم أنَّ بعد هذه الأعصار الثلاثة لم يقل إمام مجتهد بخلاف قولنا، فكيف يسوغ مخالفة قولٍ استقر من زمن النبي صلى الله عليه وسلم والى الآن، بقولِ مبتدِعٍ يقصد نقض عرى الإسلام ومخالفة سلف الأمة ؟!


أكان الحقُّ قد خفي عن الأمة كلها في هذه الأعصار المتتابعة حتى ظهر هذا الزائغ بما ظهر به؟!!
هيهات هيهات وهذا واضح لذوي البصائر وأرباب القلوب المنورة بنور اليقين، (أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) ولكن قد عميت البصائر والناس سراع إلى الفتنة، راغبون في المحدثات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل محدثة ضلالة).













[twh][align=center]يتبع بإذن الله تعالى[/align][/twh]


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء أغسطس 23, 2006 1:02 am 
غير متصل

اشترك في: الجمعة فبراير 27, 2004 11:21 pm
مشاركات: 2200
مكان: مصر
[align=center]الفصل الثاني
في كلام إجمالي يدفع الاستدلال المذكور
[/align]

وذلك أنَّ الناس على قسمين:

عالم مجتهد متمكن من استخراج الأحكام من الكتاب والسنة أو عامي مقلد لأهل العلم.

ووظيفة المجتهد إذا وقعت واقعة أن يستخرج الحكم فيها من الأدلة الشرعية، ووظيفة العامي أن يرجع إلى قول العلماء،

وليس لغير المجتهد إذا سمع آية أو حديثاً أن يترك به أقوال العلماء، فإنه إذا رآهم قد خالفوا ذلك مع علمهم به عَلِمَ أنهم إنما خالفوه لدليلٍ دلَّهم على ذلك، وقد قال الله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وقال: (ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).

وللمفسرين في الآية كلامٌ ليس هذا موضع ذكره، والقصد أنَّ غير العالم المجتهد -ولا سيما العوام-، إذا سمعوا آية فيها عمومٌ أو إطلاقٌ لم يكن لهم أن يأخذوا بذلك العموم أو الإطلاق إلا بقول العلماء، ولا يعمل بالعمومات والإطلاقات إلا من عَرَفَ الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والحقيقة والمجاز.

فإذا سمع قوله تعالى: (أو مما ملكت أيمانكم) وأخذ بعمومه في الجمع بين الأختين المملوكتين كان مخطئاً، فإذا سمع معه قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) قال: هذا يعم الأختين المملوكتين والمنكوحتين، فيتحير بأي العمومين يعمل ؟

فإذا سمع قول عثمان رضي الله عنه: (أحلتها آية وحرمتها آية والتحريم أولى)، عَلِمَ أنَّ العمل على دليل التحريم، وله ترجيحات أُخَر غير هذا يعرفها العلماء، فيعلم العامي أنه لا يمكنه الاستقلال بأخذ الحكم من الكتاب.

وكذلك إذا سمع الأدلة الدالة على تحريم اللواط والتأكيد، وسمع قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم)، فقد يخطر له أنَّ هذا يقتضي حل المملوك، وقد خطر ذلك لبعض الجهال، فإذا أخذ بهذا العموم ضلَّ.

وقد قال بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه: إن من تأول هذا التأويل سَقطَ عنه الحدُّ، وأخطأ في هذا القول خطأً عظيماً.

وكذلك إذا سمع أنَّ قائلاً قال: يحل وطأ الزوجة في الدبر مستنداً إلى قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شيءتم)، ظَنَّ ذلك صحيحاً، وأن القرآن دلَّ على حِلِّ ذلك، وهو مخطئ؛ لأن هذا القول شاذٌّ، يقال إنه رواية عن مالك ولم يصح، والمالكية ينكرونه، وصحَّ عن مالك تحريم ذلك، والآية دالَّة على التحريم بخلاف ما يظن الجهال، فإن الحرث لا يكون إلا في موضع البذر،


والحديث الصحيح في سبب نزول الآية يوضح المعنى، وهو أن اليهود كانوا يقولون: إن الرجل إذا أتى امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول، فأنزل الله هذه الآية: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شيءتم) أي كيف شيءتم، وفي الحديث الصحيح: (في صمام واحد)، وفي لفظٍ: (غير أن لا تأتوا في غير المأتي).


فإذا لم يجمع الإنسان بين الأدلة، وبين الكتاب والسنة، ويعرف سبب نزول الآية ومحملها، لا ينبغي أن يأخذ بظاهر من فهمه لا يعرف ما وراءه.

وإذا سمع العامي الحديث: (من شرب الخمر فاجلدوه) إلى أن قال في الرابعة: (فإن شربها فاقتلوه)، فعمل به وقتل الشارب في الرابعة كان مخطئاً؛ لأن الأمة أجمعت على ترك العمل بهذا الحديث.

وكذلك إذا سمع حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في المدينة من غير خوف ولا مطر)، وقد رواه مسلم من طرق عدة، فيقول العامي بهذا الحديث، ولا يعلم أن الأمة أجمعت على ترك العمل به، إلا ما يروى عن ابن سيرين انه يجوز الجمع في الحضر للحاجة، وقد روى أبو العالية أنَّ عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (واعلم أنَّ جمع ما بين الصلاتين من الكبائر إلا من عذر)، وقد أخرجَ هذين الحديثين الترمذيّ، وقال في آخر كتابه: (ليس في كتابي هذا حديثٌ ترك العمل به بالإجماع سوى حديثين) فذكر هذين الحديثين.

وكذلك حديث ابن عباس كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر الثلاث واحدة، فلما رآهم عمر قد تتابعوا فيه قال: أجيزوهن عليهم، وهذا الحديث متروك الظاهر بالإجماع، ومحمول عند العلماء على معان صحيحة، وقد صحت الرواية عن ابن عباس بخلافه من وجوه عدة.

فإذا سمعه العامي وحده وقف عنده ولم يعلم أنه معارض بما يدفعه، ومردود الظاهر بإجماع الأمة.
وأحاديث المتعة صحيحة، وقد صَحَّ فعلها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وصحَّ النهي عنها، فأبيحت مرتين ونسخت مرتين،
فإذا سمع العامي الأحاديث الصحيحة بإباحتها ظَنَّ أنها مباحة ولم يعلم أن ذلك نسخ، وقد وقع هذا للمأمون وهو خليفة، فنادى بتحليل المتعة، فدخل عليه القاضي يحيى ابن أكثم وقال له: أحللت الزنى، وعرَّفه الحديث الصحيح في النسخ، ولم يكن سمعه، فنادى من وقته بتحريم المتعة.

وحديث قدامة بن مظعون رضي الله عنه صحيحٌ، وكان قد شرب الخمر فرفع الأمر إلى عمر رضي الله عنه فاعترف وذكر أنه إنما شربها متأولاً قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فما طعموا) فردَّ عليه عمر وقال: (أخطأت التأويل ألم يقل الله سبحانه: (إذا ما اتقوا وآمنوا).) ولم يجعل تأويله موجباً لإسقاط الحد، بل حدَّه؛ لأنه لم يستنبط الحكم استنباطاً صحيحاً، ولكنَّه أخذ بعموم نفي الجناح في كل مطعوم وغفل عن القيد المخصص وهو قوله: (إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) إلى آخر الآية.


وهذا يوضح أن العمل بالعموم بمجرده من غير نظر في أدلَّة التخصيص والتقييد خطأٌ من العاملِ به، وأمثلة ذلك كثيرة لا نطيل بذكرها.


والآية التي احتجَّ بها هذا المبتدِع وهي قوله تعالى: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) إلى آخر الآية والآية الأخرى وهي قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) إذا سمعها العامي يظن دخول يمين الطلاق في ذلك وقال: هي يمين، والله جعل في كل يمين كفارة، واعتقد صحَّة قول هذا المبتدع وتلبَّس عليه باطله، فإذا اعترف أنه لا ينبغي له أن يعمل بالعموم حتى يعرف هل له مخصّص ويعرف ما يعارضه من الأدلة فوَّضَ الأمر إلى أهله، وعلم أن فوق كل ذي علم عليم.
وكذلك لا ينبغي أن يأخذ بأدلة الكتاب حتى يعلم ما في السنة مما يبينه أو يخصصه أو يقيِّده قال الله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب لتبين للناس ما نزل إليهم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول لا أدري ما سمعنا في كتاب الله اتبعناه)..الحديث.

والحديث الصحيح عن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريةً، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا لي نارا، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول إليه صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعضٍ وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لو دخلوها لم يخرجوا منها أبداً)، وقال: (لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف)، ولم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأخذ بإطلاق قوله: (اسمعوا له وأطيعوا)، لما دلت الأدلة على أنَّ الطاعة إنما تكون فيما وافق الحق، ولا طاعة في المعصية، مع أنَّهم قد لا يكونون ممن سمع تلك الأدلة، فإن الممتنعين من الدخول فيها لم يأخذوا إلا بأنهم إنما أسلموا ليسلموا من النار، فكيف يؤمرون بالدخول فيها، فقيدوا إطلاق الأمر بالسمع والطاعة بدليل قياسي، ومع عدم علمهم بتلك الأدلة لم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم، بل حكم باستمرارهم بالنار لو دخلوها لتقصيرهم في البحث عن الأدلة في محل الإشكال.

فمن لم يعرف الكتاب والسنة وأقوال الأئمة لم يكن له أن يقف عند دليل يسمعه من غير إمام يرشده.
وقد نقل عن جماعة من الأئمة أنه ليس في القرآن عمومٌ إلا وقد دخله التخصيص، إلا قوله تعالى: (والله بكل شيء عليم)، وقوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) إذا أريد بالوجه الذات والصفات المقدسة، حتى قالوا في قوله: (خالق كل شيء) ليس محمولاً على عمومه، بل هو مخصوص، فإن الله سبحانه شيء وليس مخلوقاً تعالى عن ذلك.
وفي هذا ومثله كلامٌ لا يليق بهذا الموضع، فعلمنا من ذلك أن قوله تعالى: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) الآية، وقوله: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) لا يعمل بعمومه حتى ننظر فيما يخصصه أو يعارضه من كتاب أو سنة، فإذا تحقق المراد منه وأي مخرج خرج تبين ما فيه من الدليل أو عدمه.
ولكن هذا المبتدع قصده الترويج على العوامِ ومَن لا يعرف شروط الأدلة وكيفية استخراج الحكم، ويهوِّل عليهم بقوله: هذا نص القرآن وهذا قول الله، فتنخلع أفئدتهم لقوله، ولا يعلمون ما وراء ذلك.


[twh][marq=left]يتبع بعون الله تعالى و مدده[/marq][/twh]


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء سبتمبر 06, 2006 6:32 pm 
غير متصل

اشترك في: الجمعة فبراير 27, 2004 11:21 pm
مشاركات: 2200
مكان: مصر
[align=center]الفصل الثالث

في الجواب عن استدلاله بالآيتين المذكورتين على وجه التفصيل
[/align]


أما الآية الأولى وهي قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون).

وإنما يتم الاستدلال بها إذا تبين دخول يمين الطلاق في عموم قوله: (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) ولم يكن لذلك معارض يمنع دخولها فيه.

والكلام على هذه الآية يلتفت على الكلام على الآية الأخرى في سورة البقرة، قال الله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم).


وللمفسرين في معنى قوله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا) قولان:

أحدهما: أن المراد لا تجعلوا اليمين بالله تعالى متعرضة بينكم وبين أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، فتحلفوا لا تفعلوا ذلك، فتبقى اليمين متعرضة بين الحالف وبين البرِّ والتقوى، فنهاهم الله عن اليمين على ذلك، ثم شرع لهم الكفارة للتخلص من هذا المنع؛ ليكون طريقاً لحالف إلى الرجوع إلى البر والتقوى والإصلاح.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يمين وأتيت الذي هو خير).


والقول الثاني: أن المراد لا تجعلوا اسم الله عرضة لأيمانكم، فتبتذلوه بالحلف به في كل شيء،
وقوله: (أن تبروا) معناه إرادة أن تبروا، يعني إذا لم تبتذلوا اسم الله في كل يمين قدرتم على البر.

ثم شرع لهم الكفارة لتكون جابرة لما يحصل من انتهاك حرمة الاسم المعظم، ولا شك أن اليمين بالله تعالى مراده في الآيتين هي اليمين الشرعية، وهي التي شرعت الكفارة فيها أصلاً،

فالحالف يعقد اليمين بالله على أن يفعل كذا أو أن لا يفعل كذا فإذا قال: والله لا أفعل أو والله لأفعلن فقد أكَّد عقده بهذا الاسم المعظم، كأنه يقول: إن فعلت كذا فقد خالفت موجب تعظيم ما عقدت به اليمين من الاسم المعظم، ولست معظماً له حقَّ تعظيمه.

هذا موضوع اليمين فإذا عقدها على الوجه ثم خالف موجبها وحنث فقد لزمه ما ألزم نفسه من انتهاك حرمة الاسم بالمخالفة، فجعل الله سبحانه الكفَّارة جابرة لهذا الأمر الذي ألزمه نفسه تعظيماً لاسمه المستحق للتعظيم.

وهذا أمرٌ لا يستحقه غير الله عز وجلَّ، فلا يشاركه غيره فيه، ولهذا نهي عن الحلف بغير الله عز وجل.

ونقل ابن عبد البر إجماع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها، لا يجوز لأحدٍ الحلف بها، ومن ههنا قال أهل الظاهر: لا كفارة إلا في اليمين بأسماء الله عز وجل وصفاته، ولا تجب الكفارة في يمين غير ذلك.

وممن قال بهذا القول الشعبي والحكم والحارث العكلي وابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن، نقله ابن عبد البر وقال: هو الصواب عندنا، والحمد لله.

وقال جمهور العلماء بوجوب الكفارة في أيمانٍ غيرها، لكن على سبيل الإلحاق بها؛ لوجود علة وجوب الكفارة عندهم.

هذه أقوال المعتبرين من العلماء، وقد شذَّ بعضهم بأقوال لا يعرج عليها ولا يتأتى بيان ذلك إلا بتفصيل أنواع الأيمان، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى.


هذا مع اتفاق العلماء كلهم على أمرين:

أحدهما: أن يمين الطلاق لا كفارة فيها، ولو قلنا هي يمين.

والثاني: أن عموم الآية مخصوصٌ، فلا تجب الكفارة في كلِّ ما يطلق عليه اسم اليمين لغةً، وإذا كانت الكفارة لا تجب في كل ما يسمى يميناً في اللغة لم تبق الاية الكريمة مجراة على عمومها.
وحينئذ فالآية إما محمولة على اليمين الشرعية، أو على اليمين اللغوية، والحمل على الموضوع الشرعي أولى عند المحققين من العلماء، فإذا كان للفظٍ معنى في اللغة ومعنى في الشرع إما يقاربه وإما يباينه، ووجدنا ذلك اللفظ في خطاب الشارع حملناه على معناه في الشرع، فإن تعذَّر حملناه على معناه في اللغة والعرف.

وههنا في الآية زيادة، وهي أنَّ الحمل فيها على الموضوع اللغوي يوجب تخصيص عمومها، والحمل على المعنى الشرعي قد لا يوجب ذلك، وما سَلِم من التخصيص أو كان أقل تخصيصاً كان أولى، فيتعين حمل الأيمان في الآية الكريمة على المعنى الشرعي.

واليمين الشرعية هي ما شرع الحلف به أو لم يكره شرعاً ولم يحرم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)، وهو في الصحيحين، وفي لفظٍ لمسلم: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله)، وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: (لا تحلفوا بآبائكم).

وفي سنن النسائي من رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون)، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يمين بغير الله عزَّ وجل، وما نهى عنه لم يكن شرعياً، ولا فرق بين اليمين باسم الله عز وجل أو غيره من الأسماء الحسنى والصفات العليا، والكل شرعي ينعقد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف فيقول: (لا ومقلب القلوب).

وفي حديث صفة الجنة أن جبريل قال: (وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها)، ولما حلف الصحابة بالكعبة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا ورب الكعبة)، فكل هذه أيمان شرعية؛ لأن المعنى في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف تعظيم للمحلوف به على وجه لا يليق بغير الله عز وجل، فبأي اسم من أسماء الله عز وجل أو صفة من صفاته حَلَفَ لم يكن معظِّماً لغير الله تعالى.

فإذا كانت اليمين الشرعية هي اليمين بالله عز وجل وصفاته، كانت الآية محمولة على ذلك، فدلت الآية على أن كل يمين بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته يوجب الكفارة عند الحنث؛ لأن اللفظ شرعي فيحمل على المعنى الشرعي، وتكون الآية على عمومها في كل الأيمان الشرعية؛ فلا تكون الآية دالة على إيجاب الكفارة في شيء من الأيمان سوى الأيمان الشرعية، وهي الأيمان بالله وبأسمائه وصفاته.

ولا تدخل اليمين بالطلاق ولا غيرها في ذلك.


ثم إن العلماء رأوا أن بعض الأيمان ملحق باليمين بالله تعالى في إيجاب الكفارة، فألحقوه بذلك لوجود المعنى الذي شرعت الكفارة لأجله فيها، وعند هذا اختلف نظرهم فمنهم من يلحق أنواعاً كثيراً، ومنهم من يلحق أقل من ذلك على اختلاف نظرهم واجتهادهم.

ويوجد هذا الاختلاف للصحابة والتابعين ومن بعدهم، فنتكلم فيما وعدنا به من تفصيل الأيمان التي جوَّزَ فيها العلماء المعتبرون الكفارة، ثم نتكلم على الطلاق والعِتَاق.
فمنها النَّذر الذي يسمى نذر اللجاج والغضب والغلق وقد قيل فيه بالوفاء، وقيل: بالكفارة على وجه التخيير.

فاعلم أن النذر في أصله قربة، ووضعه الأصلي أن يعلق التزام قربة على مطلوبٍ يريده: إما جلب نعمة أو دفع نقمة كقوله: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ صوم شهر، أو إن ردَّ الله تعالى الغائب فلله علي أن أتصدق بكذا.
وهذا نذر شرعي، ويسمى عند الفقهاء نذر التبرر والوفاء اللازم، فإذا حصل ما طلبه وهو المعلَّق عليه وجب عليه الوفاء بما نذر، ولا تجزئة في ذلك كفارة يمين.
هذا أصلُ البابِ ووضعه في الشرع، فإن التزم قربةً على غير مطلوب كقوله: لله علي أن أصوم كذا أو أن أتصدق بكذا، فهل يسمى هذا نذراً ؟ فيه خلاف، وأكثر العلماء على أنه نذر يجب الوفاء به.
ولكن أصل الباب هو التَّعليق، ثم إنَّ الناس توسعوا في ذلك فصاروا يعلِّقون لزوم القربة على ما يريدون الحثَّ عليه أو المنع منه، كقول القائل: إنْ كلمت فلاناً فعليَّ صوم شهر، وإنْ لم أعطِ فلاناً كذا فعليَّ صدقة وما أشبه ذلك، فهذا تعليقُ قربةٍ على أمرٍ يطالب وقوعه أو المنع منه، فهو تعليق قربة على مطلوب فمن هذا الوجه هو نذر يشبه نذر التَّبرر؛ لما فيه من صريح التعليق للقربة على مطلوب.

وفي معناه شبه اليمين من جهة أنَّه لا على التزام القربة على وجه التِّقرب، بل قصد حثّ نفسه أو منعها بما علّق من لزوم القربة التي إن خالف ولم يلتزمها عند وقوع الشرط فقد ترك حق الله ولم يقم به ولم يعظمه حق تعظيمه، فصار ذلك في المعنى كقول القائل: والله لأفعلن أو والله لا أفعل، فإنَّ معنى كلامه إني إنْ فعلت فقد خالفت ما عقدت به قولي من الاسم المعظَّم، فلست معظماً له حق تعظيمه، فصار في هذا النَّذر شبه من اليمين في المعنى، وهو بلفظ النذر لأجل الذي يجب الوفاء به، وقد مدح الله قوماً على الوفاء بالنذر فقال تعالى: (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شرُّه مستطيراً) وذم النبي صلى الله عليه وسلم قوماً على ترك الوفاء بالنذر، فقال في حديث عمران بن حصين، وهو في الصحيح، (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، (ثم إن من بعدهم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ،ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن).

وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، وهو حديث صحيح.


فأوجب أولاً الوفاء، وهذا قول مالك رضي الله عنه في المشهور عنه ومن تبعه، وقول ربيعة وإحدى الروايات عن أبي حنيفة، وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال بوجوب الوفاء.

روى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الهيثم بن سنان أنه سمع ابن عمر وسأله بعض أهله أنه كسى امرأته كسوةً فسخطتها، فقالت: إن لبستها في رتاج الكعبة، قال ابن عمر: لتجعل مالها في رتاج الكعبة، قال: إنما مالها في الغنم والإبل، قال ابن عمر: لِتَبِع الغنم والإبل في رتاج الكعبة.
وروي عن أنس رضي الله عنه مثل ذلك عن مالك بن دينار، وأن امرأة أتته فقالت: إن زوجها كساها كسوة وأنها غضبت فجعلتها هدية إلى بيت الله إن لبستها، قال: فانطلقت إلى أنس فسألته فقال: إن لبستها فلتهدها، وإسناد هذا الأثر أيضاً جيد.

ونقل هذا القول وهو وجوب الوفاء عن إبراهيم النخعي.

وإنما سقت هذه الأقوال لأن هذا المبتدع قال: إن القول بوجوب الوفاء لم ينقل عن الصحابة ولا عن التابعين، وقد صحَّ ذلك عمَّن ذكرنا.

وسيأتي أثر آخر فيه ابن عمر وابن عباس والزبير وجابر رضي الله عنهم إن شاء الله تعالى.
وقال طائفة أخرى: يكفِّر إن شاء ولا يلزمه الوفاء به، وهؤلاء أجروا هذا النذر مجرى اليمين لما ذكرنا من حصول المعنى الذي شرعت الكفارة في اليمين لأجله، وهو أنه عقد يمينه بما التزمه من طاعة الله التي إن خالف عند لزومها فقد انتهك حرمة الحق، فجبره بكفارة يمين كما يجبر انتهاك حرمة الاسم المعظم إذا حنث بكفارة يمين.

وقد أفتى بذلك جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين.

وقد قال الشافعي رضي الله عنه: إن هذا قول عائشة رضي الله عنها وعدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الشافعي في ذلك: يتخير بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين.
ومن العلماء من يفرق بين التزام الحج وغيره فيقول: إن التزم حجا لزمه وإن التزم غيره كان له الخروج بكفارة يمين.

ومنهم من فرَّق أن يكون قد التزم صدقةَ مالِه كلِّه أو جعله في سبيل الله فقال: يجزئه الثلث من ماله؛ لحديث أبي لبابة بن عبد المنذر، فإنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجزئ عنك الثلث).

وفي الصحيحين في حديث كعب بن مالك -أحد الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عليهم-، أنه قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك)، قال: قلتُ: إني أمسك سهمي بخيبر.
ومنهم من أوجب الصدقة بقدر الزكاة، ويروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وسيأتي الأثر بذلك إن شاء الله تعالى.

والقول بأن يتخير بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين هو القول المرضي، وهو قول كثيرٍ من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وسببه ما ذكرنا أن اللفظ لفظ نذر والمعنى معنى يمين، فإن وفَّى فقد أتى بموجب اللفظ، وإن كفَّر فقد أتى بموجب المعنى، فهذا النوع يلحق بالأيمان الشرعية من هذا الوجه، وليس يميناً في الحقيقة بما يعظم كالكعبة والنبي فلا كفارة فيها.

وفي مذهب أبي حنيفة قول إنه تجب الكفارة بالحلف بالنبي؛ لأن حقه من حق الله عز وجل فأشبه اليمين بالله، وهو ضعيف وجمهور العلماء على خلافه.

وأما الحلف بملة غير الإسلام فليس من الأيمان الشرعية، ولا ينبغي أن يعتقد دخوله في قوله تعالى: (ذلك كفارة أيمانكم)، لأنها يمين محرمة، والمحرم لا يكون شرعياً.

وأكثر العلماء على أن لا كفارة فيها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال، وان كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالماً)، وفيه غير ذلك.
وورد فيه أن كفارته قول لا إله إلا الله، وفي مذهب أبي حنيفة إيجاب الكفارة، وهذه اليمين لا تحتاج إلى ذكرها.

لكن هذا المبتدع جعل إيجاب من وأوجب الكفارة فيها حجة له، وقال: لو لزمه ما التزم لحكم بكفره؛ لأنه التزم الكفر في قوله: إن فعلتُ كذا فأنا يهودي أو نصراني، وهذا خطأ، فإن التكفير مداره على اعتقاد القلب، واللسان ترجمان ذلك، فإذا صدر منه لفظ دلَّ على كفره في عقد قلبه حكمنا بكفره، وإذا صدر منه لفظ لا يدل على كفره في قلبه لم نحكم بكفره، وإن تلفظ بالكفر، ولهذا لم نحكم بكفر المكره على التلفظ بالكفر، وقد قال الله تعالى: (إلا من أكره وقبله مطمئن بالإيمان)، والقائل: إن فعلتُ كذا فأنا يهودي أو نصراني، لا يقوله ليكون يهودياً أو نصرانياً بقلبه، ولكنه يمنع نفسه من الفعل لئلا يلزمه أن يكون يهودياً أو نصرانياً، والممتنع من الفعل خشية من هذا اللزوم لم يعقد قبله على الكفر، وإنما عقده على الإيمان، فلم نحكم بكفره.

وأما الطلاق فمداره على إطلاق اللفظ للمعنى، وان لم يقصد به حل قيد النكاح، ولهذا اختلف العلماء في إيقاعه على المكره والسكران، وقد قال كثير من الصحابة والتابعين بوقوع طلاق السكران، بل الأكثرون على ذلك، فلم يعتبروا فيه قصد حل قيد النكاح، ولهذا يلزم الهازل ويقع عليه، وما ذلك إلا لإطلاق اللفظ.

وإنما كفر الهازل بالكفر لأن كفره دلَّ على استهانته بالدين بقلبه، فهو كافر بعقد القلب الذي دلَّ عليه لفظه، والمطلِّق بالهزل مطلق اللفظ، لا بعقد القلب على الطلاق، فلا يقاس أحد البابين على الآخر.

وأما إيجاب الكفارة في مذهب أبي حنيفة في يمين الكفر فلأنه إذا قال: إن فعلت كذا فأنا كافر، كان قد علَّق يمينه بتعظيم حق الله عز وجل على أن يكفر به، فأشبه تعظيم اسم الله أن تنتهك حرمته إذا حلت به، فألحق باليمين بالله تعالى في إيجاب الكفارة فله وجه من القياس، وان كان الأصح أن الكفارة لا تجب.

وأما يمين العتق وهو ما إذا قال: إن فعلت كذا فعبدي حر، فإن جمهور العلماء على لزوم العتق عند الحنث، وأنه لا تجزئ في ذلك كفارة يمين، هذا هو القول المشهور الذي استقرت عليه المذاهب المتبوعة، حتى قال بعضهم: إن الأمة مجمعة عليه.

وروي عن أبي عبيد وأبي ثور أنهما قالا: تجزئ فيه الكفارة، وأما الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد فقالوا بالعتق، وهو مذهب عامة علماء الأمصار.

وما يروى من أثر ليلى بنت العجماء أنها حلفت بالهدي والعتاق لتفرقن بين عبدها وأمتها، فأفتاها ابن عمر وزينب ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهما بالكفارة، فهذا الأثر تختلف الألفاظ في روايته روي من عدة [طرق]، ومداره على أبي رافع مولى ليلى بنت العجماء، وبعضهم يذكر فيه العتق وبعضهم لا يذكره، وقد ذكرنا عنه عدة أجوبة في الكتاب المطول ظاهرة، وقد ذكر هذا الأثر الإمام أحمد، ولم يأخذ به، بل قال بلزوم العتق، وروى أثراً يعارضه عن عثمان بن حاضر، قال:

حلفت امرأة من ذي أصبح فقالت: مالي في سبيل الله وجاريتي حرة إن لم تفعل كذا وكذا، لشيء ذكره زوجها أن تفعله، فذكر ذلك لابن عمر وابن عباس فقالا: أما الجارية فتعتق، وأما قولها مالي في سبيل الله فلتتصدق بزكاة مالها.


وروي هذا الأثر من طرق وفيه أيضاً فتوى ابن الزبير وجابر بن عبد الله بذلك، فهؤلاء أربعة من الصحابة وعلمائهم أفتوا بالعتق.

وقد أخذ بهذا الأثر الإمام أحمد بن حنبل إمام هذا المبتدع في غير بدعته، ورد خبر ليلى بنت العجماء.

وقال الشيخ موفق الدين المقدسي الحنبلي: إن أحمد رضي الله عنه قال في خبر ليلى بنت العجماء: إن الصحابة قالوا لها: كفِّري يمينك واعتقي جاريتك، وقال: هذه زيادة يجب قبولها، فاتفق الخبران على لزوم العتق.

وقول عائشة: (كل يمين ليس فيها طلاق ولا عتاق ففيها كفارة يمين) يدل على أنها لا ترى في العتق كفارة.

وقال الشافعي رضي الله عنه لما ذكر الكفارة في نذر اللجاج والغضب إن هذا مذهب عائشة وعدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من قال هذا يقوله في كل ما يحنث فيه سوى العتق والطلاق.

فالشافعي قد نقل عن عائشة والصحابة القائلين بالكفارة في نذر اللجاج والغضب أنهم لا يقولون بالكفارة في العتق والطلاق.

ثم إذا قلنا بالقول الشاذ الضعيف في إيجاب الكفارة في العتق فسببه أن العتق قربة، فإذا التزمه فقد التزم قربة على تقدير المخالفة، كما التزمها بالنذر الذي يخرج مخرج اليمين تجزئه الكفارة؛ لكونه قربة ملتزمة على تقدير الحنث، فشبهوه باليمين من هذا الوجه كما قدمنا؛ لكونه التزم قربة لله إن خالف ترك تعظيم حق لله فيها، وهذا المعني موجود في التزام العتق فقالوا فيه بالكفارة، هذا توجيه المذهب الشاذ.

ومن هنا يخرج الفرق بينه وبين الطلاق، فإن الطلاق يعلَّق ويقع معلقاً كما يقع منجَّزاً بالإجماع، فإذا علَّقه على وجه اليمين فهو لفظ تعليق، ولفظ التعليق في الطلاق نافذ، وما عرض له من معنى اليمين لا يؤثر في إيجاب الكفارة، لأن الطلاق ليس قربة حتى يقال: التزم قربة إن تركها عند الحنث لم يعظم حق الله فيها، كما أنه إذا حلف باسمه فخالف لم يعظم حرمة اسمه، فلم تجب الكفارة فيه؛ لأنها شرعت هناك للجبر في حرمة اسم الله وفي القربة إليه، وليس كذلك في الطلاق فنفذ تعليقه على وجهه.

ومن وجه آخر أنَّا إذا أوجبنا الكفارة في باب القربة أمكننا أن نوجبها على وجه التخيير فنقول: قد لزمك ما التزمت من القربة، فان شئت أن تقوم به فلك، وإن شئت أن تخرج منه بكفارة يمين فلك، وأما الطلاق فلا يقع مخيراً إن شاء أمضاه بعد وقوعه وإن شاء دفعه بكفارة، هذا لا يقوله عاقل ولا من مارس الشريعة ولا من فهم مقاصدها، فإن الطلاقَ حَلُّ قيد النكاح، فإذا انحلَّ فليت شعري ماذا عقده بعد حلّه، ولا سيما في يمين الثلاث وقد قال الله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل به من بعد حتى تنكح زوجا غيره).

فلو فكَّر المسكين في منتهى قوله لاستحيا من الله ومن الناس، ولكن غَطَّى عليه الهوى ومحبة الرياسة والطاعة وقبول الكلمة !! اللهم أعذنا من هذه البلوى، وقنا شر الهوى وحظوظ النفوس برحمتك.

ثم إنا نقول: قد أجمعت الأمة على أن يمين الطلاق ليست داخلة في أيمان الكفارة، فلا مَعدِلَ عن الإجماع، إذ لا يُعارض الإجماعُ بدليلٍ غيره، هذا أيضاً لم يقله أحد من المسلمين.
ثم إن هذه الأيمان التي ذكرناها هل تسمى أيماناً ؟

فيه خلافٌ، والأصح أنها لا تسمى أيماناً.

قال ابن عبد البر: وأما الحلف بالطلاق والعتق فليس بيمين عند أهل التحصيل والنظر، وإنما هو طلاقٌ بصفةٍ أو عتقٌ بصفةٍ إذا أوقعه مُوقِعٌ وقع على حسب ما يجب في ذلك عند العلماء، كلٌّ على أصله.

وقول المتقدمين: (الأيمان بالطلاق والعتق) إنما هو كلامٌ خرج على الامتناع والمجاز والتقريب، وأما الحقيقة فإنما هو طلاقٌ على وصف وعتق على وصف ما، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله عز وجل.

فقد تبيَّن خروج يمين الطلاق من الآية الكريمة.

وأما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلَّة أيمانكم)، فإن هذا المبتدع تعلَّق بها بناء على أنَّ الكفارةَ وجبت في التحريم خاصَّةً، وأن الله سبحانه وتعالى جعله يميناً وأجراه مجرى اليمين في الكفارة.

ونبَّه على دخوله في الآية المذكورة قبلها، وهذا ليس كذلك؛ فإن هذه الواقعة قد قيل إنها في قصة ماريّة، وقيل في قصة العسل.

ومن العلماء من لم يذكر فيها يميناً بالله تعالى وجعل الكفارة للتحريم، وعلى هذا القول يخرج الجواب ممَّا تقدم.
والنبي صلى الله عليه وسلم توقف عن الكفارة حتى قال له الله سبحانه ما قال، فلو كان الحرام يسمى يميناً حقيقةً لعلم دخوله في الآية الأولى، فلمَّا احتاج إلى إعلام الله إياه دلَّ على أنه لم يدخل في اليمين إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي.

وفي مسألة التحريم أقوال كثيرة للعلماء، وأكثرهم على أنه ليس بيمين على الإطلاق، فلا يدخل في الآية الكريمة إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي.

هذا على قول من يوجب الكفارة لكونه تحريماً، وأما من لم يقل بذلك فيقول: الكفارة ليمين بالله تعالى اقترنت بالتحريم.



وقد قال هذا المبتدع: من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم حَلَفَ مع الكفارة فقد قال ما لم يقله أحدٌ!!

وقد روى البيهقي بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم، فجعل الحلال حراماً، وجعل في اليمين الكفارة.

وروى أبو داود مرسلاً عن قتادة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة، فدخلت فرأت معه فقالت: في بيتي وفي يومي!! فقال: (اسكتي فوالله لا أقربها وهي علي حرام).
وقد روى البيهقي مرسلاً أيضاً عن مسروق أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف لحفصة أن لا يقرب أمته وقال: (هي علي حرام)، فنزلت الكفارة ليمينه، وأُمر أن لا يحرم ما أحل الله له.

وأما قصَّة العسل وهي أشهر في سبب نزول الآية، فروى البيهقي أن‌ عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينت بنت جحش ويشرب عندها عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فليقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب، ولن أعود له، فنزلت (لم تحرم ما أحل الله لك) إلى (إن تتوبا إلى الله) لعائشة وحفصة (وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً) لقوله: بل شربت عسلاً.

قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح عن الحسن بن محمد، ورواه مسلم عن محمد بن حاتم، كلاهما عن حجاج.

قال البخاري: وقال إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريح عن عطاء في هذا الحديث: (ولن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً).

قال ابن عبد البر: وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك): والله لا أشرب العسل بعدها.

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حلف بالله فالكفارة لليمين بالله.

وهذا معني قول عائشة: فجعل الحلال حراماً، وجعل في اليمين الكفارة، فلم تكن الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى، ولا يحتاج إلى الجواب عن الآية والله أعلم.





[align=center][الخاتمة][/align]



فهذه لمعة إقناعية لمن نظرها بعين الإنصاف، ووراء هذا من الأبحاث العقلية والمنقولات الصحيحة والنظر الفقهي ما لا يسعه إلا كتاب مطوَّل.
وقد ذكرنا في كتابنا في الردِّ عليه كثيراً منها ومن دقيقها طرد الباب كلِّه وجعل إيقاع الطلاق في اليمين بالطلاق نظيرَ إيجاب الكفارة في اليمين بالله تعالى عند الحنث، ومقتضى قياسه، فالعلةُ التي أوجبت ثبوت الكفارة في اليمين بالله تعالى هي بعينها التي اقتضت إيقاع الطلاق وإيقاع العتق عند الحنث.
هذا ما لا يفهمه إلا الفقيه المحقق، ولا يدركه من دأبه التخبيط والهذر، وهو في التحقيق على مفاوز.
أعاذنا الله من هوى يسد باب الإنصاف، ويصدُّ عن جميل الأوصاف بمنِّه وكرمه.


[align=center]الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[/align]


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 4 مشاركة ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 3 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط