[font=Tahoma][align=justify] وأما اعتراض هذا المعترض على قوله :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فهو سوء فهم وعدم علم ، وذلك أنه يقرأ البيت :
"مالي من ألوذ به سواك" …
فإذا سمع العامي -الذي هو معه في الفهم سواء-ذلك ، قال : كيف هذا الحصر ؟ فيفهم منه أن قائله قاله على الإطلاق.
وليس ذلك مراداً ، و لا هو معنى البيت . بل معناه ظاهر لمن عرف و أنصف ، فإن معنى البيت على ما يعطيه اللفظ ، مع قطع النظر عن مراد الناظم ، و عن قرائن الأحوال والأقوال، أنه يقول : يا أكرم الخلق على ربه : مالي من ألوذ به غيرُك وقت حلول الحادث العام الذي يعمّ الخلائق كلها ، وهو يوم القيامة في الموقف .
كما ورد في الأحاديث الصحيحة أن الناس ذلك اليوم تدنو الشمس منهم مقدار ميل ، و يزدحمون حتى يصير على كل قدم سبعون ألف قدم ، ويلجمهم العرق ، وتسعّر جهنم ، ويغضب الجبار جل جلاله، وكل الأنبياء والرسل يقول كل واحد : "نفسي نفسي …" ، ثم يطلب الناسُ من يشفع لهم كما في " البخاري " فيستغيثون بآدم ، ثم بإبراهيم ، ثم بموسى ، ثم بعيسى . فيأتون نبينا صلى الله عليه و على آله وسلم فيقول : " أنا لها، أنا لها "! فيشفع لجميع الخلائق من ذلك الموقف المهول الشديد الذي يشتهي الناس أن يخلصوا من شدّته ولو يُؤمر بهم إلى النار !!كما في صحيح الأخبار .
فهل ترى أن أحداً من الرسل يُلاذ به ، أو واحداً من المخلوقات يُلاذ به، إلا هو صلى الله عليه و على آله وسلم في هذا الحادث العام ، -لا في سائر الأحوال- ، بل في هذه الحال ؟!!
و "العَمِمِ" ، اسم فاعل كـ : حذِر وحفِل ، وليس مراده : مالي من ألوذ به سواك مطلقاً ، بل مقيّد بهذا الوقت الذي وردت الأحاديث الصحيحة أنه ما يكون غيره له ، بل أُوْلُوا العزم يعتذرون للناس ذلك اليوم .
فمقصوده : اللوْذ به من طرف الشفاعة ، بدليل قوله في البيت الذي بعده :
ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي إذا الكريم تجلّى باسم منتقم
إذ الجاه راجع للشفاعة ، وهكذا قرّر جميع من شرح هذه القصيدة من العلماء الأكابر .
قال الشيخ خالد الأزهري في " شرحه " على هذه القصيدة : {ألوذ : ألتجئ ، سواك : غيرك ، وحلول الحادث العمم : هول يوم القيامة الشامل لجميع الخلق . والمعنى : يا أكرم كل مخلوق ، مالي أحد غيرك – يعني من المخلوقين – ألتجئ إليه يوم القيامة من هوله العميم والناس يتطاولون إلى جاهك الرفيع ، ولن يضيق بي جاهك إذا اشتد الأمر و عيل الصبر ، فإنك أعظم الخلق على الله ، المعوّل في الشفاعة عليه }. انتهى .وكذلك قال غيره من الشُراح . بقي أن يعترضوا-أي الوهابية- على قوله : "يا أكرم الخلق …" ، فإن هذا عندهم دعاء-و دعاء غير الله شرك- . [لكن الحق أن ]هذا نداء ، فلا وجه للتكفير به ، لأن النداء إذا كان ضاراً و عبادة كما يزعمون ، للزم أنه لا يُنادَى أحدٌ حي ولا ميت ، لأن كون الشيء الواحد بالنسبة للحي يكون طاعةً ، وللميت والغائب يكون عبادةً ، لم يُعهد هذا شرعاً و عرفاً . إنما الدعاء الذي هو عبادة ، فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها ، وهذا لا يقصده أجهل المسلمين فضلا عن أكابر العلماء العاملين .
والدليل على أن النداء والطلب من الأموات والغائبين ليس بعبادة بل هو مأمور به شرعاً : آياتٌ وأحاديث وآثار ، وأقوال العلماء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة الأخيار كما ستحيط به علماً ، ولكن لا تعجلْ ، بل تصبّرْ وتبصّرْ ، واستوعب الأدلة التي تقرأ ، وتقرر ، وأنصفْ ,لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله : الدليل الأول : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } " المائدة 35 " ، قال البغوي في تفسير قوله تعالى في الآية الأخرى { يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه } " الإسراء 57 " :
{ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الوسيلة كل ما يُتقرب به إلى الله ، أي ينظرون أيهم أقرب إلى الله ، فيتوسلون به} اهـ
فالوسيلة عامةٌ شاملة للذوات والأفعال والأقوال ، وتخصيصُها بالأفعال تحكّم لا دليل عليه ، مع أن الذوات الفاضلة أفضل من الأفعال الصادرة عنها ، لا سيما نبينا صلى الله عليه و على آله وسلم . الدليل الثاني : قوله تعالى : { لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً } " مريم 87" ،
قال المفسرون : العهد هو قول : لا إله إلا الله محمد رسول الله .و قيل معناه : لا يشفع الشافعون إلا لمن اتخذ عند – أي – مع الرحمن عهدا ، يعني المؤمنين أهل لا إله إلا الله .و قيل : ملّك الله المؤمنين الشفاعة ، فلا يشفع إلا من شهد لا إله إلا الله . أي لا يشفع إلا مؤمن .
وعلى كل حال ، فقد أخبر الله تعالى أنه ملّك المؤمنين الشفاعة ، فطلبُها ممّن يملكها -بتمليك الله- لا مانع منه ، كمن طلب المال وغيره ممن ملّكه الله له .
و مراد المنادي له والمتوسل به صلى الله عليه و على آله وسلم ، إنما هو الشفاعة ، وشفاعته صلى الله عليه و على آله وسلم هي الدعاء [للمتوسّل]، وهو حاصل له ولسائر الموتى من المؤمنين ، كما ورد في الأحاديث الصحيحة .
قال ابن رجب الحنبلي : {وقد صحّ عرْضُ الأعمال كلها على رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم لأنه لهم بمنزلة الوالد ، خرّج البزار في " مسنده " ، قال رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم : " حياتي خير لكم تُحدثون ويحدث لكم ، و وفاتي خير لكم ، تُعرض عليّ أعمالكم ، فما رأيت من خير حمدت الله عليه ، وما رأيت من شر استغفرتُ الله لكم "} .
والدعاء من الحي و الميت هو شفاعةٌ ،كما ورد في صلاة الجنازة أن الداعي يقول : " وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له بين يديك " . واستغفارهم شفاعة و دعاء ، كما هو ظاهر .
وأما الأحاديث الصحيحة في طلب الصحابة الكرام منه صلى الله عليه و على آله وسلم ولم ينكرها عليهم ، فكثيرة شهيرة ولم يقل لهم : حتى يأذن الله لي ، وأنتم طلبتم مني قبل الإذن فقد أشركتم !!.
فدلّ على أن ذلك جائز مطلقاً في حال حياته وموته صلى الله عليه و على آله وسلم ، لأنه صلى الله عليه و على آله وسلم بعد موته حيّ في قبره بالاتفاق . الدليل الثالث :
الحديث الأول : أخرج الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : { قلت : اشْفَعْ لي يا رسول الله يوم القيامة. فقال صلى الله عليه و على آله وسلم : " أنا فاعل " ، قلت : فأين أطلبك ؟ قال صلى الله عليه و على آله وسلم : " أول ما تطلبني على الصراط " ، قلت : فإن لم ألقك هناك ؟ قال صلى الله عليه و على آله وسلم : " فاطْلُبني عند الميزان " ، قلت : فإن لم ألقك هنالك ؟ ، قال صلى الله عليه و على آله وسلم : " فاطْلبني عند الحوض ، فإني لا أخطئ هذه المواطن الثلاثة "}.اهـ
فإن قال قائل : إن هذا الطلب للشفاعة في حال حياته ، وهو جائز .
قلنا : لا ، بل طلب منه ما ليس في حياته ، وهو الشفاعة يوم القيامة ، وما جاز أن يُطلب منه في الحياة ، جاز أن يُطلب بعد الممات ، ومن ينفي فعليه الدليل أن النبي صلى الله عليه و على آله وسلم نهى عن ذلك في حديث. بل على قولكم (إن الطلب نفسه عبادة )، يقتضي أن لا فرق بين الحياة والممات، لأن العبادة ممنوعة في الحالتين !!
وما تقولون في قوله صلى الله عليه و على آله وسلم لمّا قال الصدّيق رضي الله تعالى عنه : " قوموا نستغيث برسول الله من هذا المنافق ، فقال صلى الله عليه و على آله وسلم : " إنه لا يُستغاث بي ، إنما يستغاث بالله ".اهـ وهو حيّ قادر - على قولكم- ، وقد أخبر الله عن موسى عليه السلام : { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه } ؟! .
الحديث الثاني:
وهو الدليل الرابع : قال الإمام أحمد في " مسنده " عن أنس رضي الله تتعالى عنه قال :" ما شممتُ عبيرا قطّ ولا مسكاً قط ،ولا شيئاً قط أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم " .قال ثابت رضي الله تعالى عنه فقلت : يا أبا حمزة ألست كأنك تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم ، وكأنك تسمع إلى نغمته ؟ . فقال رضي الله تعالى عنه : بلى والله ، إني أرجو أن ألقاه يوم القيامة فأقول : يا رسول الله ، خويدمك أنس ..". الحديث . وفي " الجامع الصغير " للإمام السيوطي : عَنْ خَادِمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَقُولُ لِلْخَادِمِ: أَلَكَ حَاجَةٌ ؟ ، قَالَ: حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَاجَتِي! قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ ؟ قَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: وَمَنْ دَلَّكَ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: إِمَّا لَا فَأَعِنِّي بِكَثْرَةِ السُّجُودِ" .اهـ الدليل الخامس : روى الترمذي ، والنسائي ، و البيهقي وصحّحه، والحاكم وقال : (على شرط البخاري ومسلم) وأقرّه الحافظ الذهبي ، عن عثمان بن حنيف ، قال :{ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال : يا رسول الله ليس لي قائد وقد شقّ عليّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ائت الميضأة فتوضأْ ، ثم صلّ ركعتين ، ثم قُلْ : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلّي لي بصري ، اللّهم شفّعْه فيَّ وشفّعْني في نفسي » ، قال عثمان : فوالله ما تفرّقنا ولا طال الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضرّ قط.}.اهـ . أقول : ولا يخفى أن هذا الحديث من دلائل نبوته صلى الله عليه و على آله وسلم ومعجزاته ، حيث أن رجلا أعمى أبصر ببركته صلى الله عليه و على آله وسلم كما كان عيسى بن مريم يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله . وترجم له المحدّثون بـقولهم: " باب من له إلى الله حاجة ، أو إلى أحد من خلقه " .
وذكره الحافظ الجزري في " الحصن الحصين " ، والحافظ السيوطي في " الجامع الصغير " ،
وشرْحه للمناوي ، و قال العلامة علي القاري الحنفي :{ " قوله ( " يا محمد " ) : إلتفات وتضرع لديه ، ليتوجه النبي صلى الله عليه و سلم بروحه إلى الله تعالى ، ويُغني السائل عما سواه ، وعن التوسل إلى غير مولاه، قائلاً : " إني أتوجه بك " أي بذريعتك ، الذريعة :الوسيلة ، والباء للاستعانة ،و " إلى ربي في حاجتي هذه " ، وهي المقصودة المعهودة " لتُقضى لي " . ويمكن أن يكون التقدير : ليقضي الله الحاجة لأجلك ، بل هذا هو الظاهر . وفي نسخة : " لتَقضي " بصيغة الفاعل ، أي : لتقضي أنت يا رسول الله الحاجة لي . والمعنى : لتكون سبباً لحصول حاجتي و وصول مرادي ، فالإسناد مجازي .}.انتهى .
قال المجوّزون[ و هم جمهور العلماء] : فقوله في الحديث : " يا محمد ، إني أتوجه بك في حاجتي لتقضى .. " : نداء وطلب منه صلى الله عليه و على آله وسلم ،واستغاثة به وتوسل ، والنبي صلى الله عليه و على آله وسلم كان غائباً وقال له : " وإن كانت لك حاجة ، فمثل ذلك " ، وحاشا رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم أن يعلّم أمّته الشرك وقد بُعث لهدمه !!.
فدلّ أن النداء له والطلب منه صلى الله عليه و سلم ليس بشرك ، كما يعنيه الخوارج .
وأجاب ابن تيمية عن هذا الحديث:{ بأن الأعمى صوّر صورة النبي صلى الله عليه و على آله وسلم[في ذهنه] وخاطَبها كما يخاطب الإنسان من يتصوره ممن يحبه أو يبغضه ، وإن لم يكن حاضراً }. انتهى .
وهو عجيب !! فإن نداء الصورة والطلب منها مع كونها وهمية خيالية ، أقوى في الحجة على المانع .
فهذا الحديث الصحيح [المجمع على صحته]هو الدليل لمن يجوّز نداء النبي صلى الله عليه و على آله وسلم في غيبته وبعد موته ، والناظم ممّن يرى ذلك .
والدليل على أن هذا الحديث عامّ [للحياة و بعدها] : ما رواه البيهقي ، والطبراني بسند صحيح عن عثمان بن حنيف راوي الحديث الأول : أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأْ ثم ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثم قلْ: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي ،وتذكر حاجتك، و رُحْ إليّ حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان، فجاء البوّاب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له؛ ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلمتَه فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمتُه ولكن شهدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادْعُ بهذه الكلمات. فقال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط.}.اهـ
وسيأتي في كلام ابن تيمية أن للناس في الحديث قولين : قولاً بجواز التوسل به ، بمعنى طلب دعائه في حياته . وقولاً بجواز ذلك في حياته و مماته ، وحضوره ومغيبه .
وعلى كلا القولين لا مانع من طلب صاحب " البردة " للشفاعة منه صلى الله عليه و على آله وسلم؛ لأنه -على الرأي الأول- يكون طالباً لدعائه وهو حيّ في قبره ، وعلى الثاني فظاهر . وسيأتي أقوال السلف والخلف ، وتواطئهم على جوازه .
الدليل السادس : روى الحاكم في " المستدرك " ، وأبو عوانة في " صحيحه " ، والبزار بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه و على آله وسلم أنه قال : { إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة ، فلْيناد : يا عباد الله احْبِسوا ، فإن لله حاضراً سيجيبه } .اهـ
وقد ذكر هذا الحديث: ابنُ تيمية في كتاب " الكلم الطيب "( فصل: في الدابة تنفلت) عن أبي عوانة ، و ابن القيم في " الكلم الطيب " له أيضا ، و الإمام النووي في " الأذكار " ، والحافظ الجزري في " الحصن الحصين " وغيرهم ممن لا يُحصى من المحدّثين ، وهذا اللفظ رواية ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعاً .
وأما قول هذا النجدي : "إن هذا نداء لحاضر" . فكذب ظاهر ، فإن عباد الله المدعُوّين - و إن كانوا حاضرين بالنسبة لعلم الله الذي لا يغيب عنه شيء- ، فهم غائبون بالنسبة لمن يناديهم .وكذلك الأنبياء والصالحون وأهل القبور ، فإنهم أحياء في قبورهم، وأرواحهم موجودة [و لكن غائبون بالنسبة لمن يناديهم] .ولهذا أمر النبي صلى الله عليه و على آله وسلم أمته أن ينادوهم ويخاطبوهم مخاطبة الحاضرين مع أنهم غائبون عن العين ، بل ربما يُسمع منهم ردّ السلام وقراءة القرآن والأذان من داخل قبورهم ، كما ذكر ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " .
فليس نداء النبي صلى الله عليه و على آله وسلم وخطابُه أقل من عباد الله الذين أَمر نبينا صلى الله عليه و على آله وسلم أن نناديهم ونستعين بهم في ردّ الدابة ، ولكن مقصوده صلى الله عليه و على آله وسلم هو التسبّب ، فإن الله ربط الأمور بالأسباب ، والنبي صلى الله عليه و على آله وسلم أفضل الوسائل والأسباب ، خصوصاً يوم القيامة .
ولكون النبي صلى الله عليه وسلم حاضراً مع موته، شُرع لنا خطابُه والتسليم عليه في الصلاة ، وهو قولنا : "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" . ولولا ذلك لكان هذا الخطاب عبثاً ، وحاشا هذه الشريعة الغراء العبث فيها .
فهو على قولين : إما أنه يسمع سلام المسلّمين عليه ويعرفهم حيث ما كانوا ، أو أنه موكَّل بقبره صلى الله عليه و على آله وسلم مَلَك يبلّغه عن أمته السلام .
الدليل السابع : قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": { (باب ما يقول إذا انفلتت دابته أو أراد غوثا أو أضل شيئا) عن عتبة بن غزوان عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أضل أحدكم شيئا أو أراد عونا وهو بأرض ليس بها أنيس فلْيقل: يا عباد الله أعينوني [و في نسخة:أغيثوني]، فإن لله عبادا لا نراهم ". وقد جُرّب ذلك.
رواه الطبراني و رجاله وُثّقوا على ضعف في بعضهم إلا أن يزيد بن علي لم يدرك عتبة.
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فلْيناد: أعينوا عبادَ الله" .رواه الطبراني ورجاله ثقات.}.اهـ
فهبْ أن عباد الله المدعُوّين حاضرون –كما قال- ، ولكن لماّ لم يرهم الداعي لهم ، كيف يهتدي إلى الطريق؟ ، أو كيف يحصل له مقصوده في مثل الهداية إلى الطريق وهو لم يرهم ؟ وكيف حصلت له الهداية بمجرد هذا الكلام لولا أنهم وسيلة و سبب ، و الله هو الفعال ؟!
فكذلك خطاب النبي صلى الله عليه و على آله وسلم ، أقل مراتبه أن يكون كالجن أو رجال الغيب[الملائكة] ، مع أنه صلى الله عليه و على آله وسلم أفضلهم وأقربهم وسيلة عند ربه تعالى .
الدليل الثامن : روى البيهقي و ابن أبى شيبة عن مالك الدار رضي الله تعالى عنه - وكان خازن عمر رضي الله تعالى عنه- قال : {أصاب المدينة قحط في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فجاء رجل إلى قبر رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم فشكا له فقال : يا رسول الله إسْتسق لأمتك فإنهم قد هلكوا .
فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال : " ائت عمر وأقْرئه السلام وأخبره أنهم مُسْقَوْن" الحديث .}اهـ و قد ذكر ابن تيمية هذا الحديث في " اقتضاء الصراط المستقيم " ونقله النجدي في رسالته عنه ، وأقرّه ولم ينكره .
و هاك نصه في " اقتضاء الصراط المستقيم" : { وكذلك أيضا ما يُروى : " أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فشكا إليه الجدب عام الرمادة ، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر ، فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس" ؛ فإن هذا ليس من هذا الباب . ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه و سلم ، و أعرِف من هذا وقائع.
وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم [ يعني في قبره] - أو لغيره من أمته- حاجةً فتُقضى له ، فإن هذا قد وقع كثيرا ، وليس هو مما نحن فيه . وعليك أن تعلم : أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لهؤلاء السائلين ، ليس مما يدل على استحباب السؤال ، فإنه هو القائل صلى الله عليه وسلم : « إن أحدهم ليسألني المسألة فأعطيه إياها ، فيخرج بها يتأبطها نارا " ، فقالوا : يا رسول الله ، فلم تعطيهم؟ قال : " يأبون إلا أن يسألوني ، ويأبى الله لي البخل ».
وأكثر هؤلاء السائلين الملحّين [عند قبره]-لِماَ هم فيه من الحال- لو لم يُجابوا لاضطرب إيمانهم ، كما أن السائلين به في الحياة كانوا كذلك ، وفيهم من أُجيب وأُمر بالخروج من المدينة ..}. اهـ كلامه.
ولا يخفى أن هذه المسألة والسؤال والشكوى للنبي صلى الله عليه و على آله وسلم وقعت في زمن الصحابة وخير القرون ، فلو كان ذلك ممنوعاً لم يفعله الصحابي الذي هو أعلم بالدين من سائر علماء المسلمين ، ولم يُنكَر عليه مع وجود الصحابة الكرام ، فعُلم أن هذا أمر معلوم عندهم جوازُه واستحبابه ، و إلا لنُقل عن واحد منهم إنكاره.
الدليل التاسع : ذكر الحافظ ابن عساكر في " تاريخه " ، و ابن الجوزي في " مثير الغرام الساكن " ، والإمام هبة الله في " توثيق عرى الإيمان " عن العُتبي التابعي الجليل : أن أعرابياً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه و على آله وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله ، [ وفي رواية ذكرها الطبري أنه قال : ويا خير الرسل سمعتُ الله يقول : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما } وقد جئتُك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً[أي متوسلا] بك إلى ربي .
ثم أنشد :
يا خير من دُفنت في القاع أعظمه ***** فطاب من طيبهن القاع و الأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ****** فيه العفاف وفيه الجود و الكرم
قال العُتبي : فحملتني عيناي ، فرأيت النبي صلى الله عليه و على آله وسلم في النوم وقال : " يا عُتبيّ ، إلْحق الأعرابي فبشّرْه بأن الله غفر له " .اهـ
و قدتلقى علماء الأمة كلها هذا الأثر بالقبول ، وذكره أئمة المذاهب الأربعة في المناسك مستحسنين له . وفيه نداء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم و طلب الشفاعة منه في الدنيا .
وسيأتي نقل نصوص العلماء سيما من الحنابلة لهذا الأثر.
و قال ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم ":{ .. ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي و أحمد ، مثلَ ذلك ، واحتجوا بهذه الحكاية[ حكاية العتبي] التي لا يثبت بها حكمٌ شرعي ، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعا مندوبا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم ، بل قضاء حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب قد بُسطت في غير هذا الموضع .[...].. وقد يفعل الرجل العملَ الذي يعتقده صالحًا ، ولا يكون عالمًا أنه منهيّ عنه ، فيُثاب على حسن قصده ، ويُعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع .[...].. ثم الفاعل قد يكون متأوّلا أو مخطئا مجتهدا أو مقلّدا ، فيُغفر له خطؤه ويُثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع ، كالمجتهد المخطئ ، وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع. }. اهـ كلامه.
و ذكر مثل ذلك في بعض الفتاوى ، وذكره ابن عبد الهادي- تلميذُه- عنه في "الصارم المنكي". فلو فرضنا أن صاحب البردة رحمه الله تعالى لم يتّبع تلك الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة في طلبه منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الدنيا والآخرة ، وقلنا بقول الشيخ ابن تيمية أنه منهيّ عنه أَوْ ليس مستحباً كما قال في " اقتضاء الصراط"، لكن أليس ابن تيمية أعذر المتأوّل والمخطئ والمجتهد والمقلّد وقال إنه يُغفر له ويثاب على فعله ؟! فمالكم تكفّرون مخالفيكم؟!!
فلْنجعل هذا الرجل من هذا القبيل فلا نكفّره ، فكيف يحلّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكفّر رجلاً أقدم من ابن تيمية ، بل تلاميذه[أي تلاميذ البوصيري] من شيوخه ومعاصريه كالإمام أبى حيان النحوي المفسر ، و الإمام العز بن جماعة و غيرهما ؟؟!! .
فقبّح الله تعالى الجهل و الجرأة أين تصل بصاحبها !! .
الدليل العاشر : ذكر الإمام القسطلاني في " المواهب اللدنية " ، و السمهودي في " الوفا" قالا :{ روى أبو سعد السمعاني عن علي كرم الله وجهه أن أعرابياً قدم علينا بعد دفن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره ، وحثا من ترابه على رأسه وقال : يا رسول الله ، قلتَ فسمعنا قولك ، و وعيت عن الله فوعينا عنك . وكان فيما أنزل إليك : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي . فنودي من القبر : " غُفر لك " }.اهـ
أقول : و يعضد هذا الأثرَ ، الأثرُ المتقدم الذي تلقاه الأئمة بالقبول.
يتبع إن شاء الله
من كتاب :[نحت حديد الباطل وبرده بأدلة الحق الذابة عن صاحب البردة ( 53-66 )] للإمام داود بن سليمان النقشبندي البغدادي [/align][/font]
_________________ رضينا يا بني الزهرا رضينا بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا
يا رب
إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ
|