الملخص:
1-{الغار}: هو في اللغة فجوة في الجبل تشبه البيت، كالمغارة والكهف، والمراد به هنا غار جبل ثور الواقع على بعد ساعة سيرا من مكة، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام.
2-قوله تعالى: "فأنزل الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ" قَالَ: عَلَى أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ تَزَلْ السَّكِينَةُ مَعَهُ. قال بهذا سيدنا علي بن أبي طالب، وابن عباس، وحبيب بن أبي ثابت وغيرهم.
3- مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الغار ثلاثا.
4- سيدنا أبي بكر هو الوحيد الذي فاز بلفظ الصحبة منفرداً في القرآن الكريم.
5- فِي هذه الآية من الْفِقْهِ ائْتِمَانُ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى السِّرِّ وَالْمَالِ إِذَا عُلِمَ مِنْهُمْ وَفَاءٌ وَمُرُوءَةٌ.
المشاركة:
الجزء العاشر: قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) } [التوبة: 40]
التفسير الوسيط - مجمع البحوث (3/ 1704 - 1705)
المفردات:
{ثاني اثنين}: أي أحد اثنين، هما الرسول - صلى الله عليه وسلم -,وأبو بكر- رضي الله عنه-. {الغار}: هو في اللغة فجوة في الجبل تشبه البيت، كالمغارة والكهف، والمراد به هنا غار جبل ثور الواقع على بعد ساعة سيرا من مكة، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام.
{سكينته}: طمأنينته التي تسكن عندها القلوب.
التفسير
أي إلا تنصروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يطلب منكم الجهاد معه فسينصره الله بغيركم، فقد نصره في وقت أشد وأقسى مما هو فيه، وذلك حين أخرجه الذين كفروا من مشركى مكة، حيث حملوه بمؤامرتهم وتوالى إيذائهم له على الهجرة، وهو واحد من اثنين فحسب, إذ كان معه أبو بكر - رضي الله عنه - فقد حماهما الله تعالى وهما يسيران وحدهما نحو الغار للاختفاء فيه حتى ينقطع الطلب عنهما، ثم حماهما وحرسهما بينما كانا في الغار ثلاث ليال، حين كان يقول الرسول لصاحبه أبي بكر الصديق وهو مشفق عليه من أن يصل إليه المشركون: {لا تحزن إن الله معنا} بالعون والحماية من المكاره، فلن تصل إلينا أيديهم بسوء.
روى أن المشركين طلعوا فوق الغار, فأشفق أبو بكر - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه.
وفي ذلك أخرج البخاري ومسلم عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: "قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الغار - لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه, قال: فقال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
{فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها}: أي فأنزل الله طمأنينته على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال لصاحبه ما قال, وأيده بجنود خفية لم تقع عليها أبصاركم, فلم يستطع أعداؤه بسبب هذه الحراسة الربانية, أن يصلوا إلى مأربهم فيه, وإن وصلوا إلى الغار الذي يؤويه وعادوا خائبين.
{وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم}:
أي وكان من تمام نصره لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه تعالى جعل كلمة الشرك التي يتمسك بها المشركون ويحرصون عليها, جعلها هي السفلى, حيث غلبت على أمرها, وكلمة الله التي يفادى بها الإسلام هي العليا, التي تغلب ولا تُغلب.
وذلك بتمكينه من الهجرة إلى المدينة ونصره على أهل الشرك, في المعارك التي حدثت بينه وبينهم قبل غزوة تبوك, والله عزيز يقهر كل جبار عنيد, حكيم في أمره وتدبيره, فلا تخالفوا أمره وأمر رسوله.أهـ
تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (14/ 257 - 262)
القول في تأويل قوله: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله أصحابَ رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكيرٌ منه لهم فعلَ ذلك به، وهو من العدد في قلة، والعدوُّ في كثرة، فكيف به وهو من العدد في كثرة، والعدو في قلة؟
يقول لهم جل ثناؤه: إلا تنفروا، أيها المؤمنون، مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه، فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم; كما نصره (إذ أخرجه الذين كفروا) ، بالله من قريش من وطنه وداره (ثاني اثنين) ، يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين، أي: واحد من الاثنين.
وكذلك تقول العرب: "هو ثاني اثنين" يعني: أحد الاثنين، و"ثالث ثلاثة، ورابع أربعة"، يعني: أحد الثلاثة، وأحد الأربعة. وذلك خلاف قولهم: "هو أخو ستة، وغلام سبعة"، لأن "الأخ"، و"الغلام" غير الستة والسبعة، "وثالث الثلاثة"، أحد الثلاثة.
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: (ثاني اثنين) ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، لأنهما كانا اللذين خرجَا هاربين من قريش إذ همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار.
وقوله: (إذ هما في الغار) ، يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه، في الغار.
و"الغار"، النقب العظيم يكون في الجبل.
(إذ يقول لصاحبه) ، يقول: إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر، (لا تحزن) ، وذلك أنه خافَ من الطَّلَب أن يعلموا بمكانهما، فجزع من ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن"، لأن الله معنا والله ناصرنا، فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا.
يقول جل ثناؤه: فقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد، فكيف يخذله ويُحْوِجه إليكم، وقد كثَّر الله أنصاره، وعدد جنودِه؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
16725- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا تنصروه) ، ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثَه. يقول الله: فأنا فاعلٌ ذلك به وناصره، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.
16726- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله) ، قال: ذكر ما كان في أول شأنه حين بُعثَ، فالله فاعلٌ به كذلك، ناصره كما نصره إذ ذاك (ثانيَ اثنين إذ هما في الغار) .
16727- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله) ، الآية، قال: فكان صاحبَه أبو بكر، وأما "الغار"، فجبل بمكة يقال له: "ثَوْر".
16728- حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وكان لأبي بكر مَنِيحةٌ من غَنَم تروح على أهله، فأرسل أبو بكر عامر بن فهيرة في الغنم إلى ثور. وكان عامر بن فهيرةَ يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في ثور، وهو "الغار" الذي سماه الله في القرآن.
16729- حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي قال، حدثنا عفان وحَبَّان قالا حدثنا همام، عن ثابت، عن أنس، أن أبا بكر رضي الله عنه حدَّثهم قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وأقدامُ المشركين فوق رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قَدَمَه أبصرنا! فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟
16730- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قال: مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا.
16731- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: (إذ هما في الغار) ، قال: في الجبل الذي يسمَّى ثورًا، مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليالٍ.
16732- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبيه: أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال: أيُّكم يقرأ "سورة التوبة"؟ قال رجل: أنا. قال: اقرأ. فلما بلغ: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن) ، بكى أبو بكر وقال: أنا والله صاحبُه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله وقد قيل: على أبي بكر (وأيده بجنود لم تروها) ، يقول: وقوّاه بجنودٍ من عنده من الملائكة، لم تروها أنتم (وجعل كلمة الذين كفروا) ، وهي كلمة الشرك (السُّفْلى) ، لأنها قُهِرَت وأذِلَّت، وأبطلها الله تعالى، ومحق أهلها، وكل مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب، والغالب هو الأعلى (وكلمة الله هي العليا) ، يقول: ودين الله وتوحيده وقولُ لا إله إلا الله، وهي كلمتُه (العليا) ، على الشرك وأهله، الغالبةُ، كما:-
16733- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) ، وهي: الشرك بالله (وكلمة الله هي العليا) ، وهي: لا إله إلا الله.
وقوله: (وكلمة الله هي العليا) ، خبر مبتدأ، غيرُ مردودٍ على قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) ، لأن ذلك لو كان معطوفًا على "الكلمة" الأولى، لكان نصبًا.
وأما قوله: (والله عزير حكيم) ، فإنه يعني: (والله عزيز) ، في انتقامه من أهل الكفر به، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، ولا ينصر من عاقبه ناصر (حكيم) ، في تدبيره خلقَه، وتصريفه إياهم في مشيئته.أهـ
تفسير ابن أبي حاتم - محققا (6/ 1798 - 1802)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدِ نَصَرَهُ اللَّهِ.
10036 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ حَمْزَةَ ثنا شَبَابَةُ ثنا وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: إِلا تَنْصُرُوهُ ذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ أَوَّلِ شَأْنِهِ حِينَ بَعَثَ، يَقُولُ: فَاللَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ بِهِ، نَاصِرُهُ كَمَا نَصَرَهُ وَهُوَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا.
10037 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَنْبَأَ إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ ابن عَازِبٍ قَالَ: اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَازِبِ رَحْلا بِثَلاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ: مُرْهُ لِيَحْمِلْهُ لِي فَقَالَ لَهُ عَازِبٌ: لَا، حَتَّى تُخْبِرَنِي كَيْفَ صَنَعْتَ أَنْتَ وَرَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ خَرَجْتُمَا والمشركون يطلبوكما، فقال: ارتحلنا والقوم يطلبونا فلم يدركنا مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ له فقلت له: هذا الطلب قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَلَمَّا أَنْ دَنَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قِيدُ رُمْحٍ أَوْ ثُلُثَهُ، فقلت: هذا الطلب قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَبَكَيْتُ فَقَالَ: ما يبكيك؟ فقلت: أما والله على نفسي أبكي ولكن أبكي عَلَيْكَ، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ فَسَاخَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا فَوَثَبَ عَنْهَا» ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنَجِّينِيَ مِمَّا أَنَا فِيهِ، فو الله لأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنَ الطَّلَبِ، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ سَهْمًا، فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ عَلَى إِبِلِي وَغَنَمِي بِمَكَانِ كَذَا وكَذَا فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا حَاجَةَ لَنَا فِي إِبِلِكَ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ رَاجِعًا إِلَى أَصْحَابِهِ وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ.
10038 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا أَبُو مَالِكٍ- كَثِيرُ بْنُ يَحْيَى- ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بَلْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَشَرَى عَلِيٌّ بِنَفْسِهِ نَامَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرْمُونَهُ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: لَسْتُ نَبِيَّ اللَّهِ، أَدْرِكْ نَبِيَّ اللَّهِ بِبِئْرِ مَيْمُونٍ، فَدَخَلَ مَعَهُ الْغَارَ وَكَانُوا يَرْمُونَ رَسُولَ اللَّهِ فَلا يَتَضَوَّرُ وَكَانَ عَلِيٌّ يَتَضَوَّرُ فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالُوا: كُنَّا نَرْمِي مُحَمَّدًا فَلا يَتَضَوَّرُ، وَأَنْتَ تَتَضَوَّرُ وَقَدِ اسْتَنْكَرْنَا ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ.
10039 - حَدَّثَنَا يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى أَنْبَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ ثنا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: قالت عائشة بينا نحن يوما جلوسا فِي نَحَرِ الظَّهِيرَةِ إِذْ قَالَ قَائِلٌ لأَبِي بكر: هذا رسول الله مقبلا، فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدًى لَهُ أَبِي وَأُمِّي إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لأَمْرٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَقَالَ أَبُو بكر: الصحابة بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ مِنِّي إِحْدَى رَاحِلَتِيَّ هَاتَيْنِ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالثَّمَنِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحْسَنَ الْجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا صفرَةً فِي جِرَابٍ، وَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَأَوْكَتْ بِهِ الْجِرَابَ، فَلِذَلِكَ تُسَمَّى ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِغَارٍ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: ثَوْرٌ، فَمَكَثَا فِيهِ ثَلاثَ لَيَالٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
10040 - حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثنا حُمَيْدُ الرُّؤَاسِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ الأَشْجَعِيِّ عَنْ نَعَمٍ عَنْ نُبَيْطٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ قَالَ: أَخَذَ عُمَرُ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: مَنْ لَهُ هَذِهِ الثَّلاثُ؟ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ مَنْ صَاحِبُهُ؟ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ مَنْ هُمَا؟ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
10041 - حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ ثنا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عمرو ابن الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ خَطَبَ قَالَ: أَيُّكُمْ يَقْرَأُ سُورَةَ التَّوْبَةِ؟! قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: اقْرَأْ، فَلَمَّا بَلَغَ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تحزن بَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ صَاحِبُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عليه.
[الوجه الأول]
10042 - حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ ثنا أَبُو دَاوُدَ ثنا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ لَيْلَةً إِذْ رَأَى دَابَّتَهُ تَرْكُضُ أَوْ قَالَ: فَرَسُهُ تَرْكُضُ، فَنَظَرَ فَإِذَا مِثْلُ الضَّبَابَةِ أَوْ مِثْلُ الْغَمَامَةِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: تِلْكَ السَّكِينَةُ نَزَلَتْ لِلْقُرْآنِ، أَوْ تَنَزَّلَتْ عَلَى الْقُرْآنِ.
10043 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنْبَأَ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنْبَأَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَن رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ كَانَ فِي مَجْلِسٍ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ طَأْطَأْ نَظَرَهُ ثُمَّ رَفَعَهُ فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ- يَعْنِي أَهْلَ الْمَجْلِسِ أَمَامَهُ- فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ تَحْمِلُهَا الْمَلائِكَةُ كَالْقُبَّةِ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُمْ تَكَلَّمَ رَجُلٌ بِبَاطِلٍ فَرُفِعَتْ عَنْهُمْ.
10044 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ ثنا سُفْيَانُ عَنْ مسعدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: السَّكِينَةُ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الإِنْسَانِ، وَهِيَ بَعْدَ رِيحٍ هَفَّافَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
10045 - حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثنا مِنْجَابٌ بْنُ الْحَارِثِ أَنْبَأَ بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قَالَ: الطُّمَأْنِينَةُ. وَهِيَ مِثْلُ الأُخْرَى فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ قَدْ ذُكِرَ بِالاسْتِقْصَاءِ فِي الْبَقَرَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَيْهِ.
10046 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْمِصِّيصِيُّ وَالسِّيَاقُ لإِبْرَاهِيمَ قَالا: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ عَنْ حَبِيبِ ابْنِ أَبِي ثَابِتٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَّا النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَتْ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ.
10047 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ ثنا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ عَنْ أَشْعَثَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قَالَ: عَلَى أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ تَزَلْ السَّكِينَةُ مَعَهُ.
10048 - ذُكِرَ عَنْ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَيَّدَهُ.
10049 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ النبيل ثنا أَبِي أَنَا شَبِيبٌ ثنا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فأيدنا يَقُولُ: قَوَّيْنَا.
10050 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ وَأَيَّدَهُ قَالَ: أَعَانَهُ جِبْرِيلُ- وَرُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: نَحْوُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا.
10051 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ فِيمَا كتاب إِلَيَّ ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ ثنا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدَّيِّ قَوْلُهُ: بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا قَالَ: هُمُ الْمَلائِكَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا الْآيَةَ
10052 - حَدَّثَنَا أَبِي ثنا أَبُو صَالِحٍ ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
10053 - حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ رَوَّادٍ ثنا آدَمُ ثنا أَبُو جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يَقُولُ: عَزِيزٌ فِي نِقْمَتِهِ إِذَا انْتَقَمَ، حَكِيمٌ فِي أَمْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ نَحْوُ ذَلِكَ.
10054 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَنْبَأَ أَبُو غَسَّانَ ثنا سَلَمَةُ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَزِيزُ فِي نُصْرَتِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ إِذَا شَاءَ الْحَكِيمُ فِي عُذْرِهِ وَحُجَّتِهِ إِلَى عِبَادِهِ.أهـ
تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (5/ 47 - 49)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ هذا إعلام من الله أنه هو المتكفّل بنصر رسوله وإظهار دينه أعانوه أو لم يعينوه، وأنه قد نصره حين كان أولياؤه قليلا وأعدائه كثيرا، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدّة فقال عزّ من قائل: إِلَّا تَنْفِرُوا أيها المؤمنون إذا استنفركم، ولا تنصروه إذا استنصركم فالله يعينه يعوّضه عنكم كما نصره إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وقيل: [معناه] : إن لم تنصروه فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من مكة حين مكروا به وأرادوا [إخراجه] وهموا بقتله ثانِيَ اثْنَيْنِ نصب على الحال، وهو أحد الاثنين، والاثنين رسول الله وأبو بكر الصديق إِذْ هُما فِي الْغارِ وهو نقب في جبل بمكة يقال له ثور إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ أبي بكر رضي الله عنه لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا للعون والنصرة، ولم يكن حزن أبي بكر رضي الله عنه جبنا منه ولا سوء ظن وإنما كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يدلّ عليه أنه قال: يا رسول الله إن قتلت فأنا رجل واحد، وإن قتلت هلكت الأمة.
همام عن ثابت عن أنس أن أبا بكر حدّثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلّم ونحن في الغار: لو أن أحدا نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا فقال: يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما.
قال مجاهد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الغار ثلاثا.
قال عروة: كان لأبي بكر منيحة من غنم فكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلّم في الغار.
وقال قتادة: كان عبد الرحمن بن أبي بكر يختلف إليهما، فلمّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخروج دعاهم وكانوا أربعة: النبي صلى الله عليه وسلّم، وأبو بكر وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط الليثي.
قال الزهري: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر الغار أرسل الله زوجا من حمام حتى باضا أسفل النقب، والعنكبوت حتى نسج بيتا، فلمّا جاء سراقة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام وبيت العنكبوت، قال لو دخلاه لتكسر البيض، وتفسخ بيت العنكبوت، فانصرف.
وقال النبي: «اللهم أعم أبصارهم» فعميت أبصارهم عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار.
روى السري بن يحيى عن محمد بن سيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر بن الخطاب فكأنّهم فضّلوا عمر على أبي بكر، قال: فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبى بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي وساعة بين يديه وساعة خلفه حتى وصل رسول صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا أبا بكر ما لك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق.
فلما أتيا إلى الغار قال أبو بكر رضي الله عنه: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار، فدخل فاستبرأ حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنّه لم يستبرئ الحجر، فقال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الحجر فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله فنزل، فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.
أبو عوانة عن فراس عن الشعبي قال: لقد عاتب الله أهل الأرض جميعا غير أبي بكر رضي الله عنه في هذه الآية، وقال أبو بكر:
قال النبي ولم يجزع يوقّرني ... ونحن في شدة من ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا ... وقد توكل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره ... كيد الشياطين كادته لكفّار
والله مهلكهم طرا بما كسبوا ... وجاعل المنتهى منها إلى النار
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ سكونه وطمأنينته عَلَيْهِ أي على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال ابن عباس: على أبي بكر، فأمّا النبي صلى الله عليه وسلّم فكانت السكينة عليه قبل ذلك وَأَيَّدَهُ قرأ مجاهد: وآيده بالمد بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى أي المقهورة المغلوبة وَكَلِمَةُ اللَّهِ رفع على مبتدأ وقرأ يعقوب: وَكَلِمَةَ اللَّهِ على النصب على العطف هِيَ الْعُلْيا العالية.
قال ابن عباس: الكلمة السفلى: كلمة الشرك، والعليا: لا إله إلّا الله وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.أهـ
لطائف الإشارات = تفسير القشيري (2/ 27 - 29)
من عزيز تلك النصرة أنه لم يستأنس بثانيه الذي كان معه بل رد الصّدّيق إلى الله، ونهاه عن مساكنته إياه، فقال: ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟
قال تعالى: «إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» .
ويقال من تلك النصرة إبقاؤه إياه فى كشوفاته فى تلك الحالة، ولولا نصرته لتلاشى تحت سطوات كشفه.
ويقال كان- عليه السلام- أمان أهل الأرض على الحقيقة، قال تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ»، وجعله- فى الظاهر- فى أمان العنكبوت حين نسج خيطه على باب الغار فخلّصه من كيدهم.
ويقال لو دخل هذا الغار لا نشقّ نسيج العنكبوت.. فيا عجبا كيف ستر قصة حبيبه- صلوات الله عليه وعلى آله وسلم؟! ويقال صحيح ما قالوا: للبقاع دول، فما خطر ببال أحد أنّ تلك الغار تصير مأوى ذلك السيّد- صلى الله عليه وسلم! ولكنه يختص بقسمته ما يشاء كما يختص برحمته من يشاء.
ويقال ليست الغيران كلها مأوى الحيّات، فمنها ما هو مأوى الأحباب. ويقال علقت قلوب قوم بالعرش فطلبوا الحق منه، وهو تعالى يقول: «إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» فهو سبحانه- وإن تقدّس عن كل مكان- ولكن فى هذا الخطاب حياة لأسرار أرباب المواجيد، وأنشدوا:
يا طالب الله فى العرش الرفيع به ... لا تطلب العرش إن المجد فى الغار
وفى الآية دليل على تحقيق صحبة الصدّيق- رضى الله عنه- حيث سمّاه الله سبحانه صاحبه، وعدّه ثانيه، فى الايمان ثانيه، وفى الغار ثانيه ثم فى القبر ضجيعه، وفى الجنة يكون رفيقه.
قوله جل ذكره: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ الكناية فى الهاء من «عَلَيْهِ» تعود إلى الرسول عليه السلام، ويحتمل أن تكون عائدة إلى الصديق رضى الله عنه، فإن حملت على الصديق تكون خصوصية له من بين المؤمنين على الانفراد، فقد قال عز وجلّ لجميع المؤمنين: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ».
وقال للصدّيق- على التخصيص- فأنزل الله سكينته عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يتجلّى للناس عامة ويتجلّى لأبى بكر خاصة».
وإنما كان حزن الصديق ذلك اليوم لأجل الرسول- صلى الله عليه وسلم- إشفاقا عليه.. لا لأجل نفسه. ثم إنه- عليه السلام- نفى حزنه وسلّاه بأن قال: «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» ، وحزن لا يذهب إلا لمعيّة الحقّ لا يكون إلّا «لحقّ الحق».
قوله جل ذكره: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يريد به النبي صلى الله عليه وسلم. وتلك الجنود وفود زوائد اليقين على أسراره بتجلّى الكشوفات.
«وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» بإظهار حجج دينه، وتمهيد سبل حقّه ويقينه فرايات الحقّ إلى الأبد عالية، وتمويهات الباطل واهية، وحزب الحقّ منصورون، ووفد الباطل مقهورون.
ويقال لما خلا الصديق بالرسول عليه السلام فى الغار، وأشرقت على سرّه أنوار صحبة الرسول عليه السلام، ووقع عليه شعاع أنواره، واشتاق إلى الله تعالى لفقد قراره- أزال عنه لواعجه بما أخبره من قربه- سبحانه- فاستبدل بالقلق سكونا، وبالشوق أنسا، وأنزل عليه من السكينة ما كاشفه به من شهود الهيبة.
ويقال كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- ثانى اثنين فى الظاهر بشبهه ولكن كان مستهلك الشاهد فى الواحد بسرّه.أهـ
تفسير البغوي - إحياء التراث (2/ 348 - 353)
قَوْلُهُ تَعَالَى:إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ، هَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ الْمُتَكَفِّلُ بنصر رسوله
وَإِعْزَازِ دِينِهِ، أَعَانُوهُ أَوْ لَمْ يُعِينُوهُ وَأَنَّهُ قَدْ نَصَرَهُ عِنْدَ قِلَّةِ الْأَوْلِيَاءِ وَكَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ، فَكَيْفَ بِهِ الْيَوْمَ وَهُوَ فِي كَثْرَةٍ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، مِنْ مَكَّةَ حِينَ مكروا به وأرادوا تبييته وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، ثانِيَ اثْنَيْنِ، أَيْ: هُوَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ، وَالِاثْنَانِ أَحَدُهُمَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ هُما فِي الْغارِ، وَهُوَ نَقْبٌ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ بِمَكَّةَ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، قَالَ الشَّعْبِيُّ: عَاتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَهْلَ الْأَرْضِ جَمِيعًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
«1071» أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ أحمد التميمي أنبأنا [أَبُو] مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ أَنْبَأَنَا خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ ثنا عبد الله بن أحمد الدورقي ثنا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ كَثِيرٍ النَّوَّاءِ عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنْتَ صَاحِبِي فِي الْغَارِ وَصَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ» .
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: مَنْ قَالَ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ لِإِنْكَارِهِ نَصَّ الْقُرْآنِ. وَفِي سَائِرِ الصَّحَابَةِ إِذَا أَنْكَرَ يَكُونُ مبتدعا لا كَافِرًا. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، لَمْ يَكُنْ حُزْنُ أَبِي بَكْرٍ جُبْنًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ إِشْفَاقًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: إِنْ أُقْتَلُ فَأَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَإِنْ قُتِلْتَ هَلَكَتِ الْأُمَّةُ.
«1072» وَرُوِيَ أَنَّهُ حِينَ انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَارِ، جَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا لك يَا أَبَا بَكْرٍ» ؟ قَالَ: أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصْدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْك، فَلَّمَا انْتَهَيَا إِلَى الْغَارِ قَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أسْتَبْرِئَ الْغَارَ، فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَهُ ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَزَلَ فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لتلك الليلة خير من عمر، ومن آلِ عُمَرَ.
«1073» أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ التميمي أَنَا [أَبُو] مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي النصر، أنا خيثمة بن سليمان ثَنَا أَبُو قِلَابَةَ الرَّقَاشِيُّ ثَنَا حبان بن هلال ثنا همام بن يحيى ثنا ثابت البناني ثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ، قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ فَوْقَ رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنٍ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» .
«1074» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أحمد الْمُلَيْحِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَلِمَا ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدم وتصل الرحم وتحمل الكلّ وَتُقِرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدم ويصل الرحم، ويحمل الكلّ ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق، فلم تكذّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربّه في داره فليصلّ فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلّي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنّا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربّه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربّه في داره فعل، وإن أبى إلّا أن يعلن بذلك فسله أن يردّ إليك ذمّتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إليّ ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أراد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عزّ وجلّ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ بمكة.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم للمسلمين: «إني رأيت دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَّتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ» ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو بذلك بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ، وَهُوَ الْخَبْطُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فقال أبو بكر: فدى لَهُ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم: «بِالثَّمَنِ» ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَمَكَثَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كبائت فلا يسمع أمرا يكتادان بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غنم فيريحها عليهما حين يذهب سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفُهُمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عُدَيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا،- وَالْخِرِّيتُ: الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ- قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ العاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بهم طَرِيقِ السَّوَاحِلِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالَسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ [إذا] أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سراقة إني قد رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أَرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، [قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفَتُ أَنَّهُمْ هُمْ]، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً ثُمَّ قُمْتُ فدخلت فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ وَأَخَذَتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ من ظهر البيت، فحططت بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَّضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَدَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ، فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ منها الأزلام فاستسقمت بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ تَقْرُبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعَتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ لَا يلتفت وأبو بكر رضي الله عنه يكثر الالتفات ساخت يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا [لأثر يديها عثان] سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَّانِ فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيَتُ مَا لَقِيَتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَلَتْ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ وَأَخْبَرْتُهُمْ خَبَرَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمَّ يَرْزُآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي شَيْئًا إِلَّا أَنْ قال: «أَخْفِ عَنَّا» ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدَمٍ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثيابا بَيَاضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كل غداة إلى الحرّة فينظرونه حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يوما بعد ما أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطْمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصَرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مُبْيَضِّيْنَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ، فَتَلَقُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ فَعَدِلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يحيّ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأَسَّسَ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: «هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ» ، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَا: بَلْ نَهِبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالُ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وأَطْهَرْ
وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ والمهاجرة» ، فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يُسَمَّ لِي، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ.
«1075» قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ الْغَارَ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى زَوْجًا من حمام حتى باضت فِي أَسْفَلِ النَّقْبِ وَالْعَنْكَبُوتَ حَتَّى نَسَجَتْ بَيْتًا، وَفِي الْقِصَّةِ أَنْبَتَ يَمَامَةً عَلَى فَمِ الْغَارِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَعْمِ أَبْصَارَهُمْ عَنَّا» ، فَجُعِلَ الطُّلَّبُ يَضْرِبُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا حَوْلَ الْغَارِ يَقُولُونَ: لَوْ دَخَلَا هَذَا الْغَارَ لَتَكَسَّرَ بَيْضُ الْحَمَامِ وَتَفَسَّخَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، قِيلَ: عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ مِنْ قَبْلُ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ نَزَلُوا يَصْرِفُونَ وَجُوهَ الكفار وأبصارهم عن رؤيته [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ، وَقِيلَ: أَلْقَوُا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ حَتَّى رَجَعُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: أَعَانَهُ بِالْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ أَخْبَرَ أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ كَيْدَ الْأَعْدَاءِ فِي الْغَارِ ثُمَّ أَظْهَرَ نَصْرَهُ بِالْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَتُهُمُ الشِّرْكُ وَهِيَ السُّفْلَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، إِلَى يوم القيامة. ثم قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَا قَدَّرُوا بينهم في أنفسهم من الْكَيْدِ بِهِ لِيَقْتُلُوهُ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ وَعْدُ اللَّهِ أَنَّهُ نَاصِرُهُ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: وَكَلِمَةُ اللَّهِ، بِنَصْبِ التَّاءِ على [أنها معطوفة على المفعول الأول لجعل، وهو كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا، والتقدير: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وجعل كلمة الله هي العليا، فكلمة الله معطوفة على المفعول الأول والعليا معطوفة على المفعول الثاني. وقرأ الباقون: وَكَلِمَةُ اللَّهِ، بالرفع على الاستئناف، كأنه تمّ الكلام عند قوله: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، ثم ابتدأ فقال: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، على الابتداء والخبر، فكلمة الله مبتدأ والعليا خبره]، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.أهـ
زاد المسير في علم التفسير (2/ 260 - 262)
قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ أي: بالنفير معه فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إعانةً على أعدائه، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا فأعلمهم أن نصره ليس بهم.
قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ العرب تقول: هو ثاني اثنين، أي: أحد الاثنين، وثالث ثلاثة، أي: أحد الثلاثة، قال الزّجّاج: وقوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ منصوب على الحال المعنى: فقد نصره الله أحد اثنين، أي: نصره منفرداً إلا من أبي بكر، وهذا معنى قول الشعبي: عاتب الله أهل الأرض جميعاً في هذه الآية غير أبي بكر. وقال ابن جرير: المعنى: أخرجوه وهو أحد الاثنين، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. فأما الغار، فهو ثَقب في الجبل، وقال ابن فارس: الغار: الكهف، والغار: نبت طيِّب الرِّيح، والغار: الجماعة من الناس، والغاران: البطن والفرج، وهما الأجوفان، يقال: إنما هو عبد غارَيْه قال الشاعر:
ألَم تر أنَّ الدَّهْرَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... وأنَّ الفَتَى يَسْعَى لِغَارَيْهِ دَائِبَا
قال قتادة: وهذا الغار في جبل بمكة يقال له: ثور. قال مجاهد: مكثا فيه ثلاثاً. وقد ذكرت حديث الهجرة في كتاب «الحدائق» .
(701) قال أنس بن مالك: أمر الله عزّ وجلّ شجرة فنبتت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه، وأمر حمامتين وحشيتين فوقعتا في فم الغار، فلما دنوا من الغار، عَجِل بعضهم لينظر، فرأى حمامتين، فرجع فقال: رأيت حمامتين على فم الغار، فعلمت أنه ليس فيه أحد.
(702) وقال مقاتل: جاء القائف فنظر إلى الأقدام فقال: هذه قدم ابن أبي قحافة، والأخرى لا أعرفها، إلا أنها تشبه القدم التي في المقام. وصاحبه في هذه الآية أبو بكر.
(703) وكان أبو بكر قد بكى لما مرَّ المشركون على باب الغار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ؟
وفي السكينة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الرحمة، قاله ابن عباس. والثاني: الوقار، قاله قتادة.
والثالث: السكون والطمأنينة، قاله ابن قتيبة، وهو أصح. وفي هاء «عليه» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى أبي بكر، وهو قول علي بن أبي طالب، وابن عباس، وحبيب بن أبي ثابت. واحتجَ من نصر هذا القول بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مطمئناً. والثاني: أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل. والثالث: أنّ الهاء ها هنا في معنى تثنية، والتقدير: فأنزل الله سكينته عليهما، فاكتفى باعادة الذِّكر على أحدهما من إعادته عليهما، كقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَأَيَّدَهُ أي: قوّاه، يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم بلا خلاف. بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة. ومتى كان ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، قاله ابن عباس. والثاني: لما كان في الغار، صَرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته، قاله الزجاج.
فان قيل: إذا وقع الاتفاق أن هاء الكناية في «أيده» ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف تفارقها هاء «عليه» وهما متفقان في نظم الكلام؟
فالجواب: أن كل حرف يُردُّ إلى الأليق به، والسكينة إنما يَحتاج إليها المنزعج، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم منزعجاً. فأما التأييد بالملائكة، فلم يكن إلا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ونظير هذا قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَتُسَبِّحُوهُ يعني الله عزّ وجلّ.
قوله تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى فيها قولان: أحدهما: أن كلمة الكافرين الشرك، جعلها الله السفلى لأنها مقهورة، وكلمة الله وهي التوحيد، هي العليا، لأنها ظهرت، هذا قول الأكثرين. والثاني: أن كلمة الكافرين ما قدَّروا بينهم في الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله أنه ناصره، رواه عطاء عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، ويعقوب: «وكلمةَ الله» بالنصب.
قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي: في انتقامه من الكافرين حَكِيمٌ في تدبيره.أهـ
تفسير الرازي = مفاتيح الغيب = التفسير الكبير ط العلمية (16/ 51)
اعلم أن هذا ذكر طريق آخر في ترغيبهم في الجهاد وذلك لأنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم إن لم ينفروا باستنفاره ولم يشتغلوا بنصرته فإن الله ينصره بدليل أن الله نصره وقواه حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد فههنا أولى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول كيف يكون قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جواباً للشرط
وجوابه أن التقدير إلا تنصروه فسينصره من نصره حين ما لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد والمعنى أنه ينصره الآن كما نصره في ذلك الوقت
المسألة الثانية قوله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يعني قد نصره الله في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا من مكة وقوله ثَانِيَ اثْنَيْنِ نصب على الحال أي في الحال التي كان فيها ثَانِيَ اثْنَيْنِ وتفسير قوله ثَانِيَ اثْنَيْنِ سبق في قوله ثَالِثُ ثَلَاثَة وتحقيق القول أنه إذا حضر اثنان فكل واحد منهما يكون ثانياً في ذينك الاثنين للآخر فلهدا السبب قالوا يقال فلان ثاني اثنين أي هو أحدهما قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء ثَانِيَ اثْنَيْنِ بالسكون و إِذْ هُمَا بدل من قوله إِذْ أَخْرَجَهُ والغار ثقب عظيم في الجبل وكان ذلك الجبل يقال له ثور في يمين مكة على مسيرة ساعة مكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه مع أبي بكر ثلاثاً وقوله إذ يقول بدل ثان
المسألة الثالثة ذكروا أن قريشاً ومن بمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل وإذ يمكر بك الذين كفروا ( الأنفال 30 ) فأمره الله تعالى أن يخرج هو وأبو بكر أول الليل إلى الغار والمراد من قوله أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ هو أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخروج وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر أول الليل إلى الغار وأمر علياً أن يضطجع على فراشه ليمنعهم السواد من طلبه حتى يبلغ هو وصاحبه إلى ما أمر الله به فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر الغار أولاً يلتمس ما في الغار فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مالك فقال بأبي أنت وأمي الغيران مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك وكان في الغار جحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي الرسول فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عليه السلام ( لا تحزن إن الله معنا ) فقال أبو بكر إن الله لمعنا فقال الرسول ( نعم ) فجعل يمسح الدموع عن خده ويروى عن الحسن أنه كان إذا ذكر بكاء أبي بكر بكى وإذا ذكر مسحه الدموع مسح هو الدموع عن خده وقيل لما طلع المشركون فوق الغار أشفق أبو بكر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال رسول الله ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) وقيل لما دخل الغار وضع أبو بكر ثمامة على باب الغار وبعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أعم أبصارهم ) فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً
المسألة الرابعة دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه الأول أنه عليه السلام لما ذهب إلى الغار لأجل أنه كان يخاف الكفار من أن يقدموا على قتله فلولا أنه عليه السلام كان قاطعاً على باطن أبي بكر بأنه من المؤمنين المحققين الصادقين الصديقين وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع لأنه لو جوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره لخافه من أن يدل أعداءه عليه وأيضاً لخافه من أن يقدم على قتله فلما استخلصه لنفسه في تلك الحالة دل على أنه عليه السلام كان قاطعاً بأن باطنه على وفق ظاهره الثاني وهو أن الهجرة كانت بإذن الله تعالى وكان في خدمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جماعة من المخلصين وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله أقرب من أبي بكر فلولا أن الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك الواقعة الصعبة الهائلة وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة وتخصيص الله إياه بهذا التشريف دل على منصب عال له في الدين الثالث أن كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أما هو فما سبق رسول الله كغيره بل صبر على مؤانسته وملازمته وخدمته عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد وذلك يوجب الفضل العظيم الرابع أنه تعالى سماه ثَانِيَ اثْنَيْنِ فجعل ثاني محمد عليه السلام حال كونهما في الغار والعلماء أثبتوا أنه رضي الله عنه كان ثاني محمد في أكثر المناصب الدينية فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر آمن أبو بكر ثم ذهب وعرض الإسلام على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة آخرين من أجلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم والكل آمنوا على يديه ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أيام قلائل فكان هو رضي الله عنه ثَانِيَ اثْنَيْنِ في الدعوة إلى الله وأيضاً كلما وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة كان أبو بكر رضي الله عنه يقف في خدمته ولا يفارقه فكان ثاني اثنين في مجلسه ولما مرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة فكان ثاني اثنين ولما توفي دفن بجنبه فكان ثاني اثنين هناك أيضاً وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله تعالى رابعاً لكل ثلاث في قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ( المجادلة 7 ) ثم إن هذا الحكم عام في حق الكافر والمؤمن فلما لم يكن هذا المعنى من الله تعالى دالاً على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي على فضيلة الإنسان كان أولى
والجواب أن هذا تعسف بارد لأن المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير وكونه مطلعاً على ضمير كل أحد أما ههنا فالمراد بقوله تعالى ثَانِيَ اثْنَيْنِ تخصيصه بهذه الصفة في معرض التعظيم وأيضاً قد دللنا بالوجوه الثلاثة المتقدمة على أن كونه معه في هذا الموضع دليل قاطع على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قاطعاً بأن باطنه كظاهره فأين أحد الجانبين من الآخر
والوجه الخامس من التمسك بهذه الآية ما جاء في الأخبار أن أبا بكر رضي الله عنه لما حزن قال عليه الصلاة والسلام ما ظنك باثنين الله ثالثهما ولا شك أن هذا منصب علي ودرجة رفيعة
واعلم أن الروافض في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا وحق خمسة سادسهم جبريل وأرادوا به أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلياً وفاطمة والحسن والحسين كانوا قد احتجبوا تحت عباءة يوم المباهلة فجاء جبريل وجعل نفسه سادساً لهم فذكروا للشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى أن القوم هكذا يقولون فقال رحمه الله لكم ما هو خير منه بقوله ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل
والوجه السادس أنه تعالى وصف أبا بكر بكونه صاحباً للرسول وذلك يدل على كمال الفضل قال الحسين بن فضيل البجلي من أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان كافراً لأن الأمة مجمعة على أن المراد من إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ هو أبو بكر وذلك يدل على أن الله تعالى وصفه بكونه صاحباً له اعترضوا وقالوا إن الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن وهو قوله قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ( الكهف 37 )
والجواب أن هناك وإن وصفه بكونه صاحباً له ذكراً إلا أنه أردفه بما يدل على الإهانة والإذلال وهو قوله أَكَفَرْتَ أما ههنا فبعد أن وصفه بكونه صاحباً له ذكر ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فأي مناسبة بين البابين لولا فرط العداوة
والوجه السابع في دلالة هذه الآية على فضل أبي بكر قوله لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ولا شك أن المراد من هذه المعية المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة وبالجملة فالرسول عليه الصلاة والسلام شرك بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية فإن حملوا هذه المعية على وجه فاسد لزمهم إدخال الرسول فيه وإن حملوها على محمل رفيع شريف لزمهم إدخال أبي بكر فيه ونقول بعبارة أخرى دلت الآية على أن أبا بكر كان الله معه وكل من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( النحل 128 ) والمراد منه الحصر والمعنى إن الله مع الذين اتقوا لا مع غيرهم وذلك يدل على أن أبا بكر من المتقين المحسنين
والوجه الثامن في تقرير هذا المطلوب أن قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا يدل على كونه ثاني اثنين في الشرف الحاصل من هذه المعية كما كان ثاني اثنين إذ هما في الغار وذلك منصب في غاية الشرف
والوجه التاسع أن قوله لاَ تَحْزَنْ نهى عن الحزن مطلقاً والنهي يوجب الدوام والتكرار وذلك يقتضي أن لا يحزن أبو بكر بعد ذلك البتة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت
والوجه العاشر قوله فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ومن قال الضمير في قوله عَلَيْهِ عائداً إلى الرسول فهذا باطل لوجوه
الوجه الأول أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر لأنه تعالى قال إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ والتقدير إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن وعلى هذا التقدير فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر فوجب عود الضمير إليه
والوجه الثاني أن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام فإنه عليه السلام كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر لا تحزن صار آمناً فصرف السكينة إلى أبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس
والوجه الثالث أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال إن الرسول كان قبل ذلك خائفاً ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فمن كان خائفاً كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه لا تحزن ولما لم يكن كذلك بل ذكر أولاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه لا تحزن ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة وهو قوله فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة على قلب أبي بكر
فإن قيل وجب أن يكون قوله فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ( التوبة 40 ) المراد منه أنه أنزل سكينته على قلب الرسول والدليل عليه أنه عطف عليه قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وهذا لا يليق إلا بالرسول والمعطوف يجب كونه مشاركاً للمعطوف عليه فلما كان هذا المعطوف عائداً إلى الرسول وجب في المعطوف عليه أن يكون عائداً إلى الرسول
قلنا هذا ضعيف لأن قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا إشارة إلى قصة بدر وهو معطوف على قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ وتقدير الآية إلا تنصروه فقد نصره الله في واقعة الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها في واقعة بدر وإذا كان الأمر كذلك فقد سقط هذا السؤال
الوجه الحادي عشر من الوجوه الدالة على فضل أبي بكر من هذه الآية إطباق الكل على أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لقد كنت أنا وصاحبي في الغار بضعة عشر يوماً وليس لنا طعام إلا التمر ) وذكروا أن جبريل أتاه وهو جائع فقال هذه أسماء قد أتت بحيس ففرح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وأخبر به أبا بكر ولما أمر الله رسوله بالخروج إلى المدينة أظهره لأبي بكر فأمر ابنه عبد الرحمن أن يشتري جملين ورحلين وكسوتين ويفصل أحدهما للرسول عليه الصلاة والسلام فلما قربا من المدينة وصل الخبر إلى الأنصار فخرجوا مسرعين فخاف أبو بكر أنهم لا يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام فألبس رسول الله ثوبه ليعرفوا أن الرسول هو هو فلما دنوا خروا له سجداً فقال لهم ( اسجدوا لربكم وأكرموا أخاً لكم ) ثم أناخت ناقته بباب أبي أيوب روينا هذه الروايات من تفسير أبي بكر الأصم
الوجه الثاني عشر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين دخل المدينة ما كان معه إلا أبو بكر والأنصار ما رأوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحداً إلا أبا بكر وذلك يدل على أنه كان يصطفيه لنفسه من بين أصحابه في السفر والحضر وأن أصحابنا زادوا عليه وقالوا لما لم يحضر معه في ذلك السفر أحد إلا أبو بكر فلو قدرنا أنه توفى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره إلا أبو بكر وأن لا يكون وصيه على أمته إلا أبو بكر وأن لا يبلغ ما حدث من الوحي والتنزيل في ذلك الطريق إلى أمته إلا أبو بكر وكل ذلك يدل على الفضائل العالية والدرجات الرفيعة لأبي بكر
واعلم أن الروافض احتجوا بهذه الآية وبهذه الواقعة على الطعن في أبي بكر من وجوه ضعيفة حقيرة جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين فالأول قالوا إنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكر ( لا تحزن ) فذلك الحزن إن كان حقاً فكيف نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه وإن كان خطأ لزم أن يكون أبو بكر مذنباً وعاصياً في ذلك الحزن والثاني قالوا يحتمل أن يقال إنه استخلصه لنفسه لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في مكة أن يدل الكفار عليه وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه فأخذه مع نفسه دفعاً لهذا الشر والثالث وإن دلت هذه الحالة على فضل أبي بكر إلا أنه أمر علياً بأن يضطجع على فراشه ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول الله تعريض
النفس للفداء فهذا العمل من علي أعلى وأعظم من كون أبي بكر صاحباً للرسول فهذه جملة ما ذكروه في ذلك الباب
والجواب عن الأول أن أبا علي الجبائي لما حكى عنهم تلك الشبهة قال فيقال لهم يجب في قوله تعالى لموسى عليه السلام لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى ( طه 68 ) أن يدل على أنه كان عاصياً في خوفه وذلك طعن في الأنبياء ويجب في قوله تعالى في إبراهيم حيث قالت الملائكة له لاَ تَخَفْ في قصة العجل المشوي مثل ذلك وفي قولهم للوط لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ( العنكبوت 33 ) مثل ذلك
فإذا قالوا إن ذلك الخوف إنما حصل بمقتضى البشرية وإنما ذكر الله تعالى ذلك في قوله لاَ تَخَفْ ليفيد الأمن وفراغ القلب
قلنا لهم في هذه المسألة كذلك
فإن قالوا أليس إنه تعالى قال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) فكيف خاف مع سماع هذه الآية فنقول هذه الآية إنما نزلت في المدينة وهذه الواقعة سابقة على نزولها وأيضاً فهب أنه كان آمناً على عدم القتل ولكنه ما كان آمناً من الضرب والجرح والإيلام الشديد والعجب منهم فإنا لو قدرنا أن أبا بكر ما كان خائفاً لقالوا إنه فرح بسبب وقوع الرسول في البلاء ولما خاف وبكى قالوا هذا السؤال الركيك وذلك يدل على أنهم لا يطلبون الحق وإنما مقصودهم محض الطعنا
والجواب عن الثاني أن الذي قالوه أخس من شبهات السوفسطائية فإن أبا بكر لو كان قاصداً له لصالح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار وقال لهم نحن ههنا ولقال ابنه وابنته عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك
والجواب عن الثالث من وجوه الأول أنا لا ننكر أن اضطجاع علي بن أبي طالب في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول الله طاعة عظيمة ومنصب رفيع إلا أنا ندعي أن أبا بكر بمصاحبته كان حاضراً في خدمة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلي كان غائباً والحاضر أعلى حالاً من الغائب الثاني أن علياً ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة أما بعدها لما عرفوا أن محمداً غاب تركوه ولم يتعرضوا له أما أبو بكر فإنه بسبب كونه مع محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة فكان بلاؤه أشد الثالث أن أبا بكر رضي الله عنه كان مشهوراً فيما بين الناس بأنه يرغب الناس في دين محمد عليه الصلاة والسلام ويدعوهم إليه وشاهدوا منه أنه دعا جمعاً من أكابر الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الدين وأنهم إنما قبلوا ذلك الدين بسبب دعوته وكان يخاصم الكفار بقدر الإمكان وكان يذب عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالنفس والمال وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه كان في ذلك الوقت صغير السن وما ظهر منه دعوة لا بالدليل والحجة ولا جهاد بالسيف والسنان لأن محاربته مع الكفار إنما ظهرت بعد انتقالهم إلى المدينة بمدة مديدة فحال الهجرة ما ظهر منه شيء من هذه الأحوال وإذا كان كذلك كان غضب الكفار على أبي بكر لا محالة أشد من غضبهم على علي ولهذا السبب فإنهم لما عرفوا أن المضطجع على ذلك الفراش هو علي لم يتعرضوا له ألبتة ولم يقصدوه بضرب ولا ألم فعلمنا أن خوف أبي بكر على نفسه في خدمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أشد من خوف علي كرم الله وجهه فكانت تلك الدرجة أفضل وأكمل هذا ما نقوله في هذا الباب على سبيل الاختصار
أما قوله تعالى وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا فاعلم أن تقدير الآية أن يقال إِلاَّ تَنصُرُوهُ فلا بد له ذلك بدليل صورتين
الصورة الأولى أنه قد نصره في واقعة الهجرة إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ
والصورة الثانية واقعة بدر وهي المراد من قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا لأنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأيد رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بهم فقوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا معطوف على قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
ثم قال تعالى وَجَعَلَ كَلِمَة الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَة اللَّهِ هِى الْعُلْيَا والمعنى أنه تعالى جعل يوم بدر كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة وكلمة الله هي العليا وهي قوله لا إله إلا الله قال الواحدي والاختيار في قوله وَكَلِمَة اللَّهِ الرفع وهي قراءة العامة على الاستئناف قال الفراء ويجوز كَلِمَة اللَّهِ بالنصب ولا أحب هذه القراءة لأنه لو نصبها لكان الأجود أن يقال وكلمة الله العليا ألا ترى أنك تقول أعتق أبوك غلامك ولا تقول أعتق غلامه أبوك
ثم قال وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ أي قاهر غالب لا يفعل إلا الصواب.أهـ
يتبع.