شهر رمضان والإنابة إلى الله 1 مقال لفضيلة الإمام العلامة علي جمعة بجريدة الأهرام بتاريخ 8/8/2009
1- ما أحوجنا ونحن مقبلون على أفضل شهور السنة, شهر رمضان المعظم, أن نبدأ بالرجوع إلى الله تعالى والإنابة إليه, حتى إذا ما دخل علينا شهر الصوم يجدنا وقد أنابت قلوبنا إلى الله تعالى, واستعدت لتلقي النفحات الإلهية والمنح الصمدانية, فيقبلنا الله سبحانه عنده بقبول حسن, والعطاء إنما يكون لصاحب الحاجة, ولذلك قال عزوجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ} [التوبة:60].
فإذا استشعرنا حاجتنا إلى رحمات الله ومغفرته ورضوانه أغدق الله علينا الفضل وجاد علينا بالكرم, فالعطايا الإلهية تستمطر بافتقار القلوب إلى الله تعالى والشعور بالخضوع له سبحانه, كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24], وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} [فاطر:15], فافتقار الإنسان إلى الله سبب للاستغناء به عما سواه.
2- وقد أمر الله عز وجل عباده بالإنابة إليه, ووصف بذلك أنبياءه وعباده الصالحين, فأضاف الإنابة إلى حبيبه المصطفى ونبيه المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم {ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشُّورى:10], ووصف بها إبراهيم عليه السلام {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75], وداود وسليمان عليهما السلام {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24], {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34], وشعيبا عليه السلام {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88], وجاء الأمر الإلهي باتباع طريق المنيبين في قوله سبحانه: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15], ووعد الله تعالى صاحب القلب المنيب بالجنة فقال: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:32-33].
3- والمسلم مأمور بالإمعان في تدبر آيات القرآن, والتعامل مع كلام الله عز وجل كلمة كلمة, والوقوف عندها تفكرا ونظرا, وعليه أن يتفاعل مع الأوامر الإلهية بعمل برامج لتنفيذها, فإذا قرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزُّمر:54]، فعليه أن يقف مع نفسه ومع ربه ليضع برنامجا لكيفية الإنابة إلى الله تعالى, ولذلك كما كانت الإنابة إلى الله تعالى حالة ينبغي للعبد أن يكون عليها مع ربه فإنها أيضاً عند أهل الله تعالى مرحلة من مراحل الطريق إلى الله سبحانه. وهذه المرحلة تأتي بعد اليقظة, والتوبة, والمحاسبة, وأصل الإنابة في اللغة يدل على الرجوع, وهي تدور في كلام أهل الله على أربعة معان: المحبة, والخضوع, والإقبال على الله, والإدبار عما سوى الله.
4- وأعظم ما تتجلى الإنابة في الصلاة, ولذلك جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمود الأمر وأهم شيء فيه, وقال في شأنها: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, فمن تركها فقد كفر رواه الترمذي من حديث بريدة رضي الله عنه وقال: حديث حسن صحيح غريب, وإنما لم يقل (فهو كافر) رأفة بالأمة, فلو قالها لخرج تارك الصلاة من الملة, لكنه قال: فقد كفر,أي: ارتكب عملاً فظيعاً شنيعاً من أعمال الكفار, وقال تعالى في عظم شأن الصلاة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة:45], ولذلك جمع الإمام الحافظ محمد بن نصر المروزي [ت294 هـ] الأحاديث الدالة على تعظيم شأن الصلاة في كتابه القيم تعظيم قدر الصلاة.
5- وشهر رمضان هو شهر الصلاة وشهر القيام حيث كانالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يرغب الناس في قيام رمضان ويقول: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وقد سن سيدنا عمر للأمة في رمضان هيئة صلاة التراويح وكيفيتها, فهي سنة نبوية في أصلها, عمرية في كيفيتها, وهي من الأدلة المتكاثرة على أنه ليس كل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون بدعة, بل البدعة منقسمة على بدعة محمودة وبدعة مذمومة, كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده, من غير أن ينقص من أجورهم شيء, ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده, من غير أن ينقص من أوزارهم شيء رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
6- والصلاة دليل الإنابة, وهذه الدلالة تظهر في استقبال القبلة, فإن ذلك يذكرك بالإقبال على الله وأنت فيها, حيث جعل الله لك وجهة تتوجه إليها فلا تصلى إلى أي مكان, وكان من الممكن أن تكون القبلة في اتجاه آخر, كما كان من الممكن أن تكون صحيحة في أي اتجاه, ولكنه سبحانه وتعالى جعلها إلى جهة الكعبة وحدها, إشارة إلى الإقبال والتوجه, فالصلاة تلفتك بالاستقبال إلى الإقبال. وفي الوقت نفسه وأنت مستقبل القبلة تكون مستدبرا العالم, وعندما تقول: الله أكبر يحرم عليك الكلام والأكل والشرب والعبث واللعب {وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، يعني ساكتين, فكما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس, إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن أخرجه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي.
لقد أشارت الصلاة إلى المحبة بالعطاء, وأشارت إلى الخضوع بالسجود, وأشارت إلى الإقبال بالاستقبال, وأشارت إلى التبري مما سوى الله بالإدبار, وهذه هي حقيقة الإنابة
_________________ أنا الذى سمتنى أمى حيدره
كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
|