موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 333 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 16, 17, 18, 19, 20, 21, 22, 23  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت ديسمبر 02, 2023 4:29 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ١٩٦ -البقرة
قوله جلّ ذكره: { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ }.
إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيئته، وإراقة الدماء التي تجب فيها (دون) التقصير في بعض أحوالها.
وفي التفسير أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
وعلى لسان الإشارة الحج هو القَصْد؛ فَقَصْدٌ إلى بيت الحق وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص.
وكما أن الذي يحج بنفسه يُحْرِمُ ويَقِفُ ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق، فكذلك من يحج بقلبه؛ فإحرامه بعقد صحيح على قصد صريح، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته، ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى، وإطلاق خواطر المنى، وما في هذا المعنى. ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع، ثم تلبية الأسرار باستجابة كل جزء منك.
وأفضل الحج الشُّج والعجَّ؛ الشَّجُّ صَبُّ الدَّم والعجُّ رفع الصوت بالتلبية، فكذلك سفك دم النفس بسكاكين الخلاف، ورفع أصوات السِّر بدوام الاستغاثة، وحسن الاستجابة ثم الوقوف بساحات القربة باستكمال أوصاف الهيبة. وموقف النفوس عَرَفات وموقف القلوب الأسامي والصفات لِعِزِّ الذات (عند) المواصلات. ثم طواف القلوب حول (مشاهدة) العز، والسعي بالأسرار بين صَفَّيِّ كشف الجلال ولطف الجمال.
ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيارات، والمنى والمعارضات: بكل وجه.
قوله جلّ ذكره: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ }.
الحصر بأمرين بعدو أو مرض.
والإشارة فيه إنْ استولى عدو النفس فلم تجد بداً من الإناخة بعقوة الرُّخَص وتأويلات العلم فعند ذلك تتحلل بموجب العذر والاضطرار إذ لا مزاحمة مع الحُكمْ. { ٱلْهَدْيِ } الذي يهدي به عند التحلل بالعذر، والخروج عن المعلوم، وتسليمه للفقراء، وانتظار أن يزول الحصر فيستأنف الأمر. وإن مَرِضَتْ الواردات وسَقِمتْ القصود وآل الأمرُ إلى التكليف فليجتهد ألا ينصرف كما أنه في الحج الظاهر يجتهد بألا ينصرف لكل مرض أو إن احتاج إلى اللبس والحلق وغير ذلك - بشرط الفدية.
ثم إن عجز، اشترط أن محله حيث حسبه فكذلك يقوم ويقعد في أوصاف القصد وأحكام الإرادة، فإِن رجع - والعياذ بالله - لم يُقابَلْ إلا بالردِّ والصد، وقيل:
فلا عن قِلى كان التقرب بيننا ولكنه دهر يُشِتُّ ويجمع

وقال الآخر:
ولستُ - وإنْ أحببتُ مَنْ يَسْكُن الفضا بأولِّ راجٍ حاجة لا ينالها

قوله جلّ ذكره: { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }.
يبذل ما أمكنه، ويخرج عن جميع ما يملكه، وعليه آثار الحسرة، واستشعار أحزان الحجبة.
فمن كان منكم مريضاً... الخ: الإشارة منه أن يبتهل ويجتهد بالطواف على الأولياء، والخدمة للفقراء، والتقرب بما أمكنه من وجود الاحتيال والدعاء.
قوله جلّ ذكره: { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }.
فإذا تجلت أقمار القصود عن كشوف التعزز، وانجلت غيابة الحجبة عن شموس الوصلة وأشرف نون الإقبال في تضاعيف أيام الوقفة، فليستأنِف للوصلة وقتاً، وليفرش للقربة بساطاً، وليجدد للقيام بحق السرور نشاطاً، ولَيَقُلْ: حَيِّ على البهجة‍ فقد مضت أيام المحنة.
وليُكْمِل الحج والعمرة، وَلْيَسْتَدِم القِيَام بأحكام الصحبة والخدمة.
{ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } بالحجاب لمن لم يُرِه أَهِلَّة الوصلة والاقتراب
"لطائف الإشارات للقشيري"
قال فى التأويلات النجمية حج العوام قصد البيت وزيارته وحج الخواص قصد رب البيت وشهوده كما قال الخليل عليه السلام انى ذاهب الى ربى سيهدين وكما ان من قصد الله وطلبه وتوجه اليه بالكلية وفدى بنفسه وماله وولده فى الله واتخذ ما سواه عدوا كما قال { { فإنهم عدو لى إلا رب العالمين } [الشعراء: 77].
كان الخليل عليه الصلاة والسلام وهذا كله من مناسك الحج الحقيقى فلذلك جعله الله اول من بنى بيت الله وطاف وحج واذن فى الناس بالحج وسن المناسك وكان الحج صورة ومعنى مقامه عليه السلام وكما كان له مقام كان لنبينا عليه السلام حال والحال اتم من المقام لان المقامات من المنازل والاحوال من المواهب فيمكن سلوك المقامات بغير المواهب ولا يمكن المواهب بغير سلوك المقامات فلما كان الخليل من اهل المقامات قال { { إنى ذاهب إلى ربى سيهدين } [الصافات: 99].
ولما كان النبى عليه الصلاة والسلام من اهل المواهب قيل { سبحان الذى أسرى بعبده } [الإِسراء: 1] فلما كان ذهابه بنفسه فى الحج الحقيقى لقى فى السماء السابعة واحصر فيها فقيل له { فان احصرتم فما استيسر من الهدى } فاهدى باسمعيل ولما اسرى بالنبى عليه السلام وكان ذهابه بالله ما احصره شىء فقيل له { وأتموا الحج والعمرة لله } فأتم حجه بان دنا فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى ثم اتى عمرته بان تجلى له اقمار المقصود عن كشوف التعزز بالشهود وانجلت عنانة المحبة عن شموس الوصلة وجرى بين المحبين ما جرى فأوحى الى عبده ما اوحى ثم نودى من سرادقات الجلال فى اتمام الحج والاكمال يوم الحج الاكبر عند وقوفه بعرفات فى حجة الوداع وهو آخر الحجات اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا.
الإشارة: إذا عقد المريد مع ربه عُقْدةً، فالواجب عليه إتمامها حتى يَجْني ثمرتَها، فإذا عقد عقدة المجاهدة فليجاهد نفسه حتى يجني ثمرتها، وهي المشاهدة، وإذا عقد مع الشيخ عقدة الصحبة، فليلزم خدمته حتى يدخله إلى بيت الحضرة، ويشهد له بالترشيد. وهكذا كل من عقد مع الله عقدة يجب عليه إتمامها، فإن أُحصر ومُنع من إتمامها فليفعل. ما استيسر من ذبح نفسه وحط رأسه، و { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآءَاتَاهَا } [الطّلاَق: 7]، ولا ينبغي أن يستعجل الفتح قبل إِبَّانِه، فلعلَّه يُعاقَب بحرمانه، فكم من مريد طلب شيخه أَنْ يُطلعه على سر الربوبية قبل بلوغ محله، فكان ذلك سببب عطبه، فيقال له: ولا تحلق رأسك من شهود السوى حتى يبلغ هَديُ نفسك محلة فيذبح، فإذا ذُبِحت النفس وأُجهِز عليها حلق رأسه حينئذٍ من شهود السِّوى، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه.
إنْ تُرِدْ وَصْلَنَا فَمَوْتُكَ شَرْطٌ لا يَنَالُ الْوِصَال مَنْ فِيهِ فَضْلَهْ

فمن كان مريضاً بضعف عزمه، أو به أذى بعدم نهوض حاله، بحيث لم تُسعفْه المقادير في مجاهدة نفسه، فليشتغل بالنسك الظاهر من صيام أو صدقة أو قراءة أو غير ذلك، حتى يَمنَّ عليه العليمُ الحكيمُ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولمّا ذكر الحقّ تعالى هدى الإحصار وفديَة الأذى، ذكر هدى
يقول الحقّ جلّ جلاله على طريق الإشارة للمتوجهين إليه: فإذا أمنتُمْ من أعدائكم الذين يقطعونكم عن الوصول إلى حضرتنا، أو أمِنْتُم من الرجوع بعد الوصال، أو من السلب بعد العطاء، وذلك بعد التمكين من شهود أسرار الذات، وأنوار الصفات، إذ الكريم إذا أعطى لا يرجع، فإذا حصل لكم الأَمْن، فمن تمتع بأنوار الشريعة إلى أسرار الحقيقة فعليه ما استطاع من الهدي والسمت الحسَن والخلُق الحَسن؛ لأنه إذ ذاك قد اتصف بصفة الكمال وتصدَّر لتربية الرجال، فمن لم يجد ذلك فلرجع إلى ما تيسر من المجاهدة حتى يتمكن من ذلك الهَدْي الحسن والخلق الحسن، هذا لمن لم يتمكن في الحضرة الأزلية، وأما مَن كان مقيماً بها، عاكفاً في شهود أنوارها، فلا كلام عليه، لأنه قد تولاّه مولاه، وغيَّبَه عن شهود نفسه وهواه، فَأمْرُه كله بالله وإلى الله. جعلنا الله فيهم بمنِّه وكرمه، لكن لا يغفُل عن التقوى؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام: "أنا أعرفُكُم بالله، وأنا أتقاكم له" . وقالوا: "من علامة النهايات الرجوعُ إلى البدايات". والله تعالى أعلم.
"البحر المديد لابن عجيبة الحسيني"

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء ديسمبر 05, 2023 9:34 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


قوله جلّ ذكره: { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ }.
كما أن الحج بالنفوس أَشْهُرٌ معلومات لا ينعقد الإحرام به إلا فيها، ولا يجوز فعل الحج في جميع السَّنَةِ إلا في وقت مخصوص، من فاته ذلك الوقت فاته الحج - فكذلك حج القلوب له أوقات معلومة لا يصح إلا فيها، وهي أيام الشباب؛ فمن لم تكن له إرادة في حال شبابه فليست له وصلة في حال مشيبه، وكذلك من فاته وقت قصده وحال إرادته فلا يصلح إلا للعبادة التي آخرها الجنة، فأما الإرادة التي آخرها الوصلة.. فلا.
قوله جلّ ذكره: { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ }.
كذلك الإشارة لمن سلك طريق الإرادة ألا يُعرِّج على شيء في الطريق، ولا يمزج إرادته بشيء. فمن نَازَعه أو عَارَضَهُ أو زاحمه - سَلَّم الكل للكل، فلا لأجل الدنيا مع أحدٍ يخاصم، ولا لشيء من حظوظ النَّفْس والجاه مع أحد يزاحم، قال تعالى: { { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63].
قوله جلّ ذكره: { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ }.
تكتفي بِعِلْمِه وحُكْمِه عن شهود خَلْقِه وحُكْم خلْقِه وعلم خلْقِه.
قوله جلّ ذكره: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }.
تقوى العامة مُجانبة الزلات، وتقوى الخواص مجانبة الأغيار بالسرائر."القشيري"
قوله: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } [197] قال: هو الرفيق إلى ذكر الله تعالى خوفاً، إذ لا زاد للمحب سوى محبوبه، وللعارف سوى معروفه. وقال في قوله: { مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [آل عمران:97] قال: الزاد والراحلة، ثم قال: أتدرون ما الزاد والراحلة؟ فقالوا: لا. فقال: الزاد الذكر، والراحلة الصبر. قال: وقد صحبه رجل في طريق مكة فلم يجد يومين شيئاً فقال: يا أستاذ أحتاج إلى قوت. فقال: القوت هو الله. فقال: لا بد من قوت يقوم به الجسد. فقال: الأجساد كلها بالله عزَّ وجلَّ وأنشد: [من البسيط]
يا حِبُّ زِدْنِي سَقَاكَ الشَّوْقُ من دِيَمٍ يَزِيدُنِي صَوْبُها الأحزانَ والكربا
ودامَ لي لوعةٌ في القَلْبِ تَحْرِقُنِي إِنِّي متى أَزدادُ حُبّاً زادني طربا

ثم قال: الدنيا هي التي قطعت المنقطعين إلى الله عن الله عزَّ وجلَّ. وقال: عيش الملائكة في الطاعة، وعيش الأنبياء بالعلم وانتظار الفرج، وعيش الصديقين بالاقتداء، وعيش سائر الناس [عالماً كان أو جاهلاً، زاهداً كان أو عابداً] في الأكل والشرب.
قوله: { وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }[197] أي يا أهل الفهم عني بالعقول السليمة. وقال: إن الله تعالى أمرهم أن يتقوه على مقدار طاقات عقولهم بما خصهم به من نور الهداية بذاته، والقبول منه، وإفرادهم بالمعنى الذي ركبه فيهم، وعلمه بهم قبل خلقهم، فذكرهم تلك النعمة عليهم، ودعاهم بتلك النعمة التي سبقت لهم إلى الاعتراف بنعمة ثانية بعد الموهبة الأزلية، وهي حقيقة المعرفة، وقبول العلم بالعمل خالصاً له. قيل: فما معنى التقوى وحقيقته؟ قال: الحقيقة لله عزَّ وجلَّ أن تعاجل لدى العمل القليل بالموت، وكذا الخطايا بالعقوبة، فيعرف ذلك فيتقيه، فلا يتكل على شيء سواه. قيل له: قد اختلفت أسباب تقوى الخلق؟ قال: نعم، كما اختلف أفعالهم. قال أبو بكر: فقلت: لقد ثبت في القرآن أن تقوى كل امرئ على حسب طاقته. فقال: نعم، قد قال الله تعالى: { { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ } [التغابن:16] فردهم إلى ما في طاقتهم. فقلت له: لقد قال الله تعالى: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران:102] قال سهل: أما أصحابنا فيقولون إن هذا الخطاب لقوم مخصوصين بأعيانهم، لأنهم طولبوا بما لم يطالب به الأنبياء عليهم السلام، وكما قال إبراهيم ويعقوب لأولادهما."التسرب"
الإشارة: معاملة الأبدان مؤقتة بالأمكان والأزمان، ومعاملة القلوب أو الأرواح غير مؤقتة بزمان مخصوص، ولا مكان مخصوص، فحجَ القلوب، الأزمنةُ كلها له ميقات، والأماكن كلها عرفات، حج القلوب هو العلوب هو العكوف في حضرة علام الغيوب، وهي مُسَرْمَدَةٌ على الداوم على مَرِّ الليالي والأيام، فكل وقت عندهم ليلة القدر، وكل مكان عندهم عرفةُ المشرَّفةُ القدر، وأنشدوا:
لولا شهودُ جمالكم في ذاتي ما كنتُ أَرْضَى ساعةً بِحَياتي
ما ليلةُ القدرُ الْمُعَظَّمُ شأنُها إلا إذا عَمَرَتْ بكُم أوقَاتِي
إن المحبَّ إذا تمكَّنَ في الهَوَى والحبّ لم يَحْتَجْ إلى ميقاتِ

وقال آخر:
كُلُّ وقتٍ مِنْ حَبيبِي قدْرُهُ كأَلْفِ حَجَّة
فازَ مَنْ خلَّى الشَّوَاغِلْ وَلِموْلاَه تَوَجَّهْ

فمَنْ فَرض على قلبه حجَّ الحضرة فيلتزم الأدب والنظرة، والسكوتَ والفكرة، قال تعالى: { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [طه: 108] فلا رفث ولا فسوقَ ولا جدال ولا مراء، إذ مبنى طريقهم على التسليم والرضى، وما تفعلوا من خير فليس على الله بخفي. وتزودوا بتقوى شهود السَّوَى، { فإن خير الزاد التقوى }، وجِمَاعُ التقوى هي مخالفة الهَوى، ومحبة المولَى، فهذه تقوى أولي الألباب؛ الذين صفَتْ مِرآة قلوبهم، فأبصروا الرشد والصواب، وبالله التوفيق
البحر المديد لابن عجيبة الحسيني

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس ديسمبر 07, 2023 1:04 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ }

الإشارة: العبد لا يستغني عن طلب الزيادة، ولو بلغ من الكمال غاية النهاية، فالقناعة من الله حرمان، واعتقاد بلوغ النهاية نقصان، فليس عليكم جناح أيها العارفون أن تبتغوا فضلاً من ربكم زيادة في إيقانكم، وترَقِّياً في معانيكم، إذ كمالات الحق لا نهاية لها، وأسرار الذات لا إحاطة بها، قال تعالى: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [طه: 110]. والله وليّ التوفيق.
ثم ذكر الحقّ تعالى الوقوف بعرفة، والرجوع إلى المزدلفة والمشعر الحرام، فقال:
{ ...فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً... }
الإشارة: إذا وقَفَت القلوبُ على جَبل عرفة المعارف، وتمكنت من شهود جمال معاني تلك الزخارف، حتى صارت تلك المعاني هي روحَها وسرَّها، وإليها مآلها ومسيرُها، أُمرتْ بالنزول إلى رض العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، شكراً لما هداها إليه من معالم التحقيق، وما أبان لها من منار الطريق، وإن كانت من قبله لمن الضالين عن الوصول إلى رب العالمين. ثم يؤمرون بمخالطة الناس بأشحباحهم، وانفرادهم عنهم بأرواحهم، أشباحُهم مع الخلق تسعى، وأرواحهم في الملكوت ترعى، فإذا وقع منهم ميل أو سكون إلى حِسّ؛ فليستغفروا الله { إن الله غفور رحيم }. ثم يقال لهم: فإذا قضيتم مناسككم، بأن جمعتم بين مشاهدة الربوبية في باطنكم، والقيام بوظائف العبودية في ظاهركم، فاذكروا الله على كل شيء، وعند كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، حتى لا يبقى من الأثر شيء، كما كنتم تذكرون آباءكم وأبناءكم، في حال غفلتكم، بل أشد ذكراً وأعظم وأتم، والله ذو الفضل العظيم.
ثم بيَّن الحقّ تعالى مقاصد الناس، وهممهم في طلبهم وسعيهم، فقال:
{ ... فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

الإشارة: الناس ثلاثة: صاحب همة دَنِيَّة، وذو همة متوسطة، وصاحب همة عالية، أما صاحب الهمة الدنية فهو الذي أنزل همته على الدنيا الدنية، وأكبَّ على جمع حطامها الفانية، فقلبُ هذا خالٍ من حب الحبيب، فما له في الآخرة من نصيب. وأما صاحب الهمة المتوسطة فهو الذي طلب سلامة الدارين، وصلاح الحالين، قد اشتغل في هذه الدار بما ينفعه في دار القرار، ولم ينسَ نصيبه من الدنيا لِيقْضِي ما له فيها من الأوطار، فهذا له في الدنيا حسنة، وهي الكفاية والغنى، وفي الآخرة حسنة، وهي النعمة والسرور والهنا.
وأما صاحب الهمة العالية فهو الذي رفع همته عن الكونَيْن، وأغمض طَرْفَه عن الالتفات إلى الدارين، بل علَّق همته بمولاه، ولم يقنع بشيء سواه، قد ولّى عن هذه الدار مُغضياً، وأعرض عنها مُولياً، ولم يشغله عن الله شيء، يقول بلسان المقال إظهاراً لعبودية للكبير المتعال: { ربنا آتنا في الدنيا حسنة } وهي النظرة والشهود، ورضا الملك الودود، { وفي الآخرة حسنة } وهي اللحوق بأهل الرفيق الأعلى، من المقربين والأنبياء، في حضرة الشهود المؤبد { في مقعد صدق عند مليك مقتدر }. أتحفَنَا الله من ذلك بحظٍّ وافر، بمنِّه وكرمه، نحن وأحباءَنا أجمعين، آمين.
---
البحر المديد لابن عجيبة الحسيني



_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس ديسمبر 07, 2023 10:47 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


قوله جلّ ذكره: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ }.
الإشارة فيه أن ما تبتغي من فضل الله مما يُعينك على قضاءِ حقِّه، ويكون فيه نصيب للمسلمين أو قوة للدين - فهو محمود. وما تطلبه لاستيفاء حظك أو لما فيه نصيب لنفسك - فهو معلول.
قوله جلّ ذكره: { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ }.
الإشارة فيه إذا وقفت حتى قمت بحق طلبه فاذكر فضله معك؛ فلولا أنه أَرَادَكَ لما أَرَدْتَهُ، ولولا أنه اختارك لما آثرتَ رضاه.ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٩٩ -البقرة
لطائف الإشارات
الإشارة فيه ألا تعلم نفسك بما تمتاز عن أشكالك في الظاهر؛ لا بلبسة ولا بخرقة ولا بصفة، بل تكون كواحد من الناس، وإذا خطر ببالك أنك فعلت شيئاً، أو بك أو لك أو معك شيء فاستغفرْ اللهَ، وجَدِّدْ إيمانك فإنه شِرْكٌ خَفِيٌّ خَامَرَ قلبَك.قوله جلّ ذكره: { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً }.
{ قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ } إشارة إلى القيام بحق العبودية.
{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } إشارة إلى القيام بحق المحبة.
قضاء المناسك قيامٌ بالنفس.
{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } قيامٌ له بالقلب على استدامة الوقت واستغراق العمر.
ويقال كما أنَّ الأغيار يفتخرون بآبائهم، ويستبشرون بأسلافهم فَلْيَكُنْ افتخاركم بنا واستبشاركم بنا.
ويقال إن كان لآبائكم عليكم حقُّ التربية فحقُّنا عليكم أوجب، وأفضالنا عليكم أتم.
ويقال إن كان لأسلافكم مآثر ومناقب، فاستحقاقنا لنعوت الجلال فوق ما لآبائكم من حسن الحال.
ويقال إنك لا تملُّ ذكر أبيك ولا تنساه على غالب أحوالك، فاسْتَدِمْ ذِكرنا، ولا تَعْترِضَنَّكَ ملالة أو سآمة أو نسيان.
ويقال إنْ طَعَنَ في نَسَبِكَ طاعِنٌ لم ترضَ فكذلك ما تسمع من أقاويل أهل الضلال والبِدَعِ فَذُبَّ عنَّا.
ويقال الأبُ يُذكَرُ بالحرمة والحشمة فكذلك اذكرنا بالهيبة مع ذكر لطيف القربة بحسن التربية.
وقال { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } ولم يقل أمهاتكم لأن الأب يُذكَر احتراماً والأم تُذكَر شفقةً عليها، والله يَرْحَم ولا يُرْحَم.
{ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } لأن الحقَّ أحقُّ، ولأنك قد تستوحش كثيراً عن أبيك، والحقُّ سبحانه مُنَزَّهٌ عن أن يخطر ببال من يعرفه أنه بخلاف ما يقتضي الواجب حتى إن كان ذرة. وقوله { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } الأب على ما يستحقه والرب على ما يستحقه.
قوله جلّ ذكره: { فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }.
خطاب لو قاله مخلوقٌ لَكَ كان شاكراً، ولو أنه شكا منك كما شكا إليك لساءت الحالة، ولكن بفضله أَحَلَّكَ محل أن يشكو إليك فقال: مِنَ الناس من لا يجنح قلبه إلينا، ويرضى بدوننا عنَّا، فلا يبصر غير نفسه وحظِّه، ولا يمكن إيمان له بربه وحقِّه.
لطائف الإشارات للقشيري

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت ديسمبر 09, 2023 6:03 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ٢٠١ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ٢٠٢ -البقرةوَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٢٠٣ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ ٢٠٤ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ ٢٠٥
إنما أراد بها حسنة تنتظم بوجودها جميع الحسنات، والحسنةُ التي بها تحصل جميع الحسنات في الدنيا - حفظُ الإيمان عليهم في المآل؛ فإِنَّ مَنْ خرج من الدنيا مؤمناً لا يخلد في النار، وبفوات هذا لا يحصل شيء. والحسنة التي تنتظم بها حسنات الآخرة - المغفرة، فإذا غفر فبعدها ليس إلا كل خير.
ويقال الحسنة في الدنيا العزوف عنها، والحسنة في الآخرة الصون عن مساكنتها. والوقاية من النار ونيران الفُرقة إذ اللام في قوله { النَّارَ } لام جنس فتحصل الاستعاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة جميعاً.
ويقال الحسنة في الدنيا شهود بالأسرار وفي الآخرة رؤية بالأبصار.
ويقال حسنة الدنيا ألا يُغنيك عنك وحسنة الآخرة ألا يردك إليك.
ويقال حسنة الدنيا توفيق الخدمة وحسنة الآخرة تحقيق الوصلة.قوله جلّ ذكره: { أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ }.
إن كان خيراً فخير وإن كان غيراً فغير. { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } للعوام في الفرصة، وللخواص في كل نَفَس.
ويقال ذكر فريقين: منهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا، والثاني يقول في الدنيا والعقبى، وثالث لم يذكرهم وهم الراضون بقضائه، المستسلمون لأمره، الساكنون عن كل دعاء واقتضاء.هذه صفة أواخر النسك، وهو الرمي في أيام مِنًى لما قدموا بأركان الحج خَفَّفَ عنهم بأن خَيَّرهم في المقام والإفاضة والتعجيل في التفريق.
والإشارة منه أَنَّ مَنْ خمدت نفسهُ، وَحى قلبُه واستدام بحقائق الشهود (سِرُّه).
فإنْ سَقطَ عنه شيء من فروع الأوراد ففيما هو له مستديمُ من آداب الحضور عِوَضٌ عن الذي يفوت.أخبر أن قوماً أعرض الحق سبحانه وتعالى عن قلوبهم فأعطاهم في الظاهر بَسْطَةً في اللسان ولكن ربط على قلوبهم أسباب الحرمان؛ فَهُمْ في غطاء جهلهم، ليس وراءهم معنيً، ولا على قولهم اعتمادٌ، ولا على إيمانهم اتِّكَالٌ، ولا بهم ثقةٌ بوجهٍ.
والإشارة إلى أهل الظاهر الذين لم تساعدهم أنوار البصيرة فهم مربوطون بأحكام الظاهر؛ لا لهم بهذا الحديث إيمان، ولا بهذه الجملة استبصار، فالواجبُ صونُ الأسرار عنهم فإنهم لا يقابِلون هذا الحديث إلا بالإنكار، وإن أهل الوداعة من العوام الذين في قلوبهم تعظيم لهذه الطريقة، ولهم إيمان على الجملة بهذا الحديث لأقرب إلى هذه الطريقة من كثيرٍ ممن عدَّ نفسه من الخواص وهو بمعزل عن الإيمان بهذا الأمر.الإشارة لِمَنْ سَعْيُه مقصورٌ على استجلاب حظوظه، فهو لا يبالي بما يَنْحَلُّ من عُرى الدين، ويهيئ من أسباب الإسلام، بعدما تَشتد حبال دنياهم، وتنتظم أسباب مناهم، من حرام جمعوه، وحُطام حَصلَّوه. فإذا خَلَوْا لوساوسهم وقصودهم الردية سَعَوْا بالفساد بأحكام أسباب الدنيا، واستعمالهم مَنْ يستعينون بهم في تمشية أمورهم مِنَ القوم الذين نزع الله البصيرة من قلوبهم.
{ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ }: ما كان فيه خراب الأمور الدينية ونظام الأحوال الدنيوية فهو الفاسد الظاهر.

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء ديسمبر 13, 2023 4:44 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ٢٠٦ -البقرة
هؤلاء أقوام استولى عليهم التكبُّر، وزال عنهم خضوعُ الإنصاف؛ فَشَمَخَتْ آنافُهم عن قبول الحق فإِذا أمرته بمعروف قال: ألمثلى يقال هذا؟!
وأنا كذا وكذا! ثم يكبر عليك (...) فيقول: وأنت أَوْلى بأن تؤمر بالمعروف وتُنهى عن المنكر فإن من حالك وقصتك كذا وكذا.
أو لو ساعده التوفيق وأدركته الرحمة، وتقلَّد المنة بمن هداه إلى رؤية خطئه، ونبهه على سوء وصفه، لم يطوِ على نصيحة جنبيه وتبقى في القلب - إلى سنين - آثارها.
قال تعالى: { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } يعني ما هو فيه في الحال من الوحشة وظلمات النَّفْس وضيق الاختيار حتى لا يسعى في شيء غير مراده، فيقع في كل لحظة غير مرة في العقوبة والمحنة، ثم إنه منقول من هذا العذاب إلى العذاب الأكبر، قال الله تعالى: { { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ } [السجدة: 21].
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ ٢٠٧ -البقرة
أولئك الذين أدركتهم خصائص الرحمة، ونعتتهم سوابق القسمة، فآثروا رضاء الحق على أنفسهم، واستسلموا بالكلية لمولاهم، والله رؤوف بالعباد: ولرأفته بهم وصلوا إلى هذه الأحوال، لا بهذه الأحوال استوجبوا رأفته.
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ٢٠٨ -البقرة
كلَّف المؤمِنَ بأن يُسالِمَ كل أحدِ إلا نَفْسَه فإنها لا تتحرك إلا بمخالفة سيده؛ فإن مَنْ سَالَم نَفْسَه فَتَرَ عن مجاهداته، وذلك سبب انقطاع كل قاصد، وموجِبُ فترةِ كل مريد.
و { خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ } ما يوسوسه إليك من عجزك عن القيام باستيفاء أحكام المعاملة، وتركِ نزعاتٍ لا عِبْرة بها، ولا ينبغي أن يُلْتَفَتَ إليها، بل كما قال الله تعالى: { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ } [القصص: 7] ثم أَبْصِرْ ما الذي فعل به حين أَلْقَتْه، وكيف ردَّه إليها بعدما نجَّاه.
فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٢٠٩ -البقرة
الزَّلةُ الواحدةُ بعد كشف البرهان أقبحُ من كثيرٍ منها قبل ذلك، ومَنْ عُرِفَ في الخيانة لا يُعْتَمد عليه في الأمانة. ومحنة الأكابر إذا حلَّت كان فيها استئصالهم بالكلية.
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ ٢١٠ -البقرةقوله جلّ ذكره: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ }.
استبطأ القومُ قيامَ الساعةِ فأُخبروا عن شدة الأمر إذا قامت الساعة بتفصيل ما ذكر.
وتلك أفعال في معنى الأحوال، يظهرها الله سبحانه بما يزيل عنهم الإشكال في علو شأنه سبحانه وتعالى، ونفاذ قدرته فيما يريد. { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } أي انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير السابق. ولقد استغنت قلوب الموحدين لما فيها من أنوار البصائر عن طلب التأويل لهذه الآية وأمثالها إذ الحق سبحانه مُنَزَّهُ عن كل انتقال وزوال، واختصاص بمكان أو زمان، تقدس عن كل حركة وإتيان. "لطائف الإشارات للقشيري"
الإشارة: الناس على قسمين: قسم زَيّنُوا ظواهرهم وخرَّبوا بواطنهم، وظاهرهم جميل وباطنُهم قبيح، إذا تكلموا في الدنيا أو في الحس، أعجبَك قولهم، وراقك منظرُهم، وإذا تكلموا في الآخرة، أو في المعنى، أخذتهم الحبْسةُ والدهشة. وفي بعض الكتب المنزلة: "إنَّ مِنْ عِبَاد الله قوماً ألْسنَتُهُم أحْلَى منَ العَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أمرّ مِنْ الصَّبْرِ، يَلْبَسُونَ للنَّاس جُلُودَ الضَّأنِ مِن اللِّينِ، يَجْتَرُّون الدُّنْيَا بالدين، يَقُولُ الله تعالى: أبِي يَغْتَرُّونَ، وعليَّ يَجْترِئُون؟ حَلَفتْ لأُسلطنَّ عليهمْ فتْنةٌ تَدَعُ الْحَليم مِنْهُمْ حَيْرَانَ".
وقوله: { يلبسون... } الخ. كناية عن إظهار اللين والسهول ليخدع ويغر الناس ليتوصل إلى حظ نفسه من الدنيا، ومع ذلك يدعي موافقة ظاهره لباطنه، وهو شديد الخصومة لأهل الله، وإذا تولى عنك اشتغل بالمعاصي والذنوب، ليُفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل بشؤم معاصيه، وإذا ذُكِّر: أنِفَ واستكبر، وأخذته حمية الجاهلية، فحسبُه البُعد في نار القطيعة.
والقسم الثاني: قوم زَيَّنوا بواطنهم وخربوا ظواهرهم، عمّروا قلوبهم بمحبة الله، وبذلوا أنفسهم في مرضات الله، قلوبهم في أعلى عليين، وأشباحهم في أسفل سافلين، فأولئك المقربون مع النبيين والمرسلين. قال بعض العارفين: كلما وضعت نفسك أرضاً أرضاً، سما قلبك سماء سماء، وكل ما نقص من حسك زاد في معناك. وفي الحديث: "مَن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره" . وبالله التوفيق.أمر الحقّ جلّ جلاله جميعَ بالصلح معه والاستسلام لأحكامه، بحيث لا يَصْدُر منهم نِزَاعٌ لأحكامه، ولا اعتراض على أفعاله، بل يَنظرون ما يبرز من عنصر القدرة، فيتلقونه بالرضى والتسليم، أو الصبر والتصبر، سواء ظهرت هذه الأفعال على أيدي الوسائط أو بلا وسائط، إذ لا فاعل سواه، وكلٍّ من عند الله، فإن زللتم واعترضتم، أو سخطتم، من بعد ما جاءتكم الآيات البيّنات الدالة على وحدانية الحق في ذاته وصفاته وأفعاله، فاعلموا أن الله عزيز حكيم، لا يعجزه عقوبتكم وإبعادكم، لكنه من حكمته يُمهل ولا يهمل، والله غالب على أمره، ومن تاب تاب الله عليه.في الآية تهديد لأهل الحجاب الذين لم يتحققوا بالصلح مع الله، بل هم يخاصمون الله في مظاهر خلقه، ويعترضون على الله في قضائه وحكمه، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله: هل ينتظر هؤلاء المنكرون عليَّ في أفعالي، المعترضون عليَّ في حكمي وإبرامي - إلا أن أتعرف لهم في ظُلل من الغمام، وهو سحب الآثار، فإذا أنكروني أخذتهم الملائكةُ، وقضي الأمر بهلاكهم، وإلى الله تُرجع الأمور كلها، فليلتزم العبد الأدب مع مولاه، وليُسلم الأمور كلها إلى الله، إذ لا موجود سواه، فما برز من العباد: كله من الله، فمن اشتغل بعتابهم فاته الأدب مع الله، إلا ما أمرتْ به الشريعة، فليكن في ذلك كالعبد يُؤدب ابنَ سيده؛ يده تؤدب وقلبه يعظم، والله تعالى أعلم وأرحم."البحر المديد لابن عجيبة الحسيني"

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة ديسمبر 15, 2023 9:27 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669
فراج يعقوب كتب:
أحمد ماهرالبدوى كتب:
[size=200]

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ١٨٦ -البقرة
لطائف الإشارات

أي إذا سألك عبادي عني فبماذا تجيبهم؟ ليس هذا الجواب بلسانك يا محمد، فأنت وإنْ كنتَ السفير بيننا وبين الخلْق فهذا الجواب أنا أتولاه { فَإِنِّي قَرِيبٌ } (رَفَعَ الواسطة من الأغيار عن القربة فلم يَقُل قل لهم إني قريب بل قال جل شأنه: { فَإِنِّي قَرِيبٌ }).
"لطائف الإشارات للقشيري"

رجاء : عاوزين تعليق سيدي الصبيح البقية على هذه العبارة ,,الأغيار ؟؟!!
[/size]

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد ديسمبر 17, 2023 10:51 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ٢١١ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ٢١٢ كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ ٢١٣ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ ٢١٤ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ٢١٥
مكروا فلم يشعروا، وحملهم اشتداد الظلمة على بصائرهم على الوقيعة في أوليائه سبحانه، والسخرية منهم، وحين تقشعت غواية الجهل عن قلوبهم (....) علموا مَنْ الخاسر منهم مِن الذي كان في ضلال بعيد.
يعني الغيبة عن الحق جمعتهم، فلما أتتهم الرسل تباينوا على حسب ما رُزقوا من أنوار البصيرة وحُرِموها. ويقال كانوا على ما سبق لهم من الاختيار القديم، وبمجيء الرسل تهود قوم وتَنَصَّر قوم، ثم في العاقبة يُرَدُّ كل واحد إلى ما سبق له من التقدير، وإن الناس اجتمعوا كلهم في علمه سبحانه ثم تفرّقوا في حكمه، فقوم هداهم وقوم أغواهم، وقوم حجبهم وقوم جذبهم، وقوم ربطهم بالخذلان وقوم بسطهم بالإحسان، فلا مِنْ المقبولين أمر مكتسب، ولا لمردِّ المردودين سبب، بل هو حُكْمٌ بُتَّ وقضاءٌ جُزِم.خلق الله الجنة وحفَّها بالمصاعب، وخلق النار وحفَّها بالشهوات والرغائب، فَمنْ احتشم ركوب الأهوال بقي عن إدراك الآمال. ثم إن الحق سبحانه ابتلى الأولين بفنونٍ من مقاساة الشدائد، وكلُّ من أُلحِقَ بهم من خلف الأولياء أدخلهم في سِلْكِهِمْ، وأدرجهم في غمارهم، فمن ظنَّ غير ذلك فَسَرَابٌ ظَنَّه ماءً، وحكم لم يحصل على ما ظَنه تأويلاً. ولقد مضت سُنَّة الله سبحانه مع الأولياء أنهم لا يُنيخُونَ بعقوة الظفر إلا بعد إشرافهم على عرصات اليأس، فحين طال بهم التَرَقُّبُ صَادَفَهم اللطفُ بغتةً وتحقق لهم المُبْتَغَى فجأة. قال تعالى: { إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }.علموا أن العبد غير منفردٍ بالفاعلية أن يفعل، فإنَّ العبد ليس له فعل شيء إلا بإذن مولاه فتوقفوا في الإنفاق على ما يشير إليه تفصيل الإذن، لأنَّ العبوديَة الوقوفُ حيثما أوقفك الأمر.
ويقال لم ينفقوا على إشارات الهوى. وإنَّ ما طالعوه تفاصيلُ الأمر وإشارات الشرع. والواو في هذه الآية في قوله: { وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ } تشير إلى نوعٍ من الترتيب؛ فالأوْلى بمعروفك والداك ثم أقاربك ثم على الترتيب الذي قاله.علموا أن العبد غير منفردٍ بالفاعلية أن يفعل، فإنَّ العبد ليس له فعل شيء إلا بإذن مولاه فتوقفوا في الإنفاق على ما يشير إليه تفصيل الإذن، لأنَّ العبوديَة الوقوفُ حيثما أوقفك الأمر.
ويقال لم ينفقوا على إشارات الهوى. وإنَّ ما طالعوه تفاصيلُ الأمر وإشارات الشرع. والواو في هذه الآية في قوله: { وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ } تشير إلى نوعٍ من الترتيب؛ فالأوْلى بمعروفك والداك ثم أقاربك ثم على الترتيب الذي قاله.
"لطائف الإشارات للقشيري"


_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد ديسمبر 24, 2023 11:20 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ٢١٦ -البقرة
صعبت على النفوس مباشرة القتال، فبيَّن أن راحات النفوس مؤجلة لأنها في حكم التأديب، وبالعكس من هذا راحات القلوب فإنها معجلة إذ هي في وصف التقريب، فالسعادة في مخالفة النفوس؛ فمن وافقها حاد عن المحبة المثلى، كما أن السعادة في موافقة القلوب فمن خالفها زاغ عن السُنَّة العليا.
وبشرى ضمان الحق باليُسْر أَوْلَى أن تُقْبَل من محذرات هواجس النفوس في حلول العسر وحصول الضر.
قوله جلّ ذكره: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ }.
من المعاصي ما يكون أشد من غيره وأصعب في المعنى، فسوء الأدب على الباب لا يُوجِب ما يُوجبه على البساط؛ فإذا حصلت الزلة بالنَّفْس فأثرها بالعقوبة المؤجلة وهي الاحتراق، وإذا زلّ القلب فالعقوبة معجلة وهي بالفراق، وأثر الغفلة على القلوب أعظم من ضرر الزلة على النفوس، فإن النفس عن الحظ تبقى، والقلب عن الحق يبقى.
قوله جلّ ذكره: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلۤـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
الإشارة من هذا أن أهل الغفلة إذا راودوك أرادوا صَرْفَكَ إلى ما هم عليه من الغفلة، فلا يرضون إلا بأن تفسخ عقد إرادتك بما تعود إليه من سابق حالتك، ومَنْ فسخ مع الله عهده مَسخَ قلبه.
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ٢١٨ -البقرة
إن الذين صدقوا في قصدهم، وأخلصوا في عهدهم، ولم يرتدوا في الإرادة على أعقابهم، أولئك الذين عاشوا في رَوْحِ الرجاء إلى أن يصلوا إلى كمال البقاء ودار اللقاء.
قوله جلّ ذكره: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا }.
الخمر ما خامر العقول، وكما أن الخمر حرام بعينها فالسُكْر حرام بقوله صلى الله عليه وسلم: "حُرِّمت الخمر بعينها، والسُكْر من كل شراب" ، فمن سَكِرَ من شراب الغفلة استحق ما يستحق شارب الخمر من حيث الإشارات، فكما أنَّ السكران ممنوع من الصلاة فصاحب السُكْر بالغفلة محجوب عن المواصلات وأوضح شواهد الوجود، فمَنْ لم يُصَدِّقُ فَلْيُجَرِّب.
ومعنى القمار موجود في أكثر معاملات أهل الغفلة إذا سلكوا طريق الحِيَل والخداع والكذب في المقال. وبذلُ الصدقِ والإنصاف عزيزٌ.
قوله جلّ ذكره: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ }.
قيل العفوُ ما فضل عن حاجتك، وهذا للخواص يخرجون من فاضل أموالهم عن قدر كفاياتهم، فأمَّا خواص الخواص فطريقهم الإيثار وهو أن يُؤثِر به غيرَه على نفسه وبه فاقة إلى ما يخرج وإن كان صاحبه الذي يؤثِر به غيباً.
قوله جلّ ذكره: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ }.
إصلاح حالهم بما يكون فيه تأديبهم أتَمّ من إصلاح مالهم، ثم الصبر على الاحتمال عنهم مع بذل النصح، و (مفارقة المال مَنْ مِنْ إرشادهم خير من الترخص بأن يقول إنه لا يتوجه على فرضيهم).
قوله جلّ ذكره: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
فيُعاملُ كلاً على سواكن قلبه من القُصُود لا على ظواهر كَسْبِه من جميع الفنون.
"لطائف الإشارات للقشيري


_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين ديسمبر 25, 2023 8:22 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


الجهاد على قسمين: جهاد أصغر وهو جهاد السيف، وجهاد أكبر وهو جهاد النفس، فيجاهدها أولاً في القيام بجميع المأمورات، وترك جميع المنهيات، ثم يجاهدها ثانياً في ترك العوائد والشهوات، ومجانبة الرخص والتأويلات، ثم يجاهدها ثالثاً في ترك التدبير والاختيار، والسكون تحت مجاري الأقدار، حتى لا تختار إلا ما اختار الحق تعالى لها، ولا تشتهي إلا ما يقضي الله عليها، فإن النفس جاهلة بالعواقب، فعسى أن تكره شيئاً وهو خير لها، وعسى أن تحب شيئاً وهو شر لها.
فعسى أن تأتيها المسار من حيث تعتقد المضارّ، وعسى أن تأتيها المضار من حيث ترجو المسار، وعسى أن تنفع على أيدي الأعداء، وعسى أن تضر على أيدي الأحباء، وعسى أن تكره الموت وهو خير لها، وعسى أن تحب الحياة وهي شر لها، فالواجب تسليم الأمور إلى خالقها، الذي هو عالم بمصالحها، { والله يعلم وأنتم لا تعلمون }،وهذا كله قبل تصفيتها وكمالها، وأما إذا تهذبت وكملت رياضتها، فالواجب اتباع ما يتجلى فيها، إذ لا يتجلى فيها إلا الحق، وهذا هو ثمرة الجهاد الأكبر، وأما الجهاد الأصغر فلا يحصل شيء من هذا، فلذلك كان مفضولاً عند الجهاد الأكبر، وبالله التوفيق.
ولما كان القتال محرماً في الأشهر الحرم في أول الإسلام، ووقع من بعض الصحابة، فندموا وتحرجوا، أزال الله ذلك الحرج عنهم.تعظيم الزمان والمكان يكون بقدر ما يقع فيه من طاعة الملك الديان، فالزمان الذي تهب فيه نفحات القبول والإقبال، لا ينبغي أن يقع فيه ملاججة ولا قتال، وهو وقت حضرة الذكر، أو التذكير، أو الجلوس مع العارفين أهل الإكسير، فسوء الأدب فيه أمره كبير، ومنع القاصدين من وصوله جُرمه كبير، وصد القلوب عن نفحات تلك الحضرة أكبر من كل كبير، ولا يزال قُطَّاع هذه الطريق يردون من أراد سلوكها على التحقيق، لكن من سبق له التأييد لا يرده عن الحق جبار ولا عنيد، ومن سبق له الحرمان، وحَكم عليه القضاءُ بالخذلان، رجع ولو بعد العيان، وأنشدوا:
والله ما نَشْكُرْ خَلِيعْ وإنْ ثَمِلْ وإن صَحَا
وإن ثَبَتْ، سَيْرٌ سَرِيعْ وإن شَرِبْ حَتَّى امْتَحا
حَتى يُقَطَّعْ في القَطيعْ ويَدُورْ دَوْرَ الرَحَا

إن الذين آمنوا وصدَّقُوا بطريق الله، وهاجروا أهواءهم في مرضاة الله، وجاهدوا نفوسهم في محبة الله، أولئك يرجون رحمة الله، فلا يُخيبهم الكريم؛ لأنه غفور رحيم.
ولمّا كان الخمر حلالاً في أول الإسلام، وكانوا يشربونه، ويتِّجُرون فيه، فيتصدقون بثمنه وبثمن القمار، بيَّن الحقّ تعالى ذلك، بعد الأمر بالإنفاق؛ لئلا يقع التساهل في المعاملة بعلَّة الصدقة.اعلم أن الحق تعالى جعل للعقل نوراً يُميز بين الحق والباطل، بين الضار والنافع، وبين الصانع والمصنوع، ثم إن هذا النور قد يتغطى بالظلمة الطينية؛ وهي نشوة الخمر الحسية. وقد يتغطى أيضاً بالأنوار الباهرة من الحضرة الأزلية إذا فاجأته، فيغيب عن الإحساس في مشاهدة الأنوار المعنوية، وهي أسرار الذات الأزلية، فلا يرى إلا أسرار المعاني القديمة، وينكر الحوادث الحسية، فسمي الصوفية هذه الغيبة خمرة؛ لمشاركتها للخمر في غيبوبة العقل، وتغنوا بها في أشعارهم ومواجيدهم، قال الفارض رضي الله عنه:
شَرِبْنَا على ذِكْر الحبيبِ مُدامَةً سَكرنَا بها من قبل أن يُخلَقَ الكَرْمُ

ثم قال:
على نفسه فَليبْكِ مَن ضاع عُمْرُه وليسَ لهُ منها نَصِيبٌ ولا سَهْمُ

وقلت في عينيتي:
وَلِي لَوْعَةٌ بالرَّاحِ إِذْ فِيه رَاحِتِي وَرَوْحِي ورَيْحَانِي، وخيرٌ واسِعُ
سَكرْنَا فهِمْنَا في بَهاءِ جَمَالِه فَغِبْنا عَن الإحساسِ، والنُورُ ساطعُ

والميسر في طريق الإشارة: هو الغني الذي يحصل بهذه الخمرة، وهو الغني بالله عن كل ما سواه (قل فيهما إثم كبير) أي: في تعاطيهما حرج كبير، ومنافع للناس بعد تعاطيهما، فيهما إثم كبير عند طالب الأجور، ومنافع للناس لمن طلب الحضور ورفع الستور. وأنشدوا:
لَوْ كَان لي مُسْعدٌ يُسعِدُني لمَا انتظرتُ لشُربِ الراحِ إفطارا
فالراحُ شيءٌ شَريفٌ أنتَ شَاربُه، فاشْرَب، ولو حَمَّلَتْكَ الراحُ أوْزارا
يا مَنْ يلومُ على صَهْبَاءَ صافيةٍ خُذ الجِنَانَ، ودَعْنِي أَسكنُ النَارا

وقال ابن الفارض:
وقالُوا: شَرِبْتَ الإثَم! كلاّ، وإنما شرِبْتُ التي في ترْكِها عنديَ الإثْمُ

وقال آخر:
طابَ شُرْبُ المُدامِ في الخَلَواتْ اسْقِني يا نديمُ بالآنِيَاتْ

خْمْرَةٌ تركُها علينا حرَامٌ، ليسَ فيها إثمٌ ولا شُبُهَاتْ
عُتِّقَتْ في الدَّنان مِنْ قَبْلِ آدمْ أصلُها طيّبٌ من الطَّيِّبَاتْ
أَفْتِ لي أيُّهَأ الفقيهُ وقلْ لي: هل يجوزُ شُرْبُها على عَرَفاتْ؟

فيهما إثم كبير عند أهل الحجاب، ونفع كبير عند ذوي الألباب، يعني: في الخمرة الأزلية والغنى بالله، وقوله تعالى: { وإثمهما أكبر من نفعهما }: خطاب على قدر ما يفهم الناس، لأن إثمهما ظاهر للعوام، وهو ما يظهر على النشوان من خراب الظاهر، وصدور الأحوال الغريبة، ونفعهما خاص عند خوصا الخواص، لا يفهمه إلا الخواص، بل يجب كتمه عن غير أهله، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم وقع سؤال ثالث عن قدر المنفق، فأشار إليه الحقّ جلّ جلاله بقوله:
{ ... وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ... }
قلت: { العفو }: ضد الجهد، وهو السهل، ويقال للأرض السهلة: عفو، والمراد: أن يُنفق ما تيسر بذله، ولا يبلغ به الجَهد، وهو خبر، أو مفعول، أي: هو العفو، أو ينفقون العفو.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { ويسألونك } ما القدر الذي ينفقونه؟ { قل } لهم: هو { العفو } أي: السهل الذي لا مشقة في إعطائه، ولا ضرر على المعطي في فقده، رُوِي أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقدر بَيْضة من الذهب، فقال خُذها عني صَدقَة، فأعرض عنه، حتى كَرَّر مِرَاراً، فقال: هاتها، مُغْضَبَا، فحذفها حذفاً لو أصابه لشجَّه، فقال: "يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به، ويجلس يتكفَّفُ الناس، إنما الصدقةُ عن ظَهْرِ غِنَى" . قاله البيضاوي مختصراً.
قلت: وهذا يختلف باختلاف اليقين؛ فقد تصدّق الصدِّيقُ رضي الله عنه بماله كله، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله، فأقرهما ورَدّ فعلَ غيرهما، فدلَّ ذلك على أن العفو يختلف باختلاف الأشخاص، على حسب اليقين.
{ كذلك يبن الله لكم الآيات } أي: مثل هذا التبيين الذي ذكرنا، { يُبين } لكم الآيات، حتى لا يترك إشكالاً ولا وهماً، { لعلكم تتفكرون } بعقولكم، وتأخذون بما يعود نفعه عليهكم، فتتفكرون { في الدنيا } وسرعة ذهابها وتقلبها بأهلها، إذا أقبلت كانت فتنة، وإذا أدبرت كانت حسرة، لا يفي طالبُها بمقصوده منها ولو ملكها بحذافيرها، ضيقة الزمان والمكان، عمارتها إلى الخراب، وشأنها إلى انقلاب، سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، فتزهدون فيها وترفعون همتكم عنها.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "مَالِي وللدنيا، إنما مَثَلي ومثلُ الدنيا كرجلٍ سَافَرَ في يوم صَائِفٍ، فاسْتَظَلَّ تحت شَجَرةٍ، ثم رَاحَ وَتَرَكَها" . وفي صحف إبراهيم عليه السلام: "عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب - أي: يتعب - عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها". وأنشدوا:
ألا إنَّما الدنيا كأحْلاَمِ نَائِم وكُلُّ نعيمٍ ليسَ فيها بِدَائِم
تَذَكَّرْ إذا ما نِلْتَ بالأمس لَذَّةً فأفْنَيْتَها هل أنتَ إلا كَحَالِمِ

وتتفكرون في { الآخرة } ودوام نعيمها، وسعة فضائها، وبهجة منظرها؛ فترغبون في الوصول إليه، وتتأهبون للقائها، فتؤثرونها على هذه الدار الفانية. قال بعض الحكماء: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان ينبغي للعاقل أن يختار ما يبقى على ما يفنى، لا سيما والأمر بالعكس، الدنيا من طين يفنى، والآخرة من ذهب يبقى، فلا يختار هذه الدار إلاَّ أحمق خسيس الهمة، وبالله التوفيق. كما نهى الحقّ جلّ جلاله عن السرف في الأموال، نهى عن السرف في الأحوال، فالسرف، من حيث هو، يؤدي إلى الملل والانقطاع، "أحبُ العملِ إلى اللّهِ ما دَامَ عليه صاحبُه، وإنْ قَلَ" كما في الحديث، "والله ما رأينا أحداً أسرف في الأحوال إلا مَلَّ، وضعف حاله" ، وفي الحديث: "لاَ يكْن أحَدُكُم كالمُنْبَتِّ - أي: المنقطع - لا أرضاً قطع، ولا ظَهْراً أبقى" . وقال في المباحث:
فاحْتلْ على النفس فَرُبَّ حِيله أنفعُ في النُّصْرة مِن قَبِيله

فلا يزال يُسايس نفسه شيئاً فشيئاً حتى يملكها، ويظفر بها، فإذا ظفر بها كانت له شبكة يصطاد بها العلوم والمعارف، فتتفكر في الدنيا فتراها فانية فترحل عنها، ثم تتفكر في الآخرة فتراها باقية، فإذا رامت السُّكْنَى فيها رأتْها كَوْناً مخلوقاً فرحلت إلى خالقها، فكشف الحقّ عنها الحجاب، وأدخلها مع الأحباب، وأدخلها مع الأحباب، فغابت عن الكونين في شهود المكون، فلم يبق لها دنيا ولا آخرة، بل هي الآن في بهجة ونضرة { إلى ربها ناظرة }، حققنا الله بهذا المقام العلي. آمين.
ثم سألوا أيضاً عن مخالطة اليتامى، فأجابهم الحقّ تعالى بقوله:
{ ... وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
قلت: العنت: التعب والمشقة، أعنتكم: أتعبكم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { ويسألونك عن } مخالطة { اليتامى } أي: خَلْط مال اليتامى بمال الوصيّ، أو القائم به، فيأكلون جميعاً، { قل } لهم: يفعلون ما هو { إصلاح } لليتيم وأحفظ لماله، فإنْ كان خلط مال اليتيم مع مال الوصي أحفظُ لماله، وأوفر، فهو خير، فإنما هم إخوانكم في الدين، وإن كان عزلُ ما لهم عن مالكم، وأكله وحده، اوفر لماله، فاعتزالهم خير، { والله يعلم } من قصدُه الإفساد، ممن قصده الإصلاح، فيعامل كل واحد بقصده، { ولو شاء الله } لأمركم بعزلهم وحفظ مالهم مطلقاً، فيُحرجكم، ويشق عليكم، { إن الله عزيز } غالب، لا يعجزه شيء، { حكيم } لا يفعل شيئاً إلا لحكمة ومصلحة.
ولما نزل قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً... } [النِّساء: 10] الآية، تحرَّج الصحابة من مخالطة اليتامى، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية.
الإشارة: كل من لا شيخ له في طريق القوم فهو يتيم، لا أبَ له، فإن ادعى شيئاً من الخصوصية سُمي عندهم لقيطاً أو دعياً، أي؛ منسوباً إلى غير أبيه، وما زالت الأشياخ تُحذِّر من مخالطة العوام، ومن مخالطة المتفقرة الجاهلة، أعني: الذين لا شيخ لهم يصلح للتربية، حتى قالوا: مخالطتهم سُم قاتل. وقال بعضهم: يجتنب المريد مخالطة ثلاثة أصناف من الناس: المتفقرة الجاهلين، والقراء المداهنين، والجبابرة المتكبرين.
قلت: وكذلك الفروعية المتجمدين على ظاهر الشريعة، فصُحبتهم أقبحُ من الجميع، ومن ابتلى بمخالطة العوام فلينصحهم، ويرشدهم إلى مصالح دينهم، إنما هم إخوان في الدين، والله يعلم المفسد من المصلح، فمن خالطهم طمعاً في مالهم أو جاههم، أفسده الله، ومن خالطهم نُصحاً وإرشاداً أصلحه الله، ولو شاء الله لأمر الفقراء باعتزالهم بالكلية، وفي ذلك حرج ومشقة، ومِنْ حكمته تعالى أن جعلهم حجاباً لأهل الحجاب، ومدخلاً لذوي الألباب، حجاباً للضعفاء، ومدخلاً ومشهداً للأقوياء. والله تعالى أعلم.
ولمّا فرغ الحق جلّ جلاله من ذكر بعضَ أمر الجهاد وما يتعلق به، شَرَع يتكلم على النكاح.
-----
البحر المديد لابن عجيبة الحسيني


_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يناير 07, 2024 9:57 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٢٢١ -البقرةصلة حبل الدين والتمسك بعصمة المسلمين أتم من الرضا بأن تنتهي إلى أحدٍ يسلك إلى الكفر، ولئن كانت رخصة الشريعة حاصلة في فعله فإشارة الحقيقة مانعة من حيث التبرئة عن اختياره، هذا في الكتابيات اللاتي يجوز مواصلتهن، فأما أهل الشِرْك فحرامٌ مواصلتهم قطعاً، وأوجهُ مباينتهم في هذا الباب حُكْمٌ جَزْمٌ.قوله جلّ ذكره: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ }.
ليس كل ما يكون موجب الاستحياء والنفور مما هو باختيار العبد، فقد يكون من النقائص ما ليس للعبد فيه كسب، وهو ابتداءً حكمُ الحق، فمن ذلك ما كتب الله على بنات آدم من تلك الحالة، ثم أُمِرْنَ باعتزال المُصَلَّى في أوان تلك الحالة، فالمصلِّى مناجٍ ربَّه، فَيُحيِّن عن محل المناجاة حكماً من الله لا جُرْماً لهن. وفي هذا إشارة فيقال: إنهن - وإنْ مُنِعْنَ عن الصلاة التي هي حضور بالبدن فلم يحجبن عن استدامة الذكر بالقلب واللسان، وذلك تعرض بساط القرب، قال صلى الله عليه وسلم مخبراً عنه تعالى: "أنا جليس من ذكرني" .
قوله جلّ ذكره: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ }.
يقال يحب التوابين من الذنوب، والمتطهرين من العيوب.
ويقال التوابين من الزلة، والمتطهرين من التوهم أن نجاتهم بالتوبة.
ويقال التوّابين من ارتكاب المحظورات، والمتطهرين من المساكنات والملاحظات.
ويقال التوّابين بماء الاستغفار والمتطهرين بصوب ماء الخجل بنعت الانكسار.
ويقال التوَّابين من الزلة، والمتطهرين من الغفلة.
ويقال التوَّابين من شهود التوبة، والمتطهرين من توهم أن شيئاً بالزلة بل الحكم ابتداء من الله تعالى.
نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٢٢٣ -البقرة
لمَّا كانت النفوس بوصف الغيبة عن الحقيقة أباح لها السكون إلى أشكالها إذا كان على وصف الإذن، فلمَّا كانت القلوب في محل الحضور حرم عليها المساكنة إلى جميع الأغيار والمخلوقات.
{ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } من الأعمال الصالحة ما ينفعكم يوم إفلاسكم، لذلك قال:
{ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ } فانظروا لأنفسكم بتقديم ما يسركم وجدانه عند ربكم.
وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٢٤ -البقرةنزهوا ذكْرَ ربكم عن ابتذاله بأي حظ من الحظوظ.
ويقال لا تجعلوا ذكر الله شركاً يُصْطَاد به حطام الدنيا.لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ٢٢٥ -البقرة
ما جرى به اللسان على مقتضى السهو فليس له كثير خطرٍ في الخير والشر، ولكن ما انطوت عليه الضمائر، واحتوت عليه السرائر، من قصود صحيحة، وعزائم قوية فذلك الذي يؤخذ به إن كان خيراً فجزاءٌ جميل، وإن كان شراً فعناءٌ طويل
----
لطائف الإشارات للقشيري

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يناير 08, 2024 11:49 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


الإشارة: لا ينبغي للفقير أن يعقد مع نفسه عقد الصحبة والمودة، أو ينظر إليها بعين الشفقة والرحمة، ما دامت مشركة بشهود السّوى، أو مائلة بطبعها إلى الهوى، ولأن تكون عندك نفس مؤمنة بعلم التويد، خير من نفس مشركة برؤية الغير، ولو أعجبتك في الطاعة، وظهور الاستقامة، فقد تُظْهر الطاعة والخدمة، وتُبطن مالها فيها من الحظوظ والمتعة، فليتهمها ما دامت مشركة، فإذا آمنت ووحدت الله تعالى، فلم تر معه سواه، فلا بأس بعقد النكاح معها، فإنها لا تأمره إلا بما يقوي شهودها وتوحيدها. وكذلك لا ينبغي أن يعقد نكاح نفسه، ويدفعها لمن يشهد السّوى، شيخاً أو أخاً، ولو أعجبك طاعته واجتهاده، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، أولئك أهل النفوس - يدعون إلى نار الشهوات والحظوظ العاجلة أو الآجلة، والله يدعو إلى التطهير من شهود الأغيار، والدخول في حضرة الأسرار، وهذا لا يكون إلا للعارفين الأبرار؛ الذين تطهروا من الأكدار، وتخلصوا من شهود الأغيار، كذلك يُبين الله آياته الناس - الدالّة على وحدانيته - لعلهم يتعظون فينزجرون عن متابعة الهوى، أو رؤية وجود السوى. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما بيَّن الحقُ تعالى ما يحرم في النكاح أصالَةً، بيَّن ما يحرم فيه عُروضاً.إذا سُئلت - أيها العارف - عن النفس في حال جنابتها بالغفلة، وحال تلبسها بنجاسة حب الدنيا، فقل: هي أذى، أي: قذر ونجس، من قَرُب منها لطَّخته بنجاستها، فلا يحل القرب منه، أو الصحبة معها، حتى تطهر من جنابة الغفلة باليقظة، ومن نجاسة حب الدنيا بالزهد، ورفع الهمة عنها، فإذا تطهرت فاتها، وردها إلى حضرة مولاها، كما أمرك الله، { إن الله يحب التوابين }، وقد تابت ورجعت إلى مولاها، { ويحب المتطهرين }، وقد تطهرت من جنابة الغفلة، وتنزهت عن نجاسة الدنيا برفع الهمة، فصارت لك أرضاً لزراعة حقوق العبودية، ومَنْبَتا لبذر شهود عظمة الربوبية، فأتوا حرثكم - أيها العارفون - أنى شئتم، أي: ازرعوا في أرض نفوسكم من أوصاف العبودية ما شئتم، وفي أي وقت شئتم.
فبقدر ما تزرعون من العبودية تحصدون من الحرية. وبقدر ما تزرع فيها من الذل تحصده من العز، وبقدر ما تزرع فيها من الفقر تحصده من الغنى، وبقدر ما تزرع فيها من التواضع تحصده من الشرف والرفعة.
والحاصل: بقدر ما تزرع فيها من السفليات تحصد ضده من العلويات. قال تعالى: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِنَّ لَهُمْ فِى الأَرْضِ } [القصص: 5، 6]. فإذا تركتها هَمَلاً، أنبتت لك الشوك والحنظل، { وقدموا لأنفسكم } من أوصاف العبودية ما تجدونه أمامكم من مشاهدة الربوبية، واتقوا الله فلا تشهدوا معه سواه، واعلموا أنكم ملاقوه حين تغيبون عن وجودكم وتفقدونه، وبشر المؤمنين الموقنين بشهود رب العالمين.
ولما تكلم الحقّ جلّ جلاله على بعض أحكام النكاح، أراد أن يتكلم على الإيلاء، وهو الحلف على عدم مس المرأة وجماعها، وقدّم على ذلك النهي عن كثرة الحلف؛ لأنه هو السبب في الوقوع في الإيلاء.يقول الحقّ جلّ جلاله: { لا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم }، لكن اجعلوه عرضة لتعظيم قلوبكم ومشاهدة لأسراركم، فإني ما أظهرت اسمي لتبتذلوه في الأيمان والجدال، وإنما اسمي لتتلقَّوْه بالتعظيم والإجلال، فمن عظَّم اسمي فقد عظَّم ذاتي، ومن عظم ذاتي جعلته عظيماً في أرضي وعند أهل سمواتي، وجعلته برّاً تقيّاً، من أهل محبتي وودادي، وداعياً يدعو إلى معرفتي، ويصلح بيني وبين عبادي، فمن حلمي ورأفتي: أني لا أؤاخذ بما يجري على اللسان، وإنما أؤاخذ بما يقصده الجَنَان.
تنبيه: كثرة الحلف مذموم يدل على الخفة والطيش، وعدم الحلف بالكلية تعسف، وخيرُ الأمور أوساطها، كان عليه الصلاة والسلام يحلف في بعض أحيانه، يقول: "لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ" ، "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ" . والله تعالى أعلم.
----
البحر المديد لابن عجيبة الحسيني

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت يناير 20, 2024 8:27 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


قوله جلّ ذكره: { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ }.
إذا كان حق صحبة الأشكال محفوظاً عليك - حتى لو أَخْلَلْتَ به - وأخَذَكَ بحكمه: فحقُّ الحقِّ أَحَقُّ بأن تجب مراعاته. { فَإِنْ فَآءُو } أي رجعوا إلى إحياء ما أماتوا، واستدراك ما ضيَّعوا { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فلما تقاصر لسان الزوجة - لكونها أسيراً في يد الزوج - تَوَلَّى الله - سبحانه - الأمر بمراعاة حقها فأمر الزوج بالرجوع إليها أو تسريحها.
وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٢٧ -البقرة
إنْ ملَّ حق صحبتها، وأكَّد العزم على مفارقتها فإن الله مطلع على حاله وسره، فإن بدا له بادٍ من ندم فلا يُلبِس بأركان الطلاق فإن الله سبحانه عليم أنه طلَّقها.
ولمَّا كان الفراق شديداً عَزَّى المرأة بأن قال إنه (السَّمِيعُ) أي سمعنا موحش تلك القالة، فهذا تعزية لها من الحق سبحانه. ذكره: { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ }.
أمَرَ المطلقات بالعِدَّة احتراماً لصحبة الأزواج، يعني إنْ انقطعت العلاقة بينكما فأقيموا على شرط الوفاء لما سَلَفَ من الصحبة، ولا تقيموا غيره مقامه بهذه السرعة؛ فاصبروا حتى يمضي مقدار من المدة. ألا ترى أن غير المدخول بها لم تؤمر بالعدة حيث لم تقم بينهما صحبة؟
ثم قال جلّ ذكره: { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }.
يعني إنْ انقطع بينكما السبب فلا تقطعوا ما أثبت الله من النَّسَبِ.
ثم قال جلّ ذكره: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ }.
يعني مَنْ سَبَقَ له الصحبة فهو أحق بالرجعة لما وقع في النكاح من الثلمة.
{ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوۤاْ إِصْلاَحاً }.
يعني أن يكون القصد بالرجعة استدراك ما حصل من الجفاء لا تطويل العدة عليها بأن يعزم على طلاقها بعدما أرجعها.
{ وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ }.
يعني إن كان له عليها حق ما أنفق من المال فلها حق الخدمة لما سلف من الحال. { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.
في الفضيلة، ولهن مزية في الضعف وعجز البشرية.
قوله جلّ ذكره: { ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ }.
ندب إلى تفريق الطلاق لئلا تسارع إلى إتمام الفراق، وقيل في معناه:
إنْ تَبْيَنْتُ أَنَّ عَزْمَكِ قتلى فذريني أضني قليلاً قليلا

ثم قال جلّ ذكره: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ }.
إمَّا صحبة جميلة أو فُرْقة جميلة. فأمَّا سوء العشرة وإذهاب لذة العيش بالأخلاق الذميمة فغير مَرَْضِيٍ في الطريقة، ولا محمود في الشريعة.
قوله جلّ ذكره: { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً }.
فإِن في الخبر "العائد في هبته كالعائد في قَيْئِه" والرجوع فيما خرجتَ عنه خِسَّة.
ثم قال جلّ ذكره: { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ }.
يعني إنْ أرادت المرأة أن تتخلص من زوجها فلا جناح عليها فيما تبذل من مال، فإنَّ النفس تساوي لصاحبها كل شيء، والرجال إذا فاتته صحبة المرأة فلو اعتاض عنها شيئاً فلا أقلَّ من ذلك، حتى إذا فاتته راحة الحال يصل إلى يده شيء من المال.
قوله جلّ ذكره: { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ }.
هذه آداب يُعَلِّمكمها الله ويَسُنُّها لكم، فحافظوا على حدوده، وداوموا على معرفة حقوقه.
قوله جلّ ذكره: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ }.
الرجلُ يَشُقُّ عليه أن ينكحَ زوجتَه غيرُه فمنعه عن اختيار الفراق بغاية الفراق بُغْية المنع لما بيَّن أنها لا تحل له إن فارقها إلا بأن تفعل غاية ما يشق عليه وهو الزواج الثاني لِيَحْذَرَ الطلاق ما أمكنه. ثم قال: { فَإِن طَلَّقَهَا } يعني الزوج { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ } يعني تتزوج بالزوج الأول.
والإشارة فيه أن استيلاء المحبة على القلب يُهَوِّن مُقاساة كلِّ شديدة؛ فلو انطوى الزوجان بعد الفرقة على التحسُّر على ما فاتهما من الوصلة، وندما على ذلك غاية الندامة فلا جناح عليهما أن يتراجعا، والمرأة في هذه الحالة كأنها (...) من الزوج الأول بمكان الزوج الثاني والزوج كالآتي على نفسه في احتمال ذلك.
ثم قال جلّ ذكره: { إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }.
يعني لا يعودان بعد ذلك إلى الفراق ثانياً إذا علما حاجة أحدهما إلى صاحبه، قال قائلهم:
ولقد حلفت لئن لقيتك مرةً ألا أعود إلى فراقك ثانية
-----
لطائف الإشارات للقشيري

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يناير 21, 2024 8:34 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


الإشارة: لا ينبغي للعبد أن يصرف عمره كله في معاداة نفسه ومجانبتها، إذ المقصود هو الاستغال بمحبة الحبيب، لا الاشتغال بعداوة العدو، فلمجاهدة نفسه ومجانبتها حد معلوم ووقت مخصوص، وهو ما دامت جموحة جاهلة بالله. فإن فاءت ورجعت إلى الله، وارتاضت لحضرة الله، وجبت محبتها والاصطلاح معها؛ لأن النفس بها ربح مَنْ ربح، ومنها خسر من خسر، من عرف قدرها، واحتال عليها حتى ردها إلى ربها - ربح، ومن أهملها وجهل قدرها - خسر، وكان شيخ شيوخنا يقول: جزاها الله عنا خيراً؛ والله ما ربحنا إلا منها، يعني نفسه. وفي بعض الآثار: (مَنْ عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربَه). وإن عزموا الطلاق، يعني: العباد والزهاد عزموا ألا يرجعوا إلى أنفسهم أبداً، فإن الله سميع عليم بقصدهم هل قصدهم طلب الحظوظ أو محبة الحبيب، وأما العارفون فلا تبقى لهم معادة مع أحد قط، قد اصطلحوا مع الوجود بأسره، فمكنهم الله من التصرف في الوجود بأسره. والله ذو الفضل العظيم.إذا طُلّقَتْ النَّفْسُ، ووقع البعد منها حتى طهرت ثلاثة: الطهر الأول: من الإصرار على الذنوب والمخالفات، الطهر الثاني: من العيوب والغفلات، الطهر الثالث: من الركون إلى العادات الوقوف مع المحسوسات، دون المعاني وأنوار التجليات - حلَّتْ رجعتُها والاصطلاح معها، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن: من العلوم والمعارف والأنوار، وذلك إذا استشرفَتْ على حضرة الأسرار، فإنها تفيض بالعلوم والحكم، أو ما لا يحصى، فينبغي أن تطلع عليها من يقتدي بشأنها. وبعولتهن أحق بردهن، والصلح معهن، بعد تمام تطهيرهن، إن أرادوا بذلك إصلاحاً، وهو إدخالها في الحضرة، ونعيمها بالشهود والنظرة. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحقّ جلّ جلاله حقوق الزوجية، فقال:
{ ... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
يقول الحقّ جلّ جلاله: وللنساء حقوق على الرجال، كما أن للرجال حقوقاً على النساء، فحقوق النساءعلى الرجال: الإنفاق، والكسوة، والإعفاف، وحسن المعاشرة، وكان ابنُ عمر - رضي الله عنهما - يقول: إني لأُحِبُّ أن أتزيَّنَ للمرأة كما تتزين لي، ويقرأ هذه الآية.
وحقوق الرجل على المرأة: إصلاح الطعام والفراش، وطاعة زوجها في كل ما يأمرها به من المباح، وحفظ فرجها، وصاينة ماله الذي ائتمنت عليه - إلى غير ذلك من الحقوق، فللنساء حقوق على الرجال { مثل الذي عليهن بالمعروف } من غير ضرر ولا ضرار. ولا تفريط ولا إفراط، { وللرجال عليهم درجة } أي: فضيلة؛ لأن الرجال قوّامون على النساء، ولهم فضل في الميراث، والقسمة، وكثير من الحقوق، فضلهم الله على النساء: { والله عزيز } لا يعجزه عقاب من خالف أمره، لكنه يمهل ولا يُهمل، { حكيم } لا يفعل إلا لمصلحة ظاهرة أو خفية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: للنفس حقوق على صاحبها، كما له حقوق عليها، قال - عليه الصلاة والسلام -: "إنَّ لنفْسك عَلَيْكَ حَقّاً، وَلزَوْجِكَ عَلَيْك حَقّاً، ولِربِكَ عليك حَقّاً، فأَعْطِ كُلّ ذِي حَقِ حَقَّهُ" . فالنفس مغرفة للسر، فإذا تعبت سقط منها السر، كذلك نفس الإنسان، إذا تحامل عليها حتى تعللت، ودخلها الوجع، تعذر عليها كثر من العبادات، لا سيما الفكرة، فلا بد من حفظ البشرية، وإنا ينبغي قتلها بالأمور التي لا تُخِلُّ بصحتها، فعليها طاعتك فيما تأمرها به، كما عليك حفظها مما تتضرر به. وللرجال الأقوياء عليها تسلطٌ وتصرف، فهي مملوكة في أيديهم، وهم غالبون عليها، والله غالب على أمره، وهو العزيز الحكيم.إذا طلَّق المريد الدنيا، ثم رجع إليها، ثم تاب وتوجه إلى الله، ثم رجع إليها، ثم تاب وتوجه مرة ثانية، قُبلت توبته، فإن رجع إيها بعد الطلقة الثانية، فلا يُرجى فلاحه في الغالب؛ لأنه متلاعب، قال تعالى: { الطلاقُ مَرَّتان } فإمساكُ لها بمعروف بأن يواسي بها من يحتاج إليها، أو تسريح لها من يده بإحسان من الله إليه، حتى يدخله في مقام الإحسان، فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له أبداً حتى يأخذها من يد الله بالله، بعد أن كان بنفسه، فكأنه أخذها بعصمة جديدة، فإن تمكن من الفناء والبقاء، فلا جُناح عليه أن يرجع إليها غنيّاً بالله عنها. والله تعالى أعلم.
ثم نهى الحقّ تعالى عن إمساك الزوجة، إضراراً، كما كانت تفعل الجاهليةُ.
-----
البحر المديد لابن عجيبة الحسيني

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يناير 22, 2024 8:06 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2669


وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ ٱلْكِتَابِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٢٣١ -البقرة
تضمنت الآية الأمر بحسن العِشْرة، وتَرْكِ المغايظَة مع الزوجة، والمحك على وجه اللجاج؛ فإِمَّا تخلية سبيلٍ من غير جفاء أو قيامٌ بحق الصحبة على شرط الوفاء.
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِٱلْمَعْرُوفِ ذٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ٢٣٢ -البقرةتضمنت الآية نهي الأولياء عن مضارتهن، وتركَ حمية الجاهلية، والانقيادَ لحكم الله في تزويج النساء إنْ أردن النكاح من دون استشعار الأنفة والحمية.
بل إذا رضيت بكفوٍ يخطبها فحرام عليكم ظلمها. والتذويبُ عن أوصاف البشرية بقهر النفس أشَدُّ مجاهدةً وأصدقُ معاملة لله.
قوله جلّ ذكره: { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ }.
غايةُ الرحمة التي يُضْرب بها المَثَلُ رحمةُ الأمهات؛ فأَمَرَ الله سبحانه الأمهاتِ بإكمال الرحمة بإرضاع المولود حَوْلَين كاملين، وقطعُ الرضاعة عنه قبل الحولين إشارةٌ إلى أن رحمة الله بالعبد أتمُّ من رحمة الأمهات.
ثم قال جلّ ذكره: { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ }.
يعني الأب عليه رزقهن وكسوتهن - أي المرضعات - بالمعروف. لمَّا يَنُبْن عنك وَجَبَ حَقَّهُن عليك، فإِنَّ مَنْ لك كله فعليك كله.
ثم قال جلّ ذكره: { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا }.
إدخارُ المستطاع بُخْلٌ، والوقوفُ - عند العجز - عذر.
ثم قال جلّ ذكره: { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا }.
في الإرضاع وما يجب عليه.
{ وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ }.
يعني الوالد بولده يعني فيما يلزم من النفقة والشفقة. فكما يجب حق المولود على الوالدين يجب حق الوالدين على المولود.
ثم قوله جلّ ذكره: { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
يعني فطاماً قبل الحولين، فلا جناح بعدما كان القصد الصلاح. اشتملت الآية على تمهيد طريق الصحبة، وتعليم محاسن الأخلاق في أحكام العسرة وإن من لا يَرْحَم لا يُرْحَم.
وقال صلى الله عليه وسلم لمن ذكر أنه لم يُقَبِّل أولاده: "إن الله لا ينزع الرحمة إلا من قلب شقي" .وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ٢٣٤ -البقرةلمّا كان حق الميت أعظم لأن فراقه لم يكن بالاختيار كانت مدة الوفاء له أطول. وكانت عدة الوفاة في ابتداء الإسلام سَنَةً، ثم رُدت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام لتتحقق براءة الرحم عن ماء الزوج، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج بزوجٍ آخر. والميت لا يستديم وفاءه إلى آخر العمر أحدٌ كما قيل:
وكما تَبْلى وجوهٌ في الثرى فكذا يَبْلَى عليهن الحَزَن
قوله جلّ ذكره: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }.
أبيح من ذلك ما كان فيه استجلاب للمودة، وتأسيس لحال الوصلة. وحُرِّمَ منه ما فيه ارتكاب المحظورات من إلمام بذنب أو عِدةٌ بِجُرْمٍ.
قوله جلّ ذكره: { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }.
أي تنقضي عدة الأول فإِن حُرْمة الماضي لا تضيع.
----
لطائف الإشارات للقشيري

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 333 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 16, 17, 18, 19, 20, 21, 22, 23  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 2 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط