ومن درر مجلة التصوف الإسلامي في العدد السابق رقم 407 عدد أكتوبر 2012 الموافق لشهر ذو القعدة 1433 هــ
باب فتاوى وأحكام ( وهي فتاوى يجيب عليها فضيلة شيخ الإسلام مولانا الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية حفظه الله تعالى ) وسأكتبها ليعم بها النفع والفائدة وهي من صــ 48 حتى صــ 50 .
ما حكم حج التهريب ؟ يعني : تكلفة الحج من مصر كبيرة ، فذهبت لدولة عربية ، ومن هناك استخرجت تأشيرة مرور بالأراضي السعودية ، ولم يكن مصرحاً لي بالدخول لمكة أو المدينة ، فهل تقبل حجتي ؟
الحقيقة أنا أتعجب كيف نخلط بين العبادة وبين الكذب والنبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله أبو ذر : أيزني المؤمن ؟ قال : نعم ، يعني لعل شعوته قد غلبته وزنى ، وقع في الخطيئة والفاحشة .. أيسرق المؤمن ؟ قال : نعم ، لعل أن شيئاً قد دفعه إلى هذا من حاجة أو عوز ، أيكذب المؤمن ؟ قال : لا ، يعني ليس هناك مبرر بأية طريقة للكذب .. وما دمت لا تستطيع التكلفة ، فأنت لم يفرض عليك الحج أصلاً ، فلماذا تدخل نفسك في دائرة الكذب ، والكذب حرام .. ولذلك ينبغي علينا أن نفهم هذا المعنى .
أبي توفي قبل جدي ، وأعمامي قالوا : إننا ليس لنا ميراث ، ولا أي حق لأن أبي توفي قبل جدي ، هل هذا الكلام صحيح ؟
هذا الكلام خطأ ، وأنتم ترثون ، أو أنت ترث أو أنت نصيب أبيك لو كان حياً ، أو الثلث أيهما أقل ، ولكن الحقيقة هذا لا نسميه ميراثاً ، وإنما نسميه بالوصية الواجبة ، فهي وصية واجبة يحكم بها القاضي ويفتي بها المفتي ، وهي مستقرة في العمل أكثر من 70 سنة الآن في الديار المصرية وغيرها من الدور كالديار الشامية ونحوها ، الوصية الواجبة واجبة التطبيق ، ويجب علينا أن نأخذ نصيب الابن المتوفي هذا وهو أبوك ، أو الثلث ( ثلث التركة ) أيهما أقل ، فلو كان الثلث هو الأقل نأخذه ، ولو كان نصيب الوالد هو الأقل نأه أقل من الثلث ، فإذن لا نتعدى الثلث ، ولكن لكم الحق .
هل من المقبول في الإسلام أن يتم التصالح مع من سرق ونهب مقابل أن يرد ما سرق ؟
كلمة سرق في الفقه الإسلامي تختلف عن كلمة سرق التي يتداولها الناس الآن ، فعندما يأتي أحدهم وقد استولى على أرض بطرق بعضها قانوني وبعضها غير قانوني ، ولكن فيها في النهاية إهدار للمال العام ، فهذا لا يسمى في الفقه الإسلامي سرقة ، إنما يسمى بأسماء أخرى ، منها الاختلاس ، منها الاغتصاب ، وكلها حرام .
ولكن بالرغم من أنها حرام إلا أنها ليست هي السرقة التي وضع الله بإيذائها حداً وقال : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) المائدة 38 ، ليست هذه من السرقة ، هذا الذي يشيع أن الناس قد سرقت أموال الشعب ، فهذا ليس من السرقة الفقهية ، لكن التعبير الصحيح هو أن نقول : إن إناساً ما قد استولوا ، أو قد اختلسوا ، أو قد اغتصبوا ، أو قد نهبوا .. ونحو ذلك من الألفاظ المنفرة للفعل ، ولكن لا تأخذ في حكم الفقه الإسلامي موقف السرقة .
هل يجوز أن نتفاوض مع المغتصب ؟ هكذا نقول حتى نحدد الكلام .
أما السارق الذي هو في الفقه الإسلامي ، فإنه إذا ضبط بسرقته ، فلابد عليه أن يعيدها لمالكها ما دامت باقية ولم يستهلكها ، ولابد علينا أن نقيم عليه حد الله ، لكن هذا الذي تحايل أو هذا الذي وضع نفسه في شبهة ، أو في ترتيب قانوني غريب عجيب ، استطاع به أن يحصل على ما ليس له فيه حق ، فإنه يجوز أن نتفاوض معه ، حتى نرد ما نهبه أو أخذه أو استولى عليه أو تحايل ، حتى وصل إليه ، إلى الشعب وإلى المال العام ، وإلى خزينة الدولة .. يجوز هذا .
هذا في الشرع الشريف .. أما في فعل الناس في العالم ، فإن الثورة التي قام بها أهل جنوب إفريقيا وكان زعيمها " مانديلا " فعلت هذا ، ووجدت أن المصالحة مع المصارحة ، وبيان كيف استطاعوا التحايل أو التجاوز أو فعل الخطيئة ، كيف فعلوها ؟ وكيف نرد إلى الشعب بمصالحة هذا ؟ وكيف نستفيد من المصارحة في بناء المستقبل ، بحيث إننا نصدر قوانين ، بحيث إننا نضع برامج ثقافية في الإعلام وفي التعليم ، بحيث إننا ننشئ ثقافة سائدة ترفض الظلم ، ترفض الرشوة ، ترفض الاستبداد ، ترفض استغلال النفوذ ، ترفض إهدار المال العام ، ترفض التربح ( والتربح غير الربح ، فالتربح جريمة ، والربح ممدوح ) .
أن يعمل الإنسان ، يشغل عمالة حتى يقضي على البطالة ، يزيد من إنتاج المجتمع ، وهكذا .. ونجحت جنوب إفريقيا ، ونجحت شيلي في كثير جداً من هذا المجال ، ولذلك يجب علينا أن نراعي الفقه الإسلامي ، ونستفيد من التراث والذخائر التي فيه ، ونراعي أيضاً تجارب الغير ، ونستفيد منها ، فالحكمة ضالة المؤمن ، أينما وجدها فهو أحق بها .
ما موقف الإسلام فيمن يتقاضون الرشوة ؟
الرشوة حرام لا يجوز إطلاقاً أن ندفعها ، والنبي صلى الله عليه وسلم لعن الثلاثة : لعن الراشي والمرتشي ولعن الساعي بينهما في هذه الرشوة وهو الرائش أو الموفق بينهما ، إذن فالرشوة حرام بكل وجه ، فلا يجوز إلا أن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر ، وأن نكون جماعات ضغط على هذه العادة الخبيثة التي استحلها الناس بكل وسيلة وبكل سبب وأن نصبر على هذا التغيير .
هل يجوز للمتدين أن يفتي غيره ممن ليس على ثقافة دينية ؟
هناك فارق بين الدين وهو علم وبين التدين وهو سلوك ومجال يطبق فيه هذا العلم ، كما أن هناك فارقاً بين العلم المتخصص والثقافة العامة .
والدين الذي هو علم له مصادره ومنهجه وقواعده ، ويحتاج إلى تخصص وتفرغ شأنه شأن سائر العلوم ، أما المجال فهو قابل للمناقشة والأخذ والرد كالفنون والرياضة والحزبية والصحافة ونحوها من المجالات المهمة ، أما جانب العلم من هذه المجالات فليس محله المناقشة والأخذ والرد والرأي والرأي الآخر ، بل هذا مكانه الأكاديميات التي تتخصص فيه .
الجهل ـ أو عدم الاعتراف ـ بهذا الفارق بين العلم والمجال هو ما جعل بعض الناس ممن يتكلمون فيما لا يعلمون يظنون أن تغير بعض الأحكام المرتبطة بالعرف أو تغير بعض وسائل الحياة المرتبطة بالزمن ، يقتضي تغير جميع أحكام الدين لمجرد أن الزمان قد اختلف ، وربما يأتي اليوم الذي يخرج علينا من يقول فيه إن الأمر أيام النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الله وحده ، والزمن قد اختلف فينبغي علينا أن نشرك بالله مسايرة للعصر وما ذاك إلا أنهم اعتبروا الدين مجالاً يتكلمون فيه بجهلهم ولم يفطنوا أن الدين علم والتدين العملي هو سلوك ، وهناك فرق بين علم الدين وبين التدين العملي ، وأن علم الدين هو علم كسائر العلوم له مبادئ وقواعد ومصطلحات ومناهج وكتب وترتيب ومدارس وأسس وتاريخ و ... إلخ .
وهو يحتاج أيضاً إلى أركان العملية التعليمية التي لا يتم العلم إلا بها وهي الطالب والأستاذ والكتاب والمنهج والجو العلمي ، وأن طريق التعلم له درجات مختلفة كدرجات التعليم العام ثم التعليم الجامعي ثم الدراسات العليا بدرجاتها المختلفة .
وله أيضاً أساليبه المختلفة للتمكن منه ، بعضها نظري وبعضها تطبيقي وبعضها حياتي وعملي .
كما أن أداءه يختلف من رسالة علمية إلى كتاب مقرر .. إلى بحث في مجلة محكمة .. إلى بحث للمناقشة أو كمحور في مؤتمر للجماعة العلمية يخبر فيه صاحبه تلك الجماعة بنتائج .
وسيظل أمر الجماعة العلمية دائماً مختلفاً تبعاً للمنح الربانية والعطايا الصمدانية والمواهب التي يمنحها الله لكل شخص يتميز بها على الآخرين وسيظل أمر التخصص العام مرعياً والتخصص الدقيق مطلوباً .
وسيظل هناك فارق بين من ينجح في تحصيل الدروس ولا ينجح في الحياة ومن ينجح فيها ، ومن وصل إلى مرتبة الحجة والمرجعية ولا يحسن التعامل مع الحياة أو يحسن التعامل معها ، كما قال شوقي في أواخر قصيدة كتابي :
وكم منجب في تلقي الدروس
[align=left]تلقى الحياة فلم ينجب
وكل هذه المعاني نراها في كل مجال ، ولعل أقرب مجال ينطبق عليه ما ينطبق على علم الدين هو مجال الطب ، وفي علم الطب انظر إلى كل ما ذكرناه وكأننا نتكلم عن علم طب الأبدان في حين أنني كنت أؤكد على علم حفظ الأديان ... وكل ذلك يختلف عن حق الناس في رعاية صحتها والوقاية من الأمراض والعلاج منها ومبادئ الحياة الصحية الصحيحة التي يتمناها كل إنسان بل هي من حقه .
كما يختلف علم الدين عن التدين الذي هو لازم لكل إنسان ويحتاجه كل أحد من الناس بل يحتاجه الناس على مستوى الفرد والجماعة والأمة .
على الرغم من وضوح الفرق بين علم الدين والتدين ، أو علم الطب ومراعاة الصحة العامة إلا أن هذا الفرق غير معترف به في غالب ثقافتنا ، ونرى خلطاً ضاراً له صور منتشرة في جميع القطاعات لم ينج منه إلا من رحم الله وهم قلة في ثقافتنا السائدة وأرجو الله أن يفتح البصائر بهذه الدعوى لمراجعة جادة مهمة لمواقف كثير من علمائنا ومفكرينا بشأن موقفهم من هذه البدهية .
إننا نرى ما يؤكد أنه ليس هناك اعتراف بالفرق بين علم الدين والتدين ، من ذلك أن أستاذ العلوم أو الزراعة أو الصحافة أو الهندسة أو الطب صار يتكلم في شأن الفقه ويناقش الفتوى التي صدرت ممن تخصص وأمضى حياته في المصادر وإدراك الواقع وما هذا إلا لأنه مثقف ديني أو لأنه لا يعرف أو لم يقتنع بالفرق بين علم الدين وبين التدين ويرى أن الأمر مباح ومتاح للجميع .
ما معنى قول المفتى : " إذا كان الحال كما ورد بالسؤال " ؟
هذا على سبيل الحيطة لدين السائل أو المستفتي من جانب وإبراء لذمة المفتي من جانب آخر فقد يكذب حال المستفتي مقاله وقد يصدقه ، والمفتي ليس جهة تقصي حقائق ولا يطلب شهوداً على صحة الواقعة التي يسأل عنها صاحبها ، كما أنه يستفهم عن الحال مشافهة من صاحبه ويرضى منه بظاهره وأنه يستفتيه ليعلم حكم الله فعلاً .
فإذا كذب المستفتي في سؤاله وذكر ما يخالف الحقيقة فإن فتوى المفتي لا تحلل له حراماً ولا تحرم حلالاً لأن الفتوى على الظاهر والله يتولى السرائر ، والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار " متفق عليه ، فاتق الله تعالى وراقبه في سؤالك . [/align]