عندما تشرأب أعناق الجهلة في زمان ساد فيه الجهل والفجور في القول والعمل.
وعندما تجد بعضهم قد قارب أن يدعي مقام (حدثني قلبي عن ربي) ، فخلط وخَبَطَ خبط عشواء بين مقام ومقام وحال وحال ، ونسب لنفسه وادعى أو كاد ما دل عليه حاله ومقاله أنه خلو منه خالي الوفاض.
وعندما تجد أن هناك من قد استذله الشيطان وألقى على لسانه من سقط القول ما قد يتخذه البعض حجة على السادة الصوفية .
وعندما تجد مَن في جملة كلامه قد نادى على نفسه بلسان الحال والمقال أنه من أهل الإلهام والتلقي والاستمداد عن ساداتنا أهل البيت الكرام ، وهو على التحقيق تلوح من أقواله وأفعاله أمارات الكذب والدجل والافتراء.
وقد قارب أن يصل أو كاد إلى مقام بعض من لقيهم الفقير ممن يزعمون الاختصاص بمزية القرب من آل البيت الكرام ، وكأنه ومعاذ الله من ذلك حبهم ووصلهم وممدهم هو له ولأمثاله فقط ، وأن من خالفهم قيد أنملة فيما هم عليه من غباوة الاعتقاد وخسة الفعال لهو المحروم المطرود!!!!!!!!!
فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وعندما تجد من قد قلد جهله وأعرض عن سبيل أهل العلم في العرض والاستقصاء ، وادعى أن ما قد أتى به من فسل القل وفحش الكلام هو عين الصواب.
بل وزاد في طنبور الإفك والافتراء نغمة فأرعد وأزبد على من قد رفض منه هذا الكلام الخلو من الدليل، بل قال بتبجح وصفاقة لا يحسد عليهما ما معناه أنه ليس عنده إلا هذا.
وكأنه يقول لكل من طالبه بدليل أو توثيق لكلامه : لو مش عاجبك اخبط دماغك في الحيط.
وكيف لا وهو الذي تشتم من كل حرف من حروف كلامه كأن الإلهامات السنية والإشراقات الربانية هو قطب فلك دائرتها.
وكنت أتنمى أن أرى هذا الصنف ومن هم على شاكلته قد أوقفوا في يوم من الأيام في لجنة امتحان ، فهل كان سيجرأ مثل هذا الشخص أن يذكر كلامه لممتحنيه بلا استقصاء ودليل وعزو وإثباتات وأدلة وبراهين على كل كلمة تخرج من فيه؟!!!!!!!!!!
هل كان سيجرأ أن يقول لأحدهم (ليس عندي إلا هذا).
وإن سول له حمقه وبلادته ذلك فبالطبع الجميع سيعرف النتيجة مسبقاً.
وعندما تجد من لم يكتفي بهذا كله ، فإذا به بعد أن استفاق من طول نوم وثبات على صفع الجن والشياطين له (على التحقيق والمجاز) قد صار يؤصل ويقعد ويطلق ثوابت وبديهيات ومسلمات وفق فهم منكوس ، وعقل وقلب قد أضناهما ما الله به عليم.
وهذا وأمثاله غرقى في بحور الإسقاط ، وجل حياتهم وقوامها على ترهات وسخافات غرسها في قلوبهم ونفوسهم شياطين الإنس والجن ، ومن كانوا ومازالوا هم في أياديهم مجرد آيات بينات على استحماق البعض للبعض ، واستغفال البعض للبعض.
وهذا وأمثاله إن قلت لأحدهم طريق السادة الصوفية كما قالوا :[مع المحبرة إلى المقبرة] ، وأنهم كانوا الأنجم اللوامع في سماء علوم الأمة من فقه وتفسير وحديث وووو الخ، لا تجد منهم إلا نفوراً وغمزاً ولمزاً وهذيانات بهمهمات وطمطمات حول مقامات حالهم ومقالهم وبيانهم ومحضرهم ومخبرهم لهو خير دليل على أن بينهم وبينها ما بين بعد المشرقين ، وما بين الثرى والثريا.
بل لا يمنع أحدهم حياؤه من أن يتطاول بشنشنات لا تقرأ على ما يساق مسند ومعزو إلى مصادر ، بحجج تضرب في التفاهة والسخافة بقسط وافر.
بل تأبى عليه طباعه الردية وخسة أخلاقه إلا الطعن في أنساب الناس وأخلاقهم ومعارفهم ، وهو لا يدري المغرور بلسان من يتكلم.
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فاللهم إني أبرأ إليك من أخلاق كهذه وممن تخلق بها.
فزجراً لأمثال هؤلاء الجهلاء ، ومنعاً لهم لئلا يغتروا بصنيعهم ، وتمييزاً لمن قد اتخذ الجهل والاستغباء منهجاً وسبيلاً ، وتحريضاً لكل قاريء ومستمع أن يبعد عن مثل هذا النهج الغير سوي في الفهم والتلقي ، أسوق للأحباب هذه الكلمات المختصرة عن أهمية التوثيق والإسناد.
في الحقيقة قضية الإسناد تشير إلى أحد أهم مكونات عقلية المسلم حيث تشير إلى (التوثيق) ، فالتوثيق للمصادر من أهم خصائص تلك الأمة ؛ حيث وثقت الأمة كتاب ربها من جيل إلى جيل على أعلى مستويات الدقة في النقل ، حتى راعت النقل على مستوى الضبط ، والصوت ، والمد والترقيق والتفخيم ، فأعجزت وبهرت من حولها من الأمم.
وعلى مستوى السنة النبوية ، فالسند كان ولا يزال أهم الوسائل التي حفظ الله بها الحديث وصانه من الوضع والكذب والافتراء ، كما أنه المعيار الأول الذي تُقوم به الروايات وتوزن به الأخبار ؛ لمعرفة صحيحها من سقيمها وقويها من ضعيفها.[1]
فمبدأ إحالة القول إلى قائله عن طريق الرواة والنقلة – وهو روح الإسناد – موجود في أصل أدلة الشرع.
فالآيات تصرح بان جبريل كان هو الواسطة في الوحي بين الله تعالى وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول تعالى:{ نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193، 194] .
وقال تعالى : {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى }(النجم / 4: 6) وهو جبريل عليه السلام . وقال الله تعالى :{ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (النمل:6).
وقد وردت أحاديث أخرى تفيد الإشارة إلى استعمال الإسناد في تبليغ الوحي ونقل النصوص. فعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها، فَرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.[2]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم". [3]
ومما يدل على أن مبدأ الإسناد كان شائعاً حديث ضمام بن ثعلبة، وهو أعرابي كان في البادية، جاءه رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرض عليه الإسلام، فجاء ضمام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:" يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق..قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا . قال: صدق.[4]
فكان هذا التوجيه النبوي والتطبيق العملي من الصحابة من أسس نظرية الإسناد.
وقد روى الإمام مسلم بسنده عن ابن سيرين قال : لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم . فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم ، وينظر إلى أهل البدع ، فلا يؤخذ حديثهم.[5]
وفي رواية أخرى لمسلم عن ابن سيرين قال : إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم .[6]
وعن الأعمش قال : جالست إياس بن معاوية ، فحدثني بحديث ، قلت : من يذكر هذا ، فضرب لي مثل رجل من الحرورية فقلت : إليّ تضرب هذا المثل ، تريد أن أكنس الطريق بثوبي ، فلا أدع بعرة ولا خنفساءة إلا حملتها؟.[7]
ولله در إمامنا الشافعي عندما قال :
العلم ما كان فيه: قال حدثنا وما سوى ذلك وسواس الشياطين
العلم ما كان فيه: قال حدثنا وما سوى ذلك وسواس الشياطين
العلم ما كان فيه: قال حدثنا وما سوى ذلك وسواس الشياطين
العلم ما كان فيه: قال حدثنا وما سوى ذلك وسواس الشياطين
ولله در من قال :
والعلم إن فاته إسناد مسنده
كالبيت ليس له سقف ولاطنب
هامش.
[1] البيان لما يشغل الأذهان جـ 1. الأستاذ الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية.
[2] رواه الشافعي في كتاب« الرسالة» ص401 وأحمد بن حنبل في المسند (1/437) والترمذي في السنن(3/372) وابن ماجة (1/52) وابن حبان في صحيحه (1/226-227) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/40) وقد أورده السيوطي في الأزهار المتناثرة و الكتاني في نظم المتناثرة وكذلك الزبيدي في لقط اللآلئ . وانظر : لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة . محمد مرتضى الزبيدي صـ161 .
[3] رواه أحمد (4/340) والرامهرمزي في المحدث الفاصل ص 206.
[4] رواه البخاري(1/ 2425 ).
[5] مقدمة مسلم (صـ84).
[6] المرجع السابق (صـ84).
[7] المرجع السابق (87).