بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاه والسلام علي أشرف المرسلين
وعلي اله وصحبة اجمعين
مقال نشر قبل انتشار الفليم المسئ
بقلم: د. علي جمعة
مفتى الديار المصرية
في الاسبوع الماضي ورد إلينا مقال بقلم الأستاذ الدكتور انجريد ماتسون رئيس المجتمع الإسلامي بشمال أمريكا, حول الفيلم التسجيلي لجريت وايلدرز, الذي تعرض فيه بالإساءة للقرآن الكريم, أعرضه اليوم ملخصا حسب المساحة المتاحة, ولعلنا نعلق عليه في الأسبوع القادم.
وايلدرز؟! هو سياسي هولندي, انشق عن الحزب القومي للبلاد ليشكل منهجه السياسي الخاص اليميني شديد التطرف, المناهض لهجرة غير الأوروبيين للمجتمعات الأوروبية, وقد وجه وايلدرز هجوما مغلفا بكراهية شديدة للمهاجرين من المسلمين, خاصة وطالب أخيرا بضرورة منع القرآن الكريم من التداول بين الناس, وذلك من خلال حملة مكثفة قام بها خلال الأشهر الستة الماضية في أثناء تصويره فيلما تسجيليا للهجوم على القرآن الكريم, اشتمل على مشهد يتم فيه تمزيق وتدنيس نسخة من كتاب الله.
الغريب في الأمر أن أغلب من تناول هذا الموضوع تناوله فقط من الناحية القانونية, فركزت العناوين الإخبارية على محاولات التهديد التي تعرض لها وايلدرز, والمطالبات المختلفة لمنع تداول فيلمه, ونحن نتفق جميعا على عدم قبولنا لمثل هذه التهديدات, بل وتجريم الخطير منها.
ولكن بالانتقال إلى موضوع الفيلم وعلاقته بحرية التعبير عن الرأي, فيجب معاملته مثل غيره من الموضوعات المتشابهة وفقا لمواد القانون الهولندي. فدولة هولندا كغيرها من الدول الأوروبية تمتلك مواد قانونية ومحاذير شتى تجرم الإساءة اللفظية, أو القذف, أو السب لأي جماعة من البشر على خلفية أسباب عرقية أو دينية, وقد أعلن رئيس وزراء الحكومة الهولندية صراحة أنه في حالة احتواء الفيلم عند عرضه على أية مشاهد تسيء للمسلمين سيتم منعه فورا ووفقا للقانون, وهذا الإعلان يشمل تصريحا واضحا بعدم وجود أي عداوة من قبل الحكومة الهولندية تجاه المسلمين, وأنها تعامل جميع أفراد شعبها علي قدم المساواة مع اختلاف دياناتهم.
وتتمثل دعوتي في هذا المقال إلى معالجة المسألة على نحو أعمق وأشمل, فنحن نسعى للحياة في سلام في عالم يشتمل دائما على من يحمل أفكارا ومعتقدات غريبة, وفي بعض الأحيان بغيضة, إلا أن هذا لا يعني أننا نسمح أو نوافق على أي من أعمال التمييز العنصري تجاه المسلمين, كما أننا لا نسمح أيضا بالأعمال المتطرفة من قبل المسلمين كرد على هذه المحاولات.
ولمعالجة هذه المسألة بصورة صحيحة يجب دراسة ظاهرة التغير الهائل الذي شهدته المجتمعات الإنسانية خلال العقود السابقة. فالعديد من المجتمعات الأوروبية قد اضطرت إلى التضحية برموزها ومعالمها الثقافية للانضمام إلى المجتمع الأوروبي, وحتى الدول التي لم تشترك في الاتحاد لم تنج من موجة التغيير التي شملت مختلف المجالات الثقافية والحضارية تحت عنوان العولمة, فشئنا أم أبينا هناك تغييرات في كل مجال اقتصادي, وثقافي, واجتماعي, وهو تغير واقع ومستمر, مما يجعلنا في النهاية لا نملك سوى التعاطف معها.
لذلك من الظلم تحميل المسلمين سبب هذه التغييرات فازدياد أعداد المجتمعات الإسلامية في الدول الأوروبية هو بالفعل أحد أنماط هذا التغير, لكن ليس السبب الجوهري لغيره من التغيرات, فالمسلمون لم ولن يكونوا السبب وراء انخفاض أعداد المسيحيين في قداسات الكنيسة صباح الأحد, إلا أن هذا لا ينفي حقيقة انتظام المسلمين في صلاة الجمعة بأعداد غفيرة, وقيامهم ببناء العديد من المساجد لاستيعاب أعدادهم الضخمة. كما أن المسلمين لم ولن يكونوا السبب وراء انخفاض نسب المواليد في المجتمعات الأوروبية, إلا أن هذا لا ينفي حقيقة تكاثر الأسر المسلمة بصورة أكبر من تكاثر الأسر المسيحية في المجتمعات الأوروبية, ولعل هذين الأمرين هما السببان الرئيسيان وراء ارتفاع موجة التعصب الحالية تجاه المسلمين, التي لم ير التأريخ الأوروبي والبشري مثيلا لها من قبل.
ونحن نري أنه من الظلم أن يتخذ المسلمون كبش فداء لأخطاء ليس لهم ذنب فيها, إلا أن هذا لا يتعارض مع حقيقة أن هجرة المسلمين إلي الدول الأوروبية تمثل تحديا حقيقيا لهذه الدول. فعلي العكس من الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية يهاجر المسلمون بأعداد كبيرة إلي الدول الأوروبية, وهم علي مستوي تعليمي متوسط أو ضعيف, ثم يستقرون في المناطق السكنية المخصصة لهم من قبل الحكومة, وهو إجراء, برغم نيته السليمة, له أكبر الأثر في انعزال المسلمين عن بقية المجتمع, وإذا أضفنا إلى ذلك المضايقات التي يواجهها هؤلاء المهاجرون خلال حياتهم اليومية بصورة متواصلة, وتحت إصرار غريب من فئة قليلة متعصبة, وترابط ذلك مع تطرف ثقافة بعضهم الإسلامية, نلاحظ في النهاية صعوبة إنشاء ترابط إيجابي بينهم وبين المجتمع الأوروبي.
وتنبع المشكلة الحقيقية وراء هذه الظاهرة من الاختلاف الثقافي, فبرغم اشتراك المسلمين والمسيحيين في نفس المنظور الأخلاقي والقيمي, فإن اختلاف منظورهم الثقافي في التعبير عن هذه القيم هو ما يؤدي إلي سوء التفاهم, وما يتبع ذلك من توتر العلاقات. فقيمنا لا تظهر للآخرين بالكلمات فقط, ولكن ترتبط ارتباطا وثيقا بأسلوب الحياة والملبس, بل وحتى كيفية بناء المنزل.
وبناء على ما سبق فإن عملية الاندماج بين الأقليات المسلمة والمجتمعات الأوروبية هي عملية شاقة, وتحتاج إلى وقت وجهد, وقد أظهرت الشعوب الأوروبية قدرتها على الصبر والدعم لإنجاح هذه العملية, وحدوث التناغم الكامل بين المسلمين والمسيحيين.
وعليه فأدعو في النهاية المجتمع الإسلامي لعدم لوم المجتمع الأوروبي على فعل فرد واحد ينتمي إليه, كما أدعو المجتمع الأوروبي لعدم لوم المجتمع الإسلامي على الرد المتطرف لقلة منه.
وعن رد فعلي الشخصي تجاه هذا الفيلم,.. فانني قد حملت القرآن الكريم وقبلته وقرأت فيه نحو ساعة أو أكثر, وأظن أن هذا هو أبلغ رد على هؤلاء المتعصبين.
الأهرام 31 مارس 2008[font=Arial] [/font]
|