قيام ليل رمضان بصلاة التراويح والتهجد :
ندب الشرع الحنيف إلى إحياء اللليل بالعبادة , واستحبه استحبابا مؤكدا , وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في ذلك شكرا لربه , قالت السيدة عائشة رضي الله عنها تحكي فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه , فقالت السيدة عائشة : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : أفلا أحب أن اكون عبدا شكورا , فلما كثر لحمه صلى جالسا فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع ) .
وقد مدح الله المؤمنين الذين يحيون الليل بما لم يمدح به غيرهم , مرغبا في قيام الليل , ومشيرا إلى ما يلحق صاحبه من شرف عظيم , قال تعالى : ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) . [السجدة 16 , 17]
وقد اختص الله تعالى ساعات الليل الأحيرة بكثرة النفحات الإلهية , ونسمات القرب المباركة التي تحي القلوب , وتنعش الأرواح , ووعد من يحييها بالرضوان من الله عز وجل وجزيل الثواب , سواء أحياها بالصلاة أم بالدعاء أم بالإستغفار أم بالصلاة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم , أم بالتسبيح , أم بأي نوع من أنواع العبادة والذكر , قال تعالى في وصف عباد الرحمن : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ) . [الفرقان : 64] ثم ذكر جزاؤهم بقوله تعالى : (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ) . [الفرقان : 76,75]
وقال جل شأنه في موضع آخر : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ) . [آل عمران : 17,15]
وقالت السيدة عائشة رضى الله عنها تحدث عن صلاة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آخر الليل : ( كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ) .
وقال سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرغبا في الدعاء ومناجاة الله في ساعات الليل : ( إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة ) . فمن باب أولى استثمار هذا الوقت في شهر رمضان .
ولقد اتفق المسلمون على سنية قيام ليالي رمضان عملا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه ) . وخاصة الليالي العشر الأخيرة طلبا لليلة القدر .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر ) .
( وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر ) .
وقد اجتمع بعض الصحابة خلف رسول الله صلى الله عليه آله وسلم وهو يصلى قيام رمضان في المسجد فصلوا بصلاته مرتين أو ثلاثا , ثم تأخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جمعهم عليها ؛ شفقة بأمته لئلا تفرض عليهم , فقد روت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم , وذلك في رمضان) .
وروى الحاكم عن النعمان بن بشير رضى الله عنهما أنه قال : (قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، وكنا نسميها الفلاح، وأنتم تسمون السحور ) . " قال الحاكم : فيه الدليل الواضح أن صلاة التراويح في مساجد المسلمين سنة مسنونة , وقد كان على بن أبي طالب رضي عنه يحث عمر رضي الله عنه على إقامة هذه السنة إلى أن أقامها " .
ففي عهده رضى الله عنه اجتمع المسلمون على صلاة الليل في رمضان بأمره , فعن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال : حرجت مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد , فإذا الناس أوزاعا متفرقون يصلى الرجل لنفسه , ويصلى الرجل فيصلي بصلاته الرهط , فقال عمر : إني أرى لو جمعتم هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل . ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب رضي الله عنه , ثم خرجت معه ليلة أخرى , والناس يصلون بصلاة قارئهم , قال عمر : نعم البدعة هذه , والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون . يريد آخر الليل , وكان الناس يقومون أوله .
قال الحافظ السيوطي : فسماها بدعة، يعني بدعة حسنة، وذلك صريح في أنها لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نص على ذلك الإمام الشافعي وصرح به جماعات من الأئمة، منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، حيث قسم البدعة إلى خمسة أقسام وقال: ومثال المندوبة صلاة التراويح، ونقله عنه النووي في تهذيب الأسماء واللغات، ثم قال: وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي قال: المحدثات في الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث مما خالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة. والثاني ما أحدث من الخير، وهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر في قيام شهر رمضان: نعمت البدعة هذه، يعني أنها محدثة لم تكن - هذا آخر كلام الشافعي.
فصلاة التراويح سنةنبوية في أصلها , وعمرية في كيفيتها . والتراويح في اللغة : جمع ترويحة , وهي المرة الواحدة من الراحة , تفعيلة منها ــ مثل تسليمة من السلام ـــ وسميت الترويحة في شهر رمضان ؛ لاستراحة القوم بعد كل أربع ركعات .
وصلاة التراويح عشرون ركعة من غير الوتر , وثلاث وعشرون ركعة بالوتر , وهذا بإجماع الصحابة رضي الله عنهم من عهد سيدنا عمر رضي الله عنه , وهو ما عليه المسلمون سلفا وخلفا في اجتماعهم لهذه الصلاة , وهو معتمد المذاهب الفقهية الأربعة , فعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال : كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة .
وعن أبي الحسناء أن على بن أبي طالب رضي الله عنه أمر رجلا أن يصلي بالناس خمس ترويحات عشرين ركعة .
وقال أبو بكر الكاساني الحنفي : وأما قدرها فعشرون ركعة في عشر تسليمات , في خمس ترويحات , كل تسليمتين ترويحة , وهذا قول عامة العلماء.
وقال العلامة الطحطاوي الحنفي : قوله "التراويح سنة " بإجماع الصحابة ومن بعدهم من الأمة , منكرها مبتدع ضال مردود الشهادة .
وقال الإمام النووي الشافعي : مذهبنا أنها عشرون ركعة بعشر تسليمات غير الوتر وذلك خمس ترويحات والترويحة أربع ركعات بتسليمتين هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وداود وغيرهم ونقله القاضي عياض عن جمهور العلماء وحكي أن الاسود بن مزيد كان يقوم بأربعين ركعة ويوتر بسبع وقال مالك التراويح تسع ترويحات وهى ستة وثلاثون ركعة غير الوتر واحتج بأن أهل المدينة يفعلونها هكذا . وما ذكره من قول مالك قول غير مشهور في المذهب المالكي , ولمالك قول آخر موافق لما عليه الجمهور , وهو المعتمد في المذهب المالكي .
ومن ذكر من العلماء عددا أقل من عشرين ركعة فإنما هو فيما يجزئ من قيام رمضان وغيره , أما تسمية القيام بصلاة التراويح فلا يطلق إلا على العدد المذكور ؛ فكلمة "التراويح" في اللغة تدل على ذلك ؛ لأنها على وزن تفاعيل وهي من صيغ منتهى الجموع , والأصل في الجمع أنه يطلق ما زاد على الإثنين , والركعات الثماني ليس فيهاإلا ترويحتان , فلا تقال التراويح في حق الثماني ركعات , بل المراد عدد الركعات الذي تتخلله تراويح مجموعة ــ أكثر من ترويحتين ــ وهو ما عليه المسلمون سلفا وخلفا كما سبق.
قال أبو زرعة العراقي الشافعي : وَالسِّرُّ فِي الْعِشْرِينَ أَنَّ الرَّاتِبَةَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ فَضُوعِفَتْ فِيهِ لِأَنَّهُ وَقْتُ جِدٍّ وَتَشْمِيرٍ .
وصلاة التراويح سنة مؤكدة , وليست واجبة , فمن تركها حرم أجرا عظيما , ومن زاد عليها فلا حرج عليهومن نقص عنها فلا حرج عليه .
ويستحب ختم القرآن في صلاة التراويح خلال شهر رمضان , قال العلامة الدردير في "الشرح الصغير" : وندب الختم فيها : أي التراويح , بأن يقرأ كل ليلة جزءا يفره على العشرين ركعة .
ولقد جرت عادة الناس في عصرنا على تخصيص عدد من الركعات في آخر ساعات الليل غير صلاة التراويح سموها صلاة التهجد , وذلك في الليالي العشر الأخيرة من رمضان , وهو أمر محمود ؛ لما فيه من الإلتماس لبركة هذا الوقت , وللأحاديث الواردة في فضل قيامه وإجابة دعاء السائلين فيه , وتحريا لليلة القدر التي أمرنا أن نتحراها لفضلها . والدليل على ذلك قوله تعالى : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) . [الإسراء :79]
وما ورد عن سيدنا عمر رضي الله عنه باستحباب القيام في هذا الوقت كما تقدم .
_________________ يارب بالمصطفى بلـــغ مقاصدنا واغفر لنا ما مضى ياواســع الكرم واغفر إلهى لكل المسلمين بما يتلون فى المسجد الأقصى وفي الحرم بجاه من بيته فى طيبة حرم واسمـــه قسم من أعظم القســم اللهم استعملنا ولا تستبدلنا بجــــاه سيــــدنـا ومـولانــا رسول الله ﷺ
|