موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 167 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 8, 9, 10, 11, 12  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس سبتمبر 28, 2006 8:25 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
أحوال يشك فيها فليستفت قلبه فيها وليترك حزاز القلب فإنه الإثم، وليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، وإدراك ذلك بقرائن الأحوال سهل على من قويت فطنته وضعف حرصه وشهوته. فإن قوي الحرص وضعفت الفطنة تراءى له ما يوافق غرضه، فلا يتفطن للقرائن الدالة على الكراهة، وبهذه الدقائق يطلع على سر قوله صلى الله عليه وسلم: " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه" وقد أوتي جوامع الكلم، لأن من لا كسب له ولا مال ورثه من كسب أبيه أو أحد قرابته فليأكل من أيدي الناس، وإن أعطى بغير سؤال فإنما يعطي بدينه، ومتى يكون باطنه بحيث لو انكشف باطنه لا يعطي بدينه فيكون ما يأخذه حراماً، وإن أعطي بسؤال فأين من يطيب قلبه بالعطاء إذا سئل؟ وأين من يقتصر في السؤال على حد الضرورة، فإذا فتشت أحوال من يأكل من أيدي الناس علمت أن جميع ما يأكله أو أكثره سحت وأن الطيب هو الكسب الذي اكتسبته بحلالك أنت أو مورثك، فإذن بعيد أن يجتمع الورع مع الأكل من أيدي الناس، فنسأل الله تعالى أن يقطع طمعنا عن غيره، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه بمنه وسعة جوده، فإنه على ما يشاء قدير.

[align=center]بيان مقدار الغنى المحرم للسؤال[/align]

اعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: " من سأل عن ظهر غنى فإنما يسأل جمراً فليستقل منه أو ليستكثر " صريح في التحريم، ولكن حد الغنى مشكل وتقديره عسير، وليس إلينا وضع المقادير، بل يستدرك ذلك بالتوقيف.
وقد ورد في الحديث: " استغنوا بغنى الله تعالى عن غيره"، قالوا: وما هو؟ قال: غداء يوم وعشاء ليلة".
وفي حديث آخر: " من سأل وله خمسون درهماً أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافاً" وورد في لفظ آخر " أربعون درهماً ". ومهما اختلفت التقديرات وصحت الأخبار فينبغي أن يقطع بورودها على أحوال مختلفة، فإن الحق في نفسه لا يكون إلا واحداً والتقدير ممتنع، وغاية الممكن فيه تقريب، ولا يتم ذلك إلا بتقسيم محيط بأحوال المحتاجين، فنقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حق لابن آدم إلا في ثلاث: طعام يقيم صلبه، وثوب يواري به عورته، وبيت يسكنه فما زاد فهو حساب ". فلنجعل هذه الثلاث أصلاً في الحاجات لبيان أجناسها والنظر في الأجناس والمقادير والأوقات، فأما الأجناس فهي هذه الثلاث ويلحق بها ما في معناها حتى يلحق بها الكراء للمسافر إذا كان لا يقدر على المشي وكذلك ما يجري مجراه من المهمات ويلحق بنفسه عياله وولده وكل من تحت كفالته كالدابة أيضاً أحدهما الضرورة فقد سأل ثلاثة من الأنبياء في موضع الضرورة: سليمان، وموسى، والخضر عليهم السلام. ولا شك في أنهم ما سألوا إلا من علموا أنه يرغب في إعطائهم.
والثاني: السؤال من الأصدقاء والإخوان فقد كانوا يأخذون ما لهم بغير سؤال واستئذان، لأن أرباب القلوب علموا أن المطلوب رضا القلب لا نطق اللسان، وقد كانوا وثقوا بإخوانهم أنهم كانوا يفرحون بمباسطتهم، فإذا كانوا يسألون الإخوان عند شكهم في اقتدار إخوانهم على ما يريدونه وإلا فكانوا يستغنون عن السؤال، وحد إباحة السؤال أن تعلم أن المسؤول بصفة لو علم ما بك من الحاجة لابتدأك دون السؤال، فلا يكون لسؤالك تأثير إلا بتعريف حاجتك، فأما في تحريكه بالحياء وإثارة داعيته بالحيل فلا، ويتصدى للسائل حالة لا يشك فيها في الرضا بالباطن، وحالة لا يشك في الكراهة، ويعلم ذلك بقرينة الأحوال، فالأخذ في الحالة الأولى حلال طلق، وفي الثانية سحت، ويتردد بين الحالتين أحوال يشك فيها فليستفت قلبه فيها وليترك حزاز القلب فإنه الإثم، وليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، وإدراك ذلك بقرائن الأحوال سهل على من قويت فطنته وضعف حرصه وشهوته. فإن قوي الحرص وضعفت الفطنة تراءى له ما يوافق غرضه، فلا يتفطن للقرائن الدالة على الكراهة، وبهذه الدقائق يطلع على سر قوله صلى الله عليه وسلم: " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه" وقد أوتي جوامع الكلم، لأن من لا كسب له ولا مال ورثه من كسب أبيه أو أحد قرابته فليأكل من أيدي الناس، وإن أعطى بغير سؤال فإنما يعطي بدينه، ومتى يكون باطنه بحيث لو انكشف باطنه لا يعطي بدينه فيكون ما يأخذه حراماً، وإن أعطي بسؤال فأين من يطيب قلبه بالعطاء إذا سئل؟ وأين من يقتصر في السؤال على حد الضرورة، فإذا فتشت أحوال من يأكل من أيدي الناس علمت أن جميع ما يأكله أو أكثره سحت وأن الطيب هو الكسب الذي اكتسبته بحلالك أنت أو مورثك، فإذن بعيد أن يجتمع الورع مع الأكل من أيدي الناس، فنسأل الله تعالى أن يقطع طمعنا عن غيره، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه بمنه وسعة جوده، فإنه على ما يشاء قدير.

[align=center]بيان مقدار الغنى المحرم للسؤال[/align]

اعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: " من سأل عن ظهر غنى فإنما يسأل جمراً فليستقل منه أو ليستكثر " صريح في التحريم، ولكن حد الغنى مشكل وتقديره عسير، وليس إلينا وضع المقادير، بل يستدرك ذلك بالتوقيف.
وقد ورد في الحديث: " استغنوا بغنى الله تعالى عن غيره"، قالوا: وما هو؟ قال: غداء يوم وعشاء ليلة".
وفي حديث آخر: " من سأل وله خمسون درهماً أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافاً" وورد في لفظ آخر " أربعون درهماً ". ومهما اختلفت التقديرات وصحت الأخبار فينبغي أن يقطع بورودها على أحوال مختلفة، فإن الحق في نفسه لا يكون إلا واحداً والتقدير ممتنع، وغاية الممكن فيه تقريب، ولا يتم ذلك إلا بتقسيم محيط بأحوال المحتاجين، فنقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حق لابن آدم إلا في ثلاث: طعام يقيم صلبه، وثوب يواري به عورته، وبيت يسكنه فما زاد فهو حساب ". فلنجعل هذه الثلاث أصلاً في الحاجات لبيان أجناسها والنظر في الأجناس والمقادير والأوقات، فأما الأجناس فهي هذه الثلاث ويلحق بها ما في معناها حتى يلحق بها الكراء للمسافر إذا كان لا يقدر على المشي وكذلك ما يجري مجراه من المهمات ويلحق بنفسه عياله وولده وكل من تحت كفالته كالدابة أيضاً وأما المقادير فالثوب يراعى فيه ما يليق بذوي الدين وهو ثوب واحد وقميص ومنديل وسراويل ومداس وأما الثاني من كل جنس فهو مستغن عنه وليقس على هذا أثاث البيت جميعاً، ولا ينبغي أن يطلب رقة الثياب وكون الأواني من النحاس والصفر فيما يكفي فيه الخزف، فإن ذلك مستغنى عنه فيقتصر من العدد على واحد ومن النوع على أخس أجناسه ما لم يكن في غاية البعد عن العادة. وأما الطعام فقدره في اليوم مد وهو ما قدره الشرع ونوعه ما يقتات ولو كان من الشعير، والأدم على الدوام فضلة، وقطعة بالكلية إضرار، ففي طلبه في بعض الأحوال رخصة وأما المسكن فأقله ما يجزئ من حيث المقدار وذلك من غير زينة، فأما السؤال للزينة والتوسع فهو سؤال عن ظهر غنى، وأما بالإضافة إلى الأوقات فما يحتاج إليه في الحال من طعام يوم وليلة وثوب يلبسه ومأوى يكنه فلا شك فيه فأما سؤاله للمستقبل فهذا له ثلاث درجات: إحداها ما يحتاج إليه في غد، والثانية: ما يحتاج إليه في أربعين يوماً أو خمسين يوماً، والثالثة: ما يحتاج إليه في السنة. ولنقطع بأن من معه ما يكفيه له ولعياله إن كان له عيال لسنة فسؤاله حرام، فإن ذلك غاية الغنى وعليه ينزل التقدير بخمسين درهماً في الحديث، فإن خمسة دنانير تكفي المنفرد في السنة إذا اقتصد، أما المعيل فربما لا يكفيه ذلك وإن كان يحتاج إليه قبل السنة، فإن كان قادراً على السؤال ولا تفوته فرصته فلا يحل له لسؤال لأنه مستغن في الحال وربما لا يعيش إلى الغد فيكون قد سأل ما لا يحتاج فيكفيه غداء يوم وعشاء ليلة، وعليه ينزل الخبر الذي ورد في التقدير بهذا القدر، وإن كان يفوته فرصة السؤال ولا يجد من يعطيه لو أخر فيباح له السؤال، لأن أمل البقاء سنة غير بعيد فهو بتأخير السؤال خائف أن يبقى مضطراً عاجزاً عما يعينه، فإن كان خوف العجز عن السؤال في المستقبل ضعيفاً وكان ما لأجله السؤال خارجاً عن محل الضرورة لم يخل سؤاله عن كراهية، وتكون كراهته بحسب درجات ضعف الاضطرار وخوف الفوت وتراخي المدة التي فيها يحتاج إلى السؤال، وكل ذلك لا يقبل الضبط وهو منوط باجتهاد العبد ونظره لنفسه بينه وبين الله تعالى، فيستفتي فيه قلبه ويعمل به إن سالكاً طريق الآخرة، وكل من كان يقينه أقوى وثقته بمجيء الرزق في المستقبل أتم وقناعته بقوت الوقت أظهر فدرجته عند الله تعالى أعلى، فلا يكون خوف الاستقبال وقد آتاك الله قوت يومك لك ولعيالك إلا من ضعف اليقين والإصغاء إلىتخويف الشيطان، وقد قال تعالى: " فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين "، وقال عز وجل: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً " والسؤال من الفحشاء التي أبيحت بالضرورة، وحال من يسأل لحاجة متراخية عن يومه وإن كان مما يحتاج إليه في السنة أشد من حال من ملك مالاً موروثاً وادخره لحاجة وراء السنة، وكلاهما مباحان في الفتوى الظاهرة ولكنهما صادران عن حب الدنيا وطول الأمل وعدم الثقة بفضل الله، وهذه الخصلة من أمهات المهلكات، نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه.


[align=center]بيان أحوال السائلين[/align]

كان بشر رحمه الله يقول: الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل وإن أعطي لا يأخذ، فهذا مع الروحانيين في عليين، وفقير لا يسأل وإن أعطي أخذ، فهذا مع المقربين في جنات الفردوس، وفقير يسأل عند الحاجة، فهذا مع الصادقين من أصحاب اليمين.
فإذن اتفق كلهم على ذم السؤال وعلى أنه مع الفاقة يحط المرتبة والدرجة.
قال شقيق البلخي لإبراهيم بن أدهم حين قدم عليه من خراسان: كيف تركت الفقراء من أصحابك؟ قال: تركتهم إن أعطوا شكروا، وإن منعوا صبروا - وظن أنه بترك السؤال قد أثنى عليه غاية الثناء - فقال شقيق: هكذا تركت كلاب بلخ عندنا، فقال إبراهيم: فكيف الفقراء عندك يا أبا إسحاق؟ فقال: الفقراء عندنا إن منعوا شكروا، وإن أعطوا آثروا، فقبل رأسه وقال: صدقت يا أستاذ
فإذن درجات أرباب الأحوال في الرضا والصبر والشكر والسؤال كثيرة، فلا بد لسالك طريق الآخرة من معرفتها ومعرفة انقسامها واختلاف درجاتها، فإنه إذا لم يعلم لم يقدر على الرقي من حضيضها إلى قلاعها، ومن أسفل سافلين إلى أعلى عليين، وقد خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم رد إلى أسفل سافلين، ثم أمر أن يترقى إلى أعلى عليين، ومن لا يميز بين السفل والعلو لا يقدر على الرقي قطعاً، وإنما الشك فيمن عرف ذلك، فإنه ربما لا يقدر عليه، وأرباب الأحوال قد تغلبهم حالة تقتضي أن يكون السؤال مزيداً لهم في درجاتهم ولكن بالإضافة إلى حالهم فإن مثل هذه الأعمال بالنيات، وذلك كما روي أن بعضهم رأى أبا إسحاق النوري رحمه الله يمد يده ويسأل الناس في بعض المواضع، قال: فاستعظمت ذلك واستقبحته له، فأتيت الجنيد رحمه الله فأخبرته بذلك فقال: لا يعظم هذا عليك، فإن النوري لم يسأل الناس إلا ليعطيهم، وإنما سألهم ليثيبهم في الآخرة فيؤجرون من حيث لا يضرهم، وكأنه أشار به إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " يد المعطى هي العليا" فقال بعضهم: يد المعطى هي يد الآخذ للمال لأنه يعطى الثواب والقدر له لا لما يأخذه، ثم قال الجنيد: هات الميزان، فوزن مائة درهم ثم قبضه قبضة فألقاها على المائة ثم قال: احملها إليه، فقلت في نفسي: إنما يوزن الشيء ليعرف مقداره، فكيف خلط به مجهولاً وهو رجل حكيم؟ فذهبت بالصرة إلى النوري فقال: هات الميزان: فوزن مائة درهم وقال: ردها عليه وقل له: أنا لا أقبل منك أنت شيئاً وأخذ ما زاد على المائة قال: فزاد تعجبي، فسألته فقال: الجنيد رجل حكيم، يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه: وزن المائة لنفسه طلباً لثواب الآخرة، وطرح عليها قبضة بلا وزن لله عز وجل، فأخذت ما كان لله تبارك وتعالى ورددت ما جعله لنفسه. قال: فرددتها إلى الجنيد فبكى وقال: أخذ ماله ورد مالنا الله المستعان، فانظر الآن كيف صفت قلوبهم وأحوالهم وكيف خلصت لله أعمالهم حتى كان يشاهد كل واحد منهم قلب صاحبه من غير مناطقة باللسان ولكن بتشاهد القلوب وتناجي الأسرار، وذلك نتيجة أكل الحلال وخلو القلب عن حب الدنيا والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة، فمن أنكر ذلك قبل تجربة طريقه فهو جاهل، كمن ينكر مثلاً كون الدواء مسهلاً قبل شربه، ومن أنكره بعد أن طال اجتهاده حتى بذل كنه مجهوده ولم يصل فأنكر ذلك لغيره كان كمن شرب المسهل فلم يؤثر في حقه خاصة لعلة في باطنه فأخذ ينكر كون الدواء مسهلاً، وهذا وإن كان في الجهل دون الأول ولكنه ليس خالياً عن حظ وافٍ من الجهل، بل البصير أحد رجلين: إما رجل سالك الطريق فظهر له مثل ما ظهر لهم فهو صاحب الذوق والمعرفة وقد وصل إلى عين اليقين، وإما رجل لم يسلك الطريق أو سلك ولم يصل ولكنه آمن بذلك وصدق به فهو صاحب علم اليقين وإن لم يكن واصلاً إلى عين اليقين. ولعلم اليقين أيضاً رتبة وإن كان دون عين اليقين، ومن خلا عن علم اليقين فهو خارج عن زمرة المؤمنين ويحشر يوم القيامة في زمرة الجاحدين المستكبرين الذين هم قتلى القلوب الضعيفة وأتباع الشياطين. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من الراسخين في العلم القائلين: " آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ".

[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس سبتمبر 28, 2006 8:39 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس سبتمبر 28, 2006 1:32 pm 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان علامات الزهد[/align]

اعلم أنه قد يظن أن تارك المال زاهد، وليس كذلك؛ فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد، فكم من الرهابين من ردوا أنفسهم كل يوم إلى قدر يسير من الطعام ولازموا ديراً لا باب له، وإنما مسرة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له، فذلك لا يدل على الزهد دلالة قاطعة، بل لا بد من الزهد في المال والجاه جميعاً حتى يكمل الزهد في جميع حظوظ النفس من الدنيا بل قد يدعي جماعة الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة، كما قال الخواص في وصف المدعين إذ قال: وقوم ادعوا الزهد ولبسوا الفاخر من اللباس يموهون بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم، لئلا ينظر إليهم بالعين التي ينظر بها إلى الفقراء فيحتقروا فيعطوا كما تعطى المساكين، ويحتجون لنفوسهم بابتاع العلم وأنهم على السنة، وأن الأشياء داخلة إليهم وهم خارجون منها وإنما يأخذون بعلة غيرهم. هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق، وكل هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم، فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادعوها حالاً لهم، فهم مائلون إلى الدنيا متبعون للهوى. فهذا كله كلام الخواص رحمه الله؛ فإذن معرفة الزهد أمر مشكل، بل حال الزهد على الزاهد مشكل.
وينبغي أن يعول في باطنه على ثلاث علامات: العلامة الأولى: أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود، كما قال تعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " بل ينبغي أن يكون بالضد من ذلك: وهو أن يحزن بوجود المال ويفرح بفقده.
العلامة الثانية: أن يستوي عنده ذامه ومادحه، فالأول علامة الزهد في المال والثاني علامة الزهد في الجاه.
العلامة الثالثة: ان يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة إما محبة الله، وهما في القلب كالماء والهواء في القدح، فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان، وكل من أنس بالله اشتغل به ولم يشتغل بغيره، ولذلك قيل لبعضهم: إلى ماذا أفضى بهم الزهد؟ فقال: إلى الأنس بالله؛ فأما الأنس بالدنيا وبالله فلا يجتمعان.
وقد قال أهل المعرفة: إذا تعلق الإيمان بظاهر القلب أحب الدنيا والآخرة جميعاً وعمل لهما، وإذا بطن الإيمان في سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا فلم ينظر إليها ولم يعمل لها، ولهذا ورد في دعاء آدم عليه السلام: اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي وقال أبو سليمان: من شغل بنفسه شغل عن الناس - وهذا مقام العاملين. ومن شغل بربه شغل عن نفسه - وهذا مقام العارفين. والزاهد لا بد وأن يكون في أحد هذين المقامين، ومقامه الأول أن يشغل نفسه بنفسه، وعند ذلك يستوي عنده المدح والذم والوجود والعدم، ولا يستدل بإمساكه قليلاً من المال على فقد زهده أصلاً.
قال ابن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان: أكان داود الطائي زاهداً؟ قال: نعم. قلت: قد بلغني أنه ورث عن أبيه عشرين ديناراً فأنفقها في عشرين سنة، فكيف كان زاهداً وهو يمسك الدنانير؟ فقال: أردت منه أن يبلغ حقيقة الزهد، وأراد بالحقيقة لغاية، فإن الزهد ليس له غاية لكثرة صفات النفس. ولا يتم الزهد إلا بالزهد في جميعها فكل من ترك من الدنيا شيئاً مع القدرة عليه خوفاً على قلبه وعلى دينه فله مدخل في الزهد بقدر ما تركه، وآخره أن يترك كل ما سوى الله حتى لا يتوسد حجراً كما فعله المسيح عليه السلام، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا من مباديه نصيباً وإن قل، فإن أمثالنا لا يستجرئ على الطمع في غاياته وإن كان قطع الرجاء عن فضل الله غير مأذون فيه، وإذا لاحظنا عجائب نعم الله تعالى علينا علمنا أن الله تعالى لا يتعاظمه شيء فلابعد في أن نعظم السؤال اعتماداً على الجود المجاوز لكل كمال.
فإذن علامة الزهد استواء الفقر والغنى والعز والذل والمدح والذم، وذلك لغلبة الأنس بالله. ويتفرع عن هذه العلامات علامات أخرى لا محالة: مثل أن يترك الدنيا ولا يبالي من أخذها.
وقيل: علامته أن يترك الدنيا كما هي فلا يقول أبني رباطاً أو أعمر مسجداً.
وقال يحيى لن معاذ: علامة الزهد السخاء بالموجود.
وقال ابن خفيف: علامته وجود الراحة في الخروج من الملك، وقال أيضاً: الزهد هو عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف.
وقال أبو سليمان: الصوف علم من أعلام الزهد فلا ينبغي أن يلبس صوفاً بثلاثة دراهم وفي قلبه رغبة خمسة دراهم.
وقال أحمد بن حنبل وسفيان رحمهما الله: علامة الزهد قصر الأمل.
وقال سري: لا يطيب عيش الزاهد إذا اشتغل عن نفسه. ولا يطيب عيش العارف إذا اشتغل بنفسه.
وقال النصراباذي: الزاهد غريب في الدنيا، والعارف غريب في الآخرة.
وقال يحيى بن معاذ: علامة الزهد ثلاث: عمل بلا علاقة، وقول بلا طمع، وعز بلا رياسة. وقال أيضاً: الزاهد لله يسعطك الخل والخردل، والعارف يشمك المسك والعنبر. وقال له رجل: متى أدخل حانوت التوكل وألبس رداء الزهد وأقعد مع الزاهدين؟ فقال: إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك، فأما ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن تفتضح وقال أيضاً: الدنيا كالعروس ومن يطلبها ماشطتها والزاهد فيها يسخم وجهها وينتف شعرها ويخرق ثوبها، والعارف يشتغل بالله تعالى ولا يلتفت إليها.
وقال السري: مارست كل شيء من أمر الزهد فنلت منه ما أريد إلا الزهد في الناس فإني لم أبلغه ولم أطقه.
وقال الفضيل رحمه الله: جعل الله الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا.
فهذا ما أردنا أن نذكره من حقيقة الزهد وأحكامه وإذا كان الزهد لا يتم إلا بالتوكل فلنشرع في بيانه إن شاء الله تعالى.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين أكتوبر 02, 2006 9:52 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب التوحيد والتوكل
وهو الكتاب الخامس من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم
[/align]


الحمد لله مدبر الملك والملكوت، المنفرد بالعزة والجبروت. الرافع السماء بغير عماد، المقدر فيها أرزاق العباد. الذي صرف أعين ذوي القلوب والألباب، عن ملاحظة الوسائط والأسباب إلى مسبب الأسباب، ورفع هممهم عن الالتفات إلى ما عداه والاعتمام على مدبر سواه، فلم يعبدوا إلا إياه علماً بأنه الواحد الفرد الصمد الإله وتحقيقاً بأن جميع أصناف الخلق عباد أمثالهم لا يبتغي عندهم الرزق، وأنه ما من ذرة إلا إلى الله خلقها، وما من دابة إلا على الله رزقها؛ فلما تحققوا أنه لرزق عباده ضامن وبه كفيل توكلوا عليه فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
والصلاة على محمد قامع الأباطيل، الهادي إلى سواء السبيل، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً


أما بعد فإن التوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين، بل هو من معالي درجات المقربين وهو في نفسه غامض من حيث العلم، ثم هو شاق من حيث العمل، ووجه غموضه من حيث الفهم أن ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد، والتثاقل عنها بالكلية طعن في ألسنة وقدح في الشرع، والاعتماد على الأسباب من غير أن ترى أسباباً تغيير في وجه العقل، وانغماس في غمرة الجهل، وتحقيق معنى التوكل على وجه يتوافق فيه مقتضى التوحيد والنقل والشرع في غاية الغموض والعسر، ولا يقوى على كشف هذا الغطاء مع شدة الخفاء إلا سماسرة العلماء الذين اكتحلوا من فضل الله تعالى بأنوار الحقائق فأبصروا وتحققوا ثم نطقوا بالإعراب عما شاهدوه من حيث استنطقوا. ونحن الآن نبدأ بذكر فضيلة التوكل على سبيل التقدمة، ثم نردفه بالتوحيد في الشطر الأول من الكتاب، ونذكر حال التوكل وعمله في الشطر الثاني.

[align=center]بيان فضيلة التوكل[/align]

أما من الآيات: فقد قال تعالى: " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ".
وقال عز وجل: " وعلى الله فليتوكل المتوكلون ".
وقال تعالى: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه ".
وقال سبحانه وتعالى: " إن الله يحب المتوكلين " وأعظم بمقام موسوم بمحبة الله تعالى صاحبه، ومضمون كفاية الله تعالى ملابسه، فمن الله تعالى حسبه وكافيه ومحبه ومراعيه: فقد فاز الفوز العظيم، فإن المحبوب لا يعذب ولا يبعد ولا يحجب.
وقالت تعالى: " أليس الله بكاف عبده ". فطالب الكفاية من غيره والتارك للتوكل هو المكذب لهذه الآية. فإنه سؤال في معرض استنطاق بالحق، كقوله تعالى: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ".
وقال عز وجل: " ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ".
أي عزيز لا يذل من استجار به، ولا يضيع من لاذ بجنابه والتجأ إلى ذمامه وحماه، وحكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره.
وقال تعالى: " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ". بين أن كل ما سوى الله تعالى عبد مسخر. حاجته مثل حاجتكم فكيف من يتوكل عليه.
وقال تعالى: " إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه ".
وقال عز وجل: " ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ".
وقال عز وجل: " يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ".
وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد فهو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار والتوكل على الواحد القهار.
وأما الأخبار: فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود: " أريت الأمم في الموسم فرأيت أمتي قد ملأوا السهل والجبل فأعجبتني كثرتهم وهيأتهم، فقيل لي: أرضيت؟ قلت: نعم، قيل: ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب " قيل: من هم يا رسول الله، قال: "الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة وقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " اللهم اجعله منهم " فقال آخر فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " سبقك بها عكاشة".
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً".
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " من انقطع إلى الله عز وجل كفاه الله تعالى كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها".
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " من سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما عند الله أوثق منه بما في يديه".
ويروى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: "قوموا إلى الصلاة " ويقول: " بهذا أمرني ربي عز وجل قال عز وجل: " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها " الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: لم يتوكل من استرقى واكتوى".
وروي أنه لما قال جبريل لإبراهيم عليهما السلام وقد رمي إلى النار بالمنجنيق: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وفاءً بقوله حسبي الله ونعم الوكيل، إذا قال ذلك حين أخذ ليرمى، فأنزل الله تعالى: " وإبراهيم الذي وفى ".
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود، ما من عبد يعتصم بي دون خلقي فتكيده السموات والأرض إلا جعلت له مخرجاً وأما الآثار: فقد قال سعيد بن جبير: لدغتني عقرب فأقسمت علي أمي لتسترقين، فناولت الراقي يدي التي لم تلدغ.
وقرأ الخواص قوله تعالى: " وتوكل على الحي الذي لا يموت " إلى آخر، فقال: ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى.
وقيل لبعض العلماء في منامه: من وثق بالله تعالى فقد أحرز قوته.
وقال بعض العلماء: لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلا ما قد كتب الله لك.
وقال يحيى بن معاذ: في وجود العبد الرزق من غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد.
وقال إبراهيم بن أدهم: سألت بعض الرهبان: من أين تأكل؟ فقال لي: ليس هذا العلم عندي ولكن سل ربي من أين يطعمني؟.
وقال هرم بن حيان لأويس القرني: أين تأمرني أن أكون؟ فأومأ إلى الشام. قال هرم: كيف المعيشة؟ قال أويس: أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة.
وقال بعضهم: متى رضيت بالله وكيلاً وجدت إلى كل خير سبيلاً، نسأل الله تعالى حسن الأدب.


[align=center]الشطر الأول
في التوحيد
بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل
[/align]


اعلم أن التوكل من باب الإيمان، وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل، والتوكل كذلك ينتظم من - علم - هو الأصل و - عمل- هو الثمرة و - حال - هو المراد باسم التوكل.
فلنبدأ ببيان العلم الذي هو الأصل وهو المسمى إيماناً في أصل اللسان إذ الإيمان هو التصديق، وكل تصديق بالقلب فهو علم، وإذا قوي سمي يقيناً، ولكن أبواب اليقين كثيرة، ونحن إنما نحتاج منها إلى ما نبني عليه التوكل وهو التوحيد الذي يترجمه قولك: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له " والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك " له الملك " والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك " وله الحمد "، فمن قال " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل، أعني أن يصير معنى هذا القول وصفاً لازماً لقلبه غالباً عليه، فأما التوحيد فهو الأصل والقول فيه يطول، وهو من علم المكاشفة، ولكن بعض علوم المكاشفات متعلق بالأعمال بواسطة الأحوال، ولا يتم علم المعاملة إلا بها، فإذن لا تتعرض إلا للقدر الذي يتعلق بالمعاملة، وإلا فالتوحيد هو البحر الخضم الذي لا ساحل له، فنقول: للتوحيد أربع مراتب، وينقسم إلى لب، وإلى لب اللب، وإلى قشر، وإلى قشر القشر. ولنمثل ذلك تقريباً إلى الأفهام الضعيفة بالجوز في قشرته العليا فإن له قشرتين، وله لب، وللب دهن هو لب اللب: فالرتبة الأولى من التوحيد: هي أن يقول الإنسان بلسانه " لا إله إلا الله " وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين.
والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام.
والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية الفناء في التوحيد، لأنه من حيث لا يرى إلا واحداً فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانياً عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق، فالأول موحد بمجرد اللسان ويعصم ذلك لصاحبه في الدنيا عن السيف والسنان. والثاني موحد بمعنى أنه معتقد بقلبه مفهوم لفظه وقلبه خال عن التكذيب بما انعقد عليه قلبه وهو عقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة إن توفي عليه ولم تضعف بالمعاصي عقدته، ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة، وله حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتضعيف ويقصد بها أيضاً إحكام هذه العقدة وشدها على القلب وتسمى كلاماً، والعارف به يسمى متكلماً، وهو في مقابلة المبتدع ومقصده دفع المبتدع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوام، وقد يخص المتكلم باسم الموحد من حيث إنه يحمي بكلامه مفهوم لفظ التوحيد على قلوب العوام حتى لا تنحل عقدته. والثالث موحد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلاً واحداً إذا انكشف له الحق كما هو عليه، ولا يرى فاعلاً بالحقيقة إلا واحداً وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، لأنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين، إذ لم يفارق المتكلم العامي في الاعتقاد بل في صفة تلفيق الكلام الذي به حيل المبتدع عن تحليل هذه العقدة. والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير بل من حيث إنه واحد، وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد؛ فالأول كالقشرة العليا من الجوز، والثاني كالقشرة السفلى، والثالث كاللب، والرابع كالدهن المستخرج من اللب. وكما أن القشرة العليا من الجوز لا خير فيها بل إن أكل فهو مر المذاق، وإن نظر إلى باطنه فهو كريه المنظر، وإن اتخذ حطباً أطفأ النار وأكثر الدخان، وإن ترك في البيت ضيق المكان فلا يصلح إلا أن يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى به عنه فكذلك التوحيد بمجرد اللسان دون التصديق بالقلب عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر والباطن؛ لكنه ينفع مدة في حفظ القشرة السفلى إلى وقت الموت: والقشرة السفلى هي القلب والبدن. وتوحيد المنافق يصون بدنه عن سيف الغزاة فإنهم لم يؤمروا بشق القلوب، والسيف إنما يصيب جسم البدن وهو القشرة وإنما يتجرد عنه بالموت فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده، وكما أن القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة إلى القشرة العليا فإنها تصون اللب وتحرسه عن الفساد عند الادخار، وإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطباً لكنها نازلة القدر بالإضافة إلى اللب، وكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع بالإضافة إلى مجرد نطق اللسان ناقص القدر بالإضافة إلى الكشف والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفساحه وإشراق نور الحق فيه، إذ ذاك الشرح هو المراد بقوله تعالى: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام " وبقوله عز وجل: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه " وكما أن اللب نفيس في نفسه بالإضافة إلى القشر وكله المقصود، ولكنه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة إلى الدهن المستخرج منه، فكذلك توحيد الفعل مقصد عال للسالكين لكنه لا يخلو عن شوب ملاحظة الغير والالتفات إلى الكثرة بالإضافة إلى من لا يشاهد سوى الواحد الحق فإن قلت: كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحد وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة، فكيف يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات. وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون: إفشاء سر الربوبية كفر، ثم هو غير متعلق بعلم المعاملة، نعم ذكر ما يكسر سورة استبعادك ممكن، وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدة واعتبار، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار، وهذا كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد إذ نقول إنه إنسان واحد، فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد، وكم من شخص يشاهد إنساناً ولا يخطر بباله كثرة أمعائه وعروقه وأطرافه وتفصيل روحه وجسده وأعضائه، والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرق بواحد ليس فيه تفريق وكأنه في عين الجمع، والملتفت إلى الكثرة في تفرقه، فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد، وباعتبارات أخر سواء كثير، وبعضها أشد كثرة من بعض، ومثاله الإنسان وإن كان لا يطابق الغرض ولكنه ينبه في الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحداً، ويستبين بهذا الكلام ترك الإنكار والجحود لمقام لم تبلغه به إيمان تصديق، فيكون لك من حيث إنك مؤمن بهذا التوحيد نصيب، وإن لم يكن ما آمنت به صفتك كما أنك إذا آمنت بالنبوة وإن لم تكن نبياً كان لك نصيب منه بقدر قوة إيمانك، وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق تارة تدوم وتارة تطرأ كالبرق الخاطف وهو الأكثر، والدوام نادر عزيز وإلى هذا أشار الحسين بن منصور الحلاج حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال: فيماذا أنت؟ فقال: أدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل وقد كان من المتوكلين، فقال الحسين: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد؟ فكأن الخواص كان في تصحيح المقام الثالث في التوحيد، فطالبه بالمقام الرابع، فهذه مقامات الموحدين في التوحيد على سبيل الإجمال فإن قلت: فلا بد لهذا من شرح بمقدار ما يفهم كيفية ابتناء التوكل عليه! فأقول أما الرابع فلا يجوز الخوض في بيانه، وليس التوكل أيضاً مبنياً عليه، بل يحصل حال التوكل بالتوحيد الثالث. وأما الأول وهو النفاق فواضح وأما الثاني وهو الاعتقاد فهو موجود في عموم المسلمين، وطريق تأكيده بالكلام ودفع حيل المبتدعة فيه مذكور في عالم الكلام، وقد ذكرنا في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد القدر المهم منه. وأما الثالث: فهو الذي يبني عليه التوكل، فلنذكر منه القدر الذي يرتبط التوكل به دون تفصيله الذي لا يحتمله أمثال هذا الكتاب. وحاصله: أن ينكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى، وأن كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وموت وغنى وفقر إلى غير ذلك مما ينطلق عليه اسم فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو الله عز وجل لا شريك له فيه، وإذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره بل كان منه خوفك وإليه رجاؤك وبه ثقتك وعليه اتكالك، فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره، وما سواه مسخرون لا استقلال لهم بتحريك ذرة من ملكوت السموات والأرض، وإذا انفتحت لك أبواب المكاشفة اتضح لك هذا اتضاحاً أتم من المشاهدة بالبصر، وإنما يصدك الشيطان عن هذا التوحيد في مقام يبتغي به أن يطرق إلى قلبك شائبة الشرك بسببين: أحدهما الالتفات إلى اختيار الحيوانات. والثاني الالتفات إلى الجمادات، وأما الالتفات إلى الجمادات فكاعتمادك على المطر في خروج الزرع ونباته ونمائه، وعلى الغيم في نزول المطر، وعلى البرد في اجتماع الغيم، وعلى الريح في استواء السفينة وسيرها: وهذا كله شرك في التوحيد وجهل بحقائق الأمور، ولذلك قال تعالى: " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون " قيل: معناه أنهم يقولون لولا استواء الريح لما نجونا. ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه علم أن الريح هو الهواء والهواء لا يتحرك ما لم يحركه محرك، وكذلك محركه، وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا هو متحرك في نفسه عز وجل؛ فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهي التفات من أخذ لتحز رقبته فكتب الملك توقيعاً بالعفو عنه وتخليته، فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي به كتب التوقيع يقول: لولا القلم لما تخلصت، فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم وهو غاية الجهل، ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه وإنما هو مسخر في يد الكاتب لم يلتفت إليه ولم يشكر إلا الكاتب، بل ربما يدهشه فرح النجاة وشكر الملك والكاتب من أن يخطر بباله القلم والحبر والدواة والشمس والقمر والنجوم والمطر والغيم والأرض، وكل حيوان وجماد مسخرات في قبضة القدرة كتسخيرة القلم في يد الكاتب، بل هذا تمثيل في حقك لاعتقادك أن الملك الموقع هو الكاتب للتوقيع، والحق أن الله تبارك وتعالى هو الكاتب لقوله تعالى: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " فإذا انكشف لك أن جميع ما في السموات والأرض مسخرات على هذا الوجه انصرف عنك الشيطان خائباً وأيس عن مزج توحيدك بهذا الشرك، فأتاك في المهلكة الثانية وهي الالتفات إلى اختيار الحيوانات في الأفعال الاختيارية ويقول: كيف ترى الكل من الله وهذا الإنسان يعطيك رزقك باختياره؛ فإن شاء أعطاك وإن شاء قطع عنك، وهذا الشخص هو الذي يحز رقبتك بسيفه وهو قادر عليك إن شاء حز رقبتك وإن شاء عفا عنك، فكيف لا تخافه، وكيف لا ترجوه وأمرك بيده وأنت تشاهد ذلك ولا تشك فيه، ويقول له أيضاً نعم إن كنت لا ترى القلم لأنه مسخر فكيف لا ترى الكاتب بالقلم وهو المسخر له، وعند هذا زل أقدام الأكثرون إلا عباد الله المخلصين الذين لا سلطان عليهم للشيطان اللعين فشاهدوا بنور البصائر كون الكاتب مسخراً مضطراً، كما شاهد جميع الضعفاء كون القلم مسخراً، وعرفوا أن غلط الضعفاء في ذلك كغلط النملة مثلاً لو كانت تدب على الكاغد فترى رأس القلم يسود الكاغد، ولم يمتد بصرها إلى اليد والأصابع فضلاً عن صاحب اليد فغلطت وظنت القلم هو المسود للبياض، وذلك لقصور بصرها عن مجاوزة رأس القلم لضيق حدقتها، فكذلك من لم ينشرح بنور الله تعالى صدره للإسلام قصرت عن ملاحظة جبار السموات والأرض ومشاهدة كونه قاهراً وراء الكل فوقف في الطريق على الكاتب وهو جهل محض، بل أرباب القلوب والمشاهدات قد أنطق الله تعالى في حقهم كل ذرة في السموات والأرض بقدرته التي بها نطق كل شيء حتى سمعوا تقديسها وتسبيحها لله تعالى وشهادتها على نفسها بالعجز بلسان ذلق تتكلم بلا حرف ولا صوت لا يسمعه الذين هم عن السمع معزولون، ولست أعني به السمع الظاهر الذي لا يجاوز بالأصوات، فإن الحمار شريك فيه، ولا قدر لما يشارك فيه البهائم، وإنما أريد به سمعاً يدرك به كلام ليس بحرف ولا صوت ولا هو عربي ولا عجمي فإن قلت: فهذه أعجوبة لا يقبلها العقل فصف لي كيفية نطقها وأنها كيف نطقت وبماذا نطقت، وكيف سبحت وقدست، وكيف شهدت على نفسها بالعجز؟ فاعلم أن لكل ذرة في السماوات والأرض مع أرباب القلوب مناجاة في السر، وذلك مما لا ينحصر ولا يتناهى، فإنها كلمات تستمد من بحر كلام الله تعالى الذي لا نهاية له: " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر " الآية، ثم إنها تتناجى بأسرار الملك والملكوت، وإفشاء السر لؤم، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، وهل رأيت قط أميناً على أسرار ملك قد نوجي بخفاياه فنادى بسره على ملأ من الخلق، ولو جاز إفشاء كل سر لنا لما قال صلى الله عليه وسلم: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" بل كان يذكر ذلك لهم حتى يبكون ولا يضحكون. ولما نهى عن إفشاء سر القدرولما قال: " إذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا"، ولما خص حذيفة رضي الله عنه ببعض الأسرار. فإذن عن حكايات مناجاة ذرات الملك والملكوت لقلوب أرباب المشاهدات مانعان: أحدهما استحالة إفشاء السر، والثاني: خروج كلماتها عن الحصر والنهاية، ولكنا في المثال الذي كنا - وهي حركة القلم - تحكي من مناجاتها قدراً يسيراً يفهم به على الإجمال كيفية ابتناء التوكل عليه؛ ونرد كلماتها إلى الحروف والأصوات وإن لم تكن حروفاً وأصواتاً، ولكن هي ضرورة التفهيم فنقول: قال بعض الناظرين عن مشكاة نور الله تعالى للكاغد وقد رآه اسود وجهه بالحبر: ما بال وجهك كان أبيض مشرقاً والآن قد ظهر عليه السواد؟ فلم سودت وجهك؟ وما السبب فيه؟ فقال الكاغد: ما انصفتني في هذه المقالة! فإني ما سودت وجهي بنفسي ولكن سل الحبر فإنه كان مجموعاً في المحبرة التي هي مستقره ووطنه فسافر عن الوطن ونزل بساحة وجهي ظلماً وعدواناً! فقال: صدقت، فسأل الحبر عن ذلك فقال: ما أنصفتني فإني كنت في المحبرة وادعاً ساكناً عازماً على أن لا أبرح منها، فاعتدى علي القلم بطمعه الفاسد، واختطفني من وطني وأجلاني عن بلادي وفرق جمعي وبددني كما ترى على ساحة بيضاء، فالسؤال عليه لا علي! فقال: صدقت، ثم سأل القلم عن السبب في ظلمه وعدوانه وإخراج الحبر من أوطانه فقال: سل اليد والأصابع فإني كنت قصباً نابتاً على شط الأنهار متنزهاً بين خضرة الأشجار، فجاءتني اليد بسكين فنحت عن قشري ومزقت عن ثيابي واقتلعتني من أصلي وفصلت بين أنابيبي، ثم برتني وشقت رأسي؛ ثم غمستني في سواد الحبر ومرارته وهي تستخدمني وتمشيني على قمة رأسي، ولقد نثرت الملح على جرحي بسؤالك وعتابك، فتنح عني وسل من قهرني، فقال: صدقت، ثم سأل اليد عن ظلمها وعدوانها على القلم واستخدامها له، فقالت اليد: ما أنا إلا لحم وعظم ودم، وهل رأيت لحماً يظلم أو جسماً يتحرك بنفسه؟ وإنما أنا مركب مسخر ركبني فارس يقال له القدرة والعزة، فهي التي ترددني، وتجول بي في نواحي الأرض، أما ترى المدر والحجر والشجر لا يتعدى شيء منها مكانه ولا يتحرك بنفسه إذ لم يركبه مثل هذا الفارس القوي القاهر، أما ترى أيدي الموتى تساويني في صورة اللحم والعظم والدم، ثم لا معاملة بينها وبين القلم، فأنا أيضاً من حيث أنا لا معاملة بيني وبين القلم، فسل القدرة عن شأني فإني مركب أزعجني من ركبني، فقال: صدقت، ثم سأل القدرة عن شأنها في استعمالها اليد وكثرة استخدامها وترديدها، فقالت: دع عنك لومي ومعاتبتي، فكم من لائم ملوم، وكم من ملوم لا ذنب له، وكيف خفي عليك أمري؟ وكيف ظننت أني ظلمت اليد لما ركبتها وقد كنت لها راكبة قبل التحريك، وما كنت أحركها ولا أستسخرها، بل كنت نائمة ساكنة نوماً ظن الظانون بي أني ميتة أو معدومة، لأني ما كنت أتحرك ولا أحرك حتى جاءني موكل أزعجني وأرهقني إلى ما تراه مني، فكانت لي قوة على مساعدته، ولم تكن لي قوة على مخالفته، وهذا الموكل يسمى الإرادة، ولا أعرفه إلا باسمه وهجومه وصياله، إذ أزعجني من غمرة النوم وأرهقني إلى ما كان لي مندوحة عنه لو خلاني ورأيي، فقال: صدقت ثم سأل الإرادة ما الذي جرأك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة حتى صرفتها وأرهقتها إليه إرهاقاً فلم تجد عنه مخلصاً ولا مناصاً؟ فقالت الإرادة: لا تعجل علي فلعل لنا عذراً وأنت تلوم، فإني ما انتهضت بنفسي ولكن أنهضت وما انبعثت ولكني بعثت بحكم قاهر وأمر جازم وقد كنت ساكنة قبل مجيئه ولكن ورد علي من حضرة القلب رسول العلم على لسان العقل بالإشخاص للقدرة فأشخصتها باضطرار فإني مسكينة مسخرة تحت قهر العلم والعقل، ولا أدري بأي جرم وقفت عليه وسخرت له وألزمت طاعته، لكني أدري أني في دعة وسكون ما لم يرد علي هذا الوارد القاهر، وهذا الحاكم العادل أو الظالم وقد وقفت عليه وألزمت طاعته إلزاماً، بل لا يبقى لي معه مهما جزم حكمه طاقة على المخالفة، لعمري ما دام هو في التردد مع نفسه والنحير في حكمه، فأنا ساكنة لكن مع استشعار وانتظار لحكمه، فإذا انجزم حكمه أزعجت بطبع وقهر تحت طاعته وأشخصت القدرة لتقوم بموجب حكمه، فسل العلم عن شأني ودع عني عتابك، فإني كما قال القائل:


[poet font="Andalus,4,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/11.gif" border="double,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
متى ترحلت عنقومٍ وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم
[/poet]

فقال: صدقت، وأقبل على العلم والعقل مطالباً لهم ومعاتباً إياهم على استنهاض الإرادة وتسخيرها لإشخاص القدرة، فقال العقل: أما أنا فسراج ما اشتعلت بنفسي ولكن أشعلت، وقال القلب: أما أنا فلوح ما انبسطت بنفسي ولكن بسطت، وقال العلم: أما أنا فنقش نقشت في بياض لوح القلب لما أشرق سراج العقل وما انخططت بنفسي، فكم كان هذا اللوح قبل خالياً عني، فسل القلم عني لأن الخط لا يكون إلا بالقلم، فعند ذلك تتعتع السائل ولم يقنعه جواب وقال: قد طال تعبي في هذا الطريق وكثرت منازلي ولا يزال يحيلني من طمعت في معرفة هذا الأمر منه على غيره، ولكني كنت أطيب نفساً بكثرة الترداد لما كنت أسمع كلاماً مقبولاً لا في الفؤاد وعذراً ظاهراً في دفع السؤال، فأما قولك: إني خط ونقش، وإنما خطني قلم فلست أفهمه فإني لا أعلم قلماً إلا من القصب، ولا لوحاً إلا من الحديد أو الخشب، ولا خطاً إلا بالحبر، ولا سراجاً إلا من النار، وإني لأسمع في هذا المنزل حديث اللوح والسراج والخط والقلم ولا أشاهد من ذلك شيئاً؛ أسمع جعجعة ولا أرى طحناً. فقال له القلم: إن صدقت فيما قلت فبضاعتك مزجاة وزادك قليل ومركبك ضعيف، واعلم أن المهالك في الطريق التي توجهت إليها كثيرة: فالصواب لك أن تنصرف وتدع ما أنت فيه، فما هذا يعشك، فأدرج عنه فكل ميسر لما خلق له، وإن كنت راغباً في استتمام الطريق إلى المقصد فألق معك وأنت شهيد. واعلم أن العوالم في طريقك هذا ثلاثة: عالم الملك والشهادة أولها، ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد من هذا العالم، وقد جاوزت تلك المنازل على سهولة، والثاني عالم الملكوت وهو ورائي، فإذا جاوزتني انتهيت إلى منازله وفيه المهامة الفيح والجبال الشاهقة والبحار المغرقة، ولا أدري كيف تسلم فيها، والثالث هو عالم الجبروت وهو بين عالم الملك وعالم الملكوت، ولقد قطعت منها ثلاث منازل في أوائلها منزلة القدرة والإرادة والعلم، وهو واسطة بين عالم الملك والشهادة والملكوت، لأن عالم الملك أسهل منه طريقاً، وعالم الملكوت أوعر منه منهجاً، وإنما عالم الجبروت بين عالم الملك وعالم الملكوت يشبه السفينة التي هي في الحركة بين الأرض والماء، فلا هي في حد اضطراب الماء، ولا هي في حد سكون الأرض وثبوتها، وكل من يمشي على الأرض في عالم الملك والشهادة؛ فإن جاوزت قوته إلى أن يقوى على ركوب السفينة كان كمن يمشي في عالم الجبروت؛ فإن انتهى إلى أن يمشي على الماء من غير سفينة مشى في عالم الملكوت من غير تتعتع، فإن كنت لا تقدر على المشي على الماء فانصرف فقد جاوزت الأرض وخلفت السفينة ولم يبق بين يديك إلا الماء الصافي، وأول عالم الملكوت مشاهدة القلم الذي يكتب به العلم في لوح القلب وحصول اليقين الذي يمشي به على الماء، أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام " لو زاد يقيناً لمشي على الهواء" لما قيل له إنه كان يمشي على الماء، فقال السالك السائل: قد تحيرت في أمري واستشعر قلبي خوفاً مما وصفته من خطر الطريق، ولست أدري أطيق قطع هذه المهامة التي وصفتها أم لا؟ فهل لذلك من علامة؟ قال: نعم، افتح بصرك واجمع ضوء عينيك وحدقه نحوي فإن ظهر لك القلم الذي به أكتب في لوح القلب فيشبه أن تكون أهلاً لهذا الطريق، فإن كل من جاوز عالم الجبروت وقرع باباً من أبواب الملكوت كوشف بالقلم، أما ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره كوشف بالقلم إذ أنزل عليه " اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم " فقال السالك: لقد فتحت بصري وحدقته، فوالله ما أرى قصباً ولا خشباً، ولا أعلم قلماً إلا كذلك، فقال العلم: لقد أبعدت النجعة، أما سمعت أن متاع البيت يشبه رب البيت، أما علمت أن الله تعالى لا تشبه ذاته سوائر الذوات، فكذلك لا تشبه يده الأيدي ولا قلمه الأقلام ولا كلامه سائر الكلام ولا خطه سائر الخطوط، وهذه أمور إلهية من عالم الملكوت، فليس الله تعالى في ذاته بجسم ولا هو في مكان بخلاف غيره، ولا يده لحم وعظم ودم بخلاف الأيدي، ولاقلمه من قصب، ولا لوحه من خشب، ولا كلامه بصوت وحرف، ولا خطه رقم ورسم، ولا حبره زاج وعفص، فإن كنت لا تشاهد هذا هكذا فما أراك إلا مخنثاً بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه، مذبذباً بين هذا وذا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فكيف نزهت ذاته وصفاته تعالى عن الأجسام وصفاتها؟ ونزهت كلامه عن معاني الحروف والأصوات وأخذت تتوقف في يده وقلمه ولوحه وخطه؟ فإن كنت قد فهمت من قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم على صورته "، الصورة الظاهرة المدركة بالبصر فكن مشبهاً مطلقاً، كما يقال: كن يهودياً صرفاً وإلا فلا تلعب بالتوراة، وإن فهمت منه الصورة الباطنة التي تدرك بالبصائر لا بالأبصار فكن منزهاً صرفاً ومقدساً فخلا، واطو الطريق فإنك بالواد المقدس طوى، واستمع بسر قلبك لما يوحى، فلعلك تجد على النار هدى، ولعلك من سرادقات العرش تنادي بما نودي به موسى " إني أنا ربك " فلما سمع السالك من العلم ذلك استشعر قصور نفسه وأنه مخنث بين التشبيه والتنزيه، فاشتعل قلبه ناراً من حدة غضبه على نفسه لما رآها بعين النقص، ولقد كان زيته الذي في مشكاة قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فلما نفخ فيه العلم بحدته اشتعل زيته فأصبح نوراً على نور، فقال له العلم: اغتنم الآن هذه الفرصة وافتح بصرك لعلك تجد على النار هدى، ففتح بصره فانكشف له القلم الإلهي، فإذا هو كما وصفه العلم في التنزيه، ما هو من خشب ولا قصب، ولا له رأس ولا ذنب، وهو يكتب على الدوام في قلوب البشر كلهم أصناف العلوم؛ وكأن له في كل قلب رأساً ولا رأس له، فقضى منه العجب وقال: نعم الرفيق العلم، فجزاه الله تعالى عني خيراً، إذ الآن ظهر لي صدق أنبائه عن أوصاف القلم؛ فإني أراه قلماً لا كالأقلام، فعند هذا ودع العلم وشكره، وقال: قد طال مقامي عندك ومرادتي لك، وأنا عازم على أن أسافر إلى حضرة القلم وأسأله عن شأنه، فسافر إليه وقال له: ما بالك أيها القلم تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الإرادات إلى أشخاص القدر وصرفها إلى المقدورات؟ فقال: أو قد نسيت ما رأيت في عالم الملك والشهادة وسمعت من جواب القلم إذ سألته فأحالك على اليد؟ قال: لم أنس ذلك. قال: فجوابي مثله جوابه، قال: كيف وأنت لا تشبهه؟ قال القلم: أما سمعت أن الله تعالى خلق آدم على صورته؟ قال: نعم، قال فسل عن شأني الملقب بيمين الملك فإني في قبضته، وهو الذي يرددني وأنا مقهور مسخر، فلا فرق بين القلم الإلهي، وقلم الآدمي في معنى التسخير، وإنما الفرق في ظاهر الصورة، فقال: فمن يمين الملك؟ فقال القلم: أما سمعت قوله تعالى: "والسموات مطويات بيمينه " ؟ قال: نعم، قال: والأقلام أيضاً في قبضة يمينه هو الذي يرددها، فسافر السالك من عنده إلى اليمين حتى شاهده ورأى من عجائبه ما يزيد على عجائب القلم ولا يجوز وصف شيء من ذلك ولا شرحه، بل لا تحوي مجلدات كثيرة عشر عشير وصفه، والجملة فيه أنه يمين لا كالإيمان، ويد لا كالأيدي، وإصبع لا كالأصابع، فرأى القلم محركاً في قبضته، فظهر له عذر القلم، فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم؟ فقال: جوابي مثل ما سمعته من اليمين التي رأيتها في عالم الشهادة وهي الحوالة على القدرة، إذ اليد لا حكم لها في نفسها وإنما محركها القدرة لا محالة، فسافر السالك إلى عالم القدرة ورأى فيه من العجائب ما استحقر عندها ما قبله وسألها عن تحريك اليمين فقالت: إنما أنا صفة فاسأل القادر، إذ العمدة على الموصوفات لا على الصفات، وعند هذا كاد أن يزيغ ويطلق بالجراءة لسان السؤال، فثبت بالقول الثابت ونودي من وراء حجاب سرادقات الحضرة " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " فغشيته هيبة الحضرة، فخر صعقاً يضطرب في غشيته، فلما أفاق قال: سبحانك ما أعظم شأنك تبت إليك وتوكلت عليك وآمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار، فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك ولا أعوذ إلا بعفوك من عقابك وبرضاك من سخطك، وما لي إلا أن أسألك وأتضرع إليك وأبتهل بين يديك، فأقول: اشرح لي صدري لأعرفك واحلل عقدة من لساني لأثني عليك، فنودي من وراء الحجاب: إياك أن تطمع في الثناء وتزيد على سيد الأنبياء، بل ارجع إليه فما آتاك فخذه وما نهاك عنه فانته عنه، وما قاله لك فقله؛ فإنه ما زاد في هذه الحضرة على أن قال: " سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" فقال: إلهي إن لم يكن للسان جرأة على الثناء عليك فهل للقلب مطمع في معرفتك، فنودي: إياك أن تتخطى رقاب الصديقين، فارجع إلى الصديق الأكبر فاقتد به؛ فإن أصحاب سيد الأنبياء كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، أما سمعته يقول: العجز عن دركالإدراك إدراك، فيكفيك نصيباً من حضرتنا أن تعرف أنك محروم عن حضرتنا عاجز عن ملاحظة جمالنا وجلالنا، فعند ذلك رجع السالك واعتذر عن أسئلته ومعاتباته وقال لليمين والقلم والعلم والإرادة والقدرة وما بعدها: اقبلوا عذري فإني كنت غريباً حديث العهد بالدخول في هذه البلاد ولكل داخل دهشة، فما كان إنكاري عليكم إلى عن قصور وجهل، والآن قد صح عندي عذركم وانكشف لي أن المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار، فما أنتم إلا مسخرون تحت قهره وقدرته، مرددون في قبضته وهو الأول والآخر والظاهر والباطن؛ فلما ذكر ذلك عالم الشهادة استبعد منه ذلك وقيل له: كيف يكون هو الأول والاخر وهما وصفان متناقضان، وكيف يكون هو الظاهر والباطن؛ فالأول ليس بآخر، والظاهر ليس بباطن؛ فقال: بالإضافة إلى الموجودات، إذ صدر منه الكل على ترتيبه واحداً بعد واحد، وهو الآخر بالإضافة إلى سير السائرين إليه فإنهم لا يزالون مترقين من منزل إلى منزل إلى أن يقع الانتهاء إلى تلك الحضرة، فيكون ذلك آخر السفر، فهو آخر في المشاهدة أول في الوجود، وهو باطن بالإضافة إلى العاكفين في عالم الشهادة الطالبين لإدراكه بالحواس الخمس، ظاهر بالإضافة إلى من يطلبه في السراج الذي اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة في عالم الملكوت، فهذا كان توحيد السالكين لطريق التوحيد في الفعل: أعني من انكشف له أن الفاعل واحد فإن قلت: قد انتهى هذا التوحيد إلى أنه يبتنى على الإيمان بعالم الملكوت، فمن لم يفهم ذلك أو يجحده فما طريقه؟ فأقول: أما الجاحد فلا علاج له إلا أن يقال له: إنكارك لعالم الملكوت كإنكار السمنية لعالم الجبروت، وهم الذين حصروا العلوم في الحواس الخمس، فأنكروا القدرة والإرادة والعلم لأنها لا تدرك بالحواس الخمس، فلازموا حضيض عالم الشهادة بالحواس الخمس، فإن قال: وأنا منهم فإني لا أهتدي إلا إلى عالم الشهادة بالحواس الخمس ولا أعلم شيئاً سواه، فيقال: إنكارك لما شاهدناه مما وراء الحواس الخمس كإنكار السوفسطائية للحواس الخمس، فإنهم قالوا: ما نراه لا نثق به، فلعلنا نراه في المنام، فإن قال: وأنا من جملتهم فإني شاكٍ أيضاً في المحسوسات فيقال: هذا شخص فسد مزاجه وامتنع علاجه، فيترك أياماً قلائل، وما كل مريض يقوى على علاجه الأطباء: هذا حكم الجاحد. وأما الذي لا يجحد ولكن لا يفهم، فطريق السالكين معه أن ينظروا إلى عينه التي يشاهد بها عالم الملكوت، فإن وجدوها صحيحة في الأصل وقد نزل فيها ماء أسود يقبل الإزالة والتنقية اشتغلوا بتنقيته اشتغال الكحال بالأبصار الظاهرة، فإذا استوى بصره أرشد إلى الطريق ليسلكها كما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم بخواص أصحابه، فإن كان غير قابل للعلاج فلم يمكنه أن يسلك الطريق الذي ذكرناه في التوحيد ولم يمكنه أن يسمع كلام ذرات الملك والملكوت بشهادة التوحيد كلموه بحرف وصوت وردوا ذروة التوحيد إلى حضيض فهمه فإن في عالم الشهادة أيضاً توحيداً، إذ يعلم كل أحد أن المنزل يفسد بصاحبين، والبلد يفسد بأميرين، فيقال له على حد عقله إله العالم واحد والمدبر واحد، إذ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فيكون ذلك على ذوق ما رآه في عالم الشهادة، فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه بهذا الطريق اللائق بقدر عقله، وقد كلف الله الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم، ولذلك نزل القرآن بلسان العرب على حد عادتهم في المحاورة.
فإن قلت: فمثل هذا التوحيد الاعتقادي هل يصلح أن يكون عماداً للتوكل وأصلاً فيه؟ فأقول: نعم، فإن الاعتقاد إذا قوي عَمِلَ عَمَلَ الكشف في إثارة الأحوال إلا أنه في الغالب يضعف ويتسارع إليه الاضطراب والتزلزل غالباً، ولذلك يحتاج صاحبه إلى متكلم يحرسه بكلامه، أو إلى أن يتعلم هو الكلام ليحرس به العقيدة التي تلقنتها من أستاذه أو من أبويه أو من أهل بلده. وأما الذي شاهد الطريق وسلكه بنفسه فلا يخاف عليه شيء من ذلك بل لو كشف الغطاء لما ازداد يقيناً وإن كان يزداد وضوحاً، كما أن الذي يرى إنساناً في وقت الإسفار لا يزداد يقيناً عند طلوع الشمس بأنه إنسان ولكن يزداد وضوحاً في تفصيل خلقته، وما مثال المكاشفين والمعتقدين إلا كسحرة فرعون مع أصحاب السامري؛ فإن سحرة فرعون لما كانوا مطلعين على منتهى تأثير السحر لطول مشاهدتهم وتجربتهم رأوا من موسى عليه السلام ما جاوز حدود السحر وانكشف لهم حقيقة الأمر فلم يكترثوا بقول فرعون " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " بل " قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " فإن البيان والكشف يمنع التغيير وأما أصحاب السامري لما كان إيمانهم عن النظر إلى ظاهر الثعبان، فلما نظروا إلى عجل السامري وسمعوا خواره تغيروا وسمعوا قوله " هذا إلهكم وإله موسى " ونسوا أنه لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً: فكل من آمن بالنظر إلى ثعبان يكفر لا محالة إذا نظر إلى عجل، لأن كليهما من عالم الشهادة والاختلاف والتضاد في عالم الشهادة كثير. وأما عالم الملكوت فهو من عند الله تعالى فلذلك لا نجد فيه اختلافاً وتضاداً أصلاً .فإن قلت: ما ذكرته من التوحيد ظاهر مهما ثبت أن الوسائط والأسباب مسخرات، وكل ذلك ظاهر إلا في حركات الإنسان فإنه يتحرك إن شاء ويسكن إن شاء، فكيف يكون مسخراً؟ فاعلم أنه لو كان مع هذا يشاء إن أراد أن يشاء، ولا يشاء إن لم يرد أن يشاء، لكان هذا مزلة القدم وموقع الغلط، ولكن علم أنه يفعل ما يشاء إذا شاء إن يشأ أم لم يشأ فليست المشيئة إليه، إذ لو كانت إليه لافتقرت إلى مشيئة أخرى وتسلسل إلى غير نهاية، وإذا لم تكن إليه المشيئة فمهما وجدت المشيئة التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت القدرة لا محالة ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة والقدرة متحركة ضرورة عند انجزام المشيئة. فالمشيئة تحدث ضرورة في القلب. فهذا ضرورات ترتب بعضها على بعض، وليس للعبد أن يدفع وجود المشيئة ولا انصراف القدرة إلى المقدور بعدها ولا وجود بعد بعث المشيئة للقدرة، فهو مضطر في الجميع. فإن قلت: فهذا جبر محض والجبر يناقض الاختيار، وأنت لا تنكر الاختيار فكيف يكون مجبوراً مختاراً؟ فأقول: لو انكشف الغطاء لعرفت أنه في عين الاختيار مجبور، فهو إذن مجبور على الاختيار، فكيف يفهم هذا من لا يفهم الاختيار فلنشرح الاختيار بلسان المتكلمين شرحاً وجيزاً يليق بما ذكر متطفلاً وتابعاً فإن هذا الكتاب لم نقصد به إلا علم المعاملة، ولكني أقول لفظ الفعل في الإنسان يطلق على ثلاثة أوجه، إذ يقال: الإنسان يكتب بالأصابع ويتنفس بالرئة والحنجرة ويخرق الماء إذ وقف عليه بجسمه فينسب إليه الخرق في الماء والتنفس والكتابة وهذه الثلاثة في حقيقة الاضطرار والجبر واحدة، ولكنها تختلف وراء ذلك في أمور فأعرب لك عنها بثلاث عبارات: فنسمي خرقه للماء عند وقوعه على وجهه فعلاً طبيعياً، ونسمي تنفسه فعلاً إرادياً، ونسمي كتابته فعلاً اختيارياً، والجبر ظاهر في الفعل الطبيعي لأنه مهما وقف على وجه الماء أو تخطى من السطح للهواء انخرق الهواء لا محالة وقد يكون الخرق بعد التخطي ضرورياً، والتنفس في معناه فإن نسبة حركة الحنجرة إلى إرادة التنفس كنسبة انخراق الماء إلى ثقل اليدين؛ فمهما كان الثقل موجوداً وجد الانخراق بعده وليس الثقل إليه، وكذلك الإرادة ليست إليه، ولذلك لو قصد عين الإنسان بإبرة طبق الأجفان اضطراراً، ولو أراد أن يتركها مفتوحة لم يقدر مع أن تغميض الأجفان اضطراراً فعل إرادي، ولكنه إذا تمثل صورة الإبرة في مشاهدته بالإدراك حدثت الإرادة بالتغميض ضرورة، وحدثت الحركة بها، ولو أراد أن يترك ذلك لم يقدر عليه مع أنه فعل بالقدرة والإرادة، فقد التحق هذا بالفعل الطبيعي في كونه ضرورياً، وأما الثالث - وهو الاختيار - فهو مظنة الالتباس كالكتابة والنطق، وهو الذي يقال فيه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وتارة لا يشاء، فيظن من هذا أن الأمر إليه، وهذا للجهل بمعنى الاختيار فلنكشف عنه وبيانه: أن الإرادة تبع للعلم الذي يحكم بأن الشيء موافق لك، والأشياء تنقسم إلى ما تحكم مشاهدتك الظاهرة أو الباطنة بأنه يوافقك من غير تحير وتردد، وإلى ما قد يتردد العقل فيه، فالذي نقطع به من غير تردد أن من يقصد عينك مثلاً بإبرة أو بدنك بسيف، فلا يكون في علمك تردد في أن دفع ذلك خير لك وموافق، فلا جرم تنبعث الإرادة بالعلم. والقدرة بالإرادة، وتحصل حركة الأجفان بالدفع، وحركة اليد برفع السيف ولكن من غير روية وفكرة، ويكون ذلك بالإرادة، ومن الأشياء ما يتوقف التمييز والعقل فيه فلا يدري أنه موافق أم لا فيحتاج إلى روية فكر حتى يتميز أن الخير في الفعل أو الترك، فإذا حصل بالفكر والروية العلم بأن أحدهما خير التحق ذلك بالذي يقطع به من غير روية فكر، فانبعثت الإرادة ههنا كما تنبعث لدفع السيف والسنان، فإذا انبعثت لفعل ما ظهر للعقل أنه خير سميت هذه الإرادة اختياراً مشتقاً من الخير، أي هو انبعاث إلى ما ظهر للعقل أنه خير وهو عين تلك الإرادة، ولم ينتظر في انبعاثها إلى ما انتظرت تلك الإرادة وهو ظهور خيرية الفعل في حقه، إلا أن الخيرية في دفع السيف ظهرت من غير روية بل على البديهة وهذا افتقر إلى الروية، فالاختيار عبارة عن إرادة خاصة وهي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إدراكه توقف، وعن هذا قيل إن العقل يحتاج إليه للتمييز بين خير الخيرين وشر الشرين، ولا يتصور أن تنبعث الإرادة إلا بحكم الحس والتخيل أو بحكم جزم من العقل، ولذلك لو أراد الإنسان أن يحز رقبة نفسه مثلاً لم يمكنه لا لعدم القدرة في اليد ولا لعدم السكين ولكن لفقد الإرادة الداعية المشخصة للقدرة وإنما فقدت الإرادة لأنها تنبعث بحكم العقل أو الحسن بكون الفعل موافقاً، وقتله نفسه ليس موافقاً له فلا يمكنه مع قوة الأعضاء أن يقتل نفسه إلا إذا كان في عقوبة مؤلمة لا تطاق؛ فإن العقل هنا يتوقف في الحكم ويتردد؛ لأن تردده بين شر الشرين؛ فإن ترجح له بعد الروية أن ترك القتل أقل شراً لم يمكنه قتل نفسه وإن حكم بأن القتل أقل شراً وكان حكمه جزماً لا ميل فيه ولا صارف منه انبعثت الإرادة والقدرة وأهلك نفسه، كالذي يتبع بالسيف للقتل فإنه يرمي بنفسه من السطح مثلاً وإن مهلكاً ولا يبالي ولا يمكنه أن لا يرمي نفسه، فإن كان يتبع بضرب خفيف فإن انتهى إلى طرف السطح حكم العقل بأن الضرب أهون من الرمي فوقفت أعضاؤه فلا يمكنه أن يرمي نفسه ولا تنبعث له داعية البتة، لأن داعية الإرادة مسخرة بحكم العقل والحس، والقدرة مسخرة للداعية، والحركة مسخرة للقدرة، والكل مقدر بالضرورة فيه من حيث لا يدري، فإنما هو محل ومجرى لهذه الأمور، فأما أن يكون منه فكلا ولا، فإذن معنى كونه مجبوراً أن جميع ذلك حاصل فيه من غيره لا منه، ومعنى كونه مختاراً أنه محل لإرادة حدثت فيه جبراً بعد حكم العقل بكون الفعل خيراً محضاً موافقاً وحدث الحكم أيضاً جبراً فإذا هو مجبور على الاختيار، ففعل النار في الإحراق مثلاً جبر محض، وفعل الله تعالى اختيار محض، وفعل الإنسان على منزلة بين المنزلتين فإنه جبر على الاختيار، فطلب أهل الحق لهذا عبارة ثالثة، لأنه لما كان فناً ثالثاً وائتموا فيه بكتاب الله تعالى فسموه كسباً وليس مناقضاً للجبر ولا للاختيار بل هو جامع بينهما عند فهمه، وفعل الله تعالى يسمى اختياراً بشرط أن لا يفهم من الاختيار إرادة بعد تحير وتردد، فإن ذلك في حقه محال، وجميع الألفاظ المذكورة في اللغات لا يمكن أن تستعمل في حق الله تعالى إلا على نوع من الاستعارة والتجوز، وذكر لا يليق بهذا العلم ويطول القول فيه فإن قلت: فهل تقول إن العلم ولد الإرادة، والإرادة ولدت القدرة، والقدرة ولدت الحركة، وأن كل متأخر حدث من المتقدم، فإن قلت ذلك فقد حكمت بحدوث شيء لا من قدرة الله تعالى، وإن أبيت ذلك فما معنى ترتب البعض من هذا على البعض فاعلم أن القول بأن بعض ذلك حدث عن بعض جهل محض، سواء عبر عنه بالتولد أو بغيره بل حوالة جميع ذلك على المعنى الذي يعبر عنه بالقدرة الأزلية، وهو الأصل الذي لم يقف كافة الخلق عليه إلا الراسخون في العلم فإنهم وقفوا على كنه معناه، والكافة وقفوا على مجرد لفظه مع نوع تشبيه بقدرتنا وهو بعيد عن الحق، وبيان ذلك يطول، ولكن بعض المقدورات مترتب على البعض في الحدوث ترتب المشروط على الشرط فلا تصدر من القدرة الأزلية إرادة إلا بعد علم ولا علم إلا بعد محل الحياة، وكما لا يجوز أن يقال الحياة تحصل من الجسم الذي هو شرط الحياة فكذلك في سائر درجات الترتيب، ولكن بعض الشروط ربما ظهرت للعامة وبعضها لم يظهر إلا للخواص المكاشفين بنور الحق وإلا فلا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا بالحق واللزوم، وكذلك جميع أفعال الله تعالى، ولولا ذلك التقديم والتأخير عبثاً يضاهي فعل المجانين - تعالى الله عن قول الجاهلين علواً كبيراً. وإلى هذا أشار قوله تعالى " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ " وقوله تعالى: " وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق " فكل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم لا يتصور أن يكون إلا كما حدث، وعلى هذا الترتيب الذي وجد فما تأخر متأخر إلا لانتظار شرطه، والمشروط قبل الشرط محال، والمحال لا يوصف بكونه مقدوراً، فلا يتأخر العلم عن النطفة إلا لفقد شرط الحياة، ولا تتأخر عنها الإرادة بعد العلم إلا لفقد شرط العلم، وكل ذلك منهاج الواجب وترتيب الحق، ليس في شيء من ذلك لعب واتفاق، بل كل ذلك بحكمة وتدبير، وتفهيم ذلك عسير، ولكنا نضرب لتوقف المقدور مع وجود القدرة على وجود الشرط مثالاً يقرب مبادئ الحق من الأفهام الضعيفة، وذلك بأن نقدر إنساناً محدثاً قد انغمس في الماء إلى رقبته، فالحدث لا يرتفع عن أعضائه وإن كان الماء هو الرافع وهو ملاق له، فقدر القدرة الأزلية حاضرة ملاقية للمقدورات متعلقة بها ملاقاة الماء للأعضاء ولكن لا يحصل بها المقدور كما لا يحصل رفع الحدث بالماء انتظاراً للشرط وهو غسل الوجه، فإذا وضع الواقف في الماء وجهه على الماء عمل الماء في سائر أعضائه وارتفع الحدث فربما يظن الجاهل أن الحدث ارتفع عن اليدين برفعه عن الوجه لأنه حدث عقيبه، إذ يقول: كان الماء ملاقياً ولم يكن رافعاً والماء لم يتغير عما كان فكيف حصل منه ما لم يحصل من قبل، بل حصل ارتفاع الحدث عن اليدين عند غسل الوجه، فإذن غسل الوجه هو الرافع للحدث عن اليدين وهو جهل يضاهي ظن من يظن أن الحركة تحصل بالقدرة والقدرة تحصل بالإرادة والإرادة بالعلم، وكل ذلك خطأ بل عند ارتفاع الحدث عن الوجه ارتفع الحدث عن اليد بالماء لها لا يغسل الوجه، والماء لم يتغير واليد لم تتغير ولم يحدث فيهما شيء، ولكن حدث وجود الشرط فظهر أثر العلة، فهكذا ينبغي أن تفهم صدور المقدّرات عن القدرة الأزلية مع أن القدرة قديمة والمقدورات حادثة، وهذا قرع باب آخر لعالم آخر من عوالم المكاشفات. فلنترك جميع ذلك فإن مقصودنا التنبيه على طريق التوحيد في الفعل، فإن الفاعل بالحقيقة واحد فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد، ولم نقدر على أن نذكر من بحار التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد، واستيفاء ذلك في عمر نوح محال، كاستيفاء ماء البحر بأخذ القطرات منه، وكل ذلك ينطوي تحت قول لا إله إلا الله، وما أخف مؤنته على اللسان! وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب! وما أعز حقيقته ولبه عند العلماء الراسخين في العلم فكيف عند غيرهم فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع: ومعنى التوحيد: أن لا فاعل إلا الله تعالى؛ ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد؛ فإن كان العبد فاعلاً فكيف يكون الله تعالى فاعلاً؟ وإن كان الله تعالى فكيف يكون العبد فاعلاً؟ ومفعول بين فاعلين غير مفهوم؟ فأقول: نعم ذلك غير مفهوم إذا كان للفاعل معنى واحد، وإن كان له معنيان ويكون الاسم مجملاً مردداً بينهما لم يتناقض، كما يقال: قتل الأمير فلاناً، ويقال: قتله الجلاد، ولكن الأمير قاتل بمعنى، والجلاد قاتل بمعنى آخر، فكذلك العبد فاعل بمعنى، والله عز وجل فاعل بمعنى آخر، فمعنى كون الله تعالى أنه المخترع الموجد، ومعنى كون العبد فاعلاً أنه المحل الذي خلق فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم، فارتبطت القدرة بالإرادة، والحركة بالقدرة ارتباطاً الشرط بالمشروط، وارتبط بقدرة الله ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المخترع بالمخترع، وكل ما له ارتباط بقدرة فإن محل القدرة يسمى فاعلاً له كيفما كان الارتباط، كما يسمى الجلاد قاتلاً والأمير قاتلاً، لأن القتل ارتبط بقدرتهما ولكن على وجهين مختلفين، فلذلك سمي فعلاً لهما، فكذلك ارتباط المقدورات بالقدرتين، ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد، ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه، فقال الله تعالى في الموت " قل يتوفاكم ملك الموت " ثم قال عز وجل: " الله يتوفى الأنفس حين موتها " وقال تعالى: " أفرأيتم ما تحرثون " أضاف إلينا ثم قال تعالى: " أنا صببنا ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً "، وقال عز وجل: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً "، ثم قال تعالى: " فنفخنا فيها من روحنا " وكان النافخ جبريل عليه السلام، وكما قال تعالى: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " قيل في التفسير: معناه إذا قرأه عليك جبريل. وقال تعالى: " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه، والتعذيب هو عين القتل، بل صرح وقال تعالى: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم "، وقال تعالى: " وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى " وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهراً، ولكن معناه: وما رميت بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً إذ رميت بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً، إذ هما معنيان مختلفان. وقال الله تعالى: " الذي علم بالقلم على الإنسان ما لم يعلم " ثم قال: " الرحمن علم القرآن " وقال: "علمه البيان "، وقال: " ثم إن علينا بيانه " وقال: " أفرأيتم ما تمنون؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف ملك الأرحام: " إنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة في يده ثم يصورها جسداً، فيقول: يا رب، أذكر أم أنثى أسوي أم معوج؟ فيقول الله تعالى ما شاء ويخلق الملك" وفي لفظ آخر: " ويصور الملك ثم ينفخ فيه الروح بالسعادة أو بالشقاوة " وقد قال بعض السلف: إن الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجساد، وأنه يتنفس بوصفه فيكون كل نفس من أنفاسه روحاً يلج في جسم ولذلك سمي روحاً، وما ذكره في مثل هذا الملك وصفته فهو حق شاهده أرباب القلوب ببصائرهم، فأما كون الروح عبارة عنه فلا يمكن أن يعلم إلا بالنقل والحكم به دون النقل تخمين مجرد، وكذلك ذكر الله تعالى في القرآن من الأدلة والآيات في الأرض والسموات، ثم قال: " أو لم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد " وقال: " شهد الله أنه لا إله إلا هو " فبين أنه الدليل على نفسه وذلك ليس متناقضاً بل طرق الاستدلال مختلفة، فكم من طالب عرف الله تعالى بالنظر إلى الموجودات، وكم من طالب عرف كل الموجودات بالله تعالى كما قال بعضهم: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي، وهو معنى قوله تعالى: " أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه المحيي والمميت، ثم فوض الموت والحياة إلى ملكين، ففي الخبر " أن ملكي الموت والحياة تناظرا، فقال ملك الموت: أنا أميت الأحياء، وقال ملك الحياة: أنا أحيي الموتى، فأوحى الله تعالى إليهما: كونا على عملكما وما سخرتكما له من الصنع، وأنا المميت والمحيي لا يميت ولا يحيي سواي" فإذن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة فلا تتناقض هذه المعاني إذا فهمت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للذي ناوله التمرة: " خذها، لو لم تأتها لأتتك" أضاف الإتيان إليه وإلى التمرة، ومعلوم أن التمرة لا تأتي على الوجه الذي يأتي الإنسان إليها، وكذلك لما قال التائب: أتوب إلى الله تعالى ولا أتوب إلى محمد، فقال صلى الله عليه وسلم: " عرف الحق لأهله" فكل من أضاف الكل إلى الله تعالى فهو المحقق الذي عرف الحق والحقيقة، ومن أضافه إلى غيره فهو المتجوز والمستعير في كلامه، وللتجوز وجه كما أن للحقيقة وجهاً، واسم الفاعل وضعه واضع اللغة للمخترع، ولكن ظن أن الإنسان مخترع بقدرته فسماه فاعلاً بحركته وظن أنه تحقيق، وتوهم أن نسبته إلى الله تعالى على سبيل المجاز مثل نسبة القتل إلى الأمير فإنه مجاز بالإضافة إلى نسبته إلى الجلاد، فلما انكشف الحق لأهله عرفوا أن الأمر بالعكس وقالوا: إن الفاعل قد وضعته أيها اللغوي للمخترع فلا فاعل إلا الله، فالاسم له بالحقيقة ولغيره بالمجاز. أي تتجوز به عما وضعه اللغوي له، ولما جرى حقيقة المعنى على لسان بعض الأعراب قصداً أو اتفاقاً صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أصدق بيت قاله الشاعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أي كل ما لا قوام له بنفسه - وإنما قوامه بغيره - فهو باعتبار نفسه باطل، وإنما حقيته وحقيقته بغيره لا بنفسه، فإذن لا حق بالحقيقة إلى الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء، فإنه قائم بذاته وكل ما سواه قائم بقدرته، فهو الحق وما سواه باطل، ولذلك قال سهل: يا مسكين كان ولم تكن ويكون ولا تكون، فلما كنت اليوم صرت تقول أنا وأنا، كن الآن كما لم تكن فإنه اليوم كما كان فإن قلت: فقد ظهر الآن أن الكل جبر، فما معنى الثواب والعقاب والغضب والرضا، وكيف غضبه على فعل نفسه؟ فاعلم أن معنى ذلك قد أشرنا إليه في كتاب الشكر فلا نطول بإعادته، فهذا هو القدر الذي رأينا الرمز إليه من التوحيد الذي يورث حالالتوكل ولا يتم هذا إلا بالإيمان بالرحمة والحكمة، فإن التوحيد يورث النظر إلى مسبب الأسباب، والإيمان بالرحمة وسعتها هو الذي يورث الثقة بمسبب الأسباب، ولا يتم حال التوكل كما سيأتي إلا بالثقة بالوكيل وطمأنينة القلب إلى حسن نظر الكفيل، وهذا بالإيمان أيضاً باب عظيم من أبواب الإيمان وحكاية طريق المكاشفين فيه تطول، فلنذكر حاصله ليعتقده الطالب لمقام التوكل اعتقاداً قاطعاً لا يستريب فيه. وهو أن يصدق تصديقاً يقينياً لا ضعف فيه ولا ريب أن الله عز وجل لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم وأفاض عليهم من الحكمة ما لا منتهى لوصفها، ثم زاد مثل عدد جميعهم علماً وحكمة وعقلاً ثم كشف لهم عن عواقب الأمور وأطلعهم على أسرار الملكوت وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر، ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم، لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والتظاهر عليه أن يزاد فيما دبر الله سبحانه الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة ولا أن ينقص منها جناح بعوضة، ولا أن يرفع منها ذرة ولا أن يخفض منها ذرة، ولا أن يدفع مرض أو عيب أو نقص أو فقر أو ضر عمن بلي به، ولا أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم الله به عليه، بل كل ما خلقه الله تعالى من السموات والأرض - إن رجعوا فيها البصر وطولوا فيها النظر - ما رأوا فيها من تفاوت ولا فطور، وكل ما قسم الله تعالى بين عباده من رزق وأجل وسرور وحزن وعجز وقدرة وإيمان وكفر وطاعة ومعصية، فكله عدل محض لا جور فيه، وحق صرف لا ظلم فيه بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي وكما ينبغي وبالقدر الذي ينبغي، وليس في الإمكان أصلاً أحسن منه ولا أتم ولا أكمل ولو كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله لكان بخلاً يناقض الجود وظلماً يناقض العدل، ولو لم يكن قادراً لكان عجزاً يناقض الإلهية، بل كل فقر وضر في الدنيا فهو نقصان من الدنيا وزيادة في الآخرة وكل نقص في الآخرة بالإضافة إلى شخص فهو نعيم بالإضافة إلى غيره، إذ لولا الليل لما عرف قدر النهار، ولولا المرض لما تنعم الأصحاء بالصحة، ولولا النار لما عرف أهل الجنة قدر النعمة، وكما أن فداء أرواح الإنس بأرواح البهائم وتسليطهم على ذبحها ليس بظلم، بل تقديم الكامل على الناقص عين العدل، فكذلك تفخيم النعم على سكان الجنان بتعظيم العقوبة على أهل النيران، وفداء أهل الإيمان بأهل الكفران عين العدل، وما لم يخلق الناقص لا يعرف الكامل، ولولا خلق البهائم لما ظهر شرف الإنس، فإن الكمال والنقص يظهر بالإضافة، فمقتضى الجود والحكمة خلق الكامل والناقص جميعاً، وكما أن قطع اليد إذا تآكلت إبقاء على الروح عدل لأنه فداء كامل بناقص، فكذلك الأمر في التفاوت الذي بين الخلق في القسمة في الدنيا والآخرة، فكل ذلك عدل لا جور فيه وحق لا لعب فيه، وهذا الآن بحر آخر عظيم العمق واسع الأطراف مضطرب الأمواج قريب في السعة من بحر التوحيد فيه غرق طوائف من القاصرين، ولم يعلموا أن ذلك غامض لا يعقله إلا العالمون، ووراء هذا البحر سر القدر الذي تحير فيه الأكثرون ومنع من إفشاء سره المكاشفون.
والحاصل أن الخير والشر مقضي به، وقد كان ما قضى به واجب بعد سبق المشيئة فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، بل كل صغير وكبير مستطر وحصوله بقدر معلوم منتظر، وما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
ولنقتصر على هذه المرامز من علوم المكاشفة التي هي أصول مقام التوكل، ولنرجع إلى علم المعاملة إن شاء الله تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل.



[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين أكتوبر 02, 2006 9:55 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب التوحيد والتوكل
وهو الكتاب الخامس من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم
[/align]


الحمد لله مدبر الملك والملكوت، المنفرد بالعزة والجبروت. الرافع السماء بغير عماد، المقدر فيها أرزاق العباد. الذي صرف أعين ذوي القلوب والألباب، عن ملاحظة الوسائط والأسباب إلى مسبب الأسباب، ورفع هممهم عن الالتفات إلى ما عداه والاعتمام على مدبر سواه، فلم يعبدوا إلا إياه علماً بأنه الواحد الفرد الصمد الإله وتحقيقاً بأن جميع أصناف الخلق عباد أمثالهم لا يبتغي عندهم الرزق، وأنه ما من ذرة إلا إلى الله خلقها، وما من دابة إلا على الله رزقها؛ فلما تحققوا أنه لرزق عباده ضامن وبه كفيل توكلوا عليه فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
والصلاة على محمد قامع الأباطيل، الهادي إلى سواء السبيل، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً


أما بعد فإن التوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين، بل هو من معالي درجات المقربين وهو في نفسه غامض من حيث العلم، ثم هو شاق من حيث العمل، ووجه غموضه من حيث الفهم أن ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد، والتثاقل عنها بالكلية طعن في ألسنة وقدح في الشرع، والاعتماد على الأسباب من غير أن ترى أسباباً تغيير في وجه العقل، وانغماس في غمرة الجهل، وتحقيق معنى التوكل على وجه يتوافق فيه مقتضى التوحيد والنقل والشرع في غاية الغموض والعسر، ولا يقوى على كشف هذا الغطاء مع شدة الخفاء إلا سماسرة العلماء الذين اكتحلوا من فضل الله تعالى بأنوار الحقائق فأبصروا وتحققوا ثم نطقوا بالإعراب عما شاهدوه من حيث استنطقوا. ونحن الآن نبدأ بذكر فضيلة التوكل على سبيل التقدمة، ثم نردفه بالتوحيد في الشطر الأول من الكتاب، ونذكر حال التوكل وعمله في الشطر الثاني.

[align=center]بيان فضيلة التوكل[/align]

أما من الآيات: فقد قال تعالى: " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ".
وقال عز وجل: " وعلى الله فليتوكل المتوكلون ".
وقال تعالى: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه ".
وقال سبحانه وتعالى: " إن الله يحب المتوكلين " وأعظم بمقام موسوم بمحبة الله تعالى صاحبه، ومضمون كفاية الله تعالى ملابسه، فمن الله تعالى حسبه وكافيه ومحبه ومراعيه: فقد فاز الفوز العظيم، فإن المحبوب لا يعذب ولا يبعد ولا يحجب.
وقالت تعالى: " أليس الله بكاف عبده ". فطالب الكفاية من غيره والتارك للتوكل هو المكذب لهذه الآية. فإنه سؤال في معرض استنطاق بالحق، كقوله تعالى: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ".
وقال عز وجل: " ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ".
أي عزيز لا يذل من استجار به، ولا يضيع من لاذ بجنابه والتجأ إلى ذمامه وحماه، وحكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره.
وقال تعالى: " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ". بين أن كل ما سوى الله تعالى عبد مسخر. حاجته مثل حاجتكم فكيف من يتوكل عليه.
وقال تعالى: " إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه ".
وقال عز وجل: " ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ".
وقال عز وجل: " يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ".
وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد فهو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار والتوكل على الواحد القهار.
وأما الأخبار: فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود: " أريت الأمم في الموسم فرأيت أمتي قد ملأوا السهل والجبل فأعجبتني كثرتهم وهيأتهم، فقيل لي: أرضيت؟ قلت: نعم، قيل: ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب " قيل: من هم يا رسول الله، قال: "الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة وقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " اللهم اجعله منهم " فقال آخر فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " سبقك بها عكاشة".
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً".
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " من انقطع إلى الله عز وجل كفاه الله تعالى كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها".
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " من سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما عند الله أوثق منه بما في يديه".
ويروى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: "قوموا إلى الصلاة " ويقول: " بهذا أمرني ربي عز وجل قال عز وجل: " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها " الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: لم يتوكل من استرقى واكتوى".
وروي أنه لما قال جبريل لإبراهيم عليهما السلام وقد رمي إلى النار بالمنجنيق: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وفاءً بقوله حسبي الله ونعم الوكيل، إذا قال ذلك حين أخذ ليرمى، فأنزل الله تعالى: " وإبراهيم الذي وفى ".
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود، ما من عبد يعتصم بي دون خلقي فتكيده السموات والأرض إلا جعلت له مخرجاً وأما الآثار: فقد قال سعيد بن جبير: لدغتني عقرب فأقسمت علي أمي لتسترقين، فناولت الراقي يدي التي لم تلدغ.
وقرأ الخواص قوله تعالى: " وتوكل على الحي الذي لا يموت " إلى آخر، فقال: ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى.
وقيل لبعض العلماء في منامه: من وثق بالله تعالى فقد أحرز قوته.
وقال بعض العلماء: لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلا ما قد كتب الله لك.
وقال يحيى بن معاذ: في وجود العبد الرزق من غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد.
وقال إبراهيم بن أدهم: سألت بعض الرهبان: من أين تأكل؟ فقال لي: ليس هذا العلم عندي ولكن سل ربي من أين يطعمني؟.
وقال هرم بن حيان لأويس القرني: أين تأمرني أن أكون؟ فأومأ إلى الشام. قال هرم: كيف المعيشة؟ قال أويس: أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة.
وقال بعضهم: متى رضيت بالله وكيلاً وجدت إلى كل خير سبيلاً، نسأل الله تعالى حسن الأدب.


[align=center]الشطر الأول
في التوحيد
بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل
[/align]


اعلم أن التوكل من باب الإيمان، وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل، والتوكل كذلك ينتظم من - علم - هو الأصل و - عمل- هو الثمرة و - حال - هو المراد باسم التوكل.
فلنبدأ ببيان العلم الذي هو الأصل وهو المسمى إيماناً في أصل اللسان إذ الإيمان هو التصديق، وكل تصديق بالقلب فهو علم، وإذا قوي سمي يقيناً، ولكن أبواب اليقين كثيرة، ونحن إنما نحتاج منها إلى ما نبني عليه التوكل وهو التوحيد الذي يترجمه قولك: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له " والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك " له الملك " والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك " وله الحمد "، فمن قال " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل، أعني أن يصير معنى هذا القول وصفاً لازماً لقلبه غالباً عليه، فأما التوحيد فهو الأصل والقول فيه يطول، وهو من علم المكاشفة، ولكن بعض علوم المكاشفات متعلق بالأعمال بواسطة الأحوال، ولا يتم علم المعاملة إلا بها، فإذن لا تتعرض إلا للقدر الذي يتعلق بالمعاملة، وإلا فالتوحيد هو البحر الخضم الذي لا ساحل له، فنقول: للتوحيد أربع مراتب، وينقسم إلى لب، وإلى لب اللب، وإلى قشر، وإلى قشر القشر. ولنمثل ذلك تقريباً إلى الأفهام الضعيفة بالجوز في قشرته العليا فإن له قشرتين، وله لب، وللب دهن هو لب اللب: فالرتبة الأولى من التوحيد: هي أن يقول الإنسان بلسانه " لا إله إلا الله " وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين.
والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام.
والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية الفناء في التوحيد، لأنه من حيث لا يرى إلا واحداً فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانياً عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق، فالأول موحد بمجرد اللسان ويعصم ذلك لصاحبه في الدنيا عن السيف والسنان. والثاني موحد بمعنى أنه معتقد بقلبه مفهوم لفظه وقلبه خال عن التكذيب بما انعقد عليه قلبه وهو عقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة إن توفي عليه ولم تضعف بالمعاصي عقدته، ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة، وله حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتضعيف ويقصد بها أيضاً إحكام هذه العقدة وشدها على القلب وتسمى كلاماً، والعارف به يسمى متكلماً، وهو في مقابلة المبتدع ومقصده دفع المبتدع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوام، وقد يخص المتكلم باسم الموحد من حيث إنه يحمي بكلامه مفهوم لفظ التوحيد على قلوب العوام حتى لا تنحل عقدته. والثالث موحد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلاً واحداً إذا انكشف له الحق كما هو عليه، ولا يرى فاعلاً بالحقيقة إلا واحداً وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، لأنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين، إذ لم يفارق المتكلم العامي في الاعتقاد بل في صفة تلفيق الكلام الذي به حيل المبتدع عن تحليل هذه العقدة. والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير بل من حيث إنه واحد، وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد؛ فالأول كالقشرة العليا من الجوز، والثاني كالقشرة السفلى، والثالث كاللب، والرابع كالدهن المستخرج من اللب. وكما أن القشرة العليا من الجوز لا خير فيها بل إن أكل فهو مر المذاق، وإن نظر إلى باطنه فهو كريه المنظر، وإن اتخذ حطباً أطفأ النار وأكثر الدخان، وإن ترك في البيت ضيق المكان فلا يصلح إلا أن يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى به عنه فكذلك التوحيد بمجرد اللسان دون التصديق بالقلب عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر والباطن؛ لكنه ينفع مدة في حفظ القشرة السفلى إلى وقت الموت: والقشرة السفلى هي القلب والبدن. وتوحيد المنافق يصون بدنه عن سيف الغزاة فإنهم لم يؤمروا بشق القلوب، والسيف إنما يصيب جسم البدن وهو القشرة وإنما يتجرد عنه بالموت فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده، وكما أن القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة إلى القشرة العليا فإنها تصون اللب وتحرسه عن الفساد عند الادخار، وإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطباً لكنها نازلة القدر بالإضافة إلى اللب، وكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع بالإضافة إلى مجرد نطق اللسان ناقص القدر بالإضافة إلى الكشف والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفساحه وإشراق نور الحق فيه، إذ ذاك الشرح هو المراد بقوله تعالى: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام " وبقوله عز وجل: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه " وكما أن اللب نفيس في نفسه بالإضافة إلى القشر وكله المقصود، ولكنه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة إلى الدهن المستخرج منه، فكذلك توحيد الفعل مقصد عال للسالكين لكنه لا يخلو عن شوب ملاحظة الغير والالتفات إلى الكثرة بالإضافة إلى من لا يشاهد سوى الواحد الحق فإن قلت: كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحد وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة، فكيف يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات. وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون: إفشاء سر الربوبية كفر، ثم هو غير متعلق بعلم المعاملة، نعم ذكر ما يكسر سورة استبعادك ممكن، وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدة واعتبار، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار، وهذا كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد إذ نقول إنه إنسان واحد، فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد، وكم من شخص يشاهد إنساناً ولا يخطر بباله كثرة أمعائه وعروقه وأطرافه وتفصيل روحه وجسده وأعضائه، والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرق بواحد ليس فيه تفريق وكأنه في عين الجمع، والملتفت إلى الكثرة في تفرقه، فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد، وباعتبارات أخر سواء كثير، وبعضها أشد كثرة من بعض، ومثاله الإنسان وإن كان لا يطابق الغرض ولكنه ينبه في الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحداً، ويستبين بهذا الكلام ترك الإنكار والجحود لمقام لم تبلغه به إيمان تصديق، فيكون لك من حيث إنك مؤمن بهذا التوحيد نصيب، وإن لم يكن ما آمنت به صفتك كما أنك إذا آمنت بالنبوة وإن لم تكن نبياً كان لك نصيب منه بقدر قوة إيمانك، وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق تارة تدوم وتارة تطرأ كالبرق الخاطف وهو الأكثر، والدوام نادر عزيز وإلى هذا أشار الحسين بن منصور الحلاج حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال: فيماذا أنت؟ فقال: أدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل وقد كان من المتوكلين، فقال الحسين: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد؟ فكأن الخواص كان في تصحيح المقام الثالث في التوحيد، فطالبه بالمقام الرابع، فهذه مقامات الموحدين في التوحيد على سبيل الإجمال فإن قلت: فلا بد لهذا من شرح بمقدار ما يفهم كيفية ابتناء التوكل عليه! فأقول أما الرابع فلا يجوز الخوض في بيانه، وليس التوكل أيضاً مبنياً عليه، بل يحصل حال التوكل بالتوحيد الثالث. وأما الأول وهو النفاق فواضح وأما الثاني وهو الاعتقاد فهو موجود في عموم المسلمين، وطريق تأكيده بالكلام ودفع حيل المبتدعة فيه مذكور في عالم الكلام، وقد ذكرنا في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد القدر المهم منه. وأما الثالث: فهو الذي يبني عليه التوكل، فلنذكر منه القدر الذي يرتبط التوكل به دون تفصيله الذي لا يحتمله أمثال هذا الكتاب. وحاصله: أن ينكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى، وأن كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وموت وغنى وفقر إلى غير ذلك مما ينطلق عليه اسم فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو الله عز وجل لا شريك له فيه، وإذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره بل كان منه خوفك وإليه رجاؤك وبه ثقتك وعليه اتكالك، فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره، وما سواه مسخرون لا استقلال لهم بتحريك ذرة من ملكوت السموات والأرض، وإذا انفتحت لك أبواب المكاشفة اتضح لك هذا اتضاحاً أتم من المشاهدة بالبصر، وإنما يصدك الشيطان عن هذا التوحيد في مقام يبتغي به أن يطرق إلى قلبك شائبة الشرك بسببين: أحدهما الالتفات إلى اختيار الحيوانات. والثاني الالتفات إلى الجمادات، وأما الالتفات إلى الجمادات فكاعتمادك على المطر في خروج الزرع ونباته ونمائه، وعلى الغيم في نزول المطر، وعلى البرد في اجتماع الغيم، وعلى الريح في استواء السفينة وسيرها: وهذا كله شرك في التوحيد وجهل بحقائق الأمور، ولذلك قال تعالى: " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون " قيل: معناه أنهم يقولون لولا استواء الريح لما نجونا. ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه علم أن الريح هو الهواء والهواء لا يتحرك ما لم يحركه محرك، وكذلك محركه، وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا هو متحرك في نفسه عز وجل؛ فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهي التفات من أخذ لتحز رقبته فكتب الملك توقيعاً بالعفو عنه وتخليته، فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي به كتب التوقيع يقول: لولا القلم لما تخلصت، فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم وهو غاية الجهل، ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه وإنما هو مسخر في يد الكاتب لم يلتفت إليه ولم يشكر إلا الكاتب، بل ربما يدهشه فرح النجاة وشكر الملك والكاتب من أن يخطر بباله القلم والحبر والدواة والشمس والقمر والنجوم والمطر والغيم والأرض، وكل حيوان وجماد مسخرات في قبضة القدرة كتسخيرة القلم في يد الكاتب، بل هذا تمثيل في حقك لاعتقادك أن الملك الموقع هو الكاتب للتوقيع، والحق أن الله تبارك وتعالى هو الكاتب لقوله تعالى: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " فإذا انكشف لك أن جميع ما في السموات والأرض مسخرات على هذا الوجه انصرف عنك الشيطان خائباً وأيس عن مزج توحيدك بهذا الشرك، فأتاك في المهلكة الثانية وهي الالتفات إلى اختيار الحيوانات في الأفعال الاختيارية ويقول: كيف ترى الكل من الله وهذا الإنسان يعطيك رزقك باختياره؛ فإن شاء أعطاك وإن شاء قطع عنك، وهذا الشخص هو الذي يحز رقبتك بسيفه وهو قادر عليك إن شاء حز رقبتك وإن شاء عفا عنك، فكيف لا تخافه، وكيف لا ترجوه وأمرك بيده وأنت تشاهد ذلك ولا تشك فيه، ويقول له أيضاً نعم إن كنت لا ترى القلم لأنه مسخر فكيف لا ترى الكاتب بالقلم وهو المسخر له، وعند هذا زل أقدام الأكثرون إلا عباد الله المخلصين الذين لا سلطان عليهم للشيطان اللعين فشاهدوا بنور البصائر كون الكاتب مسخراً مضطراً، كما شاهد جميع الضعفاء كون القلم مسخراً، وعرفوا أن غلط الضعفاء في ذلك كغلط النملة مثلاً لو كانت تدب على الكاغد فترى رأس القلم يسود الكاغد، ولم يمتد بصرها إلى اليد والأصابع فضلاً عن صاحب اليد فغلطت وظنت القلم هو المسود للبياض، وذلك لقصور بصرها عن مجاوزة رأس القلم لضيق حدقتها، فكذلك من لم ينشرح بنور الله تعالى صدره للإسلام قصرت عن ملاحظة جبار السموات والأرض ومشاهدة كونه قاهراً وراء الكل فوقف في الطريق على الكاتب وهو جهل محض، بل أرباب القلوب والمشاهدات قد أنطق الله تعالى في حقهم كل ذرة في السموات والأرض بقدرته التي بها نطق كل شيء حتى سمعوا تقديسها وتسبيحها لله تعالى وشهادتها على نفسها بالعجز بلسان ذلق تتكلم بلا حرف ولا صوت لا يسمعه الذين هم عن السمع معزولون، ولست أعني به السمع الظاهر الذي لا يجاوز بالأصوات، فإن الحمار شريك فيه، ولا قدر لما يشارك فيه البهائم، وإنما أريد به سمعاً يدرك به كلام ليس بحرف ولا صوت ولا هو عربي ولا عجمي فإن قلت: فهذه أعجوبة لا يقبلها العقل فصف لي كيفية نطقها وأنها كيف نطقت وبماذا نطقت، وكيف سبحت وقدست، وكيف شهدت على نفسها بالعجز؟ فاعلم أن لكل ذرة في السماوات والأرض مع أرباب القلوب مناجاة في السر، وذلك مما لا ينحصر ولا يتناهى، فإنها كلمات تستمد من بحر كلام الله تعالى الذي لا نهاية له: " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر " الآية، ثم إنها تتناجى بأسرار الملك والملكوت، وإفشاء السر لؤم، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، وهل رأيت قط أميناً على أسرار ملك قد نوجي بخفاياه فنادى بسره على ملأ من الخلق، ولو جاز إفشاء كل سر لنا لما قال صلى الله عليه وسلم: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" بل كان يذكر ذلك لهم حتى يبكون ولا يضحكون. ولما نهى عن إفشاء سر القدرولما قال: " إذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا"، ولما خص حذيفة رضي الله عنه ببعض الأسرار. فإذن عن حكايات مناجاة ذرات الملك والملكوت لقلوب أرباب المشاهدات مانعان: أحدهما استحالة إفشاء السر، والثاني: خروج كلماتها عن الحصر والنهاية، ولكنا في المثال الذي كنا - وهي حركة القلم - تحكي من مناجاتها قدراً يسيراً يفهم به على الإجمال كيفية ابتناء التوكل عليه؛ ونرد كلماتها إلى الحروف والأصوات وإن لم تكن حروفاً وأصواتاً، ولكن هي ضرورة التفهيم فنقول: قال بعض الناظرين عن مشكاة نور الله تعالى للكاغد وقد رآه اسود وجهه بالحبر: ما بال وجهك كان أبيض مشرقاً والآن قد ظهر عليه السواد؟ فلم سودت وجهك؟ وما السبب فيه؟ فقال الكاغد: ما انصفتني في هذه المقالة! فإني ما سودت وجهي بنفسي ولكن سل الحبر فإنه كان مجموعاً في المحبرة التي هي مستقره ووطنه فسافر عن الوطن ونزل بساحة وجهي ظلماً وعدواناً! فقال: صدقت، فسأل الحبر عن ذلك فقال: ما أنصفتني فإني كنت في المحبرة وادعاً ساكناً عازماً على أن لا أبرح منها، فاعتدى علي القلم بطمعه الفاسد، واختطفني من وطني وأجلاني عن بلادي وفرق جمعي وبددني كما ترى على ساحة بيضاء، فالسؤال عليه لا علي! فقال: صدقت، ثم سأل القلم عن السبب في ظلمه وعدوانه وإخراج الحبر من أوطانه فقال: سل اليد والأصابع فإني كنت قصباً نابتاً على شط الأنهار متنزهاً بين خضرة الأشجار، فجاءتني اليد بسكين فنحت عن قشري ومزقت عن ثيابي واقتلعتني من أصلي وفصلت بين أنابيبي، ثم برتني وشقت رأسي؛ ثم غمستني في سواد الحبر ومرارته وهي تستخدمني وتمشيني على قمة رأسي، ولقد نثرت الملح على جرحي بسؤالك وعتابك، فتنح عني وسل من قهرني، فقال: صدقت، ثم سأل اليد عن ظلمها وعدوانها على القلم واستخدامها له، فقالت اليد: ما أنا إلا لحم وعظم ودم، وهل رأيت لحماً يظلم أو جسماً يتحرك بنفسه؟ وإنما أنا مركب مسخر ركبني فارس يقال له القدرة والعزة، فهي التي ترددني، وتجول بي في نواحي الأرض، أما ترى المدر والحجر والشجر لا يتعدى شيء منها مكانه ولا يتحرك بنفسه إذ لم يركبه مثل هذا الفارس القوي القاهر، أما ترى أيدي الموتى تساويني في صورة اللحم والعظم والدم، ثم لا معاملة بينها وبين القلم، فأنا أيضاً من حيث أنا لا معاملة بيني وبين القلم، فسل القدرة عن شأني فإني مركب أزعجني من ركبني، فقال: صدقت، ثم سأل القدرة عن شأنها في استعمالها اليد وكثرة استخدامها وترديدها، فقالت: دع عنك لومي ومعاتبتي، فكم من لائم ملوم، وكم من ملوم لا ذنب له، وكيف خفي عليك أمري؟ وكيف ظننت أني ظلمت اليد لما ركبتها وقد كنت لها راكبة قبل التحريك، وما كنت أحركها ولا أستسخرها، بل كنت نائمة ساكنة نوماً ظن الظانون بي أني ميتة أو معدومة، لأني ما كنت أتحرك ولا أحرك حتى جاءني موكل أزعجني وأرهقني إلى ما تراه مني، فكانت لي قوة على مساعدته، ولم تكن لي قوة على مخالفته، وهذا الموكل يسمى الإرادة، ولا أعرفه إلا باسمه وهجومه وصياله، إذ أزعجني من غمرة النوم وأرهقني إلى ما كان لي مندوحة عنه لو خلاني ورأيي، فقال: صدقت ثم سأل الإرادة ما الذي جرأك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة حتى صرفتها وأرهقتها إليه إرهاقاً فلم تجد عنه مخلصاً ولا مناصاً؟ فقالت الإرادة: لا تعجل علي فلعل لنا عذراً وأنت تلوم، فإني ما انتهضت بنفسي ولكن أنهضت وما انبعثت ولكني بعثت بحكم قاهر وأمر جازم وقد كنت ساكنة قبل مجيئه ولكن ورد علي من حضرة القلب رسول العلم على لسان العقل بالإشخاص للقدرة فأشخصتها باضطرار فإني مسكينة مسخرة تحت قهر العلم والعقل، ولا أدري بأي جرم وقفت عليه وسخرت له وألزمت طاعته، لكني أدري أني في دعة وسكون ما لم يرد علي هذا الوارد القاهر، وهذا الحاكم العادل أو الظالم وقد وقفت عليه وألزمت طاعته إلزاماً، بل لا يبقى لي معه مهما جزم حكمه طاقة على المخالفة، لعمري ما دام هو في التردد مع نفسه والنحير في حكمه، فأنا ساكنة لكن مع استشعار وانتظار لحكمه، فإذا انجزم حكمه أزعجت بطبع وقهر تحت طاعته وأشخصت القدرة لتقوم بموجب حكمه، فسل العلم عن شأني ودع عني عتابك، فإني كما قال القائل:


[poet font="Andalus,4,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/11.gif" border="double,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
متى ترحلت عنقومٍ وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم
[/poet]

فقال: صدقت، وأقبل على العلم والعقل مطالباً لهم ومعاتباً إياهم على استنهاض الإرادة وتسخيرها لإشخاص القدرة، فقال العقل: أما أنا فسراج ما اشتعلت بنفسي ولكن أشعلت، وقال القلب: أما أنا فلوح ما انبسطت بنفسي ولكن بسطت، وقال العلم: أما أنا فنقش نقشت في بياض لوح القلب لما أشرق سراج العقل وما انخططت بنفسي، فكم كان هذا اللوح قبل خالياً عني، فسل القلم عني لأن الخط لا يكون إلا بالقلم، فعند ذلك تتعتع السائل ولم يقنعه جواب وقال: قد طال تعبي في هذا الطريق وكثرت منازلي ولا يزال يحيلني من طمعت في معرفة هذا الأمر منه على غيره، ولكني كنت أطيب نفساً بكثرة الترداد لما كنت أسمع كلاماً مقبولاً لا في الفؤاد وعذراً ظاهراً في دفع السؤال، فأما قولك: إني خط ونقش، وإنما خطني قلم فلست أفهمه فإني لا أعلم قلماً إلا من القصب، ولا لوحاً إلا من الحديد أو الخشب، ولا خطاً إلا بالحبر، ولا سراجاً إلا من النار، وإني لأسمع في هذا المنزل حديث اللوح والسراج والخط والقلم ولا أشاهد من ذلك شيئاً؛ أسمع جعجعة ولا أرى طحناً. فقال له القلم: إن صدقت فيما قلت فبضاعتك مزجاة وزادك قليل ومركبك ضعيف، واعلم أن المهالك في الطريق التي توجهت إليها كثيرة: فالصواب لك أن تنصرف وتدع ما أنت فيه، فما هذا يعشك، فأدرج عنه فكل ميسر لما خلق له، وإن كنت راغباً في استتمام الطريق إلى المقصد فألق معك وأنت شهيد. واعلم أن العوالم في طريقك هذا ثلاثة: عالم الملك والشهادة أولها، ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد من هذا العالم، وقد جاوزت تلك المنازل على سهولة، والثاني عالم الملكوت وهو ورائي، فإذا جاوزتني انتهيت إلى منازله وفيه المهامة الفيح والجبال الشاهقة والبحار المغرقة، ولا أدري كيف تسلم فيها، والثالث هو عالم الجبروت وهو بين عالم الملك وعالم الملكوت، ولقد قطعت منها ثلاث منازل في أوائلها منزلة القدرة والإرادة والعلم، وهو واسطة بين عالم الملك والشهادة والملكوت، لأن عالم الملك أسهل منه طريقاً، وعالم الملكوت أوعر منه منهجاً، وإنما عالم الجبروت بين عالم الملك وعالم الملكوت يشبه السفينة التي هي في الحركة بين الأرض والماء، فلا هي في حد اضطراب الماء، ولا هي في حد سكون الأرض وثبوتها، وكل من يمشي على الأرض في عالم الملك والشهادة؛ فإن جاوزت قوته إلى أن يقوى على ركوب السفينة كان كمن يمشي في عالم الجبروت؛ فإن انتهى إلى أن يمشي على الماء من غير سفينة مشى في عالم الملكوت من غير تتعتع، فإن كنت لا تقدر على المشي على الماء فانصرف فقد جاوزت الأرض وخلفت السفينة ولم يبق بين يديك إلا الماء الصافي، وأول عالم الملكوت مشاهدة القلم الذي يكتب به العلم في لوح القلب وحصول اليقين الذي يمشي به على الماء، أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام " لو زاد يقيناً لمشي على الهواء" لما قيل له إنه كان يمشي على الماء، فقال السالك السائل: قد تحيرت في أمري واستشعر قلبي خوفاً مما وصفته من خطر الطريق، ولست أدري أطيق قطع هذه المهامة التي وصفتها أم لا؟ فهل لذلك من علامة؟ قال: نعم، افتح بصرك واجمع ضوء عينيك وحدقه نحوي فإن ظهر لك القلم الذي به أكتب في لوح القلب فيشبه أن تكون أهلاً لهذا الطريق، فإن كل من جاوز عالم الجبروت وقرع باباً من أبواب الملكوت كوشف بالقلم، أما ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره كوشف بالقلم إذ أنزل عليه " اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم " فقال السالك: لقد فتحت بصري وحدقته، فوالله ما أرى قصباً ولا خشباً، ولا أعلم قلماً إلا كذلك، فقال العلم: لقد أبعدت النجعة، أما سمعت أن متاع البيت يشبه رب البيت، أما علمت أن الله تعالى لا تشبه ذاته سوائر الذوات، فكذلك لا تشبه يده الأيدي ولا قلمه الأقلام ولا كلامه سائر الكلام ولا خطه سائر الخطوط، وهذه أمور إلهية من عالم الملكوت، فليس الله تعالى في ذاته بجسم ولا هو في مكان بخلاف غيره، ولا يده لحم وعظم ودم بخلاف الأيدي، ولاقلمه من قصب، ولا لوحه من خشب، ولا كلامه بصوت وحرف، ولا خطه رقم ورسم، ولا حبره زاج وعفص، فإن كنت لا تشاهد هذا هكذا فما أراك إلا مخنثاً بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه، مذبذباً بين هذا وذا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فكيف نزهت ذاته وصفاته تعالى عن الأجسام وصفاتها؟ ونزهت كلامه عن معاني الحروف والأصوات وأخذت تتوقف في يده وقلمه ولوحه وخطه؟ فإن كنت قد فهمت من قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم على صورته "، الصورة الظاهرة المدركة بالبصر فكن مشبهاً مطلقاً، كما يقال: كن يهودياً صرفاً وإلا فلا تلعب بالتوراة، وإن فهمت منه الصورة الباطنة التي تدرك بالبصائر لا بالأبصار فكن منزهاً صرفاً ومقدساً فخلا، واطو الطريق فإنك بالواد المقدس طوى، واستمع بسر قلبك لما يوحى، فلعلك تجد على النار هدى، ولعلك من سرادقات العرش تنادي بما نودي به موسى " إني أنا ربك " فلما سمع السالك من العلم ذلك استشعر قصور نفسه وأنه مخنث بين التشبيه والتنزيه، فاشتعل قلبه ناراً من حدة غضبه على نفسه لما رآها بعين النقص، ولقد كان زيته الذي في مشكاة قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فلما نفخ فيه العلم بحدته اشتعل زيته فأصبح نوراً على نور، فقال له العلم: اغتنم الآن هذه الفرصة وافتح بصرك لعلك تجد على النار هدى، ففتح بصره فانكشف له القلم الإلهي، فإذا هو كما وصفه العلم في التنزيه، ما هو من خشب ولا قصب، ولا له رأس ولا ذنب، وهو يكتب على الدوام في قلوب البشر كلهم أصناف العلوم؛ وكأن له في كل قلب رأساً ولا رأس له، فقضى منه العجب وقال: نعم الرفيق العلم، فجزاه الله تعالى عني خيراً، إذ الآن ظهر لي صدق أنبائه عن أوصاف القلم؛ فإني أراه قلماً لا كالأقلام، فعند هذا ودع العلم وشكره، وقال: قد طال مقامي عندك ومرادتي لك، وأنا عازم على أن أسافر إلى حضرة القلم وأسأله عن شأنه، فسافر إليه وقال له: ما بالك أيها القلم تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الإرادات إلى أشخاص القدر وصرفها إلى المقدورات؟ فقال: أو قد نسيت ما رأيت في عالم الملك والشهادة وسمعت من جواب القلم إذ سألته فأحالك على اليد؟ قال: لم أنس ذلك. قال: فجوابي مثله جوابه، قال: كيف وأنت لا تشبهه؟ قال القلم: أما سمعت أن الله تعالى خلق آدم على صورته؟ قال: نعم، قال فسل عن شأني الملقب بيمين الملك فإني في قبضته، وهو الذي يرددني وأنا مقهور مسخر، فلا فرق بين القلم الإلهي، وقلم الآدمي في معنى التسخير، وإنما الفرق في ظاهر الصورة، فقال: فمن يمين الملك؟ فقال القلم: أما سمعت قوله تعالى: "والسموات مطويات بيمينه " ؟ قال: نعم، قال: والأقلام أيضاً في قبضة يمينه هو الذي يرددها، فسافر السالك من عنده إلى اليمين حتى شاهده ورأى من عجائبه ما يزيد على عجائب القلم ولا يجوز وصف شيء من ذلك ولا شرحه، بل لا تحوي مجلدات كثيرة عشر عشير وصفه، والجملة فيه أنه يمين لا كالإيمان، ويد لا كالأيدي، وإصبع لا كالأصابع، فرأى القلم محركاً في قبضته، فظهر له عذر القلم، فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم؟ فقال: جوابي مثل ما سمعته من اليمين التي رأيتها في عالم الشهادة وهي الحوالة على القدرة، إذ اليد لا حكم لها في نفسها وإنما محركها القدرة لا محالة، فسافر السالك إلى عالم القدرة ورأى فيه من العجائب ما استحقر عندها ما قبله وسألها عن تحريك اليمين فقالت: إنما أنا صفة فاسأل القادر، إذ العمدة على الموصوفات لا على الصفات، وعند هذا كاد أن يزيغ ويطلق بالجراءة لسان السؤال، فثبت بالقول الثابت ونودي من وراء حجاب سرادقات الحضرة " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " فغشيته هيبة الحضرة، فخر صعقاً يضطرب في غشيته، فلما أفاق قال: سبحانك ما أعظم شأنك تبت إليك وتوكلت عليك وآمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار، فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك ولا أعوذ إلا بعفوك من عقابك وبرضاك من سخطك، وما لي إلا أن أسألك وأتضرع إليك وأبتهل بين يديك، فأقول: اشرح لي صدري لأعرفك واحلل عقدة من لساني لأثني عليك، فنودي من وراء الحجاب: إياك أن تطمع في الثناء وتزيد على سيد الأنبياء، بل ارجع إليه فما آتاك فخذه وما نهاك عنه فانته عنه، وما قاله لك فقله؛ فإنه ما زاد في هذه الحضرة على أن قال: " سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" فقال: إلهي إن لم يكن للسان جرأة على الثناء عليك فهل للقلب مطمع في معرفتك، فنودي: إياك أن تتخطى رقاب الصديقين، فارجع إلى الصديق الأكبر فاقتد به؛ فإن أصحاب سيد الأنبياء كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، أما سمعته يقول: العجز عن دركالإدراك إدراك، فيكفيك نصيباً من حضرتنا أن تعرف أنك محروم عن حضرتنا عاجز عن ملاحظة جمالنا وجلالنا، فعند ذلك رجع السالك واعتذر عن أسئلته ومعاتباته وقال لليمين والقلم والعلم والإرادة والقدرة وما بعدها: اقبلوا عذري فإني كنت غريباً حديث العهد بالدخول في هذه البلاد ولكل داخل دهشة، فما كان إنكاري عليكم إلى عن قصور وجهل، والآن قد صح عندي عذركم وانكشف لي أن المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار، فما أنتم إلا مسخرون تحت قهره وقدرته، مرددون في قبضته وهو الأول والآخر والظاهر والباطن؛ فلما ذكر ذلك عالم الشهادة استبعد منه ذلك وقيل له: كيف يكون هو الأول والاخر وهما وصفان متناقضان، وكيف يكون هو الظاهر والباطن؛ فالأول ليس بآخر، والظاهر ليس بباطن؛ فقال: بالإضافة إلى الموجودات، إذ صدر منه الكل على ترتيبه واحداً بعد واحد، وهو الآخر بالإضافة إلى سير السائرين إليه فإنهم لا يزالون مترقين من منزل إلى منزل إلى أن يقع الانتهاء إلى تلك الحضرة، فيكون ذلك آخر السفر، فهو آخر في المشاهدة أول في الوجود، وهو باطن بالإضافة إلى العاكفين في عالم الشهادة الطالبين لإدراكه بالحواس الخمس، ظاهر بالإضافة إلى من يطلبه في السراج الذي اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة في عالم الملكوت، فهذا كان توحيد السالكين لطريق التوحيد في الفعل: أعني من انكشف له أن الفاعل واحد فإن قلت: قد انتهى هذا التوحيد إلى أنه يبتنى على الإيمان بعالم الملكوت، فمن لم يفهم ذلك أو يجحده فما طريقه؟ فأقول: أما الجاحد فلا علاج له إلا أن يقال له: إنكارك لعالم الملكوت كإنكار السمنية لعالم الجبروت، وهم الذين حصروا العلوم في الحواس الخمس، فأنكروا القدرة والإرادة والعلم لأنها لا تدرك بالحواس الخمس، فلازموا حضيض عالم الشهادة بالحواس الخمس، فإن قال: وأنا منهم فإني لا أهتدي إلا إلى عالم الشهادة بالحواس الخمس ولا أعلم شيئاً سواه، فيقال: إنكارك لما شاهدناه مما وراء الحواس الخمس كإنكار السوفسطائية للحواس الخمس، فإنهم قالوا: ما نراه لا نثق به، فلعلنا نراه في المنام، فإن قال: وأنا من جملتهم فإني شاكٍ أيضاً في المحسوسات فيقال: هذا شخص فسد مزاجه وامتنع علاجه، فيترك أياماً قلائل، وما كل مريض يقوى على علاجه الأطباء: هذا حكم الجاحد. وأما الذي لا يجحد ولكن لا يفهم، فطريق السالكين معه أن ينظروا إلى عينه التي يشاهد بها عالم الملكوت، فإن وجدوها صحيحة في الأصل وقد نزل فيها ماء أسود يقبل الإزالة والتنقية اشتغلوا بتنقيته اشتغال الكحال بالأبصار الظاهرة، فإذا استوى بصره أرشد إلى الطريق ليسلكها كما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم بخواص أصحابه، فإن كان غير قابل للعلاج فلم يمكنه أن يسلك الطريق الذي ذكرناه في التوحيد ولم يمكنه أن يسمع كلام ذرات الملك والملكوت بشهادة التوحيد كلموه بحرف وصوت وردوا ذروة التوحيد إلى حضيض فهمه فإن في عالم الشهادة أيضاً توحيداً، إذ يعلم كل أحد أن المنزل يفسد بصاحبين، والبلد يفسد بأميرين، فيقال له على حد عقله إله العالم واحد والمدبر واحد، إذ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فيكون ذلك على ذوق ما رآه في عالم الشهادة، فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه بهذا الطريق اللائق بقدر عقله، وقد كلف الله الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم، ولذلك نزل القرآن بلسان العرب على حد عادتهم في المحاورة.
فإن قلت: فمثل هذا التوحيد الاعتقادي هل يصلح أن يكون عماداً للتوكل وأصلاً فيه؟ فأقول: نعم، فإن الاعتقاد إذا قوي عَمِلَ عَمَلَ الكشف في إثارة الأحوال إلا أنه في الغالب يضعف ويتسارع إليه الاضطراب والتزلزل غالباً، ولذلك يحتاج صاحبه إلى متكلم يحرسه بكلامه، أو إلى أن يتعلم هو الكلام ليحرس به العقيدة التي تلقنتها من أستاذه أو من أبويه أو من أهل بلده. وأما الذي شاهد الطريق وسلكه بنفسه فلا يخاف عليه شيء من ذلك بل لو كشف الغطاء لما ازداد يقيناً وإن كان يزداد وضوحاً، كما أن الذي يرى إنساناً في وقت الإسفار لا يزداد يقيناً عند طلوع الشمس بأنه إنسان ولكن يزداد وضوحاً في تفصيل خلقته، وما مثال المكاشفين والمعتقدين إلا كسحرة فرعون مع أصحاب السامري؛ فإن سحرة فرعون لما كانوا مطلعين على منتهى تأثير السحر لطول مشاهدتهم وتجربتهم رأوا من موسى عليه السلام ما جاوز حدود السحر وانكشف لهم حقيقة الأمر فلم يكترثوا بقول فرعون " لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " بل " قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " فإن البيان والكشف يمنع التغيير وأما أصحاب السامري لما كان إيمانهم عن النظر إلى ظاهر الثعبان، فلما نظروا إلى عجل السامري وسمعوا خواره تغيروا وسمعوا قوله " هذا إلهكم وإله موسى " ونسوا أنه لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً: فكل من آمن بالنظر إلى ثعبان يكفر لا محالة إذا نظر إلى عجل، لأن كليهما من عالم الشهادة والاختلاف والتضاد في عالم الشهادة كثير. وأما عالم الملكوت فهو من عند الله تعالى فلذلك لا نجد فيه اختلافاً وتضاداً أصلاً .فإن قلت: ما ذكرته من التوحيد ظاهر مهما ثبت أن الوسائط والأسباب مسخرات، وكل ذلك ظاهر إلا في حركات الإنسان فإنه يتحرك إن شاء ويسكن إن شاء، فكيف يكون مسخراً؟ فاعلم أنه لو كان مع هذا يشاء إن أراد أن يشاء، ولا يشاء إن لم يرد أن يشاء، لكان هذا مزلة القدم وموقع الغلط، ولكن علم أنه يفعل ما يشاء إذا شاء إن يشأ أم لم يشأ فليست المشيئة إليه، إذ لو كانت إليه لافتقرت إلى مشيئة أخرى وتسلسل إلى غير نهاية، وإذا لم تكن إليه المشيئة فمهما وجدت المشيئة التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت القدرة لا محالة ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة والقدرة متحركة ضرورة عند انجزام المشيئة. فالمشيئة تحدث ضرورة في القلب. فهذا ضرورات ترتب بعضها على بعض، وليس للعبد أن يدفع وجود المشيئة ولا انصراف القدرة إلى المقدور بعدها ولا وجود بعد بعث المشيئة للقدرة، فهو مضطر في الجميع. فإن قلت: فهذا جبر محض والجبر يناقض الاختيار، وأنت لا تنكر الاختيار فكيف يكون مجبوراً مختاراً؟ فأقول: لو انكشف الغطاء لعرفت أنه في عين الاختيار مجبور، فهو إذن مجبور على الاختيار، فكيف يفهم هذا من لا يفهم الاختيار فلنشرح الاختيار بلسان المتكلمين شرحاً وجيزاً يليق بما ذكر متطفلاً وتابعاً فإن هذا الكتاب لم نقصد به إلا علم المعاملة، ولكني أقول لفظ الفعل في الإنسان يطلق على ثلاثة أوجه، إذ يقال: الإنسان يكتب بالأصابع ويتنفس بالرئة والحنجرة ويخرق الماء إذ وقف عليه بجسمه فينسب إليه الخرق في الماء والتنفس والكتابة وهذه الثلاثة في حقيقة الاضطرار والجبر واحدة، ولكنها تختلف وراء ذلك في أمور فأعرب لك عنها بثلاث عبارات: فنسمي خرقه للماء عند وقوعه على وجهه فعلاً طبيعياً، ونسمي تنفسه فعلاً إرادياً، ونسمي كتابته فعلاً اختيارياً، والجبر ظاهر في الفعل الطبيعي لأنه مهما وقف على وجه الماء أو تخطى من السطح للهواء انخرق الهواء لا محالة وقد يكون الخرق بعد التخطي ضرورياً، والتنفس في معناه فإن نسبة حركة الحنجرة إلى إرادة التنفس كنسبة انخراق الماء إلى ثقل اليدين؛ فمهما كان الثقل موجوداً وجد الانخراق بعده وليس الثقل إليه، وكذلك الإرادة ليست إليه، ولذلك لو قصد عين الإنسان بإبرة طبق الأجفان اضطراراً، ولو أراد أن يتركها مفتوحة لم يقدر مع أن تغميض الأجفان اضطراراً فعل إرادي، ولكنه إذا تمثل صورة الإبرة في مشاهدته بالإدراك حدثت الإرادة بالتغميض ضرورة، وحدثت الحركة بها، ولو أراد أن يترك ذلك لم يقدر عليه مع أنه فعل بالقدرة والإرادة، فقد التحق هذا بالفعل الطبيعي في كونه ضرورياً، وأما الثالث - وهو الاختيار - فهو مظنة الالتباس كالكتابة والنطق، وهو الذي يقال فيه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وتارة لا يشاء، فيظن من هذا أن الأمر إليه، وهذا للجهل بمعنى الاختيار فلنكشف عنه وبيانه: أن الإرادة تبع للعلم الذي يحكم بأن الشيء موافق لك، والأشياء تنقسم إلى ما تحكم مشاهدتك الظاهرة أو الباطنة بأنه يوافقك من غير تحير وتردد، وإلى ما قد يتردد العقل فيه، فالذي نقطع به من غير تردد أن من يقصد عينك مثلاً بإبرة أو بدنك بسيف، فلا يكون في علمك تردد في أن دفع ذلك خير لك وموافق، فلا جرم تنبعث الإرادة بالعلم. والقدرة بالإرادة، وتحصل حركة الأجفان بالدفع، وحركة اليد برفع السيف ولكن من غير روية وفكرة، ويكون ذلك بالإرادة، ومن الأشياء ما يتوقف التمييز والعقل فيه فلا يدري أنه موافق أم لا فيحتاج إلى روية فكر حتى يتميز أن الخير في الفعل أو الترك، فإذا حصل بالفكر والروية العلم بأن أحدهما خير التحق ذلك بالذي يقطع به من غير روية فكر، فانبعثت الإرادة ههنا كما تنبعث لدفع السيف والسنان، فإذا انبعثت لفعل ما ظهر للعقل أنه خير سميت هذه الإرادة اختياراً مشتقاً من الخير، أي هو انبعاث إلى ما ظهر للعقل أنه خير وهو عين تلك الإرادة، ولم ينتظر في انبعاثها إلى ما انتظرت تلك الإرادة وهو ظهور خيرية الفعل في حقه، إلا أن الخيرية في دفع السيف ظهرت من غير روية بل على البديهة وهذا افتقر إلى الروية، فالاختيار عبارة عن إرادة خاصة وهي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إدراكه توقف، وعن هذا قيل إن العقل يحتاج إليه للتمييز بين خير الخيرين وشر الشرين، ولا يتصور أن تنبعث الإرادة إلا بحكم الحس والتخيل أو بحكم جزم من العقل، ولذلك لو أراد الإنسان أن يحز رقبة نفسه مثلاً لم يمكنه لا لعدم القدرة في اليد ولا لعدم السكين ولكن لفقد الإرادة الداعية المشخصة للقدرة وإنما فقدت الإرادة لأنها تنبعث بحكم العقل أو الحسن بكون الفعل موافقاً، وقتله نفسه ليس موافقاً له فلا يمكنه مع قوة الأعضاء أن يقتل نفسه إلا إذا كان في عقوبة مؤلمة لا تطاق؛ فإن العقل هنا يتوقف في الحكم ويتردد؛ لأن تردده بين شر الشرين؛ فإن ترجح له بعد الروية أن ترك القتل أقل شراً لم يمكنه قتل نفسه وإن حكم بأن القتل أقل شراً وكان حكمه جزماً لا ميل فيه ولا صارف منه انبعثت الإرادة والقدرة وأهلك نفسه، كالذي يتبع بالسيف للقتل فإنه يرمي بنفسه من السطح مثلاً وإن مهلكاً ولا يبالي ولا يمكنه أن لا يرمي نفسه، فإن كان يتبع بضرب خفيف فإن انتهى إلى طرف السطح حكم العقل بأن الضرب أهون من الرمي فوقفت أعضاؤه فلا يمكنه أن يرمي نفسه ولا تنبعث له داعية البتة، لأن داعية الإرادة مسخرة بحكم العقل والحس، والقدرة مسخرة للداعية، والحركة مسخرة للقدرة، والكل مقدر بالضرورة فيه من حيث لا يدري، فإنما هو محل ومجرى لهذه الأمور، فأما أن يكون منه فكلا ولا، فإذن معنى كونه مجبوراً أن جميع ذلك حاصل فيه من غيره لا منه، ومعنى كونه مختاراً أنه محل لإرادة حدثت فيه جبراً بعد حكم العقل بكون الفعل خيراً محضاً موافقاً وحدث الحكم أيضاً جبراً فإذا هو مجبور على الاختيار، ففعل النار في الإحراق مثلاً جبر محض، وفعل الله تعالى اختيار محض، وفعل الإنسان على منزلة بين المنزلتين فإنه جبر على الاختيار، فطلب أهل الحق لهذا عبارة ثالثة، لأنه لما كان فناً ثالثاً وائتموا فيه بكتاب الله تعالى فسموه كسباً وليس مناقضاً للجبر ولا للاختيار بل هو جامع بينهما عند فهمه، وفعل الله تعالى يسمى اختياراً بشرط أن لا يفهم من الاختيار إرادة بعد تحير وتردد، فإن ذلك في حقه محال، وجميع الألفاظ المذكورة في اللغات لا يمكن أن تستعمل في حق الله تعالى إلا على نوع من الاستعارة والتجوز، وذكر لا يليق بهذا العلم ويطول القول فيه فإن قلت: فهل تقول إن العلم ولد الإرادة، والإرادة ولدت القدرة، والقدرة ولدت الحركة، وأن كل متأخر حدث من المتقدم، فإن قلت ذلك فقد حكمت بحدوث شيء لا من قدرة الله تعالى، وإن أبيت ذلك فما معنى ترتب البعض من هذا على البعض فاعلم أن القول بأن بعض ذلك حدث عن بعض جهل محض، سواء عبر عنه بالتولد أو بغيره بل حوالة جميع ذلك على المعنى الذي يعبر عنه بالقدرة الأزلية، وهو الأصل الذي لم يقف كافة الخلق عليه إلا الراسخون في العلم فإنهم وقفوا على كنه معناه، والكافة وقفوا على مجرد لفظه مع نوع تشبيه بقدرتنا وهو بعيد عن الحق، وبيان ذلك يطول، ولكن بعض المقدورات مترتب على البعض في الحدوث ترتب المشروط على الشرط فلا تصدر من القدرة الأزلية إرادة إلا بعد علم ولا علم إلا بعد محل الحياة، وكما لا يجوز أن يقال الحياة تحصل من الجسم الذي هو شرط الحياة فكذلك في سائر درجات الترتيب، ولكن بعض الشروط ربما ظهرت للعامة وبعضها لم يظهر إلا للخواص المكاشفين بنور الحق وإلا فلا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا بالحق واللزوم، وكذلك جميع أفعال الله تعالى، ولولا ذلك التقديم والتأخير عبثاً يضاهي فعل المجانين - تعالى الله عن قول الجاهلين علواً كبيراً. وإلى هذا أشار قوله تعالى " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ " وقوله تعالى: " وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق " فكل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم لا يتصور أن يكون إلا كما حدث، وعلى هذا الترتيب الذي وجد فما تأخر متأخر إلا لانتظار شرطه، والمشروط قبل الشرط محال، والمحال لا يوصف بكونه مقدوراً، فلا يتأخر العلم عن النطفة إلا لفقد شرط الحياة، ولا تتأخر عنها الإرادة بعد العلم إلا لفقد شرط العلم، وكل ذلك منهاج الواجب وترتيب الحق، ليس في شيء من ذلك لعب واتفاق، بل كل ذلك بحكمة وتدبير، وتفهيم ذلك عسير، ولكنا نضرب لتوقف المقدور مع وجود القدرة على وجود الشرط مثالاً يقرب مبادئ الحق من الأفهام الضعيفة، وذلك بأن نقدر إنساناً محدثاً قد انغمس في الماء إلى رقبته، فالحدث لا يرتفع عن أعضائه وإن كان الماء هو الرافع وهو ملاق له، فقدر القدرة الأزلية حاضرة ملاقية للمقدورات متعلقة بها ملاقاة الماء للأعضاء ولكن لا يحصل بها المقدور كما لا يحصل رفع الحدث بالماء انتظاراً للشرط وهو غسل الوجه، فإذا وضع الواقف في الماء وجهه على الماء عمل الماء في سائر أعضائه وارتفع الحدث فربما يظن الجاهل أن الحدث ارتفع عن اليدين برفعه عن الوجه لأنه حدث عقيبه، إذ يقول: كان الماء ملاقياً ولم يكن رافعاً والماء لم يتغير عما كان فكيف حصل منه ما لم يحصل من قبل، بل حصل ارتفاع الحدث عن اليدين عند غسل الوجه، فإذن غسل الوجه هو الرافع للحدث عن اليدين وهو جهل يضاهي ظن من يظن أن الحركة تحصل بالقدرة والقدرة تحصل بالإرادة والإرادة بالعلم، وكل ذلك خطأ بل عند ارتفاع الحدث عن الوجه ارتفع الحدث عن اليد بالماء لها لا يغسل الوجه، والماء لم يتغير واليد لم تتغير ولم يحدث فيهما شيء، ولكن حدث وجود الشرط فظهر أثر العلة، فهكذا ينبغي أن تفهم صدور المقدّرات عن القدرة الأزلية مع أن القدرة قديمة والمقدورات حادثة، وهذا قرع باب آخر لعالم آخر من عوالم المكاشفات. فلنترك جميع ذلك فإن مقصودنا التنبيه على طريق التوحيد في الفعل، فإن الفاعل بالحقيقة واحد فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد، ولم نقدر على أن نذكر من بحار التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد، واستيفاء ذلك في عمر نوح محال، كاستيفاء ماء البحر بأخذ القطرات منه، وكل ذلك ينطوي تحت قول لا إله إلا الله، وما أخف مؤنته على اللسان! وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب! وما أعز حقيقته ولبه عند العلماء الراسخين في العلم فكيف عند غيرهم فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع: ومعنى التوحيد: أن لا فاعل إلا الله تعالى؛ ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد؛ فإن كان العبد فاعلاً فكيف يكون الله تعالى فاعلاً؟ وإن كان الله تعالى فكيف يكون العبد فاعلاً؟ ومفعول بين فاعلين غير مفهوم؟ فأقول: نعم ذلك غير مفهوم إذا كان للفاعل معنى واحد، وإن كان له معنيان ويكون الاسم مجملاً مردداً بينهما لم يتناقض، كما يقال: قتل الأمير فلاناً، ويقال: قتله الجلاد، ولكن الأمير قاتل بمعنى، والجلاد قاتل بمعنى آخر، فكذلك العبد فاعل بمعنى، والله عز وجل فاعل بمعنى آخر، فمعنى كون الله تعالى أنه المخترع الموجد، ومعنى كون العبد فاعلاً أنه المحل الذي خلق فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم، فارتبطت القدرة بالإرادة، والحركة بالقدرة ارتباطاً الشرط بالمشروط، وارتبط بقدرة الله ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المخترع بالمخترع، وكل ما له ارتباط بقدرة فإن محل القدرة يسمى فاعلاً له كيفما كان الارتباط، كما يسمى الجلاد قاتلاً والأمير قاتلاً، لأن القتل ارتبط بقدرتهما ولكن على وجهين مختلفين، فلذلك سمي فعلاً لهما، فكذلك ارتباط المقدورات بالقدرتين، ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد، ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه، فقال الله تعالى في الموت " قل يتوفاكم ملك الموت " ثم قال عز وجل: " الله يتوفى الأنفس حين موتها " وقال تعالى: " أفرأيتم ما تحرثون " أضاف إلينا ثم قال تعالى: " أنا صببنا ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً "، وقال عز وجل: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً "، ثم قال تعالى: " فنفخنا فيها من روحنا " وكان النافخ جبريل عليه السلام، وكما قال تعالى: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " قيل في التفسير: معناه إذا قرأه عليك جبريل. وقال تعالى: " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه، والتعذيب هو عين القتل، بل صرح وقال تعالى: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم "، وقال تعالى: " وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى " وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهراً، ولكن معناه: وما رميت بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً إذ رميت بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً، إذ هما معنيان مختلفان. وقال الله تعالى: " الذي علم بالقلم على الإنسان ما لم يعلم " ثم قال: " الرحمن علم القرآن " وقال: "علمه البيان "، وقال: " ثم إن علينا بيانه " وقال: " أفرأيتم ما تمنون؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف ملك الأرحام: " إنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة في يده ثم يصورها جسداً، فيقول: يا رب، أذكر أم أنثى أسوي أم معوج؟ فيقول الله تعالى ما شاء ويخلق الملك" وفي لفظ آخر: " ويصور الملك ثم ينفخ فيه الروح بالسعادة أو بالشقاوة " وقد قال بعض السلف: إن الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجساد، وأنه يتنفس بوصفه فيكون كل نفس من أنفاسه روحاً يلج في جسم ولذلك سمي روحاً، وما ذكره في مثل هذا الملك وصفته فهو حق شاهده أرباب القلوب ببصائرهم، فأما كون الروح عبارة عنه فلا يمكن أن يعلم إلا بالنقل والحكم به دون النقل تخمين مجرد، وكذلك ذكر الله تعالى في القرآن من الأدلة والآيات في الأرض والسموات، ثم قال: " أو لم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد " وقال: " شهد الله أنه لا إله إلا هو " فبين أنه الدليل على نفسه وذلك ليس متناقضاً بل طرق الاستدلال مختلفة، فكم من طالب عرف الله تعالى بالنظر إلى الموجودات، وكم من طالب عرف كل الموجودات بالله تعالى كما قال بعضهم: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي، وهو معنى قوله تعالى: " أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه المحيي والمميت، ثم فوض الموت والحياة إلى ملكين، ففي الخبر " أن ملكي الموت والحياة تناظرا، فقال ملك الموت: أنا أميت الأحياء، وقال ملك الحياة: أنا أحيي الموتى، فأوحى الله تعالى إليهما: كونا على عملكما وما سخرتكما له من الصنع، وأنا المميت والمحيي لا يميت ولا يحيي سواي" فإذن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة فلا تتناقض هذه المعاني إذا فهمت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للذي ناوله التمرة: " خذها، لو لم تأتها لأتتك" أضاف الإتيان إليه وإلى التمرة، ومعلوم أن التمرة لا تأتي على الوجه الذي يأتي الإنسان إليها، وكذلك لما قال التائب: أتوب إلى الله تعالى ولا أتوب إلى محمد، فقال صلى الله عليه وسلم: " عرف الحق لأهله" فكل من أضاف الكل إلى الله تعالى فهو المحقق الذي عرف الحق والحقيقة، ومن أضافه إلى غيره فهو المتجوز والمستعير في كلامه، وللتجوز وجه كما أن للحقيقة وجهاً، واسم الفاعل وضعه واضع اللغة للمخترع، ولكن ظن أن الإنسان مخترع بقدرته فسماه فاعلاً بحركته وظن أنه تحقيق، وتوهم أن نسبته إلى الله تعالى على سبيل المجاز مثل نسبة القتل إلى الأمير فإنه مجاز بالإضافة إلى نسبته إلى الجلاد، فلما انكشف الحق لأهله عرفوا أن الأمر بالعكس وقالوا: إن الفاعل قد وضعته أيها اللغوي للمخترع فلا فاعل إلا الله، فالاسم له بالحقيقة ولغيره بالمجاز. أي تتجوز به عما وضعه اللغوي له، ولما جرى حقيقة المعنى على لسان بعض الأعراب قصداً أو اتفاقاً صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أصدق بيت قاله الشاعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أي كل ما لا قوام له بنفسه - وإنما قوامه بغيره - فهو باعتبار نفسه باطل، وإنما حقيته وحقيقته بغيره لا بنفسه، فإذن لا حق بالحقيقة إلى الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء، فإنه قائم بذاته وكل ما سواه قائم بقدرته، فهو الحق وما سواه باطل، ولذلك قال سهل: يا مسكين كان ولم تكن ويكون ولا تكون، فلما كنت اليوم صرت تقول أنا وأنا، كن الآن كما لم تكن فإنه اليوم كما كان فإن قلت: فقد ظهر الآن أن الكل جبر، فما معنى الثواب والعقاب والغضب والرضا، وكيف غضبه على فعل نفسه؟ فاعلم أن معنى ذلك قد أشرنا إليه في كتاب الشكر فلا نطول بإعادته، فهذا هو القدر الذي رأينا الرمز إليه من التوحيد الذي يورث حالالتوكل ولا يتم هذا إلا بالإيمان بالرحمة والحكمة، فإن التوحيد يورث النظر إلى مسبب الأسباب، والإيمان بالرحمة وسعتها هو الذي يورث الثقة بمسبب الأسباب، ولا يتم حال التوكل كما سيأتي إلا بالثقة بالوكيل وطمأنينة القلب إلى حسن نظر الكفيل، وهذا بالإيمان أيضاً باب عظيم من أبواب الإيمان وحكاية طريق المكاشفين فيه تطول، فلنذكر حاصله ليعتقده الطالب لمقام التوكل اعتقاداً قاطعاً لا يستريب فيه. وهو أن يصدق تصديقاً يقينياً لا ضعف فيه ولا ريب أن الله عز وجل لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم وأفاض عليهم من الحكمة ما لا منتهى لوصفها، ثم زاد مثل عدد جميعهم علماً وحكمة وعقلاً ثم كشف لهم عن عواقب الأمور وأطلعهم على أسرار الملكوت وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر، ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم، لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والتظاهر عليه أن يزاد فيما دبر الله سبحانه الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة ولا أن ينقص منها جناح بعوضة، ولا أن يرفع منها ذرة ولا أن يخفض منها ذرة، ولا أن يدفع مرض أو عيب أو نقص أو فقر أو ضر عمن بلي به، ولا أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم الله به عليه، بل كل ما خلقه الله تعالى من السموات والأرض - إن رجعوا فيها البصر وطولوا فيها النظر - ما رأوا فيها من تفاوت ولا فطور، وكل ما قسم الله تعالى بين عباده من رزق وأجل وسرور وحزن وعجز وقدرة وإيمان وكفر وطاعة ومعصية، فكله عدل محض لا جور فيه، وحق صرف لا ظلم فيه بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي وكما ينبغي وبالقدر الذي ينبغي، وليس في الإمكان أصلاً أحسن منه ولا أتم ولا أكمل ولو كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله لكان بخلاً يناقض الجود وظلماً يناقض العدل، ولو لم يكن قادراً لكان عجزاً يناقض الإلهية، بل كل فقر وضر في الدنيا فهو نقصان من الدنيا وزيادة في الآخرة وكل نقص في الآخرة بالإضافة إلى شخص فهو نعيم بالإضافة إلى غيره، إذ لولا الليل لما عرف قدر النهار، ولولا المرض لما تنعم الأصحاء بالصحة، ولولا النار لما عرف أهل الجنة قدر النعمة، وكما أن فداء أرواح الإنس بأرواح البهائم وتسليطهم على ذبحها ليس بظلم، بل تقديم الكامل على الناقص عين العدل، فكذلك تفخيم النعم على سكان الجنان بتعظيم العقوبة على أهل النيران، وفداء أهل الإيمان بأهل الكفران عين العدل، وما لم يخلق الناقص لا يعرف الكامل، ولولا خلق البهائم لما ظهر شرف الإنس، فإن الكمال والنقص يظهر بالإضافة، فمقتضى الجود والحكمة خلق الكامل والناقص جميعاً، وكما أن قطع اليد إذا تآكلت إبقاء على الروح عدل لأنه فداء كامل بناقص، فكذلك الأمر في التفاوت الذي بين الخلق في القسمة في الدنيا والآخرة، فكل ذلك عدل لا جور فيه وحق لا لعب فيه، وهذا الآن بحر آخر عظيم العمق واسع الأطراف مضطرب الأمواج قريب في السعة من بحر التوحيد فيه غرق طوائف من القاصرين، ولم يعلموا أن ذلك غامض لا يعقله إلا العالمون، ووراء هذا البحر سر القدر الذي تحير فيه الأكثرون ومنع من إفشاء سره المكاشفون.
والحاصل أن الخير والشر مقضي به، وقد كان ما قضى به واجب بعد سبق المشيئة فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، بل كل صغير وكبير مستطر وحصوله بقدر معلوم منتظر، وما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
ولنقتصر على هذه المرامز من علوم المكاشفة التي هي أصول مقام التوكل، ولنرجع إلى علم المعاملة إن شاء الله تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل.



[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء أكتوبر 03, 2006 7:59 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الشطر الثاني
في أحوال التوكل وأعماله
[/align]

وفيه بيان حال التوكل، وبيان ما قاله الشيوخ في حد التوكل، وبيان التوكل في الكسب للمنفرد والمعيل، وبيان التوكل بقدر الادخار وبيان التوكل في دفع المضار، وبيان التوكل في إزالة الضرر بالتداوي وغيره، والله الموفق برحمته.

[align=center]بيان حال التوكل[/align]


قد ذكرنا أن مقام التوكل ينتظم من: علم، وحال، وعمل. وذكرنا العلم.
فأما الحال فالتوكل بالتحقيق عبارة عنه، وإنما العلم أصله والعمل ثمرته، وقد أكثر الخائضون في بيان حد التوكل واختلفت عباراتهم، وتكلم كل واحد عن مقام نفسه وأخبر عن حده كما جردت عادة أهل التصوف به، ولا فائدة من النقل والإكثار فلنكشف الغطاء عنه ونقول:
التوكل مشتق من الوكالة، يقال: وكَّل أمره إلى فلان أي فوضه واعتمد عليه فيه، ويسمى الموكول إليه وكيلاً، ويسمى المفوض إليه متكلاً عليه ومتوكلاً عليه مهما اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتهمه فيه بتقصير ولم يعتقد فيه عجزاً وقصوراً، فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب وعلى الوكيل وحده. ولنضرب للوكيل في الخصومة مثلاً فنقول: من ادعى عليه دعوى باطلة بتلبيس فوكل للخصومة من يكشف ذل التلبيس لم يكن متوكلاً عليه ولا واثقاً به ولا مطمئن النفس بتوكيله إلا إذا اعتقد فيه أربعة أمور: منتهى الهداية، ومنتهى القوة، ومنتهى الفصاحة، ومنتهى الشفقة. أما الهداية فليعرف بها مواقع التلبيس حتى لا يخفى عليه من غوامض الحيل شيء أصلاً، وأما القدرة والقوة فليستجرئ على التصريح بالحق فلا يداهن ولا يخاف ولا يستحي ولا يجبن، فإنه ربما يطلع على وجه تلبيس خصمه فيمنعه الخوف أو الجبن أو الحياء أو صارف آخر من الصوارف المضعفة للقلب عن التصريح به، وأما الفصاحة فهي أيضاً من القدرة في اللسان على الإفصاح عن كل ما استجرأ القلب عليه وأشار إليه: فلا كل عالم بمواقع التلبيس قادر بذلاقة لسانه على حل عقدة التلبيس، وأما منتهى الشفقة فيكون باعثاً له على بذل كل ما يقدر عليه في حقه من المجهود، فإن قدرته لا تغني دون العناية به إذا كان لا يهمه أمره ولا يبالي به ظفر خصمه أو لم يظفر هلك به حقه أو لم يهلك، فإن كان شاكاً في الأربعة أو في واحدة منها أو جوز أن يكون خصمه في هذه الأربعة أكمل منه لم تطمئن نفسه إلى وكيله، بل بقي منزعج القلب مستغرق الهم بالحيلة والتدبير ليدفع ما يحذره من قصور وكيله وسطوة خصمه ويكون تفاوت درجة أحواله في شدة الثقة والطمأنينة بحسب تفاوت قوة اعتقاده لهذه الخصال فيه، والاعتقادات والظنون في القوة والضعف تتفاوت لا ينحصر، فلا جرم تتفاوت أحوال المتوكلين في قوة الطمأنينة والثقة تفاوتاً لا ينحصر إلى أن ينتهي إلى اليقين الذي لا ضعف فيه، كما لو كان الوكيل والد الموكل وهو الذي يسعى لجمع الحلال والحرام لأجله، فإنه يحصل له يقين بمنتهى الشفقة والعناية، فتصير خصلة واحدة من الخصال الأربعة قطعية، وكذلك سائر الخصال يتصور أن يحصل القطع به، وذلك بطول الممارسة والتجربة وتواتر الأخبار بأنه أفصح الناس لساناً وأقدرهم بياناً على نصرة الحق بل على تصوير الحق بالباطل والباطل بالحق فإذا عرفت التوكل في هذا المثال فقس عليه التوكل على الله تعالى، فإن ثبت في نفسك كشف أو باعتقاد جازم أنه لا فاعل إلا الله كما سبق واعتقدت مع ذلك تمام العلم والقدرة على كفاية العباد ثم تمام العناية والعطف والرحمة بجملة العباد والآحاد وأنه ليس وراء منتهى قدرته قدرة ولا وراء منتهى علمه علم ولا وراء منتهى عنايته بك ورحمته لك عناية ورحمة، اتكل لا محالة قلبك عليه وحده ولم يلتفت إلى غيره بوجه ولا إلى نفسه وحوله وقوته، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله كما سبق في التوحيد عند ذكر الحركة والقدرة، فإن الحول عبارة عن الحركة، والقوة عبارة عن القدرة، فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين: إما ضعف اليقين بإحدى هذه الخصال الأربعة، وإما ضعف القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه، فإن القلب قد ينزعج تبعاً للوهم وطاعة له عن غير نقصان في اليقين، فإن من يتناول عسلاً فشبه بين يديه بالعذرة ربما نفر طبعه وتعذر عليه تناوله، ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت في قبر أو فراش أو بيت نفر طبعه عن ذلك وإن كان متيقناً بكونه ميتاً وأنه جماد في الحال وأن سنة الله تعالى مطردة بأنه لا يحشره الآن ولا يحييه وإن كان قادراً عليه، كما أنها مطردة بأن لا يقلب القلم الذي في يده حية ولا يقلب السنور أسداً وإن كان قادراً عليه، ومع أنه لا يشك في هذا اليقين ينفر طبعه عن مضاجعة الميت في فراش أو المبيت معه في البيت ولا ينفر عن سائر الجمادات، وذلك جبن في القلب وهو نوع ضعيف قلما يخلو الإنسان عن شيء منه وإن قل، وقد يقوى فيصير مرضاً حتى يخاف أن يبيت في البيت وحده مع إغلاق الباب وإحكامه، فإذن لا يتم التوكل إلا بقوة القلب وقوة اليقين جميعاً، إذ بهما يحصل سكون القلب وطمأنينته، فالسكون في القلب شيء واليقين شيء آخر فكم من يقين لا طمأنينة معه كما قال تعالى لإبراهيم عليه السلام: " أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " فالتمس أن يكون مشاهداً إحياء الميت بعينه ليثبت في خياله فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به ولا تطمئن باليقين في ابتداء أمرها إلى أن تبلغ بالآخرة إلى درجة النفس المطمئنة؛ وذلك لا يكون في البداية أصلاً، وكم من مطمئن لا يقين له كسائر أرباب الملل والمذاهب، فإن اليهودي مطمئن القلب إلى تهوده، وكذا النصراني ولا يقين لهم أصلاً، وإنما يتبعون الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى وهو سبب اليقين، إلا أنهم معرضون عنه، فإذن الجبن والجراءة غرائز ولا ينفع اليقين معها، فهي أحد الأسباب التي تضاد حال التوكل، كما أن ضعف اليقين بالخصال الأربعة أحد الأسباب، وإذا اجتمعت هذه الأسباب حصلت الثقة بالله تعالى، وقد قيل: مكتوب في التوراة: ملعون من ثقته إنسان مثله. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من استعز بالعبيد أذله الله تعالى" وإذا انكشف لك معنى التوكل وعلمت الحالة التي سميت توكلاً فاعلم أن تلك الحالة لها في القوة والضعف ثلاث درجات: الدرجة الأولى ما ذكرناه: وهو أن يكون حاله في حق الله تعالى والثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل.
الثانية وهي أقوى: أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى أحد سواها ولا يعتمد إلا إياها، فإذا رآها تعلق في كل حال بذيلها ولم يخلها، وإن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى لسانه: يا أماه، وأول خاطر يخطر في قلبه فإنها مفزعة، فإنه قد وثق بكفالتها وكفايتها وشفقتها ثقة ليست خالية عن نوع إدراك بالتمييز الذي له، ويظن أنه طبع من حيث إن الصبي لو طولب بتفصيل هذه الخصال لم يقدر على تلقين لفظه ولا على إحضاره مفصلاً في ذهنه، ولكن كل ذلك وراء الإدراك، فمن كان باله إلى الله عز وجل ونظره إليه واعتماده عليه كلف به كما يكلف الصبي بأمه فيكون متوكلاً حقاً: فإن الطفل متوكل على أمه. والفرق بين هذا وبين الأول: أن هذا متوكل وقد فني في توكله عن توكله، إذ ليس يلتفت قلبه إلى التوكل وحقيقته، بل إلى المتوكل عليه فقط، فلا مجال في قلبه لغير المتوكل عليه، وأما الأول فيتوكل بالتكلف والكسب وليس فانياً عن توكله لأن له التفاتاً إلى توكله وشعوراً به، وذلك شغله صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده، وإلى هذه الدرجة أشار سهل حيث سئل عن التوكل: ما أدناه؟ قال: ترك الأماني. قيل: وأوسطه؟ قال ترك الاختيار، وهو إشارة إلى الدرجة الثانية. وسئل عن أعلاه فلم يذكره وقال: لا يعرفه إلا من بلغ أوسطه الثالثة وهي أعلاها: أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل لا يفارقه إلا في أنه يرى نفسه ميتاً تحركه القدرة الأزلية كما تحرك يد الغاسل الميت، وهو الذي قوي يقينه بأنه مجري للحركة والقدرة والإرادة والعلم وسائر الصفات، وأن كلاً يحدث جبراً فيكون بائناً عن الانتظار لما يجري عليه، ويفارق الصبي فإن الصبي يفزع إلى أمه ويصيح ويتعلق بذيلها ويعدو خلفها، بل هو مثل صبي علم أنه وإن لم يزعق بأمه فالأم تطلبه وأنه وإن لم يتعلق بذيل أمه فالأم تحمله، وإن لم يسألها اللبن فالأم تفاتحه وتسقيه، وهذا المقام في التوكل يثمر ترك الدعاء والسؤال منه ثقة بكرمه وعنايته، وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يسأل، فكم من نعمة ابتدأها قبل السؤال والدعاء وبغير الاستحقاق، والمقام الثاني لا يقتضي ترك الدعاء والسؤال منه وإنما يقتضي ترك السؤال من غيره فقط.
فإن قلت: فهذه الأحوال هل يتصور وجودها، فاعلم أن ذلك ليس بمحال ولكنه عزيز نادر، والمقام الثاني والثالث أعزها، والأول أقرب إلى الإمكان، ثم إذا وجد الثالث والثاني فداومه أبعد منه، بل يكاد لا يكون المقام الثالث في دوامه إلا كصفرة الوجل، فإن انبساط القلب إلى ملاحظة الحول والقوة والأسباب طبع وانقباضه عارض، كما إن انبساط الدم إلى جميع الأطراف طبع وانقباضه عارض. والوجل عبارة عن انقباض الدم عن ظاهر البشرة إلى الباطن حتى تنمحي عن ظاهر البشرة الحمرة التي كانت ترى من وراء الرقيق من ستر البشرة، فإن البشرة ستر رقيق تتراءى من ورائه حمرة الدم، وانقباضه يوجب الصفرة وذلك لا يدوم، وكذا انقباض القلب بالكلية عن ملاحظة الحول والقوة وسائر الأسباب الظاهرة لا يدوم، وأما المقام الثاني فيشبه صفرة المحموم فإنه قد يدوم يوماً يومين، والأول يشبه صفرة مريض استحكم مرضه فلا يبعد أن يدوم ولا يبعد أن يزول فإن قلت: فهل يبقى مع العبد تدبير وتعلق بالأسباب في هذه الأحوال؟ فاعلم إن المقام الثالث ينفي التدبير رأساً ما دامت الحالة باقية، بل يكون صاحبها كالمبهوت، والمقام الثاني ينفي كل تدبير إلا من حيث الفزع إلى الله بالدعاء والابتهال كتدبير الطفل في التعلق بأمه فقط. والمقام الأول لا ينفي أصل التدبير والاختيار ولكن ينفي بعض التدبيرات كالمتوكل على وكيله في الخصومة فإنه يترك تدبيره من جهة غير الوكيل ولكن لا يترك التدبير الذي أشار إليه وكيله به أو التدبير الذي عرفه من عادته وسننه دون صريح إشارته؛ فأما الذي يعرفه بإشارته بأن يقول له: لست أتكلم إلا في حضورك فيشتغل لا محالة بالتدبير للحضور، ولا يكون هذا مناقضاً توكله عليه، إذ ليس هو فزعاً منه إلى حول نفسه وقوته في إظهار الحجة ولا إلى حول غيره، بل من تمام توكله عليه أن يفعل ما رسمه له؛ إذ لو لم يكن متوكلاً عليه ولا معتمداً له في قوله لما حضر: فقوله وأما المعلوم من عادته واطراد سننه: فهو أن يعلم من عادته أن لا يحاج الخصم إلا من السجل، فتمام توكله إن كان متوكلاً عليه: أن لا يكون معولاً على سنته وعادته ووافياً بمقتضاها: وهو أن يحمل السجل مع نفسه إليه عند مخاصمته؛ فإذن لا يستغني عن التدبير في الحضور وعن التدبير في إحضار السجل؛ ولو ترك شيئاً من ذلك كان نقصاً في توكله فكيف يكون فعله نقصاً فيه، نعم بعد أن حضر وفاءً بإشارته وأحضر السجل وفاءً بسنته وعادته وقع ناظراً إلى محاجته فقد ينتهي إلى المقام الثاني والثالث في حضوره حتى يبقى كالمبهوت المنتظر لا يفزع إلى حوله وقوته إذ لم يبق له حول ولا قوة، وقد كان فزعه إلى حوله وقوته في الحضور وإحضار السجل بإشارة الوكيل وسنته، وقد انتهى نهايته فلم يبق إلا طمأنينة النفس والثقة بالوكيل والانتظار لما يجري، وإذا تأملت هذا اندفع عنك كل إشكال في التوكل وفهمت أنه ليس من شرط التوكل ترك كل تدبير وعمل لا يجوز أيضاً مع التوكل بل هو على الانقسام وسيأتي تفصيله في الأعمال، فإذا فزع المتوكل إلى حوله وقوته في الحضور والإحضار لا يناقض التوكل لأنه يعلم أنه لولا الوكيل لكان حضوره وإحضاره باطلاً وتعباً محضاً بلا جدوى، فإذن لا يصير مفيداً من حيث إنه حوله وقوته بل من حيث إن الوكيل جعله معتمداً لمحاجته، وعرفه ذلك بإشارته وسنته، فإذن لا حول ولا قوة إلا بالوكيل، إلا أن هذه الكلمة لا يكمل معناها في حق الوكيل لأنه ليس خالقاً حوله وقوته، بل هو جاعل لهما مفيدين في أنفسهما ولم يكونا مفيدين لولا فعله، وإنما يصدق ذلك في حق الوكيل الحق وهو الله تعالى إذ هو خالق الحول والقوة كما سبق في التوحيد وهو الذي جعلهما مفيدين إذ جعلهما شرطاً لما سيخلقه من بعدهما من الفوائد والمقاصد، فإذن لا حول ولا قوة إلا بالله حقاً وصدقاً، فمن شاهد هذا كله كان له الثواب العظيم الذي وردت به الأخبار فيمن يقول لا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك قد يستبعد فيقال: كيف يعطى هذا الثواب كله بهذه الكلمة مع سهولتها على اللسان وسهولة اعتقاد القلب بمفهوم لفظها؟ وهيهات فإنما ذلك جزاء على هذه المشاهدة التي ذكرناها في التوحيد، ونسبة هذه الكلمة وثوابها إلى كلمة "لا إله إلا الله " وثوابها كنسبة معنى إحداهما إلى الأخرى، إذ في هذه الكلمة إضافة إلى شيئين إلى الله تعالى فقط وهما الحول والقوة، وأما كلمة لا إله إلا الله فهو نسبة الكل إليه، فانظر إلى التفاوت بين الكل وبين شيئين لتعرف به ثواب " لا إله إلا الله " بالإضافة إلى هذا، وكما ذكرنا من قبل أن للتوحيد قشرين ولبين، فكذلك لهذه الكلمة ولسائر الكلمات، وأكثر الخلق قيدوا بالقشرين وما طرقوا إلى اللبين، وإلى اللبين الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله صادقاً من قلبه مخلصاً وجبت له الجنة" وحيث أطلق من غير الصدق والإخلاص أراد بالمطلق هذا المقيد كما أضاف المغفرة إلى الإيمان والعمل الصالح في بعض المواضع، وأضافها إلى مجرد الإيمان في بعض المواضع، والمراد به المقيد بالعمل الصالح، فالملك لا ينال بالحديث وحركة اللسان حديث وعقد القلب أيضاً حديث ولكنه حديث نفس، وإنما الصدق والإخلاص وراءهما، ولا ينصب سرير الملك إلا للمقربين وهم المخلصون، نعم لمن يقرب منهم في الرتبة من أصحاب اليمين أيضاً درجات عند الله تعالى وإن كانت لا تنتهي إلا بالملك، أما ترى أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في سورة الواقعة المقربين السابقين تعرض لسرير الملك فقال: " على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين " ولما انتهى إلى أصحاب اليمين ما زاد في ذكر الماء والظل والفواكه والأشجار والحور العين، وكل ذلك من لذات المنظور والمشروب والمأكول والمنكوح، ويتصور ذلك للبهائم على الدوام، وأين لذات البهائم من لذة الملك، والنزول في أعلى عليين في جوار العالمين، ولو كان لهذه اللذات قدر لما وسعت على البهائم ولما رفعت عليها درجة الملائكة، أفترى أن أحوال البهائم - وهي مسيبة في الرياض متنعمة بالماء والأشجار وأصناف المأكولات متمتعة بالنزوان والفساد - أعلى وألذ وأشرف وأجدر بأن تكون عند ذوي الكمال مغبوطة - من أحوال الملائكة في سرورهم بالقرب من جوار رب العالمين في أعلى عليين، هيهات هيهات ما أبعد عن التحصيل من إذا خير بين أن يكون حماراً أو يكون في درجة جبريل عليه السلام فيختار درجة الحمار على درجة جبريل عليه السلام! وليس يخفى أن شبه كل شيء منجذب إليه، وأن النفس التي نزوعها إلى صنعة الأساكفة أكثر من نزوعها إلى صنعة الكتابة، فهو بالأساكفة أشبه في جوهره منه بالكتاب، وكذلك من نزوع نفسه إلى نيل لذات البهائم أكثر من نزوعها إلى نيل لذات الملائكة، فهو بالبهائم أشبه منه بالملائكة لا محالة، وهؤلاء هم الذين يقال فيهم: " أولئك كالأنعام بل هم أضل " وإنما كانوا أضل لأن الأنعام ليس في قوتها طلب درجة الملائكة، فتركها الطلب للعجز، وأما الإنسان ففي قوته ذلك، والقادر على نيل الكمال أحرى بالذم وأجدر بالنسبة إلى الضلال مهما تقاعد عن طلب الكمال، وإذا كان هذا كلاماً معترضاً فلنرجع إلى المقصود فقد بينا معنى قول " لا إله إلا الله " ومعنى قول " لا حول ولا قوة إلا بالله " وإن من ليس قائلاً بهما عن مشاهدة فلا يتصور منه حال التوكل فإن قلت: ليس في قولك " لا حول ولا قوة إلا بالله " إلا نسبة شيئين إلى الله، فلو قال قائل: السماء والأرض خلق الله فهل يكون ثوابه مثل ثوابه؟ فأقول: لا، لأن الثواب على قدر درجة المثاب عليه ولا مساواة بين الدرجتين ولا ينظر إلى عظم السماء والأرض وصغر الحول والقوة إن جاز وصفهما بالصغر تجاوزاً، فليست الأمور بعظم الأشخاص بل كل عامي يفهم أن الأرض والسماء ليستا من جهة الآدميين بل هما من خلق الله تعالى، فأما الحول والقوة فقد أشكل أمرهما على المعتزلة والفلاسفة وطوائف كثيرة ممن يدعي أنه يدقق النظر في الرأي والمعقول حتى يشق الشعر بحدة نظره، فهي مهلكة مخطرة ومزلة عظيمة هلك فيها الغافلون إذا أثبتوا لأنفسهم أمراً وهو شرك في التوحيد وإثبات خالق سوى الله تعالى، فمن جاوز هذه العقبة بتوفيق الله تعالى إياه فقد علت رتبته وعظمت درجته فهو الذي يصدق قول لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد ذكرنا أنه ليس في التوحيد إلا عقبتان: إحداهما النظر إلى السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والغيم والمطر وسائر الجمادات، والثانية النظر إلى اختيار الحيوانات وهي أعظم العقبتين وأخطرهما وبقطعهما كمال سر التوحيد فلذلك عظم ثواب هذه الكلمة أعني ثواب المشاهدة التي هذه الكلمة ترجمتها، فإذا رجع حال التوكل إلى التبري من الحول والقوة والتوكل على الواحد الحق، وسيتضح عند ذكرنا تفصيل أعمال التوكل إن شاء الله تعالى.


[align=center]بيان ما قاله الشيوخ في أحوال التوكل[/align]

ليتبين أن شيئاً منها لا يخرج عما ذكرنا ولكن كل واحد يشير إلى بعض الأحوال، فقد قال أبو موسى الديلي: قلت لأبي يزيد: ما التوكل؟ فقال: ما تقول أنت؟ قلت: إن أصحابنا يقولون: لو أن السباع والأفاعي عن يمينك ويسارك ما تحرك لذلك سرك. فقال أبو يزيد: نعم هذا قريب ولكن لو أن أهل الجنة في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون ثم وقع بك تمييز بينهما خرجت من جملة التوكل، فما ذكره أبو موسى فهو خبر عن أجل أحوال التوكل وهو المقام الثالث، وما ذكره أبو يزيد عبارة عن أعز أنواع العلم الذي هو من أصول التوكل وهو العلم بالحكمة، وأن ما فعله الله تعالى فعله بالواجب فلا تمييز بين أهل النار وأهل الجنة بالإضافة إلى أصل العدل والحكمة وهذا أغمض أنواع العلم ووراءه سر القدر، وأبو يزيد قلما يتكلم إلا عن أعلى المقامات وأقصى الدرجات وليس ترك الاحتراز عن الحيات شرطاً في المقام الأول من التوكل، فقد احترز أبو بكر رضي الله عنه في الغار إذ سد منافذ الحياتإلا أن يقال فعل ذلك برجله ولم يتغير بسببه سره، أو يقال: إنما فعل ذلك شفقة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في حق نفسه، وإنما يزول التوكل بتحرك سره وتغيره لأمر يرجع إلى نفسه، وللنظر في هذا مجال، ولكن سيأتي بيان أن أمثال ذلك وأكثر منه لا يناقض التوكل، فإن حركة السر من الحيات هو الخوف، وحق المتوكل أن يخاف مسلط الحيات، إذ لا حول للحيات ولا قوة لها إلا بالله، فإن احترز لم يكن اتكاله على تدبيره وحوله وقوته في الاحتراز بل على خالق الحول والقوة والتدبير.
وسئل ذو النون المصري عن التوكل؟ فقال: خلع الأرباب وقطع السباب، فخلع الأرباب إشارة إلى علم التوحيد، وقطع الأسباب إشارة إلى الأعمال وليس فيه تعرض صريح للحال وإن كان اللفظ يتضمنه فقيل له: زدنا! فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية، وهذا إشارة إلى التبري من الحول والقوة فقط.
وسئل حمدون القصار عن التوكل؟ فقال: إن كان لك عشرة آلاف درهم وعليك دانق دين لم تأمن أن تموت ويبقى دينك في عنقك، ولو كان عليك عشرة آلاف درهم دين من غير أن تترك لها وفاء لا تيأس من الله تعالى أن يقضيها عنك، وهذا إشارة إلى مجرد الإيمان بسعة القدرة، وأن في المقدورات أسباباً خفية سوى هذه الأسباب الظاهرة.
وسئل أبو عبد الله القرشي عن التوكل؟ فقال: التعلق بالله تعالى في كل حال، فقال السائل: زدني! فقال: ترك كل سبب يوصل إلى سبب حتى يكون الحق هو المتولي لذلك، فالأول عام للمقامات الثلاث، والثاني إشارة إلى المقام الثالث خاصة، وهو مثل توكل إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال له جبريل عليه السلام: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، إذ كان سؤاله سبباً يفضي إلى سبب وهو حفظ جبريل له، فترك ذلك ثقة بأن الله تعالى إن أراد سخر جبريل لذلك، فيكون هو المتولي لذلك، وهذا حال مبهوت غائب عن نفسه بالله تعالى فلم ير معه غيره، وهو حال عزيز في نفسه، ودوامه إن وجد أبعد منه وأعز.
وقال أبو سعيد الخراز: التوكل اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب، ولعله يشير إلى المقام الثاني، فسكونه بلا اضطراب: إشارة إلى سكون القلب إلى الوكيل وثقته به، واضطراب بلا سكون: إشارة إلى فزعه إليه وابتهاله وتضرعه بين يديه كاضطراب الطفل بين يديه إلى أمه وسكون قلبه إلى تمام شفقتها.
وقال أبو علي الدقاق: التوكل ثلاث درجات: التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض. فالمتوكل يسكن إلى وعده، والمسلم يكتفي بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه، وهذا إشارة إلى تفاوت درجات نظره بالإضافة إلى المنظور إليه، فإن العلم هو الأصل، والوعد يتبعه، والحكم يتبع الوعد، ولا يبعد أن يكون الغالب على قلب المتوكل ملاحظة شيء من ذلك، وللشيوخ في التوكل أقاويل سوى ما ذكرناه فلا نطول بها فإن الكشف أنفع من الرواية والنقل، فهذا ما يتعلق بحال التوكل، والله الموفق برحمته ولطفه.


[align=center]بيان أعمال المتوكلين[/align]

اعلم أن العلم يورث الحال، والحال يثمر الأعمال، وقد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة وكاللحم على الوضم وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكلين فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين، بل انكشف الغطاء ونقول إنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه بعلمه إلى مقاصده، وسعي العبد باختياره إما أن يكون لأجل جلب نافع هو مفقود عنده كالكسب، أو لحفظ نافع هو موجود عند كالادخار، أو لدفع ضار لم ينزل به كدفع الصائل والسارق والسباع، أو لإزالة ضار قد نزل به كالتداوي من المرض، فمقصود حركات العبد لا تعدو هذه الفنون الأربعة وهو جلب النافع أو حفظه، أو دفع الضار أو قطعه، فلنذكر شروط التوكل ودرجاته في كل واحد منها مقروناً بشواهد الشرع.
الفن الأول: في جلب النافع فنقول فيه: الأسباب التي بها يجلب النافع على ثلاث درجات: مقطوع به، ومظنون ظناً يوثق به، وموهوم وهماً لا تثق النفس به ثقة تامة ولا تطمئن إليه.
الدرجة الأولى: المقطوع به، وذلك مثل الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ارتباطاً مطرداً لا يختلف، كما أن الطعام إذا كان موضوعاً بين يديك وأنت جائع محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي ومد اليد إليه سعي وحركة وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالي الحنك على أسافله، فهذا جنون محض وليس من التوكل في شيء، فإنك إن انتظرت أن يخلق الله تعالى فيك شبعاً دون الخبر، أو يخلق في الخبز حركة إليك، أو يسخر ملكاً ليمضغه لك ويوصله إلى معدتك، فقد جهلت سنة الله تعالى، وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت في أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر، أو تلد زوجتك من غير وقاع كما ولدت مريم عليها السلام، فكل ذلك جنون وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن إحصاؤه، أليس التوكل في هذا المقام بالعمل بل بالحال والعمل. أما العلم: فهو أن تعلم أن الله تعالى خلق الطعام واليد والأسنان وقوة الحركة وأنه هو الذي يطعمك ويسقيك، وأما الحال فهو أن يكون سكون قلبك واعتمادك على فعل الله تعالى لا على اليد والطعام وكيف تعتمد على صحة يدك وبما تجف في الحال وتفلج؟ وكيف تعول على قدرتك وربما يطرأ عليك في الحال ما يزيل عقلك ويبطل قوة حركتك؟ وكيف تعول على حضور الطعام، وربما يسلط الله تعالى من يغلبك عليه أو يبعث حية تزعجك عن مكانك وتفرق بينك وبين طعامك، وإذا احتمل أمثال ذلك ولم يكن لها علاج إلا بفضل الله تعالى فبذلك فلتفرح وعليه فلتعول، فإذا كان حاله وعلمه فليمد اليد فإنه متوكل
الدرجة الثانية: الأسباب التي ليست متيقنة ولكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها وكان احتمال حصولها دونها بعيداً، كالذي يفارق الأمصار والقوافل ويسافر في البوادي التي لا يطرقها الناس إلا نادراً ويكون سفره من غير استصحاب زاد، فهذا ليس شرطاً في التوكل، بل استصحاب الزاد في البوادي سنة الأولين، ولا يزول التوكل به بعد أن يكون الاعتماد على فضل الله تعالى لا على الزاد كما سبق، ولكن فعل ذلك جائز، وهو من أعلى مقامات التوكل ولذلك كان يفعله الخواص.
فإن قلت: فهذا سعي في الهلاك وإلقاء النفس في التهلكة، فاعلم أن ذلك يخرج عن كونه حراماً بشرطين: أحدهما أن يكون الرجل قد راض نفسه وجاهدها وسواها على الصبر عن الطعام أسبوعاً وما يقاربه بحيث يصبر عنه بلا ضيق قلب وتشوش خاطر وتعذر في ذكر الله تعالى.
والثاني أن يكون بحيث يقوى على التقوت بالحشيش وما يتفق من الأشياء الخسيسة؛ فبعد هذين الشرطين لا يخلو في غالب الأمر في البوادي في كل أسبوع عن أن يلقاه آدمي أو ينتهي إلى حلة أو قرية أو إلى حشيش يجتزئ به فيحيا به مجاهداً نفسه. والمجاهدة عماد التوكل، وعلى هذا كان يعول الخواص ونظراؤه من المتوكلين، والدليل عليه أن الخواص كان لا تفارقه الإبرة والمقراض والحبل والركوة ويقول: هذا لا يقدح في التوكل، وسببه أنه علم أن البوادي لا يكون الماء فيها على وجه الأرض، وما جرت سنة الله تعالى بصعود الماء من البئر بغير دلو ولا حبل ولا يغلب وجود الحبل والدلو في البوادي كما يغلب وجود الحشيش، والماء يحتاج إليه لوضوئه كل يوم مرات ولعطشه في كل يوم أو يومين مرة؛ فإن المسافر مع حرارة الحركة لا يصبر عن الماء وإن صبر عن الطعام، وكذلك يكون له ثوب واحد وربما يتخرق فتنكشف عروته ولا يوجد المقراض والإبرة في البوادي غالباً عند كل صلاة، ولا يقوم مقامهما في الخياطة والقطع شيء مما يوجد في البوادي، فكل ما في معنى هذه الأربعة أيضاً يلتحق بالدرجة الثانية، لأنه مظنون ظناً ليس مقطوعاً به، لأنه يحتمل أن لا يتخرق الثوب أو يعطيه إنسان ثوباً أو يجد على رأس البئر من يسقيه، ولا يحتمل أن يتحرك الطعام ممضوغاً إلى فيه، فبين الدرجتين فرقان ولكن الثاني في معنى الأول، ولهذا نقول: لو انحاز إلى شعب من شعاب الجبال حيث لا ماء ولا حشيش ولا يطرقه طارق فيه وجلس متوكلاً، فهو آثم به ساع في هلاك نفسه، كما روي أن زاهداً من الزهاد فارق الأمصار وأقام في سفح جبل سبعاً وقال: لا أسأل أحداً شيئاً حتى يأتيني ربي برزقي، فقعد سبعة فكاد يموت ولم يأته رزق، فقال: يا رب إن أحييتني فائتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك، فأوحى الله جل ذكره إليه: وعزتي لا أرزقنك حتى تدخل الأمصار وتقعد بين الناس. فدخل المصر وقعد، فجاءه هذا بطعام وهذا بشراب، فأكل وشرب وأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى الله تعالى إليه: أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا! أما علمت أني أرزق عبدي بأيدي عبادي أحب إلي من أن أرزقه بيد قدرتي.
فإذن التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة وجهل بسنة الله تعالى والعمل بموجب سنة الله تعالى مع الاتكال على الله عز وجل دون الأسباب لا يناقض التوكل كما ضربناه مثلاً في الوكيل بالخصومة من قبل، ولكن الأسباب تنقسم إلى ظاهرة وإلى خفية، فمعنى التوكل الاكتفاء بالأسباب الخفية عن الأسباب الظاهرة مع سكون النفس إلى مسبب السبب لا إلى السبب فإن قلت: ما قولك في القعود في البلد بغير كسب، أهو حرام أو مباح أو مندوب؟ فاعلم أن ذلك ليس بحرام لأنه كفعل صاحب السياحة في البادية إذا لم يكن مهلكاً نفسه فهذا كيف كان لم يكن مهلكاً نفسه حتى يكون فعله حراماً، بل لا يبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب ولكن قد يتأخر عنه، والصبر ممكن إلى أن يتفق، ولكن لو أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك حرام، وإن فتح باب البيت وهو بطال غير مشغول بعبادة فالكسب والخروج أولى له، ولكن ليس فعله حراماً إلا أن يشرف على الموت: فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب، وإن كان مشغول القلب بالله غير مستشرف إلى الناس ولا متطلع إلى من يدخل من الباب فيأتيه برزقه، بل تطلعه إلى فضل الله تعالى واشتغاله بالله، فهو أفضل، وهو من مقامات التوكل؛ وهو أن يشتغل بالله تعالى ولا يهتم برزقه، فإن الرزق يأتيه لا محالة؛ وعند هذا يصح ما قاله بعض العلماء: وهو أن العبد لو هرب من رزقه لطلبه، كما لو هرب من الموت لأدركه، وأنه لو سأل الله تعالى أن لا يرزقه لما استجاب وكان عاصياً، ولقال له: يا جاهل، كيف أخلقك ولا أرزقك؟ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: اختلف الناس في كل شيء إلا في الرزق والأجل، فإنهم أجمعوا على أن لا رزاق ولا مميت إلا الله تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم: " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاَ وتروح بطاناً ولزالت بدعائكم الجبال".
وقال عيسى عليه السلام: انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدخر والله تعالى يرزقها يوماً بيوم، فإن قلتم نحن أكبر بطوناً فانظروا إلى الأنعام كيف قيض الله تعالى لها هذا الحق للرزق.
وقال أبو يعقوب السوسي: المتوكلون تجري أرزاقهم على أيدي العباد بلا تعب منهم وغيرهم مشغولون مكدودون.
وقال بعضهم: العبيد كلهم في رزق الله تعالى، لكن بعضهم يأكل بذل كالسؤال، وبعضهم بتعب وانتظار كالتجار وبعضهم بامتهان كالصناع، وبعضهم بعز كالصوفية يشهدون العزيز فيأخذون رزقهم من يده ولا يرون الواسطة.
الدرجة الثالثة: ملابسة الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة، كالذي يستقصي في التدبيرات الدقيقة في تفصيل الاكتساب ووجوهه، وذلك يخرج بالكلية عن درجات التوكل كلها، وهو الذي فيه الناس كلهم: أعني من يكتسب بالحيل الدقيقة اكتساباً مباحاً لمال مباح، فأما أخذ الشبهة أو اكتساب بطريق فيه شبهة فذلك غاية الحرص على الدنيا والاتكال على الأسباب، فلا يخفى أن ذلك يبطل التوكل وهذا مثل الأسباب التي نسبتها إلى جلب النافع مثل نسبة الرقية والطير والكي بالإضافة إلى إزالة الضار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المتوكلين بذلك ولم يصفهم بأنهم لا يكتسبون ولا يسكنون الأمصار ولا يأخذون من أحد شيئاً، بل وصفهم بأنهم يتعاطون هذه الأسباب، وأمثال هذه الأسباب التي يوثق بها في المسببات مما يكثر فلا يمكن إحصاؤها.
وقال سهل في التوكل: إنه ترك التدبير، وقال: إن الله خلق الخلق ولم يحجبهم عن نفسه، وإنما حجابهم بتدبيرهم، ولعله أراد به استنباط الأسباب البعيدة بالفكر فهي التي تحتاج إلى التدبير دون الأسباب الجلية، فإذن قد ظهر أن الأسباب الجلية، فإذن قد ظهر أن الأسباب منقسمة إلى ما يخرج التعلق بها عن التوكل وإلى ما لا يخرج، وأن الذي يخرج ينقسم إلى مقطوع به وإلى مظنون، وأن المقطوع به لا يخرج عن التوكل عند وجود حال التوكل وعلمه وهو الاتكال على مسبب الأسباب، فالتوكل فيها بالحال والعلم لا بالعمل.
وأما المظنونات فالتوكل فيها بالحال والعلم والعمل جميعاً، والمتوكلون في ملابسة هذه الأسباب على ثلاثة مقامات: الأول: مقام الخواص ونظرائه، وهو الذي يدور في البوادي بغير زاد ثقة بفضل الله تعالى عليه في تقويته على الصبر أسبوعاً وما فوقه، أو تيسير حشيش له أو قوت، أو تثبيته على الرضا بالموت إن لم يتيسر شيء من ذلك، فإن الذي يحمل الزاد قد يفقد الزاد أو يضل بعيره ويموت جوعاً، فذلك ممكن مع الزاد كما أنه يمكن مع فقده المقام الثاني: أن يقعد في بيته أو في مسجد ولكنه في القرى والأمصار، وهذا أضعف من الأول، لكنه أيضاً متوكل لأنه تارك للكسب والأسباب الظاهرة، معول على فضل الله تعالى في تدبير أمره من جهة الأسباب الخفية، ولكنه بالقعود في الأمصار متعرض لأسباب الرزق، فإن ذلك من الأسباب الجالبة، إلا أن ذلك لا يبطل توكله إذا كان نظره إلى الذي يسخر له سكان البلد لإيصال رزقه إليه لا إلى سكان البلد، إذ يتصور أن يغفل جميعهم عنه ويضيعوه لولا فضل الله تعالى بتعريفهم وتحريك دواعيهم.
المقام الثالث: أن يخرج ويكتسب اكتساباً على الوجه الذي ذكرناه في الباب الثالث والرابع من كتاب آداب الكسب، وهذا السعي لا يخرجه أيضاً عن مقامات التوكل إذا لم يكن إذا لم يكن طمأنينة نفسه إلى كفايته وقوته وجاهه وبضاعته، فإن ذلك ربما يهلكه الله تعالى جميعه في لحظة، بل يكون نظره إلى الكفيل الحق بحفظ جميع ذلك وتيسير أسبابه له، بل يرى كسبه وبضاعته وكفايته بالإضافة إلى قدرة الله تعالى كما يرى القلم في يد الملك الموقع، فلا يكون نظره إلى القلم بل إلى قلب الملك أنه بماذا يتحرك؟ وإلى ماذا يميل؟ وبم يحكم؟ ثم إن كان هذا المكتسب مكتسباً لعياله أو ليفرق على المساكين فهو ببدنه مكتسب وبقلبه عنه منقطع؛ فحال هذا أشرف من حال القاعد في بيته، والدليل على أن الكسب لا ينافي حال التوكل إذا روعيت فيه الشروط وانضاف إليه الحال والمعرفة كما سبق أن الصديق رضي الله عنه لما بويع بالخلافة أصبح آخذاً لأثواب تحت حضنه والذراع بيده ودخل السوق ينادي، حتى كرهه المسلمون وقالوا: كيف تفعل ذلك وقد أقمت لخلافة النبوة؟ فقال: لا تشغلوني عن عيالي فإني إن أضعتهم كنت لما سواهم أضيع حتى فرضوا له قوت أهل بيت من المسلمين، فلما رضوا بذلك رأى مساعدتهم وتطييب قلوبهم واستغراق الوقت بمصالح المسلمين أولى، ويستحيل أن يقال: لم يكن الصديق في مقام التوكل! فمن أولى بهذا المقام منه؟ فدل على أنه كان متوكلاً لا باعتبار ترك الكسب والسعي بل باعتبار قطع الالتفات إلى قوته وكفايته والعلم بأن الله هو ميسر الاكتساب ومدبر الأسباب وبشروط كان يراعيها في طريق الكسب من الاكتفاء بقدر الحاجة من غير استكثار وتفاخر وادخار ومن غير أن يكون درهمه أحب إليه من درهم غيره، فمن دخل السوق ودرهمه أحب إليه من درهم غيره فهو حريص على الدنيا ومحب لها، ولا يصح التوكل إلا مع الزهد في الدنيا، نعم يصح الزهد دون التوكل فإن التوكل مقام وراء الزهد.
وقال أبو جعفر الحداد - وهو شيخ الجنيد رحمة الله عليهما - وكان من المتوكلين: أخفيت التوكل عشرين سنة وما فارقت السوق: كنت أكتسب في كل يوم ديناراً ولا أبيت منه دانقاً ولا أستريح منه إلى قيراط أدخل به الحمام، بل أخرجه كله قبل الليل. وكان الجنيد لا يتكلم في التوكل بحضرته وكان يقول: أستحي أن أتكلم في مقامه وهو حاضر عندي، واعلم أن الجلوس في رباطات الصوفية مع معلوم بعيد من التوكل، فإن لم يكن معلوم ووقف وأمروا الخادم بالخروج للطلب لم يصح معه التوكل إلا على ضعف، ولكن يقوى بالحال والعلم، كتوكل المكتسب؛ وإن لم يسألوا بل قنعوا بما يحمل إليهم فهذا أقوى في توكلهم، لكنه بعد اشتهار القوم بذلك فقد صار لهم سوقاً، فهو كدخول السوق، ولا يكون داخل السوق متوكلاً إلا بشروط كثيرة كما سبق فإن قلت: فما الأفضل أن يقعد في بيته، أو يخرج ويكتسب؟ فاعلم أنه إن كان يتفرغ بترك الكسب لفكر وذكر وإخلاص واستغراق وقت بالعبادة وكان الكسب يشوش عليه ذلك وهو مع هذا لا تستشرف نفسه إلى الناس في انتظار من يدخل عليه فيحمل إليه شيئاً بل يكون قوي القلب في الصبر والاتكال على الله تعالى، فالقعود له أولى. وإن كان يضطرب قلبه في البيت ويستشرف إلى الناس فالكسب أولى، لأن استشراف القلب إلى الناس سؤال بالقلب، وتركه أهم من ترك الكسب، وما كان المتوكلون يأخذون ما تستشرف إليه نفوسهم: كان أحمد بن حنبل قد أمر أبا بكر المروزي أن يعطي بعض الفقراء شيئاً فضلاً عما كان استأجره عليه، فرده، فلما ولى قال له أحمد: الحقه وأعطه فإنه يقبل، فلحقه وأعطاه فأخذه، فسأل أحمد عن ذلك؟ فقال: كان قد استشرفت نفسه فرد، فلما خرج انقطع طمعه وأيس فأخذ، وكان الخواص رحمه الله إذا نظر إلى عبد في العطاء أو خاف اعتياد النفس لذلك لم يقبل منه شيئاً، وقال الخواص بعد أن سئل عن أعجب ما رآه في أسفاره: رأيت الخضر ورضي بصحبتي ولكني فارقته خيفة أن تسكن نفسي إليه فيكون نقصاً في توكلي، فإذن المكتسب إذا راعى آداب الكسب وشروط نيته كما سبق في كتاب الكسب وهو أن لا يقصد به الاستكثار ولم يكن اعتماده على بضاعته وكفايته كان متوكلاً.
فإن قلت: فما علامة عدم اتكاله على البضاعة والكفاية؟ فأقول: علامته أنه إن سرقت بضاعته أو خسرت تجارته أو تعوق أمر من أموره كان راضياً به ولم تبطل طمأنينته ولم يضطرب قلبه، بل كان حال قلبه في السكون قبله وبعده واحداً، فإن لم يسكن إلى شيء لم يضطرب لفقده، ومن اضطرب لفقد شيء فقد سكن إليه، وكان بشر يعمل المغازل فتركها، وذلك لأن البعادي كاتبه قال: بلغني أنك استعنت على رزقك بالمغازل، أرأيت إن أخذ الله سمعك وبصرك الرزق على من؟ فوقع ذلك في قلبه فأخرج آلة المغازل من يده وتركها. وقيل: تركها لما نوهت باسمه وقصد لأجلها. وقيل: فعل ذلك لما مات عياله، كما كان لسفيان خمسون ديناراً يتجر فيها، فلما مات عياله فرقها.
فإن قلت: فكيف يتصور أن يكون له بضاعة ولا يسكن إليها وهو يعلم أن الكسب بغير بضاعة لا يمكن؟ فأقول: بأن يعلم أن الذين يرزقهم الله تعالى بغير بضاعة فيهم كثرة، وأن الذين كثرت بضاعتهم فسرقت وهلكت فيهم كثرة، وأن يوطن نفسه على أن الله لا يفعل به إلا ما فيه صلاحه، فإن أهلك بضاعته فهو خير له فلعله لو تركه كان سبباً لفساد دينه وقد لطف الله تعالى به، وغايته أن يموت جوعاً، فينبغي أن يعتقد أن الموت جوعاً خير له في الآخرة مهما قضى الله تعالى بذلك من غير تقصير من جهته، فإذا اعتقد جميع ذلك استوى عنده وجود البضاعة وعدمها، ففي الخبر " إن العبد ليهم من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه فينظر الله تعالى إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه كئيباً حزيناً يتطير بجاره وابن عمه: من سبقني؟ من دهاني؟ وما هي إلا رحمة رحمه الله بها" ولذلك قال عمر رضي الله عنه: لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيراً، فإني لا أدري أيهما خير لي، ومن لم يتكامل يقينه بهذه الأمور لم يتصور منه التوكل؛ ولذلك قال أبو سليمان الداراني لأحمد بن أبي الحواري: لي من كل مقام نصيب إلا من هذا التوكل المبارك فإني ما شممت منه رائحة، هذا كلامه مع علو قدره، ولم ينكر كونه من المقامات الممكنة ولكنه قال: ما أدركته، ولعله أراد إدراك أقصاه، وما لم يكمل الإيمان بأن لا فاعل إلا الله ولا رازق سواه وأن كل ما يقدره على العبد من فقر وغنى وموت وحياة فهو خير له مما يتمناه العبد: لم يكمل حال التوكل على قوة الإيمان بهذه الأمور - كما سبق - وكذا سائر مقامات الدين من الأقوال والأعمال تنبني على أصولها من الإيمان. وبالجملة التوكل مقام مفهوم ولكن يستدعي قوة القلب وقوة اليقين، ولذل قال سهل: من طعن على التكسب فقد طعن على السنة، ومن طعن على ترك التكسب فقد طعن على التوحيد فإن قلت: فهل من دواء ينتفع به في صرف القلب عن الركون إلى الأسباب الظاهرة وحسن الظن بالله تعالى في تيسير الأسباب الخفية؟ فأقول: نعم هو أن تعرف أن سوء الظن تلقين الشيطان، وحسن الظن تلقين الله تعالى: قال الله تعالى: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً " فإن الإنسان بطبعه مشغوف بسماع تخويف الشيطان، ولذلك قيل: الشفيق بسوء الظن مولع، وإذا انضم إليه الجبن وضعف القلب ومشاهدة المتكلين على الأسباب الظاهرة والباعثين عليها غلب سوء الظن وبطل التوكل بالكلية، بل رؤية الرزق من الأسباب الخفية أيضاً تبطل التوكل، فقد حكي عن عابد أنه عكف في مسجد ولم يكن له معلوم، فقال له الإمام: لو اكتسبت لكان أفضل لك، فلم يجبه حتى أعاد عليه ثلاثاً، فقال في الرابعة: يهودي في جوار المسجد قد ضمن لي كل يوم رغيفين، فقال: إن كان صادقاً في ضمانه فعكوفك في المسجد خير لك، فقال: يا هذا لو لم تكن إماماً تقف بين يدي الله وبين العباد مع هذا النقص في التوحيد كان خيراً لك إذ فضلت وعد يهودي على ضمان الله تعالى بالرزق.
وقال إمام المسجد لبعض المصلين: من أين تأكل؟ فقال: يا شيخ اصبر حتى أعيد الصلاة التي صليتها خلفك ثم أجيبك.
وينفع حسن الظن بمجيء الرزق من فضل الله تعالى بواسطة الأسباب الخفية: أن تسمع الحكايات التي فيها عجائب صنع الله تعالى في وصول الرزق إلى صاحبه، وفيها عجائب قهر الله تعالى في إهلاك أموال التجار والأغنياء وقتلهم جوعاً، كما روي عن حذيفة المرعشي وقد كان خدم إبراهيم بن أدهم، فقيل له: ما أعجب ما رأيت منه؟ فقال: بقينا في طريق مكة أياماً لم نجد طعاماً، ثم دخلنا الكوفة فأوينا إلى مسجد خراب، فنظر إلي إبراهيم وقال: يا حذيفة، أرى بك الجوع، فقلت: هو ما رأى الشيخ، فقال: علي بدواة وقرطاس، فجئت به إليه فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أنت المقصود إليه بكل حال، والمشار إليه بكل معنى، وكتب شعراً:

ثم دفع إلي الرقعة فقال: اخرج ولا تعلق قلبك بغير الله تعالى، وادفع الرقعة إلى أول من يلقاك، فخرجت فأول من لقيني كان رجلاً على بغلة. فناولته الرقعة فأخذها، فلما وقف عليها بكى وقال: ما فعل صاحب هذه الرقعة؟ فقلت: هو في المسجد الفلاني، فدفع إلي صرة فيها ستمائة دينار، ثم لقيت رجلاً آخر فسألته عن راكب البغلة فقال: هذا نصراني، فجئت إلى إبراهيم وأخبرته بالقصة فقال: لا تمسه فإنه يجيء الساعة، فلما كان بعد ساعة دخل النصراني وأكب على رأس إبراهيم يقبله وأسلم.
وقال أبو يعقوب الأقطع البصري: جمعت مرة بالحرم عشرة أيام فوجدت ضعفاً، فحدثتني نفسي بالخروج فخرجت إلى الوادي لعلي أجد شيئاً يسكن ضعفي، فرأيت سلجمة مطروحة فأخذتها، فوجدت في قلبي منها وحشة وكأن قائلاً يقول لي: جعت عشرة أيام وآخره يكون حظك سلجمة متغيرة، فرميت بها ودخلت المسجد وقعدت، فإذا أنا برجل أعجمي قد أقبل حتى جلس بين يدي ووضع قمطرة وقال: هذه لك، فقلت: كيف خصصتني بها؟ قال: اعلم أنا كنا في البحر منذ عشرة أيام وأشرفت السفينة على الغرق، فنذرت إن خلصني الله تعالى أن أتصدق بهذه على أول من يقع عليه بصري من المجاورين، وأنت أول من لقيته، فقلت: افتحها، ففتحها فإذا فيها سميد مصري ولوز مقشور وسكر كعاب، فقبضت قبضة من ذا وقبضة من ذا وقلت: رد الباقي إلى أصحابك هدية مني إليكم، وقد قبلتها، ثم قلت في نفسي: رزقك يسير إليك من عشرة أيام وأنت تطلبه من الوادي.
وقال ممشاد الدينوري: كان علي دين فاشتغل قلبي بسببه، فرأيت في النوم كأن قائلاً يقول: يا بخيل، أخذت علينا هذا المقدار من الدين، خذ عليك الأخذ وعلينا العطاء، فما حاسبت بعد ذلك بقالاً ولا قصاباً ولا غيرهما وحكي عن بنان الحمال قال: كنت في طريق مكة أجيء من مصر ومعي زاد؛ فجاءتني امرأة وقالت لي: يا بنان، أنت حمال نحمل على ظهرك الزاد وتتوهم أنه لا يرزقك، قال: فرميت بزادي ثم أتى علي ثلاث لم آكل، فوجدت خلخالاً في الطريق فقلت في نفسي: أحمله حتى يجيء صاحبه فربما يعطيني شيئاً فأرده عليه، فإذا أنا بتلك المرأة فقالت لي: أنت تاجر تقول عسى يجيء صاحبه فآخذ منه شيئاً! ثم رمت لي شيئاً من الدراهم وقالت: أنفقها، فاكتفيت بها إلى قريب مكة.
وحكي أن بناناً احتاج إلى جارية تخدمه، فانبسط إلى إخوانه فجمعوا له ثمنها وقالوا: هو ذا يجيء النفير فنشتري ما يوافق، فلما ورد النفير اجتمع رأيهم على واحدة وقالوا: إنها تصلح له، فقالوا لصاحبها: بكم هذه؟ فقال: إنها ليست للبيع، فألحوا عليه فقال: إنها لبنان الحمال أهدتها إليه امرأة من سمرقند، فحملت إلى بنان وذكرت له القصة.
وقيل: كان في الزمان الأول رجل في سفر ومعه قرص فقال: إن أكلته مت، فوكل الله عز وجل به ملكاً وقال: إن أكله فارزقه وإن لم يأكله فلا تعطه غيره، فلم يزل القرص معه إلى أن مات ولم يأكله وبقي القرص عنده.
وقال أبو سعيد الخراز: دخلت البادية بغير زاد فأصابتني فاقة، فرأيت المرحلة من بعيد فسررت بأن وصلت ثم فكرت في نفسي أني سكنت واتكلت على غيره وآليت أن لا أدخل المرحلة إلا أن أحمل إليها، فحفرت لنفسي في الرمل حفرة واريت جسدي فيها إلى صدري، فسمعت صوتاً في نصف الليل عالياً: يا أهل المرحلة، إن لله تعالى ولياً حبس نفسه في هذا الرمل فألحقوه، فجاء جماعة فأخرجوني وحملوني إلى القرية.
وروي أن رجلاً لازم باب عمر رضي الله عنه فإذا هو بقائل يقول: يا هذا هاجرت إلى عمر أو إلى الله تعالى؟ اذهب فتعلم القرآن فإنه سيغنيك عن باب عمر، فذهب الرجل وغاب حتى افتقده عمر، فإذا هو قد اعتزل واشتغل بالعبادة، فجاءه عمر فقال له: إني قد اشتقت إليك فما الذي شغلك عني؟ فقال: إني قرأت القرآن فأغناني عن عمر وآل عمر، فقال عمر: رحمك الله فما الذي وجدت فيه؟ فقال: وجدت فيه " وفي السماء رزقكم وما توعدون " فقلت رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، فبكى عمر وقال: صدقت، فكان عمر بعد ذلك يأتيه ويجلس إليه.
وقال أبو حمزة الخراساني: حججت سنة من السنين فبينا أنا أمشي في الطريق إذ وقعت في بئر فنازعتني نفسي أن أستغيث، فقلت لا والله لا أستغيث، فما استتممت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان، فقال أحدهما للآخر تعال حتى نسد رأس هذا البئر لئلا يقع فيه أحد، فأتوا بقصب وبارية وطموا رأس البئر، فهممت أن أصيح فقلت في نفسي: إلى من أصيح هو أقرب منهما وسكنت فبينا أنا بعد ساعة إذ أنا بشيء جاء وكشف عن رأس البئر وأدلى رجله وكأنه يقول تعلق بي في همهمة له كنت أعرف ذلك، فتعلقت به فأخرجني، فإذا هو سبع، فمر بي وهتف بي هاتف: يا أبا حمزة أليس هذا أحسن، نجيناك من التلف بالتلف، فمشيت وأنا أقول:


[align=center]نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف
تلطفت في أمري فأبديت شاهـدي إلى غائبي واللطف يدرك باللطف
تراءيت لي بالمغيب حتى كأنـمـا تبشرني بالغيب أنك في الـكـف
أراك وبي من هيبتي لك وحـشة فتؤنسني باللطف منك وبالعطـف
وتحيي محباً أنت في الحب حتفـه وذا عجب كون الحياة مع الحتف
[/align]

وأمثال هذه الوقائع مما يكثر، وإذا قوي الإيمان به وانضم إليه القدرة على الجوع قدر أسبوع من غير ضيق صدر، وقوي الإيمان بأنه إن لم يسق إليه رزقه في أسبوع فالموت خير له عند الله عز وجل ولذلك حبسه عنه، ثم التوكل بهذه الأحوال والمشاهدات، وإلا فلا يتم أصلاً.

[align=center]بيان توكل المعيل[/align]

اعلم أن من له عيال فحكمه يفارق المنفرد، لأن المنفرد لا يصح توكله إلا بأمرين: أحدهما قدرته على الجوع أسبوعاً من غير استشراف وضيق نفس، والآخر أبواب من الإيمان ذكرناها من جملتها: أن يطيب نفساً بالموت إن لم يأته رزقه، علماً بأن رزقه الموت والجوع، وهو إن كان نقصاً في الدنيا فهو زيادة في الآخرة، فيرى أنه سيق إليه خير الرزقين له: وهو رزق الآخرة، وأن هذا هو المرض الذي به يموت ويكون راضياً بذلك وأنه كذا قضي وقدر له، فبهذا يتم التوكل للمنفرد، ولا يجوز تكليف العيال الصبر على الجوع، ولا يمكن أن يقرر عندهم الإيمان بالتوحيد وأن الموت على الجوع رزق مغبوط عليه في نفسه إن اتفق ذلك نادراً، وكذا سائر أبواب الإيمان، فإذن لا يمكنه في حقهم إلا توكل المكتسب وهو المقام الثالث، كتوكل أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذا خرج للكسب، فأما دخول البوادي وترك العيال توكلاً في حقهم أو القعود عن الاهتمام بأمرهم توكلاً في حقهم فهذا حرام، وقد يفضي إلى هلاكهم ويكون هو مؤاخذاً بهم، بل التحقيق أنه لا فرق بينه وبين عياله، فإنه إن ساعده العيال على الصبر على الجوع مدة وعلى الاعتداد بالموت على الجوع رزقاً وغنيمة في الآخرة، فله أن يتوكل في حقهم ونفسه أيضاً عيال عنده، ولا يجوز له أن يضيعها إلا أن تساعده على الصبر على الجوع مدة، فإن كان لا يطيقه ويضطرب عليه قلبه وتتشوش عليه عبادة لم يجز له التوكل، ولذلك روي أن أبا تراب النخشي نظر إلى صوفي مد يده إلى قشر بطيخ ليأكله بعد ثلاثة أيام، فقال له: لا يصلح لك التصوف الزم السوق. أي لا تصوف إلا مع التوكل ولا يصح التوكل إلا لمن يصبر عن الطعام أكثر من ثلاثة أيام، وقال أبو علي الروذباري: إذا قال الفقير بعد خمسة أيام: أنا جائع فألزموه السوق ومروه بالعمل والكسب، فإذن بدنه عياله وتوكله فيما يضر ببدنه كتوكله في عياله: وإنما يفارقهم في شيء واحد وهو أن له تكليف نفسه الصبر على الجوع وليس له ذلك في عياله، وقد انكشف لك من هذا أن التوكل ليس انقطاعاً عن الأسباب بل الاعتماد على الصبر على الجوع مدة والرضا بالموت إن تأخر الرزق نادراً وملازمة البلاد والأمصار أو ملازمة البوادي التي لا تخلو عن حشيش وما يجري مجراه، فهذه كلها أسباب البقاء ولكن مع نوع من الأذى، إذ لا يمكن الاستمرار عليه إلا بالصبر، والتوكل في الأمصار أقرب إلى الأسباب من التوكل في البوادي، وكل ذلك من الأسباب إلا أن الناس عدلوا إلى أسباب أظهر منها فلم يعدوا تلك أسباباً، وذلك لضعف إيمانهم وشدة حرصهم وقلة صبرهم على الأذى في الدنيا لأجل الآخرة واستيلاء الجبن على قلوبهم بإساءة الظن وطول الأمل، ومن نظر في ملكوت السموات والأرض انكشف له تحقيقاً أن الله تعالى دبر الملك والملكوت تدبيراً لا يجاوز العبد رزقه وإن ترك الاضطراب. فإن العاجز عن الاضطراب لم يجاوزه رزقه، أما ترى الجنين في بطن أمه لما أن كان عاجزاً عن الاضطراب كيف وصل سرته بالأم حتى تنتهي إليه فضلات غذاء الأم بواسطة السرة ولم يكن ذلك بحيلة الجنين، ثم لما انفصل سلط الحب والشفقة على الأم لتتكفل به شاءت أم أبت اضطراراً من الله تعالى إليه بما أشعل في قلبها من نار الحب، ثم لما لم يكن له سن يمضغ به الطعام جعل رزقه من اللبن الذي لا يحتاج إلى المضغ، ولأنه لرخاوة مزاجه كان لا يحتمل الغذاء الكثيف فأدر له اللبن اللطيف في ثدي الأم عند انفصاله على حسب حاجته، أفكان هذا بحيلة الطفل أو بحيلة الأم! إذ صار بحيث يوافقه الغذاء الكثيف أنبت له أسناناً قواطع وطواحين لأجل المضغ، فإذا كبر واستقل يسر له أسباب التعلم وسلوك سبيل الآخرة، فجبنه بعد البلوغ جهل محض لأنه ما نقصت أسباب معيشته ببلوغه بل زادت، فإنه لم يكن قادراً على الاكتساب، فالآن قد قدر فزادت قدرته، نعم كان المشفق عليه شخصاً واحداً وهي الأم أو الأب وكانت شفقته مفرطة جداً فكان يطعمه ويسقيه في اليوم مرتين وكان إطعامه بتسليط الله تعالى الحب والشفقة على قلبه، فكذلك قد سلط الله الشفقة والمودة والرحمة والرقة على قلوب المسلمين بل أهل البلد كافة، حتى إن كل واحد منهم إذا أحس بمحتاج تألم قلبه ورق عليه وانبعثت له داعية إلى إزالة حاجته، فقد كان المشفق عليه واحداً والآن المشفق عليه ألف وزيادة، وقد كانوا لا يشفقون عليهم لأنهم رأوه في كفالة الأم والأب وهو مشفق خاص فما رأوه محتاجاً، ولو رأوه يتيماً لسلط الله داعية الرحمة على واحد من المسلمين أو على جماعة حتى يأخذونه ويكفلونه، فما رؤي إلى الآن في سني الخصب يتيم قد مات جوعاً مع أنه عاجز عن الاضطراب وليس له كافل خاص، والله تعالى كافله بواسطة الشفقة التي خلقها في قلوب عباده فلماذا ينبغي أن يشتغل قلبه برزقه بعد البلوغ ولم يشتغل في الصبا وقد كان المشفق واحداً والمشفق الآن ألف، نعم كانت شفقة الأم أقوى وأحظى ولكنها واحدة، وشفقة آحاد الناس وإن ضعفت فيخرج من مجموعها ما يفيد الغرض، فكم من يتيم قد يسر الله تعالى له حالاً هو أحسن من حال من له أب وأم! فينجبر ضعف شفقة الآحاد بكثرة المشفقين وبترك التنعم والاقتصار على قدر الضرورة، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:

[align=center]جرى قلم القضاء بما يكون فسان التحرك والسكـون
جنون منك أن تسعى لرزقٍ ويرزق في غشاوته الجنين[/align]


فإن قلت: الناس يكفلون اليتيم لأنهم يرونه عاجزاً بصباه، وأما هذا فبالغ قادر على الكسب فلا يلتفتون إليه ويقولون: هو مثلنا فليجتهد لنفسه؟ فأقول: إن كان هذا القادر بطالاً فقد صدقوا فعليه الكسب ولا معنى للتوكل في حقه فإن التوكل من مقامات الدين يستعان به على التفرغ لله تعالى، فما للبطال والتوكل؟ وإن كان مشتغلاً بالله ملازماً لمسجد أو بيت وهو مواظب على العلم والعبادة فالناس لا يلومونه في ترك الكسب ولا يكلفونه ذلك، بل اشتغاله بالله تعالى يقرر حبه في قلوب الناس حتى يحملون إليه فوق كفايته، وإنما عليه أن لا يغلق الباب ولا يهرب إلى جبل من بين الناس، وما رؤي إلى الآن عالم أو عابد استغرق الأوقات بالله تعالى وهو في الأمصار فمات جوعاً ولا يرى قط، بل لو أراد أن يطعم جماعة من الناس بقوله لقدر عليه، فإن من كان لله تعالى كان الله عز وجل له، ومن اشتغل بالله عز وجل ألقى الله حبه في قلوب الناس وسخر له القلوب كما سخر قلب الأم لولدها، فقد دبر الله تعالى الملك والملكوت تدبيراً كافياً لأهل الملك والملكوت، فمن شاهد هذا التدبير وثق بالمدبر واشتغل به وآمن ونظر إلى مدبر الأسباب لا إلى الأسباب، نعم ما دبره تدبيراً يصل إلى المشتغل به الحلو والطيور السمان والثياب الرقيقة والخيول النفيسة على الدوام لا محالة، وقد يقع ذلك أيضاً في بعض الأحوال لكن دبره تدبيراً يصل إلى كل مشتغل بعبادة الله تعالى في كل أسبوع قرص شعير أو حشيش يتناوله لا محالة، والغالب أنه يصل أكثر منه بل يصل ما يزيد على قدر الحاجة والكفاية، فلا سبب لترك التوكل إلا رغبة النفس في التنعم على الدوام ولبس الثياب الناعمة وتناول الأغذية اللطيفة، وليس ذلك من طريق الآخرة، وذلك قد لا يحصل بغير اضطراب، وهو في الغالب أيضاً ليس يحصل مع الاضطراب، وإنما يحصل نادراً، وفي النادر قد يحصل بغير اضطراب: فأثر الاضطراب ضعف عند من انفتحت بصيرته، فلذلك لا يطمئن إلى اضطرابه بل إلى مدبر الملك والملكوت تدبيراً لا يجاوز عبداً من عباده رزقه وإن سكن إلا نادراً ندوراً عظيماً يتصور مثله في حق المضطرب: فإذا انكشفت هذه الأمور وكان معه قوة في القلب وشجاعة في النفس أثمر ما قاله الحسن البصري رحمه الله إذ قال: وددت أن أهل البصرة في عيالي، وأن حبة بدينار.
وقال وهيب بن الورد: لو كانت السماء نحاساً والأرض رصاصاً واهتممت برزقي لظننت أني مشرك، فإذا فهمت هذه الأمور فهمت أن التوكل مقام مفهوم في نفسه ويمكن الوصول إليه لمن قهر نفسه، وعلمت أن من أنكر أصل التوكل وإمكانه أنكره عن جهل، فإياك أن تجمع بين الإفلاسين: الإفلاس عن وجود المقام ذوقاً، والإفلاس عن الإيمان به علماً؛ فإذن عليك بالقناعة بالنزر القليل والرضا بالقوت فإنه يأتيك لا محالة وإن فررت منه، وعند ذلك على الله أن يبعث إليك رزقك على يدي من لا تحتسب، فإن اشتغلت بالتقوى شاهدت بالتجربة مصداق قوله تعالى: " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " الآية، إلا أنه لم يتكفل له أن يرزقه لحم الطير ولذائذ الأطعمة، فما ضمن إلا الرزق الذي تدوم به حياته، وهذا المضمون مبذول كل من اشتغل بالضامن واطمأن إلى ضمانه؛ فإن الذي أحاط به تدبير الله من الأسباب الخفية للرزق أعظم مما ظهر للخلق، بل مداخل الرزق لا تحصى ومجاريه لا يهتدى إليها، وذلك لأن ظهوره على الأرض وسببه في السماء، قال الله تعالى: " وفي السماء رزقكم وما توعدون " وأسرار السماء لا يطلع عليها، ولهذا دخل جماعة على الجنيد فقال: ماذا تطلبون؟ قالوا: نطلب الرزق، فقال: إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه. قالوا: نسأل الله. قال: إن علمتم أنه ينساكم فذكروه، فقالوا: ندخل البيت ونتوكل وننظر ما يكون. فقال: التوكل على التجربة شك قالوا: فما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة.
وقال أحمد بن عيسى الخراز: كنت في البادية فنالني جوع شديد فغلبتني نفسي أن أسأل الله تعالى طعاماً، فقلت: ليس هذا من أفعال المتوكلين، فطالبتني أن أسأل الله صيراً، فلما هممت بذلك سمعت هاتفاً يهتف بي ويقول:


[align=center]ويزعم أنه منـا قـريب وأنا لا نضيع من أتانـا
ويسألنا على الإقتار جهداً كأنا لا نراه ولا يرانـا[/align]


فقد فهمت أن من انكسرت نفسه وقوي قلبه ولم يضعف بالجبن باطنه وقوي إيمانه بتدبير الله تعالى؛ كان مطمئن النفس أبداً واثقاً بالله عز وجل؛ فإن أسوأ حاله أن يموت، ولا بد أن يأتيه الموت كما يأتي من ليس مطمئناً فإذن تمام التوكل بقناعة من جانب ووفاء بالمضمون من جانب، والذي ضمن رزق القانعين بهذه الأسباب التي دبرها صادق، فاقنع وجرب تشاهد صدق الوعد تحقيقاً بما يرد عليك من الأرزاق العجيبة التي لم تكن في ظنك وحسابك، ولا تكن في توكلك منتظراً للأسباب بل لمسبب الأسباب، كما لا تكون منتظراً لقلم الكاتب فإنه أصل حركة القلم، والمحرك الأول واحد فلا ينبغي أن يكون النظر إلا إليه، وهذا شرط توكل من يخوض البوادي بلا زاد أو يقعد في الأمصار وهو خامل. وأما الذي له ذكر بالعبادة والعلم فإذا قنع في اليوم والليلة بالطعام مرة واحدة كيف كان وإن لم يكن من اللذائذ، وثوب خشن يليق بأهل الدين فهذا يأتيه من حيث يحتسب ولا يحتسب على الدوام، بل يأتيه أضعافه، فتركه التوكل واهتمامه بالرزق غاية الضعف والقصور، فإن اشتهاره بسبب ظاهر يجلب الرزق إليه أقوى من دخول الأمصار في حق الخامل مع الاكتساب، فالاهتمام بالرزق قبيح بدوي الدين وهو بالعلماء أقبح لأن شرطهم القناعة والعالم القانع يأتيه رزقه ورزق جماعة كثيرة إن كانوا معه إلا إذا أراد أن لا يأخذ من أيدي الناس ويأكل من كسبه فذلك له وجه لائق بالعالم العامل الذي سلوكه بظاهر العلم والعمل ولم يكن له سير بالباطن: فإن الكسب يمنع عن السير بالفكر الباطن، فاشتغاله بالسلوك مع الأخذ من يد من يتقرب إلى الله تعالى بما يعطيه أولى لأنه تفرغ لله عز وجل وإعانة للمعطي على نيل الثواب، ومن نظر إلى مجاري سنة الله تعالى علم أن الرزق ليس على قدر الأسباب، ولذلك سأل بعض الأكاسرة حكيماً عن الأحمق المرزوق والعاقل المحروم فقال: أراد الصانع أن يدل على نفسه، إذ لو رزق كل عاقل وحرم كل أحمق لظن أن العقل رزق صاحبه، فلما رأوا خلافه علموا أن الرازق غيرهم ولا ثقة بالأسباب الظاهرة لهم، قال الشاعر:

[align=center]ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذن من جهلهـن الـبـهـائم[/align]

[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد أكتوبر 08, 2006 8:41 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان أحوال المتوكلين في التعلق بالأسباب
بضرب مثال
[/align]

اعلم أن مثال الخلق مع الله تعالى مثل طائفة من السؤال وقفوا في ميدان على باب قصر الملك وهم محتاجون إلى الطعام فأخرج إليهم غلماناً كثيرة ومعهم أرغفة من الخبز وأمرهم أن يعطوا بعضهم رغيفين رغيفين وبعضهم رغيفاً رغيفاً ويجتهدوا في أن لا يغفلوا عن واحد منهم، وأمر منادياً حتى نادى فيهم أن اسكنوا ولا تتعلقوا بغلماني إذا خرجوا إليكم، بل ينبغي أن يطمئن كل واحد منكم في موضعه فإن الغلمان مسخرون وهم مأمورون بأن يوصلوا إليكم طعامكم: فمن تعلق بالغلمان وآذاهم وأخذ رغيفين فإذا فتح باب الميدان وخرج اتبعته بغلام يكون موكلاً به إلى أن أتقدم لعقوبته في ميعاد معلوم عندي وأخفيه، ومن لم يؤذ الغلمان وقنع برغيف واحد أتاه من يد الغلام وهو ساكن فإني أختصه بخلعة سنية في الميعاد المذكور لعقوبة الآخر، ومن ثبت في مكانه ولكنه أخذ رغيفين فلا عقوبة عليه ولا خلعة له، ومن أخطأه غلماني فما أوصلوا إليه شيئاً فبات الليلة جائعاً غير متسخط للغلمان ولا قائلاً: ليته أوصل إلي رغيفاً فإني غداً أستوزره وأفوض ملكي إليه فانقسم السؤال إلى أربعة أقسام: قسم غلبت عليهم بطونهم فلم يلتفتوا إلى العقوبة الموعودة، وقالوا: من اليوم إلى غد فرج! ونحن الآن جائعون فبادروا إلى الغلمان فآذوهم وأخذوا الرغيفين، فسبقت العقوبة إليهم في الميعاد المذكور فندموا ولم ينفعهم الندم، وقسم تركوا التعلق بالغلمان خوف العقوبة ولكن أخذوا رغيفين لغلبة الجوع فسلموا من العقوبة وما فازوا بالخلعة، وقسم قالوا: إنا نجلس بمرأى من الغلمان حتى لا يخطئونا ولكن نأخذ إذا أعطونا رغيفاً واحداً نقنع به، فلعلنا نفوز بالخلعة ففازوا بالخلعة؛ وقسم رابع اختفوا في زوايا الميدان وانحرفوا عن مرأى أعين الغلمان وقالوا: إن اتبعونا وأعطونا قنعنا برغيف واحد، وإن أخطأونا قاسينا شدة الجوع الليلة، فلعلنا نقوى على ترك التسخط فننال رتبة الوزراة ودرجة القرب عند الملك، فما نفعهم ذلك، إذ اتبعهم الغلمان في كل زاوية وأعطوا كل واحد رغيفاً واحداً، وجرى مثل ذلك أياماً حتى اتفق على الندور أن اختفى ثلاثة في زاوية ولم تقع عليهم أبصار الغلمان وشغلهم شغل صارف عن طول التفتيش، فباتوا في جوع شديد، فقال اثنان منهم: ليتنا تعرضنا للغلمان وأخذنا طعامنا فلسنا نطيق الصبر، وسكت الثالث إلى الصباح فنال درجة القرب والوزارة، فهذا مثال الخلق، والميدان هو الحياة في الدنيا، وباب الميدان الموت، والميعاد المجهول يوم القيامة، والوعد بالوزراة هو الوعد بالشهادة للمتوكل إذا مات جائعاً راضياً من غير تأخير ذلك إلى ميعاد القيامة، لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، والمتعلق بالغلمان هو المعتدي في الأسباب، والغلمان المسخرون هم الأسباب، والجالس في ظاهر الميدان بمرأى الغلمان هم المقيمون في الأمصار في الرباطات والمساجد على هيئة السكون، والمختفون في الزوايا هم السائحون في البوادي على هيئة التوكل والأسباب تتبعهم والرزق يأتيهم إلا على سبيل الندور، فإن مات واحد منهم جائعاً راضياً فله الشهادة والقرب من الله تعالى، وقد انقسم الخلق إلى هذه الأقسام الأربعة، ولعل من كل مائة تعلق بالأسباب تسعون وأقام سبعة من العشرة الباقية في الأمصار متعرضين للسبب بمجرد حضورهم واشتهارهم، وساح في البوادي ثلاثة، وتسخط اثنان، وفاز بالقرب الواحد، ولعله كان كذلك في الأعصار السالفة، وأما الآن فالتارك للأسباب لا ينتهي إلى واحد من عشرة آلاف.
الفن الثاني في التعرض لأسباب الادخار: فمن حصل له مال بإرث أو كسب أو سؤال أو سبب من الأسباب، فله في الادخار ثلاثة أحوال: الأولى أن يأخذ قدر حاجته في الوقت فيأكل إن كان جائعاً، ويلبس إن كان عارياً، ويشتري مسكناً مختصراً إن كان محتاجاً، ويفرق الباقي في الحال، ولا يأخذه ولا يدخره إلا بالقدر الذي يدرك به يستحقه إليه فيدخره على هذه النية، فهذا هو الوفي بموجب التوكل تحقيقاً وهي الدرجة العليا.
الحالة الثانية: المقابلة لهذه المخرجة له عن حدود التوكل: أن يدخر لسنة فما فوقها، فهذا ليس من المتوكلين أصلاً؛ وقد قيل: لا يدخر من الحيوانات إلا ثلاثة: الفأرة، والنملة، وابن آدم الحالة الثالثة: أن يدخر لأربعين يوماً فما دونها، فهذا: هل يوجب حرمانه من المقام المحمود الموعود في الآخرة للمتوكلين؟ اختلفوا فيه: فذهب سهل إلى أنه يخرج عن حد التوكل. وذهب الخواص إلى أنه لا يخرج بأربعين يوماً ويخرج بما يزيد على الأربعين. وقال أبو طالب المكي: لا يخرج عن حد التوكل بالزيادة على الأربعين أيضاً، وهذا اختلاف لا معنى له بعد تجويز أصل الادخار، نعم يجوز أن يظن ظان أن أصل الادخار يناقض التوكل، فأما التقدير بعد ذلك فلا مدرك له، وكل ثواب موعود على رتبة فإنه يتوزع على تلك الرتبة، وتلك الرتبة لها بداية ونهاية، ويسمى أصحاب النهايات: السابقين، وأصحاب البدايات: أصحاب اليمين، ثم أصحاب اليمين أيضاً على درجات، وكذلك السابقون، وأعالي درجات أصحاب اليمين تلاصق أسافل درجات السابقين، فلا معنى للتقدير في مثل هذا؛ بل التحقيق أن التوكل بترك الادخار لا يتم إلا بقصر الأمل، وأما عدم آمال البقاء فيبعد اشتراطه ولو في نفس، فإن ذلك كالممتنع وجوده؛ أما الناس فمتفاوتون في طول الأمل وقصره، وأقل درجات الأمل يوم وليلة فما دونه من الساعات، وأقصاه ما يتصور أن يكون عمر الإنسان، وبينهما درجات لا حصر لها، فمن يؤمل أكثر من شهر أقرب إلى المقصود ممن يؤمل سنة، وتقييده بأربعين لأجل ميعاد موسى عليه السلام: بعيد؛ فإن تلك الواقعة ما قصد بها بيان مقدار ما رخص الأمل فيه، ولكن استحقاق موسى لنيل الموعود كان لا يتم إلا بعد أربعين يوماً لسر جرت به وبأمثاله سنة الله تعالى في تدريج الأمور، كما قال عليه السلام: "إن الله خمر طينة آدم بيده أربعين صباحاً" لآن استحقاق تلك الطينة التخمر كان موقوفاً على مدة مبلغها ما ذكر، فإذن ما وراء السنة لا يدخر له إلا بحكم ضعف القلب والركون إلى ظاهر الأسباب، فهو خارج عن مقام التوكل غير واثق بإحاطة التدبير من الوكيل الحق بخفايا الأسباب، فإن أسباب الدخل في الارتفاعات والزكوات تتكرر بتكرر السنين غالباً، ومن ادخر لأقل من سنة فله درجة بحسب قصر أمله ومن كان أمله شهرين لم تكن درجته كدرجة من أمل شهراً ولا درجة من أمل ثلاثة أشهر، بل هو بينهما في الرتبة، ولا يمنع من الادخار إلا قصر الأمل، فالأفضل أن لا يدخر أصلاً، وإن ضعف قلبه فكلما قل ادخاره كان فضله أكثر، وقد روي في الفقير الذي أمر صلى الله عليه وسلم علياً كرم الله وجهه وأسامة أن يغسلاه فغسلاه وكفناه ببردته، فلما دفنه قال لأصحابه: "إنه يبعث يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، لولا خصلة كانت فيه لبعث ووجهه كالشمس الضاحية " قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: " كان صواماً قواماً كثير الذكر لله تعالى غير أنه كان إذا جاء الشتاء ادخر حلة الصيف لصيفه، وإذا جاء الصيف ادخر حلة الشتاء لشتائه "، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " بل أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر" الحديث، وليس الكوز والشفرة وما يحتاج إليه على الدوام في معنى ذلك، فإن ادخاره لا ينقص الدرجة، وأما ثوب الشتاء فلا يحتاج إليه في الصيف، وهذا في حق من لا ينزعج قلبه بترك الادخار ولا تستشرف نفسه إلى أيدي الخلق بل لا يلتفت قلبه إلا إلى الوكيل الحق، فإن كان يستشعر في نفسه اضطراباً يشغل قلبه عن العبادة والذكر والفكر فالادخار له أولى، بل لو أمسك ضيعة يكون دخلها وافياً بقدر كفايته وكان لا يتفرغ قلبه إلا به فذلك له أولى، لأن المقصود إصلاح القلب ليتجرد لذكر الله، ورب شخص يشغله وجود المال ورب شخص يشغله عدمه، والمحذور ما يشغل عن الله عز وجل، وإلا فالدنيا في عينها غير محذورة لا وجودها ولا عدمها، ولذلك بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى أصناف الخلق وفيهم التجار والمحترفون وأهل الحرف والصناعات، فلم يأمر التجار بترك تجارته ولا المحترف بترك حرفته ولا أمر التارك لهما بالاشتغال بهما، بل دعا الكل إلى الله تعالى وأرشدهم إلى أن فوزهم ونجاتهم في انصراف قلوبهم عن الدنيا إلى الله تعالى، وعمدة الاشتغال بالله عز وجل القلب، فصواب الضعيف ادخار قدر حاجته، كما أن صواب القوي ترك الادخار وهذا كله حكم المنفرد؛ فأما المعيل فلا يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبراً لضعفهم وتسكيناً لقلوبهم، وادخار أكثر من ذلك مبطل للتوكل، لأن الأسباب تتكرر عند تكرر السنين، فادخاره ما يزيد عليه سببه ضعف قلبه، وذلك يناقض قوة التوكل، فالمتوكل عبارة عن موحد قوي القلب مطمئن النفس إلى فضل الله تعالى، واثق بتدبيره دون وجود الأسباب الظاهرة. وقد ادخر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعياله قوت سنة، ونهى أم أيمن وغيرها أن تدخر له شيئاً لغد، ونهى بلالاً عن الادخار في كسرة خبز ادخرها ليفطر عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: " أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا سئلت فلا تمنع وإذا أعطيت فلا تخبأ" إقتداء بسيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم، وقد كان قصر أمله بحيث كان إذا بال تيمم مع قرب الماء ويقول: " ما يدريني لعلي لا أبلغه".
وكان صلى الله تعالى عليه وسلم لو أخر لم ينقص ذلك من توكله إذ كان لا يثق بما ادخره، ولكنه عليه السلام ترك ذلك تعليماً للأقوياء من أمته، فإن أقوياء أمته ضعفاء بالإضافة إلى قوته، وادخر عليه السلام لعياله سنة لا لضعف قلب فيه وفي عياله، ولكن ليس ذلك للضعفاء في أمته، بل أخبر: " إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه" تطييباً لقلوب الضعفاء حتى لا ينتهي بهم الضعف إلى اليأس والقنوط فيتركون الميسور من الخير عليهم بعجزهم عن منتهى الدرجات، فما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين كلهم على اختلاف أصنافهم ودرجاتهم، وإذا فهمت هذا علمت أن الادخار قد يضر بعض الناس وقد لا يضر، ويدل على ما روى أبو أمامة الباهلي: أن بعض أصحاب الصفة توفي فما وجد له كفن، فقال صلى الله عليه وسلم: " فتشوا ثوبه، فوجدوا فيه دينارين في داخل إزاره فقال صلى الله عليه وسلم: " كيتان"، وقد كان غيره من المسلمين يموت ويخلف أموالاً ولا يقول ذلك في حقه، وهذا يحتمل وجهين لأن حاله يحتمل حالين: أحدهما: أنه أراد كيتين من النار، كما قال تعالى " تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم " وذلك إذا كان حاله إظهار الزهد والفقر مع الإفلاس عنه فهو نوع تلبيس.
والثاني: أن لا يكون ذلك عن تلبيس، فيكون المعنى به النقصان عن درجة كماله كما ينقص من جمال الوجه أثر كيتين في الوجه، وذلك لا يكون عن تلبيس، فإن كل ما يخلفه الرجل فهو نقصان عن درجته في الآخرة، إذ لا يؤتى أحد من شيئاً إلا نقص بقدره من الآخرة، وأما بيان أن الادخار مع فراغ القلب عن المدخر ليس من ضرورته بطلان التوكل، فيشهد له ما روي عن بشر، قال الحسين المغازلي من أصحابه: كنت عنده ضحوة من النهار، فدخل عليه رجل كهل أسمر خفيف العارضين، فقام إليه بشر، قال: وما رأيته قام لأحد غيره، قال: ودفع إلي كفاً من دراهم وقال: اشتر لنا من أطيب ما تقدر عليه من الطعام الطيب، وما قال لي قط مثل ذلك، قال: فجئت بالطعام فوضعته فأكل معه وما رأيته أكل مع غيره، قال: فأكلنا حاجتنا وبقي من الطعام شيء كثير، فأخذه الرجل وجمعه في ثوبه وحمله معه وانصرف، فعجبت من ذلك وكرهته له، فقال لي بشر: لعلك أنكرت فعله؟ قلت: نعم أخذ بقية الطعام من غير إذن، فقال: ذلك أخونا فتح الموصلي زارنا اليوم من الموصل فإنما أراد أن يعلمنا أن التوكل إذا صح لم يضر معه الادخار الفن الثالث في مباشرة الأسباب الدافعة للضرر المعرض للخوف: اعلم أن الضرر قد يعرض للخوف في نفس أو مال وليس من شروط التوكل ترك الأسباب الدافعة رأساً، أما في النفس فكالنوم في الأرض المسبعة أو في مجاري السيل من الوادي أو تحت الجدار المائل والسقف المنكسر، فكل ذلك منهي عنه، وصاحبه قد عرض نفسه للهلاك بغير فائدة، نعم تنقسم هذه الأسباب إلى مقطوع بها، ومظنونة، وإلى موهومة فترك الموهوم منها من شرط التوكل وهي التي نسبتها إلى دفع الضرر نسبة السكن والرقية، فإن الكي والرقية قد تقدم به على المحذور دفعاً لما يتوقع، وقد يستعمل بعد نزول المحذور للإزالة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصف المتوكلين إلا بترك الكي والرقية والطيرة، ولم يصفهم بأنهم إذا خرجوا إلى موضع بارد لم يلبسوا جبة، والجبة تلبس دفعاً للبرد المتوقع، وكذلك كل ما في معناها من الأسباب، نعم الاستظهار بأكل الثوم مثلاً عند الخروج إلى السفر في الشتاء تهييجاً لقوة الحرارة من الباطن ربما يكون من قبيل التعمق في الأسباب والتعويل عليها فيكاد يقرب من الكي بخلاف الجبة، ولترك الأسباب الدافعة وإن كانت مقطوعة وجه إذا ناله الضرر من إنسان، فإنه إذا أمكنه الصبر وأمكنه الدفع والتشفي فشرط التوكل الاحتمال والصبر، قال الله تعالى: " فاتخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون ".
وقال تعالى: " ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ".
وقال عز وجل: " ودع أذاهم وتوكل على الله ".
وقال سبحانه وتعالى: " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ".
وقال تعالى: " نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون " وهذا في أذى الناس، وأما الصبر على أذى الحيات والسباع والعقارب، فترك دفعها ليس من التوكل في شيء إذ لا فائدة فيه، ولا يراد السعي ولا يترك السعي لعينه بل لإعانته على الدين، وترتب الأسباب ههنا كترتبها في الكسب وجلب المنافع فلا نطول بالإعادة، وكذلك في الأسباب الدافعة عن المال، فلا ينقص التوكل بإغلاق باب البيت عند الخروج ولا بأن يعقل البعير، لأن هذه أسباب عرفت سنة الله تعالى إما قطعاً وإما ظناً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما أن أهمل البعير وقال توكلت على الله " اعقلها وتوكل".
وقال تعالى: " خذوا حذركم ".
وقال في كيفية صلاة الخوف: " وليأخذوا أسلحتهم ".
وقال سبحانه: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ".
وقال تعالى لموسى عليه السلام: " فأسر بعبادي ليلاً " والتحصن بالليل اختفاءً عن أعين الأعداء ونوع تسبب، واختفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار اختفاء عن أعين الأعداء دفعاً للضرر، وأخذ السلاح في الصلاة فليس دافعاً قطعاً كقتل الحية والعقرب فإنه دافع قطعاً، ولكن أخذ السلاح سبب مظنون، وقد بينا أن المظنون كالمقطوع، وإنما الموهوم هو الذي يقتضي التوكل تركه.
فإن قلت: فقد حكي عن جماعة أن منهم من وضع الأسد يده على كتفه ولم يتحرك. فأقول: وقد حكي عن جماعة أنهم ركبوا الأسد وسخروه فلا ينبغي أن يغرك ذلك المقام، فإنه وإن كان صحيحاً في نفسه فلا يصلح للإقتداء بطريق التعلم من الغير، بل ذلك مقام رفيع في الكرامات وليس ذلك شرطاً في التوكل، وفيه أسرار لا يقف عليها من لم ينته إليها.
فإن قلت: وهل من علامة أعلم بها أني قد وصلت إليها؟ فأقول: الواصل لا يحتاج إلى طلب العلامات ولكن من العلامات على ذلك المقام السابقة عليه: أن يسخر لك كلب هو معك في إهابك يسمى الغضب، فلا يزال يعضك ويعض غيرك، فإن سخر لك هذا الكلب بحيث إذا هيج وأشلى لم يستشل إلا بإشارتك وكان مسخراً لك، فربما ترتفع درجتك إلى أن يسخر لك الأسد الذي هو ملك السباع، وكلب دارك أولى أن يكون مسخراً لك من كلب البوادي، وكلب إهابك أولى بأن يتسخر من كلب دارك، فإذا لم يسخر لك الكلب الباطن فلا تطمع في استسخار الكلب الظاهر فإن قلت: فإذا أخذ المتوكل سلاحه حذراً من العدو وأغلق بابه حذراً من اللص وعقل بعيره حذراً من أن ينطلق، فبأي اعتبار يكون متوكلاً فأقول: يكون متوكلاً بالعلم والحال؛ فأما العلم فهو أن اللص إن اندفع لم يندفع بكفايته في إغلاق الباب، بل لم يندفع إلا بدفع الله تعالى إياه؛ فكم من باب يغلق ولا ينفع، وكم من بعير يعقل ويموت أو يفلت، وكم من آخذ سلاحه يقتل أو يغلب، فلا تتكل على هذه الأسباب أصلاً بل على مسبب الأسباب، كما ضربنا المثل في الوكيل في الخصومة فإنه إن حضر وأحضر السجل فلا يتكل على نفسه وسجله بل يتكل على كفاية الوكيل وقوته، وأما الحال فهو أن يكون راضياً بما يقضي الله تعالى به في بيته ونفسه ويقول: اللهم إن سلطت علي ما في البيت من يأخذه في سبيلك وأنا راض بحكمك، فإني لا أدري ما أعطيتني هبة فلا تسترجعها، أو عارية ووديعة فتستردها، ولا أدري أنه رزقي أو سبقت مشيئتك في الأزل بأنه رزق غيري، وكيفما قضيت فأنا راض به، وما أغلقت الباب تحصناً من قضائك وتسخطاً له، بل جرياً على مقتضى سنتك في ترتيب الأسباب، فلا ثقة إلا بك يا مسبب الأسباب؛ فإذا كان هذا حاله وذلك الذي ذكرناه علمه لم يخرج عن حدود التوكل بعقل البعير وأخذ السلاح وإغلاق الباب، ثم إذا عاد فوجد متاعه في البيت فينبغي أن يكون لك عنده جديدة من الله تعالى، وإن لم يجده بل وجده مسروقاً فانظر إلى قلبه، فإن وجده راضياً أو فرحاً بذلك عالماً أنه ما أخذ الله تعالى ذلك منه إلا ليزيد رزقه في الآخرة فقد صح مقامه في التوكل وظهر له صدقه، وإن تألم قلبه به ووجد قوة الصبر فقد بان له أنه ما كان صادقاً في دعوى التوكل، لأن التوكل مقام بعد الزهد، ولا يصح الزهد إلا ممن لا يتأسف على ما فات من الدنيا ولا يفرح بما يأتي، بل يكون على العكس منه، فكيف يصح له التوكل؟ نعم قد يصح له مقام الصبر إن أخفاه ولم يظهر شكواه ولم يكثر سعيه في الطلب والتجسس، وإن لم يقدر على ذلك حتى تأذى بقلبه وأظهر الشكوى بلسانه واستقصى الطلب ببدنه، فقد كانت السرقة مزيداً له في ذنبه من حيث إنه ظهر له قصوره عن جميع المقامات وكذبه في جميع الدعاوي، فبعد هذا ينبغي أن يجتهد حتى لا يصدق نفسه في دعاويها ولا يتدلى بحبل غرورها؛ فإنها خداعة أمارة بالسوء مدعية للخير.
فإن قلت: فكيف للمتوكل مال حتى يؤخذ؟ فأقول: المتوكل لا يخلو بيته من متاع بيته كقصعة يأكل فيها وكوز يشرب منه وإناء يتوضأ منه وجراب يحفظ به زاده وعصا يدفع بها عدوه وغير ذلك من ضرورات المعيشة من أثاث البيت، وقد يدخل في يده مال وهو يمسكه ليجد محتاجاً فيصرفه إليه، فلا يكون ادخاره على هذه النية مبطلاً لتوكله، وليس من شرط التوكل إخراج الكوز الذي يشرب منه والجراب الذي فيه زاده، وإنما ذلك في المأكول وفي كل مال زائد على قدر الضرورة؛ لأن سنة الله جارية بوصول الخير إلى الفقراء المتوكلين في زوايا المساجد، وما جرت السنة بتفرقة الكيزان والأمتعة في كل يوم ولا في كل أسبوع، والخروج عن سنة الله عز وجل ليس شرطاً في التوكل، ولذلك كان الخواص يأخذ في السفر الحبل والركوة والمقراض والإبرة دون الزاد، لكن سنة الله تعالى جارية بالفرق بين الأمرين
فإن قلت: فكيف يتصور أن لا يحزن إذا أخذ متاعه الذي هو محتاج إليه ولا يتأسف عليه، فإن كان لا يشتهيه فلم أمسكه وأغلق الباب عليه، وإن كان أمسكه لأنه يشتهيه لحاجته إليه فكيف لا يتأذى قلبه ولا يحزن وقد حيل بينه وبين ما يشتهيه؟ فأقول: إنما كان يحفظه ليستعين به على دينه إذ كان يظن أن الخيرة له في أن يكون له ذلك المتاع، ولولا أن الخيرة له فيه لما رزقه الله تعالى ولما أعطاه إياه، فاستدل على ذلك بتيسير الله عز وجل وحسن الظن بالله تعالى مع ظنه أن ذلك معين له على أسباب دينه ولم يكن ذلك عنده مقطوعاً به، إذ يحتمل أن تكون خيرته في أن يبتلى بفقده ذلك حتى ينصب في تحصيل غرضه ويكون ثوابه في النصب والتعب أكثر؛ فلما أخذه الله تعالى منه بتسليط اللص تغير ظنه، لأنه في جميع الأحوال واثق بالله حسن الظن به، فيقول: لولا أن الله عز وجل علم أن الخيرة كانت لي في وجودها إلى الآن والخيرة لي الآن في عدمها لما أخذها مني، فيمثل هذا الظن يتصور أن يندفع عنه الحزن، إذ به يخرج عن أن يكون فرحه بأسباب من حيث إنها أسباب، بل من حيث إنه يسرها مسبب الأسباب عناية وتلطفاً، وهو كالمريض بين يدي الطبيب الشفيق يرضى بما يفعله، فإن قدم إليه الغذاء فرح وقال: لولا أنه يعرف أن الغذاء ينفعني وقد قويت على احتماله لما قربه إلي. وإن أخر عنه الغذاء بعد ذلك أيضاً فرح وقال: لولا أن الغذاء يضرني ويسوقني إلى الموت لما حال بيني وبينه، وكل من لا يعتقد لطف الله تعالى ما يعتقده المريض في الوالد المشفق الحاذق لعلم الطب فلا يصح منه التوكل أصلاً. ومن عرف الله تعالى وعرف أفعاله وعرف سنته في إصلاح عباده لم يكن فرحه بالأسباب، فإنه لا يدري أي الأسباب خير له، كما قال عمر رضي الله عنه: لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيراً فإني لا أدري أيهما خير لي، فكذلك ينبغي أن لا يبالي المتوكل يسرق متاعه أو لا يسرق فإنه لا يدري أيهما خير له في الدنيا أو في الآخرة، فكم من متاع في الدنيا يكون سبب هلاك الإنسان! وكم من غني يبتلى بواقعة لأجل غناه يقول: يا ليتني كنت فقيراً.

[align=center]بيان آداب المتوكلين إذا سرق متاعهم[/align]

للمتوكل آداب في متاع بيته إذا خرج عنه: الأول: أن يغلق الباب ولا يستقصي في أسباب الحفظ كالتماسك من الجيران الحفظ مع الغلق، وكجمعه أغلاقاً كثيرة؛ فقد كان مالك بن دينار لا يغلق بابه ولكن يشده بشريط ويقول: لولا الكلاب ما شددته أيضاً.
الثاني: أن لا يترك في البيت متاعاً يحرض عليه السراق فيكون هو سبب معصيته أو إمساكه يكون سبب هيجان رغبتهم، ولذلك لما أهدى المغيرة إلى مالك بن ينار ركوة قال: خذها لا حاجة لي إليها. قال: لم؟ قال: يوسوس إلي العدو أن اللص يأخذها، فكأنه احترز من أن يعصي السارق، ومن شغل قلبه بوسواس الشيطان بسرقتها، ولذلك قال أبو سليمان: هذا من ضعف قلوب الصوفية هذا قد زهد في الدنيا فما عليه من أخذها الثالث: أن ما يضطر إلى تركه في البيت ينبغي أن ينوي عند خروجه الرضا بما يقضي الله فيه من تسليط سارق عليه ويقول: ما يأخذه السارق فهو منه في حل أو في سبيل الله تعالى، وإن كان فقيراً فهو عليه صدقة، وإن لم يشترط الفقر فهو أولى، فيكون له نيتان لو أخذه غني أو فقير إحداهما أن يكون ماله مانعاً من المعصية، فإنه ربما يستغني به فيتوانى عن السرقة بعده وقد زال عصيانه بأكل الحرام لما أن جعله في حل، والثانية أن لا يظلم مسلماً آخر فيكون ماله فداءً لمال مسلم آخر، ومهما ينوي حراسة مال غيره بمال نفسه أو ينوي دفع المعصية عن السارق أو تخفيفها عليه فقد نصح للمسلمين وامتثل قوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" ونصر الظالم: أن تمنعه عن الظلم، وعفوه عنه إعدام للظلم ومنع له، وليتحقق أن هذه النية لا تضره بوجه من الوجوه إذ ليس فيها ما يسلط السارق ويغير القضاء الأزلي، ولكن يتحقق بالزهد نيته، فإن أخذ ماله كان له بكل درهم سبعمائة درهم لأنه نواه وقصده، وإن لم يؤخذ حصل له الأجر أيضاً، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن ترك العزل فأقر النطفة قرارها أن له أجر غلام ولد له من ذلك الجماع وعاش فقتل في سبيل الله تعالى وإن لم يولد له، لأنه ليس أمر الولد إلا الوقاع، فأما الخلق والحياة والرزق والبقاء فليس إليه، فلو خلق لكان ثوابه على ما فعله، وفعله لم ينعدم، فكذلك أمر السرقة.
الرابع: أنه إذا وجد المال مسروقاً فينبغي أن لا يحزن بل يفرح إن أمكنه ويقول: لولا أن الخيرة كانت فيه لما سلبه الله تعالى، ثم إن لم يكن قد جعله في سبيل الله عز وجل، فلا يبالغ في طلبه وفي إساءة الظن بالمسلمين، وإن كان قد جعله في سبيل الله فيترك طلبه، فإنه قد قدمه ذخيرة لنفسه إلى الآخرة، فإن أعيد عليه، فالأولى أن لا يقبله بعد أن كان قد جعله في سبيل الله عز وجل، وإن قبله فهو في ملكه في ظاهر العلم، لأن الملك لا يزول بمجرد تلك النية، ولكنه غير محبوب عند المتوكلين.
وقد روي أن ابن عمر سرقت ناقته فطلبها حتى أعيا، ثم قال: في سبيل الله تعالى، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن ناقتك في مكان كذا فلبس نعله وقام، ثم قال: أستغفر الله وجلس، فقيل له: ألا تذهب فتأخذها! فقال: إني كنت قلت في سبيل الله.
وقال بعض الشيوخ: رأيت بعض إخواني في النوم بعد موته فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة وعرض علي منازلي فيها فرأيتها، قال: وهو مع ذلك كئيب حزين! فقلت: قد غفر لك ودخلت الجنة وأنت حزين! فتنفس الصعداء ثم قال: نعم إني لا أزال حزيناً إلى يوم القيامة. قلت: ولم؟ قال: إني لما رأيت منازلي في الجنة رفعت لي مقامات في عليين ما رأيت مثلها فيما رأيت، ففرحت بها، فلما هممت بدخولها نادى منادي من فوقها: اصرفوه عنها فليست هذه له إنما هي لمن أمضى السبيل، فقلت: وما إمضاء السبيل؟ فقيل لي: كنت تقول للشيء إنه في سبيل الله ثم ترجع فيه، فلو كنت أمضيت السبيل لأمضينا لك.
وحكي عن بعض العباد بمكة أنه كان نائماً إلى جنب رجل معه هميانه، فانتبه الرجل ففقد هميانه فاتهمه به، فقال له: كم كان في هميانك؟ فذكر له، فحمله من البيت ووزنه من عنده، ثم بعد ذلك أعلمه أصحابه أنهم كانوا أخذوا الهميان مزحاً معه، فجاء هو وأصحابه معه وردوا الذهب، فأبى وقال: خذه حلالاً طيباً، فما كنت لأعود في مال أخرجته في سبيل الله عز وجل، فلم يقبل، فألحوا عليه، فدعا ابنه وجعل يصره صرراً ويبعث به إلى الفقراء حتى لم يبق منه شيء.
فهكذا كانت أخلاق السلف، وكذلك من أخذ رغيفاً ليعطيه فقيراً فغاب عنه كان يكره رده إلى البيت بعد إخراجه فيعطيه فقيراً آخر، وكذلك يفعل في الدراهم والدنانير وسائر الصدقات.
الخامس: وهو أقل الدرجات أن لا يدعو على السارق الذي ظلمه بالأخذ، فإن فعل بطل توكله ودل ذلك على كراهته وتأسفه على ما فات، وبطل زهده، ولو بالغ بطل أجره أيضاً فيما أصيب به؛ ففي الخبر: " من دعا على ظالمه فقد انتصر".
وحكي أن الربيع بن خثيم سرق فرس له وكان قيمته عشرين ألفاً وكان قائماً يصلي، فلم يقطع صلاته ولم ينزعج لطلبه، فجاءه قوم يعزونه فقال: أما إني قد كنت رأيته وهو يحله، قيل: وما منعك أن تزجره؟ قال: كنت فيما هو أحب إلي من ذلك - يعني الصلاة - فجعلوا يدعون عليه فقال: لا تفعلوا وقولوا خيراً فإني قد جعلتها صدقة عليه.
وقيل لبعضهم في شيء قد كان سرق له: ألا تدعو على ظالمك! قال: ما أحب أن أكون عوناً للشيطان عليه، قيل: أرأيت لو رد عليك؟ قال: لا آخذه ولا أنظر إليه لأني كنت قد أحللته له.
وقيل لآخر: ادع الله على ظالمك، فقال: ما ظلمني أحد، ثم قال: إنما ظلم نفسه، ألا يكفيه المسكين ظلم نفسه حتى أزيده شراً.
وأكثر بعضهم شتم الحجاج عند بعض السلف في ظلمه، فقال: لا تغرق في شتمه، فإن الله تعالى ينتصف للحجاج ممن انتهك عرضه كما ينتصف منه لمن أخذ ماله ودمه.
وفي الخبر: " إن العبد ليظلم المظلمة فلا يزال يشتم ظالمه ويسبه حتى يكون بمقدار ما ظلمه ثم يبقى للظالم عليه مطالبة بما زاد عليه يقتص له من المظلوم".
السادس: أن يغتم لأجل السارق وعصيانه وتعرضه لعذاب الله تعالى، ويشكر الله تعالى إذ جعله مظلوماً ولم يجعله ظالماً وجعل ذلك نقصاً في دنياه لا نقصاً في دينه فقد شكا بعض الناس إلى عالم أنه قطع عليه الطريق وأخذ ماله فقال: إن لم يكن لك غم أنه قد صار في المسلمين من يستحل هذا أكثر من غمك بمالك فما نصحت للمسلمين.
وسرق من علي بن الفضيل دنانير وهو يطوف بالبيت، فرآه أبوه وهو يبكي ويحزن، فقال: أعلى الدنانير تبكي؟ فقال: لا والله ولكن على المسكين أن يسأل يوم القيامة ولا تكون له حجة.
وقيل لبعضهم: ادع على من ظلمك، فقال: إني مشغول بالحزن عليه عن الدعاء عليه.
فهذه أخلاق السلف رضي الله عنهم أجمعين.
الفن الرابع في السعي في إزالة الضرر كمداواة المرض وأمثاله: اعلم أن الأسباب المزيلة للمرض أيضاً تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش والخبز المزيل لضرر الجوع، وإلى مظنون كالفصد والحجامة وشرب الدواء المسهل وسائر أبواب الطب، أعني معالجة البرودة بالحرارة والحرارة بالبرودة وهي الأسباب الظاهرة في الطب، وإلى موهوم كالكي والرقية. أما المقطوع فليس من التوكل تركه، بل تركه حرام عند خوف الموت. وأما الموهوم فشرط التوكل تركه إذ به وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوكلين، وأقواها الكي، ويليه الرقية، والطيرة آخر درجاتها، والاعتماد عليها والاتكال إليها غاية التعمق في ملاحظة الأسباب، وأما الدرجة المتوسطة وهي المظنونة كالمداواة بالأسباب الظاهرة عند الأطباء ففعله ليس مناقضاً للتوكل بخلاف الموهوم، وتركه ليس محظوراً بخلاف المقطوع، بل قد يكون أفضل من فعله في بعض الأحوال وفي بعض الأشخاص فهي على درجة بين الدرجتين، ويدل على أن التداوي غير مناقض للتوكل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله وأمره به؛ أما قوله فقد قال صلى الله عليه وسلم: " ما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلا السام" يعني الموت.
وقال عليه السلام: " تداووا عباد الله فإن الله خلق الداء والدواء".
وسئل عن الدواء والرقي هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: " هي من قدر الله".
وفي الخبر المشهور " ما مررت بملأ من الملائكة إلا قالوا مر أمتك بالحجامة".
وفي الحديث أنه أمر بها وقال: " احتجموا لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم"، فذكر أن تبيغ الدم سبب الموت وأنه قاتل بإذن الله تعالى، وبين أن إخراج الدم خلاص منه، إذ لا فرق بين إخراج الدم المهلك من الإهاب وبين إخراج العقرب من تحت الثياب وإخراج الحية من البيت، وليس من شرط التوكل ترك ذلك، بل هو كصب الماء على النار لإطفائها ودفع ضررها عند وقوعها في البيت، وليس التوكل الخروج عن سنة الوكيل أصلاً.
وفي خبر مقطوع: " من احتجم يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر كان له دواء من داء السنة".
وأما أمره صلى الله عليه وسلم فقد أمر غير واحد من الصحابة بالتداوي والحمية، وقطع لسعد بن معاذ عرقاًأي فصده، وكوى سعد بن زرارة.
وقال لعلي رضي الله تعالى عنه وكان رمد العين: " لا تأكل من هذا " يعني الرطب " وكل من هذا فإنه أوفق لك" يعني سلقاً قد طبخ بدقيق شعير وقال لصهيب وقد رآه يأكل التمر وهو وجع العين: " تأكل تمراً وأنت أرمد " فقال: إني آكل من الجانب الآخر، فتبسم صلى الله عليه وسلم.
وأما فعله عليه الصلاة والسلام فقد روي في حديث من طريق أهل البيت أنه كان يكتحل كل ليلة ويحتجم كل شهر ويشرب الدواء كل سنةقيل: السنا المكي.
وتداوى صلى الله عليه وسلم غير مرة من العقرب وغيرها.
وروي أنه كان إذا نزل عليه الوحي صدع رأسه فكان يغلفه بالحناء.
وفي خبر: أنه كان إذا خرجت به قرحة جعل عليها حناء، وقد جعل على قرحة خرجت به تراباً.
وما روي في تداويه وأمره بذلك كثير خارج عن الحصر، وقد صنف في ذلك كتاب وسمي طب النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر بعض العلماء في الإسرائيليات أن موسى عليه السلام اعتل بعلة فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علته؛ فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرئت، فقال: لا أتداوى حتى يعافيني هو من غير دواء، فطالت علته فقالوا له: إن دواء هذه العلة معروف مجرب، وإنا نتداوى به فنبرأ، فقال: لا أتداوى، وأقامت علته، فأوحى الله تعالى إليه: وعزتي وجلالي لا أبرأتك حتى تتداوى بما ذكروه لك، فقال لهم: داووني بما ذكرتم، فداووه فبرأ، فأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى الله تعالى إليه: أردت أن تبطل حكمتي بتوكلك على من أودع العقاقير منافع الأشياء غيري؟.
وروي في خبر آخر أن نبياً من الأنبياء عليهم السلام شكا علة يجدها، فأوحى الله تعالى: كل البيض، وشكا نبي آخر الضعف، فأوحى الله تعالى إليه: كل اللحم باللبن فإن فيهما القوة، قيل هو الضعف عن الجماع.
وقد روي أن قوماً شكوا إلى نبيهم قبح أولادهم، فأوحى الله تعالى إليه: مرهم أن يطعموا نساءهم الحبالى السفرجل فإنه يحسن الولد ويفعل ذلك في الشهر الثالث والرابع، إذ فيه يصور الله تعالى الولد، وقد كانوا يطعمون الحبلى السفرجل، والنفساء الرطب.
فبهذا تبين أن مسبب الأسباب أجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهاراً للحكمة، والأدوية أسباب مسخرة بحكم الله تعالى كسائر الأسباب، فكما أن الخبز دواء الجوع والماء دواء العطش فالسكنجين دواء الصفراء، والسقمونيا دواء الإسهال لا يفارقه إلا في أحد أمرين: أحدهما أن معالجة الجوع والعطش بالماء والخبز جلي واضح يدركه كافة الناس، ومعالجة الصفراء بالسكنجين يدركه بعض الخواص، فمن أدرك ذلك بالتجربة التحق في حقه بالأول.
والثاني أن الدواء يسهل، والسكنجين يسكن الصفراء بشروط أخر في الباطن وأسباب في المزاج ربما يتعذر الوقوف على جميع شروطها، وربما يفوت بعض الشروط فيتقاعد الدواء عن الإسهال، وأما زوال العطش فلا يستدعي سوى الماء شروطاً كثيرة، وقد يتفق من العوارض ما يوجب داء العطش مع كثرة شرب الماء ولكنه نادر واختلال الأسباب أبداً ينحصر في هذين الشيئين، وإلا فالمسبب يتلو السبب لا محالة مهما تمت شروط السبب، وكل ذلك بتدبير مسبب الأسباب وتسخيره، وترتيبه بحكم حكمته وكمال قدرته، فلا يضر المتوكل استعماله مع النظر إلى مسبب الأسباب دون الطبيب والدواء؛ فقد روي عن موسى صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا رب، ممن الداء والدواء؟ فقال تعالى: مني، قال: فما يصنع الأطباء؟ قال: يأكلون أرزاقهم ويطيبون نفوس عبادي حتى يأتي شفائي أو قضائي، فإذن معنى التوكل مع التداوي التوكل بالعلم والحال، كما سبق في فنون الأعمال الدافعة للضرر الجالبة للنفع، فأما ترك التداوي رأساً فليس شرطاً فيه.
فإن قلت: فالكي أيضاً من الأسباب الظاهرة النفع. فأقول: ليس كذلك، إذ الأسباب الظاهرة مثل الفصد والحجامة وشرب المسهل وسقي المبردات للمحرور، وأما الكي فلو كان مثلها في الظهور لما خلت البلاد الكثيرة عنه، وقلما يعتاد الكي في أكثر البلاد، وإنما ذلك عادة بعض الأتراك والأعراب؛ فهذا من الأسباب الموهومة كالرقي، إلا أنه يتميز عنها بأمر وهو أنه إحراق النار في الحال مع الاستغناء عنه فإنه ما من وجع يعالج بالكي إلا وله دواء يغني عنه ليس فيه إحراق، فالإحراق بالنار جرح مخرب للبنية محذور السراية مع الاستغناء عنه، بخلاف الفصد والحجامة فإن سرايتهما بعيدة ولا يسد مسدهما غيرهما، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي دون الرقي. وكل واحد منهما بعيد عن التوكل وروي أن عمران بن الحصين اعتل فأشاروا عليه بالكي فامتنع، فلم يزالوا به وعزم عليه الأمر حتى اكتوى، فكان يقول: كنت أرى نوراً وأسمع صوتاً وتسلم علي الملائكة، فلما اكتويت انقطع ذلك عني، وكان يقول: اكتوينا كيات فوالله ما أفلحت ولا أنجحت، ثم تاب من ذلك وأناب إلى الله تعالى، فرد الله تعالى عليه ما كان يجد من أمر الملائكة. وقال لمطرف ابن عبد الله: ألم تر إلى الملائكة التي كان أكرمني الله بها قد ردها الله تعالى علي! بعد أن كان أخبره بفقدها، فإذن الكي وما يجري مجراه هو الذي لا يليق بالمتوكل لأنه يحتاج في استنباطه إلى تدبير، ثم هو مذموم، ويدل ذلك على شدة ملاحظة الأسباب وعلى التعمق فيها. والله أعلم.

[align=center]بيان أن ترك التداوي قد يحمد في بعض الأحوال
ويدل على قوة التوكل وأن ذلك لا يناقض فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم[/align]


اعلم أن الذين تداووا من السلف لا ينحصرون، ولكنه قد ترك التداوي أيضاً جماعة من الأكابر، فربما يظن أن ذلك نقصان، لأنه لو كان كمالاً لتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا يكون حال غيره في التوكل أكمل من حاله.
وقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قيل له: لو دعونا لك طبيباً؟ فقال: الطبيب قد نظر إلي وقال: إني فعال لما أريد.
وقيل لأبي الدرداء في مرضه: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قيل: فما تشتهي؟ قال: مغفرة ربي، قالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني.
وقيل لأبي ذر وقد رمدت عيناه: لو داويتهما؟ قال: إني عنهما مشغول؛ فقيل: لو سألت الله تعالى أن يعافيك؟ فقال: أسأله فيما هو أهم علي منهما.
وكان الربيع بن خثيم أصابه فالج، فقيل له: لو تداويت؟ فقال: قد هممت ثم ذكرت عاداً وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً وكان فيهم الأطباء، فهلك المداوي والمداوى، ولم تغن الرقي شيئاً.
وكان أحمد بن حنبل يقول: أحب لمن اعتقد التوكل وسلك هذا الطريق ترك التداوي من شرب الدواء وغيره وإن كان به علل فلا يخبر المتطبب بها أيضاً إذا سأله.
وقيل لسهل: متى يصح للعبد التوكل؟ قال: إذا دخل عليه الضرر في جسمه والنقص في ماله فلم يلتفت إليه شغلاً بحاله وينظر إلى قيام الله تعالى عليه.
فإذا منهم من ترك التداوي وراءه، ومنهم من كرهه، ولا يتضح وجه الجمع بين فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعالهم إلا بحصر الصوارف عن التداوي. فنقول: إن لترك التداوي أسباباً: السبب الأول: أن يكون المريض من المكاشفين وقد كوشف بأنه انتهى أجله وأن الدواء لا ينفعه، ويكون ذلك معلوماً عنده تارة برؤيا صادقة، وتارة بحدس وظن، وتارة بكشف محقق، ويشبه أن يكون ترك الصديق رضي الله عنه التداوي من هذا السبب، فإنه كان من المكاشفين، فإنه قال لعائشة رضي الله عنها في أمر الميراث: إنما هن أختاك، وإنما كان لها أخت واحدة ولكن كانت امرأته حاملاً فولدت أنثى، فعلم أنه كان قد كوشف بأنها حامل بأنثى، فلا يبعد أن يكون قد كوشف أيضاً بانتهاء أجله، وإلا فلا يظن به إنكار التداوي وقد شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تداوى وأمر به.
السبب الثاني: أن يكون المريض مشغولاً بحاله وبخوف عاقبته وإطلاع الله تعالى عليه، فينسيه ذلك ألم المرض فلا يتفرغ قلبه للتداوي شغلاً بحاله، وعليه يدل كلام أبي ذر إذ قال: إني عنهما مشغول. وكلام أبي الدرداء إذ قال: إنما أشتكي ذنوبي، فكان تألم قلبه خوفاً من ذنوبه أكثر من تألم بدنه بالمرض، ويكون هذا كالمصاب بموت عزيز من أعزته، أو كالخائف الذي يحمل إلى ملك من الملوك ليقتل إذا قيل له: ألا تأكل وأنت جائع؟ فيقول: أنا مشغول عن ألم الجوع، فلا يكون ذلك إنكاراً لكون الأكل نافعاً من الجوع ولا طعناً فيما أكل، ويقرب من هذا اشتغال سهل حيث قيل له: ما القوت؟ فقال: هو ذكر الحي القيوم، فقيل: إنما سألناك عن القوام؟ فقال: القوام هو العلم. قيل: سألناك عن الغذاء؟ قال: الغذاء هو الذكر. قيل: سألناك عن طعمة الجسد؟ قال: مالك وللجسد. دع من تولاه أولاً يتولاه آخراً إذا دخل عليه علة فرده إلى صانعه، أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها السبب الثالث: أن تكون العلة مزمنة والدواء الذي يؤمر به بالإضافة إلى علته موهوم النفع جار مجرى الكي والرقية، فيتركه المتوكل؛ وإليه يشير قول الربيع بن خثيم إذ قال: ذكرت عاداً وثمود وفيه الأطباء فهلك المداوي والمداوى. أي أن الدواء غير موثوق به، وهذا قد يكون كذلك في نفسه، وقد يكون عند المريض كذلك لقلة ممارسته للطب وقلة تجربته له، فلا يغلب على ظنه كونه نافعاً، ولا شك في أن الطبيب المجرب أشد اعتقاداً في الأدوية من غيره، فتكون الثقة والظن بحسب الاعتقاد، والاعتقاد بحسب التجربة، وأكثر من ترك التداوي من العباد والزهاد، هذا مستندهم لأنه يبقى الدواء عنده شيئاً موهوماً لا أصل له، وذلك صحيح في بعض الأدوية عند من عرف صناعة الطب، غير صحيح في البعض، ولكن غير الطبيب قد ينظر إلى الكل نظراً واحداً، فيرى التداوي تعسقاً في الأسباب كالكي والرقي، فيتركه.
السبب الرابع: أن يقصد العبد بترك التداوي استبقاء المرض لينال ثواب المرض بحسن الصبر على بلاء الله تعالى، أو ليجرب نفسه في القدرة على الصبر. فقد ورد في ثواب المرض ما يكثر ذكره. فقد قال صلى الله عليه وسلم: " نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاءً ثم الأمثل فالأمثل يبتلى العبد على قدر إيمانه فإن كان صلب الإيمان شدد عليه بالبلاء. وإن كان في إيمانه ضعف خفف عنه البلاء".
وفي الخبر " إن الله تعالى يجرب عبده بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز، لا يزبد ومنهم دون ذلك، ومنهم من يخرج أسود محترقاً".
وفي حديث من طريق أهل البيت " إن الله تعالى إذا أحب عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه".
وقال صلى الله عليه وسلم: " تحبون أن تكونوا كالحمر الضالة لا تمرضون ولا تسقمون".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: تجد المؤمن أصح شيء قلباً وأمرضه جسماً، وتجد المنافق أصح شيء جسماً وأمرضه قلباً، فلما عظم الثناء على المرض والبلاء أحب قوم المرض واغتنموه لينالوا ثواب الصبر عليه، فكان منهم من له علة يخفيها ولا يذكرها للطبيب ويقاسي العلة ويرضى بحكم الله تعالى ويعلم أن الحق أغلب على قلبه من أن يشغله المرض عنه، وإنما يمنع المرض جوارحه، وعلموا أن صلاتهم قعوداً مثلاً مع الصبر على قضاء الله تعالى أفضل من الصلاة قياماً مع العافية والصحة، ففي الخبر " إن الله تعالى يقول لملائكته: اكتبوا لعبدي صالح ما كان يعمله فإنه في وثاقي وإن أطلقته أبدلته لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه، وإن توفيته توفيته إلى رحمتي".
وقال صلى الله عليه وسلم: " أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس". فقيل: معناه ما دخل عليه من الأمراض والمصائب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ".
وكان سهل يقول: ترك التداوي وإن ضعف عن الطاعات وقصر عن الفرائض أفضل من التداوي لأجل الطاعات، وكانت به علة عظيمة فلم يكن يتداوى منها، وكان يداوي الناس منها، وكان إذا رأى العبد يصلي من قعود ولا يستطيع أعمال البر من الأمراض، فيتداوى للقيام إلى الصلاة والنهوض إلى الطاعات يعجب من ذلك ويقول: صلاته من قعود مع الرضا بحاله أفضل من التداوي للقوة والصلاة قائماً، وسئل عن شرب الدواء فقال: كل من دخل في شيء من الدواء فإنما هو سعة الله تعالى لأهل الضعف، ومن لم يدخل في شيء فهو أفضل، لأنه إن أخذ شيئاً من الدواء ولو كان هو الماء يسأل عنه لم أخذه؟ ومن لم يأخذ فلا سؤال عليه. وكان مذهبه ومذهب البصريين تضعيف النفس بالجوع وكسر الشهوات لعلمهم بأن ذرة من أعمال القلوب: مثل الصبر والرضا والتوكل أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح، والمرض لا يمنع من أعمال القلوب إلا إذا كان ألمه غالباً مدهشاً.
وقال سهل رحمه الله: علل الأجسام رحمة الله وعلل القلوب عقوبة.
السبب الخامس: أن يكون العبد قد سبق له ذنوب وهو خائف منها عاجز عن تكفيرها، فيرى المرض إذا طال تكفيراً فيترك خوفاً من أن يسرع زوال المرض فقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تزال الحمى والمليلة بالعبد حتى يمشي على الأرض كالبردة ما عليه من ذنب ولا خطيئة".
وفي الخبر " حمى يوم كفارة سنة" فقيل لأنها تهد قوة سنة، وقيل للإنسان ثلثمائة وستون مفصلاً فتدخل الحمى جميعها ويجد من كل واحد ألماً فيكون كل ألم كفارة يوم ولما ذكر صلى الله عليه وسلم كفارة الذنوب بالحمى؛ سأل زيد بن ثابت ربه عز وجل أن لا يزال محموماً فلم تكن الحمى تفارقه حتى مات رحمه الله، وسأل ذلك طائفة من الأنصار فكانت الحمى لا تزايلهمولما قال صلى الله عليه وسلم: " من أذهب الله كريمتيه لم يرض له ثواباً دون الجنة" قال فلقد كان من الأنصار من يتمنى العمى.
وقال عيسى عليه السلام: لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله لما يرجو في ذلك من كفارة خطاياه.
وروي أن موسى عليه السلام نظر إلى عبد عظيم البلاء فقال: يا رب ارحمه فقال تعالى: كيف أرحمه فيما به أرحمه - أي به أكفر ذنوبه - وأزيد في درجاته.
السبب السادس: أن يستشعر العبد مبادي البطر والطغيان بطول مدة الصحة فيترك التداوي خوفاً من أن يعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان، أو طول الأمل والتسويف في تدارك الفائت وتأخير الخيرات، فإن الصحة عبارة عن قوة الصفات وبها ينبعث الهوى وتتحرك الشهوات وتدعو إلى المعاصي، وأقلها أن تدعو إلى التنعم في المباحات، وهو تضييع الأوقات وإهمال للربح العظيم في مخالفة النفس وملازمة الطاعات، وإذا أراد الله بعبد خيراً لم يخله عن التنبه بالأمراض والمصائب، ولذلك قيل: لا يخلو المؤمن من علة أو قلة أو زلة.
وقد روي أن الله تعالى يقول: الفقر سجني والمرض قيدي أحبس به من أحب من خلقي. فإذا كان في المرض حبس عن الطغيان وركوب المعاصي فأي خير يزيد عليه؟ ولم ينبع أن يشتغل بعلاجه من يخاف ذلك على نفسه فالعافية في ترك المعاصي، فقد قال بعض العارفين لإنسان: كيف كنت بعدي؟ قال: في عافية، قال: إن كنت لم تعص الله عز وجل فأنت في عافية وإن كنت قد عصيته فأي داء أدوأ من المعصية؟ ما عوفي من عصى الله.
وقال علي كرم الله وجهه لما رأى زينة النبط بالعراق في يوم عيد: ما هذا الذي أظهروه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين هذا يوم عيد لهم، فقال: كل يوم لا يعصى الله عز وجل فيه فهو لنا عيد.
وقال تعالى: " من بعد ما أراكم ما تحبون " قيل العوافي " إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى " وكذلك إذا استغنى بالعافية.
قال بعضهم: إنما قال فرعون: أنا ربكم الأعلى لطول العافية، لأنه لبث أربعمائة سنة لم يصدع له رأس ولم يحم له جسم ولم يضرب عليه عرق فادعى الربوبية - لعنه الله - ولو أخذته الشقيقة يوماً لشغلته عن الفضول فضلاً عن دعوى الربوبية.
وقال صلى الله عليه وسلم: " أكثروا من ذكر هاذم اللذات".
وقيل: الحمى رائد الموت فهو مذكر له ودافع للتسويف.
وقال تعالى: " أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون " قيل يفتنون بأمراض يختبرون بها.
ويقال: إن العبد إذا مرض مرضتين ثم لم يتب قال له ملك الموت: يا غافل جاءك مني رسول بعد رسول فلم تجب.
وقد كان السلف لذلك يستوحشون إذا خرج عام ولم يصابوا فيه بنقص في نفس أو مال. وقالوا: لا يخلو المؤمن في كل أربعين يوماً أن يروع روعة أو يصاب ببلية حتى روي أن عمار بن ياسر تزوج امرأة فلم تكن تمرض فطلقها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه امرأة فحكي من وصفها حتى هم أن يتزوجها، فقيل: وإنها ما مرضت قط، فقال: " لا حاجة لي فيها".
وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمراض والأوجاع كالصداع وغيره، فقال رجل: وما الصداع ما أعرفه؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " إليك عني من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا وهذا" لأنه ورد في الخبر " الحمى حظ كل مؤمن من النار".
وفي حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما قيل: يا رسول الله هل يكون مع الشهداء يوم القيامة غيرهم؟ فقال: " نعم من ذكر الموت كل يوم عشرين مرة" وفي لفظ آخر " الذي يذكر ذنوبه فتحزنه " ولا شك في أن ذكر الموت على المريض أغلب، فلما أن كثرت فوائد المرض رأى جماعة ترك الحيلة في زوالها إذ رأوا لأنفسهم مزيداً فيها لا من حيث رأوا التداوي نقصاناً؟ وكيف يكون نقصاناً وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم؟.

[align=center]بيان الرد على من قال ترك التداوي أفضل
بكل حال [/align]


فلو قال قائل: إنما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسن لغيره وإلا فهو حال الضعفاء، ودرجة الأقوياء توجب التوكل بترك الدواء؟ فيقال: ينبغي أن يكون من شروط التوكل ترك الحجامة والفصد عند تبيغ الدم.
فإن قيل: إن ذلك أيضاً شرط فليكن من شرطه أن تلدغه العقرب أو الحية فلا ينحيها عن نفسه، إذ الدم يلدغ الباطن والعقرب تلدغ الظاهر فأي فرق بينهما؟ فإن قال: وذلك أيضاً شرط التوكل؟ فيقال: ينبغي أن لايزيل لدغ العطش بالماء ولدغ الجوع بالخبز ولدغ البرد بالجبة وهذا لا قائل به.
ولا فرق بين هذه الدرجات فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه تعالى وأجرى بها سنته. ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن عمر رضي الله عنه وعن الصحابة في قصة الطاعون، فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن به موتاً عظيماً ووباءً ذريعاً، فافترق الناس فرقتين، فقال بعضهم: لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة، وقالت طائفة أخرى: بل ندخل ونتوكل ولا نهرب من قدر الله تعالى ولا نفر من الموت فنكون كمن قال الله تعالى فيهم: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه، فقال: نرجع ولا ندخل على الوباء، فقال له المخالفون في رأيه: أنفر من قدر الله تعالى، قال عمر: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم ضرب لهم مثلاً فقال: أرأيتم لو كان لأحدكم غنم فهبط وادياً له شعبتان إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة، أليس إن رعى المخصبة رعاها بقدر الله تعالى وإن رعى المجدبة رعاها بقدر الله تعالى؟ فقالوا: نعم، ثم طلب عبد الرحمن بن عوف ليسأله عن رأيه - وكان غائباً - فلما أصبحوا جاء عبد الرحمن فسأله عمر عن ذلك، فقال: عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: الله أكبر، فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم الوباء في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه" ففرح عمر رضي الله عنه بذلك وحمد الله تعالى إذ وافق رأيه، ورجع من الجابية بالناس. فإذن كيف اتفق الصحابة كلهم على ترك التوكل وهو من أعلى المقامات إن كان أمثال هذا من شروط التوكل فإن قلت: فلم نهى عن الخروج من البلد الذي فيه الوباء، وسبب الوباء في الطب الهواء، وأظهر طرق التداوي الفرار من المضر، والهواء هو المضر وترك التوكل في أمثال هذا مباح، وهذا لا يدل على المقصود، ولكن الذي ينقدح فيه - والعلم عند الله تعالى - أن الهواء لا يضر من حيث إنه يلاقي ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق له، فإنه إذا كان فيه عفونة ووصل إلى الرئة والقلب وباطن الأحشاء أثر فيها بطول الاستنشاق فلا يظهر الوباء على الظاهر إلا بعد طول التأثير في الباطن، فالخروج من البلد لا يخلص غالباً من الأثر الذي استحكم من قبل، ولكن يتوهم الخلاص فيصير هذا من جنس الموهومات كالرقي والطيرة وغيرهما، ولو تجرد هذا المعنى لكان مناقضاً للتوكل ولم يكن منهياً عنه، ولكن صار منهياً عنه لأنه انضاف إليه أمر آخر وهو أنه لو رخص للأصحاء في الخروج لما بقي في البلد إلا المرضى الذين أقعدهم الطاعون فانكسرت قلوبهم وفقدوا المتعهدين، ولم يبق في البلد من يسقيهم الماء ويطعمهم الطعام وهم يعجزن عن مباشرتهما بأنفسهم فيكون ذلك سعياً في إهلاكهم تحقيقاً، وخلاصهم منتظر كما أن خلاص الأصحاء منتظر؛ فلو أقاموا لم تكن الإقامة قاطعة بالموت، ولو خرجوا لم يكن الخروج قاطعاً بالخلاص وهو قاطع في إهلاك الباقين، والمسلمون كالبنيان يشد بعضه بعضاً والمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى إليه سائر أعضائه. فهذا هو الذي ينقدح عندنا في تعليل النهي وينعكس هذا فيمن لم يقدم بعد على البلد فإنه لم يؤثر الهواء في باطنهم ولا بأهل البلد حاجة إليهم. نعم لو لم يبق بالبلد إلا مطعونون وافتقروا إلى المتعهدين وقدم عليهم قوم فربما كان ينقدح استحباب الدخول ههنا لأجل الإعانة، ولا ينهي عن الدخول لأنه تعرض لضرر على رجاء دفع ضرر عن بقية المسلمين، وبهذا شبه الفرار من الطاعون في بعض الأخبار بالفرار من الزحفلأن فيه كسراً لقلوب بقية المسلمين وسعياً في إهلاكهم. فهذه أمور دقيقة فمن لا يلاحظها وينظر إلى ظواهر الأخبار والآثار يتناقض عنده أكثر مما سمعه، وغلط العباد والزهاد في مثل هذا كثير وإنما شرف العلم وفضيلته لأجل ذلك فإن قلت: ففي ترك التداوي فضل كما ذكرت فلم لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوي لينال الفضل؟ فنقول: فيه فضل بالإضافة إلى من كثرت ذنوبه ليكفرها، أو خاف على نفسه طغيان العافية وغلبة الشهوات، أو احتاج إلى ما يذكره الموت لغلبة الغفلة، أو احتاج إلى نيل ثواب الصابرين لقصوره عن مقامات الراضين والمتوكلين، أو قصرت بصيرته عن الإطلاع على ما أودع الله تعالى في الأدوية من لطائف المنافع حتى صار في حقه موهوماً كالرقي، أو كان شغله بحاله يمنعه عن التداوي وكان التداوي يشغله عن حاله لضعفه عن الجمع، فإلى هذه المعاني رجعت الصوارف في ترك التداوي، وكل ذلك كمالات بالإضافة إلى بعض الخلق ونقصان بالإضافة إلى درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل كان مقامه أعلى من هذه المقامات كلها إذ كان حاله يقتضي أن تكون مشاهدته على وتيرة واحدة عند وجود الأسباب وفقدها، فإنه لم يكن له نظر في الأحوال إلا إلى مسبب الأسباب، ومن كان هذا مقامه لم تضره الأسباب كما أن الرغبة نقص، والرغبة عن المال كراهية له وإن كانت كمالاً فهي أيضاً نقص بالإضافة إلى من يستوي عنده وجود المال وعدمه، فاستواء الحجر والذهب أكمل من الهرب من الذهب دون الحجر، وكان حاله صلى الله عليه وسلم استواء المدر والذهب عنده، وكان لا يمسكه لتعليم الخلق مقام الزهد فإنه منتهى قوتهم لا لخوفه على نفسه من إمساكه، فإنه كان أعلى رتبة من أن تغره الدنيا وقد عرضت عليه خزائن الأرض فأبى أن يقبلهافكذلك يستوي عنده مباشرة الأسباب وتركها لمثل هذه المشاهدة، وإنما لم يترك استعمال الدواء جرياً على سنة الله تعالى وترخيصاً لأمته فيما تمس إليه حاجتهم مع أنه لا ضرر فيه بخلاف ادخار الأموال فإن ذلك يعظم ضرره. نعم التداوي لا يضر إلا من حيث رؤية الدواء نافعاً دون خالق الدواء قد نهي عنه، ومن حيث إنه يقصد به الصحة ليستعان بها على المعاصي وذلك منهي عنه، والمؤمن في غالب الأمر لا يقصد ذلك، وأحد من المؤمنين لا يرى الدواء نافعاً بنفسه بل من حيث إنه جعله الله تعالى سبباً للنفع كما لا يرى الماء مروياً ولا الخبز مشبعاً، فحكم التداوي في مقصوده كحكم الكسب، فإنه إن اكتسب للاستعانة على الطاعة أو على المعصية كان له حكمها، وإن اكتسب للتنعم المباح فله حكمه، فقد ظهر بالمعاني التي أوردناها أن ترك التداوي قد يكون أفضل في بعض الأحوال، وأن التداوي قد يكون أفضل في بعض، وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والنيات، وأن واحداً من الفعل والترك ليس شرطاً في التوكل إلا ترك الموهومات كالكي والرقي فإن ذلك تعمق في التدبيرات لا يليق بالمتوكلين.

[align=center]بيان أحوال المتوكلين في إظهار المرض وكتمانه[/align]

اعلم أن كتمان المرض وإخفاء الفقر وأنواع البلاء من كنوز البر وهو من أعلى المقامات، لأن الرضا بحكم الله والصبر على بلائه معاملة بينه وبين الله عز وجل فكتمانه أسلم عن الآفات.
ومع هذا فالإظهار لا بأس به إذا صحت فيه النية والمقصد. ومقاصد الإظهار ثلاثة: الأول: أن يكون غرضه التداوي فيحتاج إلى ذكره للطبيب، فيذكره لا في معرض الشكاية بل في معرض الحكاية لما ظهر عليه قدرة الله تعالى. فقد كان بشر يصف لعبد الرحمن المطبب أوجاعه، وكان أحمد بن حنبل يخبر بأمراض يجدها ويقول: إنما أصف قدرة الله تعالى في
الثاني: أن يصف لغير الطبيب وكان ممن يقتدى به وكان مكيناً في المعرفة، فأراد من ذكره أن يتعلم منه حسن الصبر في المرض بل حسن الشكر بأن يظهر أنه يرى أن المرض نعمة فيشكر عليها، فيتحدث به كما يتحدث بالنعم.
قال الحسن البصري: إذا حمد المريض الله تعالى وشكره ثم ذكر أوجاعه لم يكن ذلك شكوى.
الثالث: أن يظهر بذلك عجزه وافتقاره إلى الله تعالى، وذلك يحسن ممن تليق به القوة والشجاعة ويستبعد منه العجز، كما روي أنه قيل لعلي في مرضه رضي الله عنه: كيف أنت؟ قال: بشر، فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم كرهوا ذلك وظنوا أنه شكاية، فقال: أتجلد على الله؟ فأحب أن يظهر عجزه وافتقاره مع ما علم به من القوة والضراوة وتأدب فيه بأدب النبي صلى الله عليه وسلم إياه حيث مرض علي كرم الله وجهه فسمعه عليه السلام وهو يقول: اللهم صبرني على البلاء، فقال له صلى الله عليه وسلم: " لقد سألت الله تعالى البلاء فسل الله العافية" فبهذه النيات يرخص في ذكر المرض، وإنما يشترط ذلك لأن ذكره شكاية والشكوى من الله تعالى حرام - كما ذكرته في تحريم السؤال على الفقراء إلا بضرورة - ويصير الإظهار شكاية بقرينة السخط وإظهار الكراهة لفعل الله تعالى، فإن خلا عن قرينة السخط وعن النيات التي ذكرناها فلا يوصف بالتحريم ولكن يحكم فيه بأن الأولى تركه، لإنه ربما يوهم الشكاية، ولأنه ربما يكون فيه تصنع ومزيد في الوصف على الموجود من العلة، ومن ترك التداوي توكلاً فلا وجه في حقه للإظهار لأن الاستراحة إلى الدواء أفضل من الاستراحة إلى الإفشاء، وقد قال بعضهم: من بث لم يصبر، وقيل في معنى قوله " فصبر جميل " لا شكوى فيه.
وقيل ليعقوب عليه السلام: ما الذي أذهب بصرك؟ قال: مر الزمان وطول الأحزان! فأوحى الله تعالى إليه. تفرغت لشكواي إلى عبادي، فقال: يا رب أتوب إليك.
وروي عن طاوس ومجاهد أنهما قالا: يكتب على المريض أنينه في مرضه، وكانوا يكرهون أنين المرض لأنه إظهار معنى يقتضي الشكوى حتى قيل: ما أصاب إبليس لعنه الله من أيوب عليه السلام إلا أنينه في مرضه، فجعل الأنين حظه منه.
وفي الخبر " إذا مرض العبد أوحى الله تعالى إلى الملكين: انظرا ما يقول لعواده فإن حمد الله وأثنى بخير دعوا له وإن شكا وذكر شراً قالا: كذلك تكون" وإنما كره بعض العباد العيادة خشية الشكاية وخوف الزيادة في الكلام، فكان بعضهم إذا مرض أغلق بابه فلم يدخل عليه أحد حتى يبرأ فيخرج إليهم، منهم: فضيل ووهيب وبشر، وكان فضيل يقول: أشتهي أن أمرض بلا عواد، وقال: لا أكره العلة إلا لأجل العواد رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
كمل كتاب التوحيد والتوكل بعون الله وحسن توفيقه، يتلوه إن شاء الله تعالى: كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا. والله سبحانه وتعالى الموفق.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد أكتوبر 29, 2006 8:51 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا
وهو الكتاب السادس من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين
[/align]

[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]

الحمد لله الذي نزه قلوب أوليائه عن الالتفات إلى زخرف الدنيا ونضرته، وصفي أسراهم من ملاحظة غير حضرته، ثم استخلصها للعكوف على بساط عزته، ثم تجلى لهم بأسمائه وصفاته حتى أشرقت بأنوار معرفته، ثم كشف لهم عن سبحات وجهه حتى احترقت بنار محبته، ثم احتجب عنها بكنه جلاله حتى تاهت في بيداء كبريائه وعظمته، فكلما اهتزت لملاحظة كنه الجلال غشيها من الدهش ما اغبر في وجه العقل وبصيرته، وكلما هممت بالانصراف آيسة نوديت من سرادقات الجمال صبراً أيها الآيس عن نيل الحق بجهله وعجلته، فبقيت بين الرد والقبول والصد والوصول غرقى في بحر معرفته، ومحترقة بنار محبته، والصلاة على محمد خاتم الأنبياء بكمال نبوته، وعلى آله وأصحابه سادة الخلق وأئمته، وقادة الحق وأزمته وسلم كثيراً.

أما بعد: فإن المحبة لله هي الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها وتابع من توابعها كالشوق والأنس والرضا وأخواتها، ولا قبل المحبة إلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة والصبر والزهد وغيرها، وسائر المقامات إن عز وجودها فلم تخل القلوب عن الإيمان بإمكانها، وأما محبة الله تعالى فقد عز الإيمان بها حتى أنكر بعض العلماء إمكانها وقال: لا معنى لها إلا المواظبة على طاعة الله تعالى وأما حقيقة المحبة فمحال إلا مع الجنس والمثال. ولما أنكروا الأنس والشوق ولذة المناجاة وسائر لوازم الحب وتوابعه، ولا بد من كشف الغطاء عن هذا الأمر ونحن نذكر في هذا الكتاب: بيان شواهد الشرع في المحبة، ثم بيان حقيقتها وأسبابها، ثم بيان أن لا مستحق للمحبة إلا الله تعالى، ثم بيان أن أعظم اللذات لذة النظر إلى وجه الله تعالى، ثم بيان سبب زيادة لذة النظر في الآخرة على المعرفة في الدنيا، ثم بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى، ثم بيان السبب في تفاوت الناس في الحب، ثم بيان السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى، ثم بيان معنى الشوق، ثم بيان محبة الله تعالى للعبد، ثم القول في علامات محبة العبد لله تعالى، ثم بيان معنى الأنس بالله تعالى، ثم بيان معنى الانبساط في الأنس، ثم القول في معنى الرضا وبيان فضيلته، ثم بيان حقيقته، ثم بيان أن الدعاء وكراهة المعاصي لا تناقضه وكذا الفرار من المعاصي، ثم بيان حكايات وكلمات للمحبين متفرقة، فهذه جميع بيانات هذا الكتاب.

[align=center]بيان شواهد الشرع في حب العبد لله تعالى[/align]

اعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فرض، وكيف يفرض ما لا وجود له وكيف يفسر الحب بالطاعة والطاعة تبع الحب وثمرته؟ فلا بد وأن يتقدم الحب ثم بعد ذلك يطيع من أحب. ويدل على إثبات الحب لله تعالى قوله عز وجل "يحبهم ويحبونه " وقوله تعالى " والذين آمنوا أشد حباً لله " وهو دليل على إثبات الحب وإثبات التفاوت فيه.
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحب لله من شرط الإيمان في أخبار كثيرة؛ إذ قال أبو رزين العقيلي: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: " أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما".
وفي حديث آخر: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".
وفي حديث آخر: " لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين" وفي رواية " ومن نفسه ". كيف وقد قال تعالى " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم " الآية. وإنما أجرى ذلك في معرض التهديد والإنكار.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحبة فقال: " أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله إياي".
ويروى أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحبك، فقال صلى الله عليه وسلم: " استعد للفقر " فقال: إني أحب الله تعالى، فقال: " استعد للبلاء".
وعن عمر رضي الله عنه قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انظروا إلى هذا الرجل الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترونه".
وفي الخبر المشهور " إن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت محباً يكره لقاء حبيبه؟ فقال" يا ملك الموت الآن فاقبض" وهذا لا يجده إلا عبد يحب الله بكل قلبه فإذا علم أن الموت سبب اللقاء انزعج قلبه إليه ولم يكن له محبوب غيره حتى يلتفت إليه.
وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم في دعائه: " اللهم ارزقني حبك وحب ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد".
وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: " ما أعددت لها " فقال: ما أعددت لها كثير صلاة وصيام إلا أني أحب الله ورسوله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المرء مع من أحب" قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه من ذاق من خالص محبة الله تعالى شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر.
وقال الحسن: من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها، والمؤمن لا يلهو حتى يغفل فإذا تفكر حزن.
وقال أبو سليمان الداراني: إن من خلق الله خلقاً ما يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون عنه بالدنيا ويروى أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا: الخوف من النار، فقال: حق على الله أن يؤمن الخائف. ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيروا فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الشوق إلى الجنة، فقال: حق على الله أن يعطيكم ما ترجون، ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً كأن وجوههم المرائي من النور، فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: نحب الله عز وجل، فقال: أنتم المقربون أنتم المقربون أنتم المقربون.
وقال عبد الواحد بن زيد: مررت برجل قائم في الثلج فقلت: أما تجد البر؟ فقال: من شغله حب الله لم يجد البرد.
وعن سري السقطي: تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائهم عليهم السلام فيقال: يا أمة موسى ويا أمة عيسى ويا أمة محمد غير المحبين لله تعالى فإنهم ينادون يا أولياء الله هلموا إلى الله سبحانه، فتكاد قلوبهم تنخلع فرحاً.
وقال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه وإذا أحبه أقبل إليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة.
وقال يحيى بن معاذ: عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال فكيف حبه؟ وحبه يدهش العقول فكيف وده؟ ووده ينسى ما دونه فكيف لطفه؟.
وفي بعض الكتب: عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محباً.
وقال يحيى بن معاذ: مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب.
وقال يحيى بن معاذ: إلهي إني مقيم بفنائك مشغول بثنائك، صغيراً أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وأمكنتني من لطفك ونقلتني وقلبتني في الأعمال ستراً وتوبةً وزهداً وشوقاً ورضاً وحباً تسقيني من حياضك وتهملني في رياضك ملازماً لأمرك ومشغوفاً بقولك، ولما طر شاربي ولاح طائري فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً وقد اعتدت هذا منك صغيراً، فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأني محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير حبيبه مصروف.
وقد ورد في حب الله تعالى من الأخبار والآثار ما لا يدخل في حصر حاصر وذلك أمر ظاهر، وإنما الغموض في تحقيق معناه فلنشتغل به.


[align=center]بيان حقيقة المحبة وأسبابها
وتحقيق معنى محبة العبد لله تعالى [/align]


اعلم أن المطلب من هذا الفصل لا ينكشف إلا بمعرفة حقيقة المحبة في نفوسها، ثم معرفة شروطها وأسبابها، ثم النظر بعد ذلك في تحقيق معناها في حق الله تعالى: فأول ما ينبغي أن يتحقق؛ أنه لا يتصور محبة إلا بعد معرفة وإدراك، إذ لا يحب الإنسان إلا ما يعرفه، ولذلك لم يتصور أن يتصف بالحب جماد بل هو من خاصية الحي المدرك، ثم المدركات في انقسامها تنقسم إلى ما يوافق طبع المدرك ويلائمه ويلذه، وإلى ما ينافيه وينافره ويؤلمه، وإلى ما لا يؤثر فيه بإيلام وإلذاذ. فكل ما في إدراكه لذة وراحة فهو محبوب عند المدرك، وما في إدراكه ألم فهو مبغوض عند المدرك وما يخلو عن استعقاب ألم ولذة لا يوصف بكونه محبوباً ولا مكروهاً، فإذن كل لذيذ محبوب عند الملتذ به، ومعنى كونه محبوباً أن في الطبع ميلاً إليه، ومعنى كونه مبغوضاً أن في الطبع نفرة عنه. فالحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ، فإن تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقاً، والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب، فإذا قوي سمي مقتاً فهذا أصل في حقيقة معنى الحب لا بد من معرفته.
الأصل الثاني: أن الحب لما كان تابعاً للإدراك والمعرفة انقسم لا محالة بحسب انقسام المدركات والحواس فلكل حاسة إدراك لنوع من المدركات، ولكل واحد منها لذة في بعض المدركات، وللطبع بسبب تلك اللذة ميل إليها فكانت محبوبات عن الطبع السليم. فلذة العين في الإبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور المليحة الحسنة المستلذة، ولذة الأذن في النغمات الطيبة المورونة، ولذة الشم في الروائح الطيبة، ولذة الذوق في الطعوم، ولذة اللمس في اللين والنعومة ولما كانت هذه المدركات بالحواس ملذة كانت محبوبة، أي كان للطبع السليم ميل إليها حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعل قرة عيني في الصلاة" فسمى الطيب محبوباً ومعلوم أنه لاحظ للعين والسمع فيه؛ بل للشم فقط، وسمى النساء محبوبات ولا حظ فيهن إلا للبصر واللمس دون الشم والذوق والسمع، وسمى الصلاة قرة عين وجعلها أبلغ المحبوبات ومعلوم أنه ليس تحظى بها الحواس الخمس، بل حس سادس مظنته القلب لا يدركه إلا من كان له قلب. ولذات الحواس الخمس تشارك فيها البهائم الإنسان، فإن كان الحب مقصوراً على مدركات الحواس الخمس - حتى يقال إن الله تعالى لا يدرك بالحواس ولا يتمثل في الخيال فلا يحب - فإذن قد بطلت خاصية الإنسان وما تميز به من الحس السادس الذي يعبر عنه إما بالعقل أو بالنور أو بالقلب أو بما شئت من العبارات، فلا مشاحة فيه وهيهات، فالبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر، والقلب أشد إدراكاً من العين، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار، فتكون لا محالة لذة القلب بما يدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل عن أن تدركها الحواس أتم وأبلغ، فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى، ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة - كما سيأتي تفصيله - فلا ينكر إذن حب الله تعالى إلا من قعد به القصور في درجة البهائم فلم يجاوز إدراك الحواس أصلاً.
الأصل الثالث: أن الإنسان لا يخفى أنه يحب نفسه ولا يخفى أنه قد يحب غيره لأجل نفسه، وهل يتصور أن يحب غيره لذاته لا لأجل نفسه؟ هذا مما قد يشكل على الضعفاء حتى يظنون أنه لا يتصور أن يحب الإنسان غيره لذاته ما لم يرجع منه حظ إلى المحب سوى إدراك ذاته. والحق أن ذلك متصور وموجود، فلنبين أسباب المحبة وأقسامها، وبيانه أن المحبوب الأول عند كل حي: نفسه وذاته، ومعنى حبه لنفسه أن في طبعه ميلاً إلى دوام وجوده، ونفرة عن عدمه وهلاكه، لأن المحبوب بالطبع هو الملائم للمحب، وأي شيء أتم ملاءمة من نفسه ودوام وجوده؟ وأي شيء أعظم مضادة ومنافرة له من عدمه وهلاكه؟ فلذلك يحب الإنسان دوام الوجود ويكره الموت والقتل، لا لمجرد ما يخافه بعد الموت ولا لمجرد الحذر من سكرات الموت، بل لو اختطف من غير ألم وأميت من غير ثواب ولا عقاب لم يرض به وكان كارهاً لذلك، ولا يحب الموت والعدم والمحض إلا لمقاساة ألم في الحياة. ومهما كان مبتلى ببلاء فمحبوبه زوال البلاء، فإن أحب العدم لم يحبه لأنه عدم بل لأن فيه زوال البلاء، فالهلاك والعدم ممقوت ودوام الوجود محبوب، وكما أن دوام الوجود محبوب فكمال الوجود أيضاً فاقد للكمال، والنقص عدم بالإضافة إلى القدر المفقود وهو هلاك بالنسبة إليه. والهلاك والعدم ممقوت في الصفات، وكمال الوجود كما أنه ممقوت في أصل الذات ووجود صفات الكمال محبوب، كما أن دوام أصل الوجود محبوب، وهذه غريزة في الطباع بحكم سنة الله تعالى "ولن تجد لسنة الله تبديلاً ".
فإذن المحبوب الأول للإنسان ذاته، ثم سلامة أعضاءه، ثم ماله وولده وعشيرته وأصدقائه، فالأعضاء محبوبة وسلامتها مطلوبة لأن كمال الوجود ودوام الوجود موقوف عليها، والمال محبوب لأنه أيضاً آلة في دوام الوجود وكماله وكذا سائر الأسباب، فالإنسان يحب هذه الأشياء لا لأعيانها بل لارتباط حظه في دوام الوجود وكماله بها، حتى إنه ليحب ولده وإن كان لا يناله منه حظ بل يتحمل المشاق لأجله لأنه يخلفه في الوجود بعد عدمه، فيكون في بقاء نسله نوع بقاء له، فلفرط حبه في بقاء نفسه يحب بقاء من هو قائم مقامه وكأنه جزء منه لما عجز عن الطمع في بقاء نفسه أبداً، نعم لو خير بين قتله وقتل ولده - وكان طبعه باقياً على اعتداله- آثر بقاء نفسه على بقاء ولده، لأن بقاء ولده يشبه بقاءه من وجه وليس هو بقاءه المحقق، وكذلك حبه لأقاربه وعشيرته يرجع إلى حبه لكمال نفسه فإنه يرى نفسه كثيراً بهم قوياً بسببهم متجملاً بكمالهم، فإن العشيرة والمال والأسباب الخارجة كالجناح المكمل للإنسان، وكمال الوجود ودوامه محبوب بالطبع لا محالة فإذن المحبوب الأول عند كل حي ذاته وكمال ذاته ودوام ذلك كله، والمكروه عنده ضد ذلك فهذا هو أول الأسباب السبب الثاني: الإحسان، فإن الإنسان عبد الإحسان، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل لفاجر علي يداً فيحبه قلبي" إشارة إلى أن حب القلب للمحسن اضطراراً لا يستطاع دفعه، وهو جبلة وفطرة لا سبيل إلى تغييرها، وبهذا السبب قد يحب الإنسان الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبينه ولا علاقة، وهذا إذا حقق رجع السبب الأول، فإن المحسن من أمد بالمال والمعونة وسائر الأسباب الموصلة إلى دوام الوجود وكمال الوجود وحصول الحظوظ التي بها يتهيأ الوجود، إلا أن الفرق أن أعضاء الإنسان محبوبة لأن بها كمال وجوده وهي عين الكمال المطلوب، فأما المحسن فليس هو عين الكمال المطلوب ولكن قد يكون سبباً له كالطبيب يكون سبباً في دوام صحة الأعضاء، ففرق بين حب الصحة وبين حب الطبيب الذي هو سبب الصحة، إذ الصحة مطلوبة لذاتها والطبيب محبوب لا لذاته بل لأنه سبب الصحة وكذلك العلم محبوب والأستاذ محبوب، ولكن العلم محبوب لذاته والأستاذ محبوب لكونه سبب العلم المحبوب. وكذلك الطعام والشراب محبوب والدنانير محبوبة، لكن الطعام محبوب لذاته والدنانير محبوبة لأنها وسيلة إلى الطعام. فإذن يرجع الفرق إلى تفاوت الرتبة، وإلا فكل واحد يرجع إلى محبة الإنسان نفسه، فكل من أحب المحسن لإحسانه فما أحب ذاته تحقيقاً بل أحب إحسانه وهو فعل من أفعاله لو زال زال الحب مع بقاء ذاته تحقيقاً، ولو نقص نقص الحب ولو زاد زاد، ويتطرق إليه الزيادة والنقصان بحسب زيادة الإحسان ونقصانه.
السبب الثالث: أن يحب الشيء لذاته لا لحظ ينال منه وراء ذاته، بل تكون ذاته عين حظه، وهذا هو الحب الحقيقي البالغ الذي يوثق بدوامه، وذلك كحب الجمال والحسن، فإن كل جمال محبوب عند مدرك الجمال وذلك لعين الجمال، لأن إدراك الجمال فيه عين اللذة، واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها، ولا تظنن أن حب الصور الجميلة لا يتصور إلا لأجل قضاء الشهوة فإن قضاء الشهوة لذة أخرى قد تحب الصور الجميلة لأجلها، وإدراك نفس الجمال أيضاً لذيذ فيجوز أن يكون محبوباً لذاته، وكيف ينكر ذلك والخضرة والماء الجاري محبوب لا ليشرب الماء وتؤكل الخضرة أو ينال منها حظ سوى نفس الرؤية؟ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الخضرة والماء الجاريوالطباع السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والأزهار والأطيار المليحة الألوان الحسنة النقش المتناسبة الشكل، حتى إن الإنسان لتنفرج عنه الغموم والهموم بالنظر إليها لا لطلب حظ وراء النظر. فهذه الأسباب ملذة وكل لذيذ محبوب، وكل حسن وجمال فلا يخلو إدراكه عن لذة، ولا أحد ينكر كون الجمال محبوباً بالطبع، فإن ثبت أن الله جميل كان لا محالة محبوباً عند من انكشف له جماله وجلاله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله جميل يحب الجمال " الأصل الرابع: في بيان معنى الحسن والجمال؛ اعلم أن المحبوس في مضيق الخيالات والمحسوسات ربما يظن أنه لا معنى للحسن والجمال إلا تناسب الخلقة والشكل وحسن اللون، وكون البياض مشرباً بالحمرة وامتداد القامة إلى غير ذلك مما يوصف من جمال شخص الإنسان، فإن الحسن الأغلب على الخلق حسن الإبصار، وأكثر التفاتهم إلى صور الأشخاص فيظن أن ما ليس مبصراً ولا متخيلاً ولا متشكلاً ولا ملوناً مقدر فلا يتصور حسنه، وإذا لم يتصور حسنه لم يكن في إدراكه لذة فلم يكن محبوباً. وهذا خطأ ظاهر فإن الحسن ليس مقصوراً على مدركات البصر ولا على تناسب الخلقة وامتزاج البياض بالحمرة، فإنا نقول هذا خط حسن وهذا صوت حسن وهذا فرس حسن، بل نقول هذا ثوب حسن وهذا إناء حسن، فأي معنى لحسن الصوت والخط وسائر الأشياء إن لم يكن الحسن إلا في الصورة؟ ومعلوم أن العين تستلذ بالنظر إلى الخط الحسن، والأذن تستلذ استماع النغمات الحسنة الطيبة وما من شيء من المدركات إلا وهو منقسم إلى حسن وقبيح، فما معنى الحسن الذي تشترك فيه هذه الأشياء؟ فلا بد من البحث عنه. وهذا البحث يطول، ولا يليق بعلم المعاملة الإطناب فيه، فنصرح بالحق ونقول: كل شيء فجماله وحسنه في أن يحضر كماله اللائق به الممكن له، فإذا كان جميع كمالاته حاضرة فهو في غاية الجمال، وإن كان الحاضر بعضها فله في الحسن والجمال بقدر ما حضر، فالفرس الحسن هو الذي جمع كل ما يليق بالفرس من هيئة وشكل ولون وحسن عدو وتيسر كر وفر عليه، والخط الحسن كل ما جمع ما يليق بالخط من تناسب الحروف وتوازيها واستقامة ترتيبها وحسن انتظامها، ولكل شيء كمال يليق به وقد يليق بغيره ضده فحسن كل شيء في كماله الذي يليق به. فلا يحسن الإنسان بما يحسن به الفرس، ولا يحسن الخط بما يحسن به الصوت، ولا تحسن الأواني بما تحسن به الثياب، وكذلك سائر الأشياء.
فإن قلت: فهذه الأشياء وإن لم تدرك جميعها بحس البصر مثل الأصوات والطعوم فإنها لا تنفك عن إدراك الحواس لها فهي محسوسات، وليس ينكر الحسن والجمال للمحسوسات، ولا ينكر حصول اللذة بإدراك حسنها، وإنما ينكر ذلك في غير المدرك بالحواس؟ فاعلم أن الحسن والجمال موجود في غير المحسوسات إذ يقال: هذا خلق حسن وهذا علم حسن وهذه سيرة حسنة وهذه أخلاق جميلة، وإنما الأخلاق الجميلة يراد بها العلم والعقل والعفة والشجاعة والتقوى والكرم وسائر خلال الخير، وشيء من هذه الصفات لا يدرك بالحواس الخمس بل يدرك بنور البصيرة الباطنة، وكل هذه الخلال الجميلة محبوبة والموصوف بها محبوب بالطبع عند من عرف صفاته، وآية ذلك وأن الأمر كذلك أن الطباع مجبولة على حب الأنبياء صلوات الله عليهم وعلى حب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع أنهم لم يشاهدوا، بل حب أرباب المذاهب مثل الشافعي وأبي حنيفة ومالك وغيرهم، حتى أن الرجل قد يجاوز به حبه لصاحب مذهبه حد العشق فيحمله ذلك على أن تنفق جميع ماله في نصرة مذهبه والذب عنه ويخاطر بروحه في قتال من يطعن في إمامه ومتبوعه. فكم من دم أريق في نصرة أرباب المذاهب، وليت شعري من يحب الشافعي مثلاً فلم يحبه ولم يشاهد قط صورته؟ ولو شاهده ربما لم يستحسن صورته، فاستحسانه الذي حمله على إفراط الحب هو لصورته الباطنة لا لصورته الظاهرة، فإن صورته الظاهرة قد انقلبت تراباً مع التراب، وإنما يحبه لصفاته الباطنة من الدين والتقوى وغزارة العلم والإحاطة بمدارك الدين وانتهاضه لإفادة علم الشرع ولنشره هذه الخيرات في العالم، وهذه أمور جميلة لا يدرك جمالها إلا بنور البصيرة، فأما الحواس فقاصرة عنها. وكذلك من يحب أبا بكر الصديق رضي الله عنه ويفضله على غيره، أو يحب علياً رضي الله تعالى عنه ويفضله ويتعصب له، فلا يحبهم إلا لاستحسان صورهم الباطنة من العلم والدين والتقوى والشجاعة والكرم وغيره. فمعلوم أن من يحب الصديق رضي الله تعالى عنه مثلاً ليس يحب عظمه ولحمه وجلده وأطرافه وشكله إذ كل ذلك زال وتبدل وانعدم، ولكن بقي ما كان الصديق به صديقاً وهي الصفات المحمودة التي هي مصادر السير الجميلة، فكان الحب باقياً ببقاء تلك الصفات مع زوال جميع الصور، وتلك الصفات ترجع جملتها إلى العلم والقدرة إذا علم حقائق الأمور وقدر على حمل نفسه عليها بقهر شهواته، فجميع خلال الخير يتشعب على هذين الوصفين، وهما غير مدركين بالحس، ومحلهما من جملة البدن جزء لا يتجزأ فهو المحبوب بالحقيقة. وليس للجزء الذي لا يتجزأ صورة وشكل ولون يظهر للبصر حتى يكون محبوباً لأجله فإذن الجمال موجود في السير، ولو صدرت السيرة الجميلة من غير علم وبصيرة لم يوجب ذلك حباً فالمحبوب مصدر السير الجميلة، وهي الأخلاق الحميدة والفضائل الشريفة، وترجع جملتها إلى كمال العلم والقدرة وهو محبوب بالطبع وغير مدرك بالحواس، حتى إن الصبي المخلى وطبعه إذ أردنا أن نحبب إليه غائباً أو حاضراً حياً أو ميتاً لم يكن لنا سبيل إلا بالإطناب في وصفه بالشجاعة والكرم والعلم وسائر الخصال الحميدة، فمهما اعتقد ذلك لم يتمالك في نفسه ولم يقدر أن لا يحبه، فهل غلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبغض أبي جهل وبغض إبليس لعنه الله إلا بالإطناب في وصف المحاسن والمقابح التي لا تدرك بالحواس؟ بل لما وصف الناس حاتماً بالسخاء ووصفوا خالداً بالشجاعة أحبتهم القلوب حباً ضرورياً، وليس ذلك عن نظر إلى صورة محسوسة ولا عن حظ يناله المحب منهم، بل إذا حكي من سيرة الملوك في بعض أقطار الأرض العدل والإحسان وإفاضة الخير غلب حبه على القلوب مع اليأس من انتشار إحسانه إلى المحبين لبعد المزار ونأي الديار.
فإذن ليس حب الإنسان مقصوراً على من أحسن إليه، بل المحسن في نفسه محبوب وإن كان لا ينتهي قط إحسانه إلى المحب، لأن كل جمال وحسن فهو محبوب، والصورة ظاهرة وباطنة والحسن والجمال يشملهما، وتدرك الصور الظاهرة بالبصر الظاهر والصور الباطنة بالبصيرة الباطنة؛ فمن حرم البصيرة الباطنة لا يدركها ولا يلتذ بها ولا يحبها ولا يميل إليها، ومن كانت الباطنة أغلب عليه من الحواس الظاهرة كان حبه للمعاني الباطنة أكثر من حبه للمعاني الظاهرة، فشتان بين من يحب نقشاً مصوراً على الحائط لجمال صورته الظاهرة وبين من يحب نبياً من الأنبياء لجمال صورته الباطنة.
السبب الخامس: المناسبة الخفية بين المحب والمحبوب، إذ رب شخصين تأكد المحبة بينهما لا بسبب جمال أو حظ ولكن بمجرد تناسب الأراوح كما قال صلى الله عليه وسلم: " فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف". وقد حققنا ذلك في كتاب آداب الصحبة عند ذكر الحب في الله فليطلب منه لأنه أيضاً من عجائب أسباب الحب فإذن ترجع أقسام الحب إلى خمسة أسباب: وهو حبالإنسان وجود نفسه وكماله وبقائه. وحبه من أحسن إليه فيما يرجع إلى دوام وجوده ويعين على بقائه ودفع المهلكات عنه. وحبه من كان محسناً في نفسه إلى الناس وإن لم يكن محسناً إليه. وحبه لكل ما هو جميل في ذاته؛ سواء كان من الصور الظاهرة أو الباطنة. وحبه لمن بينه وبينه مناسبة خفية في الباطن. فلو اجتمعت هذه الأسباب في شخص واحد تضاعف الحب لا محالة، كما لو كان الإنسان ولد جميل الصورة حسن الخلق كامل العلم حسن التدبير محسن إلى الخلق ومحسن إلى الوالد كان محبوباً لا محالة غاية الحب، وتكون قوة الحب بعد اجتماع هذه الخصال بحسب قوة هذه الخلال في نفسها، فإن كانت هذه الصفات في أقصى درجات الكمال كان الحب لا محالة في أعلى الدرجات. فلقبين الآن أن هذه الأسباب كلها لا يتصور كمالها واجتماعها إلا في حق الله تعالى فلا يستحق المحبة بالحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى.


[align=center]بيان أن المستحق للمحبة هو الله وحده[/align]

وأن من أحب غير الله لا من حيث نسبته إلى الله فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله تعالى، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم محمود لأنه عين حب الله تعالى، وكذلك حب العلماء والأتقياء لأن محبوب المحبوب محبوب ورسول المحبوب محبوب ومحب المحبوب محبوب، وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل فلا يتجاوزه إلى غيره، فلا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى ولا مستحق للمحبة سواه، وإيضاحه بأن نرجع إلى الأسباب الخمسة التي ذكرناها ونبين أنها مجتمعة في حق الله تعالى بجملتها ولا يوجد في غيره إلا آحادها، وأنها حقيقة في حق الله تعالى، ووجودها في حق غيره وهم وتخيل وهو مجاز محض لا حقيقة له، ومهما ثبت ذلك انكشف لكل ذي بصيرة ضد ما تخيله ضعفاء العقول والقلوب من استحالة حب الله تعالى تحقيقاً، وبان أن التحقيق يقتضي أن لا تحب أحداً غير الله تعالى فأما السبب الأول: وهو حب الإنسان نفسه وبقاءه وكماله ودوام وجوده، وبغضه لهلاكه وعدمه ونقصانه وقواطع كماله فهذه جبلة كل حي، ولا يتصور أن ينفك عنها، وهذا يقتضي غاية المحبة لله تعالى فإن من عرف نفسه وعرف ربه عرف قطعاً أنه لا وجود له من ذاته وإنما وجود ذاته ودوام وجوده وكمال وجوده من الله وإلى الله وبالله، فهو المخترع الموجد له وهو المبقي له وهو المكمل لوجوده بخلق صفات الكمال وخلق الأسباب الموصلة إليه ذو خلق الهداية إلى استعمال الأسباب، وإلا فالعبد من حيث ذاته لا وجود له من ذاته، بل هو محو محض وعدم صرف لولا فضل الله تعالى عليه بالإيجاد، وهو هالك عقيب وجوده لولا فضل الله عليه بالإبقاء، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل لخلقته وبالجملة فليس في الوجود شيء له بنفسه قوام إلا القيوم الحي الذي هو قائم بذاته، وكل ما سواه قائم به فإن أحب العارف ذاته ووجود ذاته مستفاد من غيره، فبالضرورة يحب المفيد لوجوده والمديم له إن عرفه خالقاً موجداً ومخترعاً مبقياً وقيوماً بنفسه ومقوماً لغيره، فإن كان لا يحبه فهو لجهله بنفسه وبربه، والمحبة ثمرة المعرفة فتنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوتها، ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: من عرف ربه أحبه ومن عرف الدنيا زهد فيها. وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه؟ ومعلوم أن المبتلى بحر الشمس لما كان يحب الظل فيحب بالضرورة الأشجار التي بها قوام الظل، وكل ما في الوجود بالإضافة إلى قدرة الله تعالى فهو كالظل بالإضافة إلى الشجر والنور بالإضافة إلى الشمس فإن الكل من آثار قدرته، ووجود الكل تابع لوجوده، كما أن وجود النور تابع للشمس ووجود الظل تابع للشجر، بل هذا المثال صحيح بالإضافة إلى أوهام العوام إذ تخيلوا أن النور أثر الشمس وفائض منها وموجود بها، وهو خطأ محض إذا انكشف لأرباب القلوب انكشافاً أظهر من مشاهدة الأبصار أن النور حاصل من قدرة الله تعالى اختراعاً عند وقوع المقابلة بين الشمس والأجسام الكثيفة، كما أن نور الشمس وعينها وشكلها وصورتها أيضاً حاصل من قدرة الله تعالى، ولكن الغرض من الأمثلة التفهيم فلا يطلب فيها الحقائق. فإذن إن كان حب الإنسان نفسه ضرورياً فحبه لمن به قوامه أولاً ودوامه ثانياً في أصله وصفاته وظاهره وباطنه وجواهره وأعراضه أيضاً ضروري، إن عرف ذلك كذلك ومن خلا عن الحب هذا فلأنه اشتغل بنفسه وشهواته وذهل عن ربه وخالقه فلم يعرفه حق معرفته وقصر نظره على شهواته ومحسوساته، وهو عالم الشهادة الذي يشاركه البهائم في التنعم به والاتساع فيه دون عالم الملكوت الذي لا يطأ أرضه إلا من يقرب إلى شبه من الملائكة، فينظر فيه بقدر قربه في الصفات من الملائكة ويقصر عنه بقدر انحطاطه إلى حضيض عالم البهائم وأما السبب الثاني: وهو حبه من أحسن عليه فواساه بماله ولاطفه بكلامه وأمده بمعونته وانتدب لنصرته وقمع أعدائه وقام بدفع شر الأشرار عنه وانتهض وسيلة إلى جميع حظوظه وأغراضه في نفسه وأولاده وأقاربه فإنه محبوب لا محالة عنده. وهذا بعينه يقتضي أن لا يحب إلا الله تعالى فإنه لو عرف حق المعرفة لعلم أن المحسن إليه هو الله تعالى فقط، فأما أنواع إحسانه إلى كل عبيده فلست أعدها إذ ليس يحيط بها حصر حاصر كما قال تعالى: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " وقد أشرنا إلى طرف منه في كتاب الشكر. ولكنا نقتصر الآن على بيان أن الإحسان من الناس غير متصور إلا بالمجاز، وإنما المحسن هو الله تعالى. ولنفرض ذلك فيمن أنعم عليك بجميع خزائنه ومكنك منها لتتصرف فيها كيف تشاء فإنك تظن أن هذا الإحسان منه، وهو غلط فإنه إنما تم إحسانه به وبماله وبقدرته وبداعيته الباعثة له على صرف المال إليك، فمن الذي أنعم بخلقه وخلق ماله وخلق قدرته وخلق إرادته وداعيته ومن الذي حببك إليه وصرف وجهه إليك وألقى في نفسه أن صلاح دينه أو دنياه في الإحسان إليك؟ ولولا كل ذلك لما أعطاك حبة من ماله، ومهما سلط الله عليه الدواعي وقرر في نفسه أن صلاح دينه أو دنياه في أن يسلم إليك ماله كان مقهوراً مضطراً في التسليم لا يستطيع مخالفته، فالمحسن هو الذي اضطره لك وسخره وسلط عليه الدواعي الباعثة المرهقة إلى الفعل، وأما يده فواسطة يصل بها إحسان الله إليك وصاحب اليد مضطر في ذلك اضطراراً مجرى الماء في جريان الماء فيه، فإن اعتقدته محسناً أو شكرته من حيث هو بنفسه لا من حيث هو واسطة كنت جاهلاً بحقيقة الأمر، فإنه لا يتصور الإحسان من الإنسان إلا إلى نفسه، أما الإحسان إلى غيره فمحال من المخلوقين، لأنه لا يبذل ماله إلا لغرض له البذل إما آجل وهو الثواب وإما عاجل وهو المنة والاستسخار أو الثناء والصيت والاشتهار بالسخاء والكرم أو جذب قلوب الخلق إلى الطاعة والمحبة، وكما أن الإنسان لا يلقي ماله في البحر إذ لا غرض له فيه فلا يلقيه في يد إنسان إلا لغرض له فيه، وذلك الغرض هو مطلوبه ومقصده، وأما أنت فلست مقصوداً بل يدك آلة له في القبض حتى يحصل غرضه من الذكر والثناء أو الشكر أو الثواب بسبب قبضك المال، فقد استسخرك في القبض للتوصل إلى غرض نفسه فهو إذن محسن إلى نفسه ومعتاض عما بذله من ماله عوضاً هو أرجح عنده من ماله، ولولا رجحان ذلك الحظ عنده لما نزل عن ماله لأجلك أصلاً البتة، فإذن هو غير مستحق للشكر والحب من وجهين.
أحدهما أنه مضطر بتسليط الله الدواعي عليه فلا قدرة له على المخالفة، فهو جار مجرى خازن الأمير فإنه لا يرى محسناً بتسليم خلعة الأمير إلى من خلع عليه، لأنه من جهة الأمير مضطر إلى الطاعة والامتثال لما يرسمه ولا يقدر على مخالفته، ولو خلاه الأمير ونفسه لما سلم ذلك. فكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه لم يبذل حبة من ماله حتى سلط الله الدواعي عليه وألقى في نفسه أن حظه ديناً ودنيا في بذله فبذله لذلك.
والثاني أنه معتاض عما بذله حظاً أوفى عنده وأحب مما بذله، فكما لا يعد البائع محسناً لأنه بذل بعوض هو أحب عنده مما بذله، فكذلك الواهب اعتاض الثواب أو الحمد والثناء أو عوضاً آخر، وليس من شرط العوض أن يكون عيناً متمولاً بل الحظوظ كلها أعواض تستحقر الأموال والأعيان بالإضافة إليها، فالإحسان في الجود، والجود هو بذل المال من غير عوض وحظ يرجع إلى الباذل، وذلك محال من غير الله سبحانه فهو الذي أنعم على العالمين إحساناً إليهم ولأجلهم لا لحظ وغرض يرجع إليه فإنه يتعالى عن الأغراض فلفظ الجود والإحسان في حق غيره كذب أو مجاز، ومعناه في حق غيره محال وممتنع امتناع الجمع بين السواد والبياض، فهو المنفرد بالجود والإحسان والطول والامتنان، فإن كان في الطبع حب المحسن فينبغي أن لا يحب العارف إلا الله تعالى، إذ الإحسان من غيره محال فهو المستحق لهذه المحبة وحده، وأما غيره فيستحق المحبة على الإنسان بشرط الجهل بمعنى الإحسان وحقيقته وأما السبب الثالث: وهو حبك المحسن في نفسه وإلى لم يصل إليك إحسانه، وهذا أيضاً موجود في الطباع، فإنه إذا بلغك خبر ملك عابد عادل عالم رفيق بالناس متلطف بهم متواضع لهم وهو في قطر من أقطار الأرض بعيد عنك وبلغك خبر ملك آخر ظالم متكبر فاسق متهتك شرير وهو أيضاً بعيد عنك؛ فإنك تجد في قلبك تفرقة بينهما إذ تجد في القلب ميلاً إلى الأول وهو الحب، ونفرة عن الثاني وهو البغض، مع أنك آيس من خير الأول وآمن من شر الثاني لانقطاع طمعك عن التوغل إلى بلادهما؛ فهذا حب المحسن من حيث إنه محسن فقط لا من حيث إنه محسن إليك، وهذا أيضاً يقتضي حب الله تعالى بل يقتضي أن لا يحب غيره أصلاً إلا من حيث يتعلق منه بسبب، فإن الله هو المحسن إلى الكافة والمتفضل على جميع أصناف الخلائق، أولاً: بإيجادهم، وثانياً: بتكميلهم بالأعضاء والأسباب التي هي من ضروراتهم، وثالثاً: بترفيههم وتنعيمهم بخلق الأسباب التي هي في مظان حاجاتهم وإن لم تكن في مظان الضرورة، ورابعاً: بتجميلهم بالمزايا والزوائد التي هي في مظنة زينتهم وهي خارجة عن ضروراتهم وحاجاتهم.
ومثال الضروري من الأعضاء: الرأس والقلب والكبد، ومثال المحتاج إليه: العين واليد والرجل. ومثال الزينة: استقواس الحاجبين وحمرة الشفتين وتلوين العينين إلى غير ذلك مما لو فات لم تنخرم به حاجة ولا ضرورة.
ومثال الضروري من النعم الخارجة عن بدن الإنسان: الماء والغذاء. ومثال الحاجة: الدواء واللحم والفواكه ومثال المزايا والزوائد: خضرة الأشجار وحسن أشكال الأنوار والأزهار ولذائذ الفواكه والأطعمة التي لا تنخرم بعدمها حاجة ولا ضرورة.
وهذه الأقسام الثلاثة موجودة لكل حيوان بل لكل نبات بل لكل صنف من أصناف الخلق من ذروة العرش إلى منتهى الفرش. فإذن هو المحسن فكيف يكون غيره محسناً وذلك المحسن حسنة من حسنات قدرته؟ فإنه خالق الحسن وخالق المحسن وخالق الإحسان وخالق أسباب الإحسان، فالحب بهذه العلة لغيره أيضاً جهل محض ومن عرف ذلك لم يحب بهذه العلة إلا الله تعالى.
وأما السبب الرابع: وهو حب كل جميل لذات الجمال لا لحظ ينال من وراء إدراك الجمال: فقد بينا أن ذلك مجبول في الطباع، وأن الجمال ينقسم إلى جمال الصورة الظاهرة المدركة بعين الرأس وإلى جمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة، والأول يدركه الصبيان والبهائم، والثاني يختص بدركه أرباب القلوب ولا يشاركهم فيه من لا يعلم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا. وكل جمال فهو محبوب عند مدرك الجمال، فإن كان مدركاً بالقلب فهو محبوب القلب ومثال هذا في المشاهدة حب الأنبياء والعلماء وذوي المكارم السنية والأخلاق المرضية، فإن ذلك متصور مع تشوش صورة الوجه وسائر الأعضاء وهو المراد بحسن الصورة الباطنة والحس لا يدرك. نعم يدرك بحسن آثاره الصادرة منه الدالة عليه، حتى إذا دل القلب عليه مال القلب إليه فأحبه، فمن يحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو الصديق رضي الله تعالى عنه أو الشافعي رحمة الله عليه فلا يحبهم إلا لحسن ما ظهر منهم، وليس ذلك لحسن صورهم ولا لحسن أفعالهم، بل دل حسن أفعالهم على حسن الصفات التي هي مصدر الأفعال إذ الأفعال آثار صادرة عنها ودالة عليها فمن رأى حسن تصنيف المصنف وحسن شعر الشاعر بل حسن نقش النقش وبناء البناء انكشف له من هذه الأفعال صفاتها الباطنة التي يرجع حاصلها عند البحث إلى العلم والمقدرة، ثم كلما كان المعلوم أشرف وأتم رجالاً وعظمة كان العلم أشرف وأجمل، وكذا المقدور كلما كان أعظم رتبة وأجل منزلة كانت القدرة عليه أجل رتبة وأشرف قدراً. وأجل المعلومات هو الله تعالى، فلا جرم أحسن العلوم وأشرفها معرفة الله تعالى، وكذلك ما يقاربه ويختص به فشرفه على قدر تعلقه به.
فإذن جمال صفات الصديقين الذين تحبهم القلوب طبعاً ترجع إلى ثلاثة أمور: أحدها علمهم بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائع أنبيائه.
والثاني: قدرتهم على إصلاح أنفسهم وإصلاح عباد الله بالإرشاد والسياسة.
والثالث: تنزههم عن الرذائل والخبائث والشهوات الغالبة الصارفة عن سنن الخير الجاذبة إلى طريق الشر، وبمثل هذا يحب الأنبياء والعلماء والخلفاء والملوك الذين هم أهل العدل والكرم فأنسب هذه الصفات إلى صفات الله تعالى أما العلم: فأين علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذي يحيط بالكل إحاطة خارجة عن النهاية حتى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض؟ وقد خاطب الخلق كلهم فقال عز وجل " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " بل لو اجتمع أهل الأرض والسماء على أن يحيط بعلمه وحكمته في تفصيل خلق نملة أو بعوضة لم يطلعوا على عشر عشير ذلك " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " والقدر اليسير الذي علمه الخلائق كلهم فبتعليمه علموه كما قال تعالى: " خلق الإنسان علمه البيان " فإن كان جمال العالم وشرفه أمراً محبوباً وكان هو في نفسه زينة وكمالاً الموصوف به فلا ينبغي أن يحب بهذا السبب إلا الله تعالى. فعلوم العلماء جهل بالإضافة إلى علمه، بل من عرف أعلم أهل زمانه وأجهل أهل زمانه استحال أن يحب بسبب العلم الأجهل ويترك الأعلم وإن كان الأجهل لا يخلو عن علم ما تتقاضاه معيشته. والتفاوت بين علم الله وبين علم الخلائق أكثر من التفاوت بين علم أعلم الخلائق وأجهلهم، لأن الأعلم لا يفضل الأجهل إلا بعلوم معدودة متناهية يتصور في الإمكان أن ينالها الأجهل بالكسب والاجتهاد وفضل علم الله تعالى على علوم الخلائق كلهم خارج عن النهاية إذ معلوماته لا نهاية لها ومعلومات الخلق متناهية.
وأما صفة القدرة: فهي أيضاً كمال والعجز نقص، فكل كمال وبهاء وعظمة ومجد واستيلاء فإنه محبوب وإدراكه لذيذ، حتى إن الإنسان ليسمع في الحكاية شجاعة علي وخالد رضي الله عنهما وغيرهما من الشجعان وقدرتهما واستيلاءهما على الأقران فيصادف في قلبه اهتزازاً وفرحاً وارتياحاً ضرورياً بمجرد لذة السماع فضلاً عن المشاهدة ويورث ذلك حباً في القلب ضرورياً للمتصف به فإنه نوع كمال، فانسب الآن قدرة الخلق إلى قدرة الله تعالى، فأعظم الأشخاص قوة وأوسعهم ملكاً وأقواهم بطشاً وأقهرهم للشهوات وأقمعهم لخبائث النفس وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره - ما منتهى قدرته؟ وإنما غايته على بعض صفات نفسه وعلى بعض أشخاص الإنس في بعض الأمور وهو مع ذلك لا يملك لنفسه موتاً ولا حياة ولا نشوراً ولا ضراً ولا نفعاً، بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى ولسانه من الخرس وأذنه من الصمم وبدنه من المرض، ولا يحتاج إلى عد ما يعجز عنه في نفسه وغيره مما هو على الجملة متعلق قدرته، فضلاً عما لا تتعلق به قدرته من ملكوت السموات وأفلاكها وكواكبها والأرض وجبالها وبحارها ورياحها وصواعقها ومعادنها ونباتها وحيواناتها وجميع أجزائها، فلا قدرة له على ذرة منها. وما هو قادر عليه من نفسه وغيره فليست قدرته من نفسه وبنفسه بل الله خالقه وخالق قدرته وخالق أسبابه والممكن له من ذلك. ولو سلط بعوضاً على أعظم ملك وأقوى شخص من الحيوانات لأهلكه، فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه كما قال في أعظم ملوك الأرض ذي القرنين إذ قال " إنا مكنا له في الأرض " فلم يكن جميع ملكه وسلطنته إلا بتمكين الله تعالى إياه في جزء من الأرض، والأرض كلها مدرة بالإضافة إلى أجسام العالم وجميع الولايات التي يحظى بها الناس من الأرض غبرة من تلك المدرة، ثم تلك الغبرة أيضاً من فضل الله تعالى وتمكينه، فيستحيل أن يحب عبداً من عباد الله تعالى لقدرته وسياسته وتمكينه واستيلائه وكمال قوته ولا يحب الله تعالى لذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فهو الجبار القاهر والعليم القادر، السموات مطويات بيمينه والأرض وملكها وما عليها في قبضته وناصية جميع المخلوقات في قبضة قدرته إن أهلكهم من عند آخرهم لم ينقص من سلطانه وملكه ذرة. وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعي بخلقها ولا يمسه لغوب ولا فتور في اختراعها، فلا قدرة ولا قادر إلا وهو أثر من آثار قدرته فله الجمال والبهاء والعظمة والكبرياء والقهر والاستيلاء، فإن كان يتصور أن يحب قادر لكمال قدرته فلا يستحق الحب بكمال القدرة سواه أصلاً.
وأما صفة التنزه عن العيوب والنقائص والتقدس عن الرذائل والخبائث فهو أحد موجبات الحب ومقتضيات الحسن والجمال في الصور الباطنة، والأنبياء والصديقون وإن كانوا منزهين عن العيوب والخبائث فلا يتصور كمال التقدس والتنزه إلا للواحد الحق الملك والقدوس ذي الجلال والإكرام وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص وعن نقائص بل كونه عاجزاً مخلوقاً مسخراً مضطراً هو عين العيب والنقص فالكمال لله وحده وليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه الله، وليس في المقدور أن ينعم بمنتهى الكمال على غيره فإن منتهى الكمال أقل درجاته أن لا يكون عبداً مسخراً لغيره قائماً بغيره وذلك محال في حق غيره، فهو المنفرد بالكمال المنزه عن النقص المقدس عن العيوب، وشرح وجوه التقدس والتنزه في حقه عن النقائض يطول وهو من أسرار علوم المكاشفات فلا نطول بذكره. فهذا الوصف أيضاً إن كان كمالاً وجمالاً محبوباً فلا تتم حقيقته إلا له، وكمال غيره وتنزهه لا يكون مطلقاً بل بالإضافة إلى ما هو أشد منه نقصاناً، كما أن للفرس بالإضافة إلى الحمار وللإنسان كمالاً بالإضافة إلى الفرس، وأصل النقص شامل للكل وإنما يتفاوتون في درجات النقصان.
فإذن الجميل محبوب والجميل المطلق هو الواحد الذي لا ند له، الفرد الذي لا ضد له، الصمد الذي لا منازع له، الغني الذي لا حاجة له، القادر الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، العالم الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض، القاهر الذي لا يخرج عن قبضة قدرته أعناق الجبابرة ولا ينفلت من سطوته وبطشه رقاب القياصرة، الأزلي الذي لا أول لوجوده، الأبدي الذي لا آخر لبقائه، الضروري الوجود الذي لا يحوم إمكان العدم حول حضرته، القيوم الذي يقوم بنفسه ويقوم كل موجود به، جبار السموات والأرض، خالق الجماد والحيوان والنبات، المنفرد بالعزة والجبروت، والمتوحد بالملك والملكوت، ذو الفضل والجلال والبهاء والجمال والقدرة والكمال، الذي تتحير في معرفة جلاله العقول وتخرس في وصفه الأسنة، الذي كمال معرفة العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته ومنتهى نبوة الأنبياء الإقرار بالقصور عن وصفه، كما قال سيد الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين: " ولا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك".
وقال سيد الصديقين رضي الله تعالى عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك. سبحان من لم يجعل للخلق طريقاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته فليت شعري من ينكر إمكان حب الله تعالى تحقيقاً ويجعله مجازاً؟ أينكر أن هذه الأوصاف من أوصاف الجمال والمحامد ونعوت الكمال والمحاسن أن ينكر كون الله تعالى موصوفاً بها أو ينكر كون الكمال والجمال والبهاء والعظمة محبوباً بالطبع عند من أدركه؟ فسبحان من احتجب عن بصائر العميان غيرة على جماله وجلاله أن يطلع عليه إلا من سبقت له منه الحسنى الذين هم عن نار الحجاب مبعدون، وترك الخاسرين في ظلمات العمى يتيهون وفي مسارح المحسوسات وشهوات البهائم يترددون؛ يعملون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.
فالحب بهذا السبب أقوى من الحب بالإحسان لأن الإحسان يزيد وينقص. ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: إن أود الأوداء إلي م عبدني بغير نوال لكن ليعطي الربوبية حقها.
وفي الزبور: من أظلم ممن عبدني لجنة أو نار لو لم أخلق جنة ولا ناراً ألم أكن أهلاً أن أطاع.
ومر عيسى عليه السلام على طائفة من العباد قد نحلوا فقالوا: نخاف النار ونرجو الجنة فقال لهم: مخلوقاً خفتم ومخلوقاً رجوتم، ومر بقوم آخرين كذلك فقالوا: نعبده حباً له وتعظيماً لجلاله، فقال: أنتم أولياء الله حقاً معكم أمرت أن أقيم.
وقال أبو حازم: إني لأستحي أن أعبده للثواب والعقاب فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل، وكالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل.
وفي الخبر: " لا يكون أحدكم كالأجير السوء إن لم يعط أجراً لم يعمل، ولا كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل" وأما السبب الخامس للحب فهو المناسبة والمشاكلة لأن شبه الشيء منجذب إليه والشكل إلى الشكل أميل. ولذلك ترى الصبي يألف الصبي والكبير يألف الكبير، ويألف الطير نوعه وينفر من غير نوعه، وأنس العالم بالعالم أكثر منه بالمحترف، وأنس النجار بالنجار أكثر من أنسه بالفلاح. وهذا أمر تشهد به التجربة وتشهد له الأخبار والآثار كما استقصيناه في باب الأخوة في الله من كتاب آداب الصحبة فليطلب منه. وإذا كانت المناسبة سبب المحبة فالمناسبة قد تكون في معنى ظاهر كمناسبة الصبي للصبي في معنى الصبا، وقد يكون خفياً حتى لا يطلع عليه كما ترى من الاتحاد الذي يتفق بين شخصين من غير ملاحظة جمال أو طمع في مال أو غيره كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: " الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " فالتعارف هو التناسب، والتناكر هو التباين وهذا السبب أيضاً يقتضي حب الله تعالى لمناسبة باطنة لا ترجع إلى المشابهة في الصور والأشكال بل إلى معادن باطنة، يجوز أن يذكر بعضها في الكتب وبعضها لا يجوز أن يسطر بل يترك تحت غطاء الغبرة حتى يعثر عليه السالكون للطريق إذا استكملوا شرط السلوك.
فالذي يذكر هو قرب العبد من ربه عز وجل في الصفات التي أمر فيها بالاقتداء والتخلق بأخلاق الربوبية، حتى قيل تخلقوا بأخلاق الله، وذلك في اكتساب محامد الصفات التي هي من صفات الإلهية العلم والبر والإحسان واللطف وإفاضة الخير والرحمة على الخلق والنصيحة لهم وإرشاداهم إلى الحق ومنعهم من الباطل، إلى غير ذلك من مكارم الشريعة. فكل ذلك يقرب إلى الله سبحانه وتعالى لا بمعنى طلب القرب بالمكان بل بالصفات.
وأما ما لا يجوز أن يسطر في الكتب من المناسبة الخاصة التي اختص بها الآدمي فهي التي يومئ إليها قوله تعالى: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " إذ بين أنه أمر رباني خارج عن حد عقول الخلق. وأوضح من ذلك قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي" ولذلك أسجد له ملائكته، ويشير إليه قوله تعالى: " إنا جعلنا خليفة في الأرض " إذ لم يستحق آدم خلافة الله تعالى إلا بتلك المناسبة وإليه يرمز قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله خلق آدم على صورته" حتى ظن القاصرون أن لا صورة إلا الصورة الظاهرة المدركة بالحواس فشبهوا وجسموا وصوروا، تعالى الله رب العالمين عما يقول الجاهلون علواً كبيراً. وإليه الإشارة بقوله تعالى لموسى عليه السلام: " مرضت فلم تعدني، فقال: يا رب وكيف ذلك؟ قال: مرض عبدي فلان فلم تعده ولو عدته وجدتني عنده" وهذه المناسبة لا تظهر إلا بالمواظبة على النوافل بعد إحكام الفرائض كما قال الله تعالى: " لا يزال يتقرب العبد إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به". وهذا موضع يجب قبض عنان القلم فيه فقد تحزب الناس فيه إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهر وإلى غالين مسرفين جاوزوا حد المناسبة إلى الاتحاد وقالوا بالحلول، حتى قال بعضهم: أنا الحق. وضل النصارى في عيسى عليه السلام فقالوا: هو الإله، وقال آخرون منهم تذرع الناسوت باللاهوت وقال آخرون: اتحد به. وأما الذين انكشف لهم استحالة التشبيه والتمثيل واستحالة الاتحاد والحلول واتضح لهم مع ذلك حقيقة السر فيهم الأقلون. ولعل أبا الحسن النوري عن هذا المقام كان ينظر إذا غلبه الوجد في قول القائل: لا زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب عند نـزولـه
فلم يزل يعدو في وجده على أجمة قد قطع قصبها وبقي أصوله حتى تشققت قدماه وتورمتا ومات من ذلك. وهذا هو أعظم أسباب الحب وأقواها وهو أعزها وأبعدها وأقلها وجوداً. فهذه هي المعلومة من أسباب الحب وجملة ذلك متظاهرة في حق الله تعالى تحقيقاً لا مجازاً وفي أعلى الدرجات لا في أدناها، فكان المعقول المقبول عند ذوي البصائر حب الله تعالى فقط كما أن المعقول الممكن عند العميان حب غير الله تعالى فقط، ثم كل من يحب من الخلق بسبب من هذه الأسباب يتصور أن يحب غير لمشاركته إياه في السبب، والشركة نقصان في الحب وغض من كماله. ولا ينفرد أحد بوصف محبوب إلا وقد يوجد له شريك فيه، فإن لم يوجد فيمكن أن يوجد، إلا الله تعالى فإنه موصوف بهذه الصفات التي هي نهاية الجلال والكمال ولا شريك له في ذلك وجوداً، ولا يتصور أن يكون ذلك إمكاناً، فلا جرم لا يكون في حبه شركة فلا يتطرق النقصان إلى حبه كما لا تتطرق الشركة إلى صفاته، فهو المستحق - إذاً لأصل المحبة - ولكمال المحبة استحقاقاً لا يساهم فيه أصلاً.


[align=center]بيان أن أجل اللذات وأعلاها معرفة الله تعالى
والنظر إلى وجهه الكريم وأنه لا يتصور أن لا يؤثر عليها لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة
[/align]


اعلم أن اللذات تابعة للإدراكات، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة وغريزة لذة ولذتها في نيلها المقتضي طبعها الذي خلقت له فإن هذه الغرائز ما ركبت في الإنسان عبثاً بل ركبت كل قوة وغريزة لأمر من الأمور هو مقتضاها بالطبع. فغريزة الغضب خلقت للتشفي والانتقام فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام الذي هو مقتضى طبعها. وغريزة شهوة الطعام مثلاً خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام فلا جرم لذتها في نيل هذا الغذاء الذي هو مقتضى طبعها، وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الإبصار والاستماع والشم، فلا تخلو غريزة من هذه الغرائز عن ألم ولذة بالإضافة إلى مدركاتها. فكذلك في القلب غريزة تسمى النور الإلهي لقوله تعالى: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور ربه " وقد تسمى العقل وقد تسمى البصيرة الباطنة وقد تسمى نور الإيمان واليقين، ولا معنى للاشتغال بالأسامي فإن الاصطلاحات مختلفة، والضعيف يظن أن الاختلاف واقع في المعاني لأن الضعيف يطلب المعاني من الألفاظ وهو عكس الواجب، فالقلب مفارق لسائر أجزاء البدن بصفة بها يدرك المعاني التي ليست متخيلة ولا محسوسة، كإدراك خلق العالم أو افتقاره إلى خالق قديم مدبر حكيم موصوف بصفات إلهية، ولتسم تلك الغريزة عقلاً بشرط أن لا يفهم من لفظ العقل ما يدرك به طرق المجادلة والمناظرة، فقد اشتهر اسم العقل بهذا ولهذا ذمه بعض الصوفية، وإلا فالصفة التي فارق الإنسان بها البهائم وبها يدرك معرفة الله تعالى أعز الصفات فلا ينبغي أن تذم، وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها فمقتضى طبعها المعرفة والعلم وهي لذتها، كما أن مقتضى سائر الغرائز هو لذتها. وليس يخفى أن في العلم والمعرفة لذة حتى إن الذي ينسب إلى العلم والمعرفة ولو في شيء خسيس يفرح به، والذي ينسب إلى الجهل ولو في شيء حقير يغتم به، وحتى أن الإنسان لا يكاد يصبر عن التحدي بالعلم والتمدح به في الأشياء الحقيرة. فالعالم باللعب بالشطرنج على خسته لا يطيق السكوت فيه عن التعليم وينطلق لسانه بذكر ما يعلمه، وكل ذلك لفرط لذة العلم وما يستشعره من كمال ذاته به، فإن العلم من أخص صفات الربوبية وهي منتهى الكمال، ولذلك يرتاح الطبع إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم لأنه يستشعر عند سماع الثناء كمال ذاته وكمال علمه فيعجب بنفسه ويلتذ به، ثم ليست لذة العلم بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق، ولا لذة العلم بالنحو والشعر كلذة العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وملكوت السموات والأرض، بل لذة العلم بقدر شرف العلم وشرف العلم بقدر شرف المعلوم، حتى إن الذي يعلم بواطن أحوال الناس ويخبر بذلك يجد له لذة وإن جهله تقاضاه طبعه أن يفحص عنه، فإن علم بواطن أحوال رئيس البلد وأسرار تدبيره في رياسته كان ذلك ألذ عنده وأطيب من عمله بباطن حال الفلاح أو حائك فإن اطلع على أسرار الوزير وتدبيره وما هو عازم عليه في أمور الوزارة فهو أشهى عنده وألذ من علمه بأسرار الرئيس، فإن كان خبيراً بباطن أحوال الملك والسلطان الذي هو المستولي كان ذلك أطيب عنده وألذ من علمه بباطن أسرار الوزير، وكان تمدحه بذلك وحرصه عليه وعلى البحث عنه أشد وحبه له أكثر لأن لذته فيه أعظم. فبهذا استبان أن ألذ المعارف أشرفها، وشرفها بحسب شرف المعلوم، فإن كان في المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها وأطيبها. وليت شعري هل في الوجود شيء أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها ومزينها ومبدئها ومعيدها ومدبرها ومرتبها؟ وهل يتصور أن تكون حضرة في الملك والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بمبادي جلالها وعجائب أحوالها وصف الواصفين؟ فإن كنت لا تشك في ذلك فلا ينبغي أن تشك في أن الإطلاع على أسرار الربوبية والعلم بترتب الأمور الإلهية المحيطة بكل الموجودات هو أعلى أنواع المعارف والاطلاعات وألذها وأطيبها وأشهاها؟ وأحرى ما تستشعر به النفوس عند الاتصاف به كمالها وجمالها، وأجدر ما يعظم به الفرح والارتياح والاستبشار وبهذا تبين أن العلم لذيذ، وأن ألذ العلوم العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وتدبيره في مملكته - من منتهى عرشه إلى تخوم الأرضين - فينبغي أن يعلم أن لذة المعرفة أقوى من سائر اللذات أعني لذة الشهوات والغضب ولذة سائر الحواس الخمس، فإن اللذات مختلفة بالنوع أولاً، كمخالفة لذة الوقاع للذة السماع، ولذة المعرفة للذة الرياسة، وهي مختلفة بالضعف والقوة، كمخالفة لذة الشبق المغتلم من الجماع للذة الفاتر للشهوة، وكمخالفة لذة النظر إلى الوجه الجميل الفائق الجمال للذة النظر إلى ما دونه في الجمال. وإنما تعرف أقوى اللذات بأن تكون مؤثرة على غيرها، فإن المخير بين النظر إلى صورة جميلة والتمتع بمشاهدتها وبين استنشاق روائح طيبة إذا اختار النظر إلى الصورة الجميلة علم أنها ألذ عنده من الروائح الطيبة، وكذلك إذا حضر الطعام وقت الأكل واستمر اللاعب بالشطرنج على اللعب وترك الأكل، فيعلم به أن لذة الغلبة في الشطرنج أقوى عنده من لذة الأكل فهذا معيار صادق في الكشف عن ترجيح اللذات فنعود ونقول: اللذات تنقسم إلى ظاهرة كلذة الحواس الخمس، وإلى باطنة كلذة الرياسة والغلبة والكرامة والعلم وغيرها، إذ ليست هذه اللذة للعين ولا للأنف ولا للأذن ولا للمس ولا للذوق، والمعاني الباطنة أغلب على ذوي الكمال من اللذات الظاهرة، فلو خير الرجل بين لذة الدجاج السمين واللوزينج وبين لذة الرياسة وقهر الأعداء ونيل درجة الاستيلاء، فإن كان المخير خسيس الهمة ميت القلب شديد النهمة اختار اللحم والحلاوة، وإن كان على الهمة كامل العقل اختار الرياسة وهان عليه الجوع والصبر عن ضرورة القوت أياماً كثيرة؛ فاختياره للرياسة يدل على أنها ألذ عنده من المطعومات الطيبة، نعم الناقص الذي لم تكمل معانيه الباطنة بعد كالصبي، أو كالذي ماتت قواه الباطنة كالمعتوه لا يبعد أن يؤثر لذة المطعومات على لذة الرياسة وكما أن لذة الرياسة والكرامة أغلب اللذات على من جاوز نقصان الصبا والعته فلذة معرفة الله تعالى ومطالعة جمال حضرة الربوبية والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق، وغاية العبارة عنه أن يقال " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " وأنه أعد لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذا الآن لا يعرفه إلا من ذاق اللذتين جميعاً، فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد والفكر والذكر وينغمس في بحار المعرفة ويترك الرياسة ويستحقر الخلق الذين يرأسهم لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته، وكونه مشوباً بالكدورات التي لا يتصور الخلو عنها، وكونه مقطوعاً بالموت الذي لا بد من إتيانه مهما أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فيستعظم بالإضافة إليها لذة معرفة الله ومطالعة صفاته وأفعاله ونظام مملكته من أعلى عليين إلى أسفل السافلين، فإنها خالية من المزاحمات والمكدرات متسعة للمتواردين عليها لا تضيق عنهم بكبرها، وإنما عرضها من حيث التقدير السموات والأرض، وإذا خرج النظر عن المقدرات فلا نهاية لعرضها، فلا يزال العارف بمطالعتها في جنة عرضها السموات والأرض يرتع في رياضها ويقطف من ثمارها ويكرع من حياضها وهو آمن من انقطاعها، إذ ثمار هذه الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة، ثم هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت، إذ الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى ومحلها الروح الذي هو أمر رباني سماوي، ثم هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت، إذ الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى ومحلها الروح الذي هو أمر رباني سماوي، وإنما الموت يغير أحوالها ويقطع شواغلها وعوائقها ويخليها من حبسها فأما أن يعدمها فلا " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم " الآية. ولا تظنن أن هذا مخصوص بالمقتول في المعركة فإن للعارف بكل نفس درجة ألف شهيد وفي الخبر " إن الشهيد يتمنى في الآخرة أن يرد إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لعظم ما يراه من ثواب الشهادة وإن الشهداء يتمنون لو كانوا علماء لما يرونه من علو درجة العلماء" فإذن جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف يتبوأ منه حيث يشاء من غير حاجة إلى أن يتحرك إليها بجسمه وشخصه، فهو من مطالعة جمال الملكوت في جنة عرضها السموات والأرض، وكل عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلاً، إلا أنهم يتفاوتون في سعة منتزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم وسعة معارفهم، وهم درجات عند الله ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم، فقد ظهر أن لذة الرياسة وهي باطنة أقوى في ذوي الكمال من لذات الحواس كلها، وأن هذه اللذة لا تكون لبهيمة ولا لصبي ولا لمعتوه، وأن لذة المحسوسات والشهوات تكون لذوي الكمال مع لذة الرياسة ولكن يؤثرون الرياسة، فأما معنى كون معرفة الله وصفاته وأفعاله وملكوت سمواته وأسرار ملكه أعظم لذة من الرياسة فهذا يختص بمعرفته من نال رتبة المعرفة وذاقها، ولا يمكن إثبات ذلك عند من لا قلب له لأن القلب معدن هذه القوة، كما أنه لا يمكن إثبات رجحان لذة الوقاع على لذة اللعب بالصولجان عند الصبيان، ولا رجحانه على لذة شم البنفسج عند العينين، لأنه فقد الصفة التي بها تدرك هذه اللذة، ولكن من سلم من آفة العنة وسلم حاسة شمه أدرك التفاوت بين اللذتين، وعند هذا لا يبقى إلا أن يقال من ذاق عرف، ولعمري طلاب العلوم وإن لم يشتغلوا بطلب معرفة الأمور الإلهية فقد استنشقوا رائحة هذه اللذة عند انكشاف المشكلات وانحلال الشبهات التي قوي حرصهم على طلبهم، فإنها أيضاً معارف وعلوم وإن كانت معلوماتها غير شريفة شرف المعلومات الإلهية، فأما من طال فكره في معرفة الله سبحانه وقد انكشف له من أسرار ملك الله ولو الشيء اليسير فإنه يصادف قلبه عند حصول الكشف من الفرح ما يكاد يطير به، ويتعجب من نفسه في ثباته واحتماله لقوة فرحه وسروره، وهذا مما لا يدرك إلا بالذوق، والحكاية فيه قليلة الجدوى. فهذا القدر ينبهك على أن معرفة الله سبحانه ألذ الأشياء وأنه لا لذة فوقها.
ولهذا قال أبو سليمان الداراني: إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة فكيف تشغلهم الدنيا عن الله؟ ولذلك قال بعض أخوان معروف الكرخي له: أخبرني يا أبا محفوظ أي شيء هاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق. فسكت فقال: ذكر الموت، فقال: وأي شيء الموت؟ فقال: ذكر القبر والبرزخ، فقال: وأي شيء القبر؟ فقال: خوف النار ورجاء الجنة؟ فقال: وأي شيء هذا؟ إن ملكاً هذا كله بيده إن أحببته أنساك جميع ذلك وإن كان بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا.
وفي أخبار عيسى عليه السلام: إذا رأيت الفتى مشغوفاً بطلب الرب تعالى فقد ألهاه ذلك عما سواه.
ورأى بعض الشيوخ بشر بن الحارث في النوم فقال: ما فعل أبو نصر التمار وعبد الوهاب الوراق؟ فقال: تركتهما الساعة بين يدي الله تعالى يأكلان ويشربان، قلت: فأنت؟ قال: علم الله قلة رغبتي في الأكل والشرب فأعطاني النظر إليه.
وعن علي بن الموفق قال: رأيت في النوم كأني أدخلت الجنة، فرأيت رجلاً قاعداً على مائدة وملكان عن يمينه وشماله يلقمانه من جميع الطيبات وهو يأكل، ورأيت رجلاً قائماً على باب الجنة يتصفح وجوه الناس فيدخل بعضاً ويرد بعضاً، قال: ثم جاوزتهما إلى حديقة القدس فرأيت في سرادق العرش رجلاً قد شخص ببصره ينظر إلى الله تعالى لا يطرف، فقلت لرضوان: من هذا؟ قال: معروف الكرخي عبد الله لا خوفاً من ناره، ولا شوقاً إلى جنته بل حباً له فأباحه النظر إليه يوم القيامة. وذكر أن الآخرين: بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل.
ولذلك قال أبو سليمان: من كان اليوم مشغولاً بنفسه فهو غداً مشغول بنفسه، ومن كان اليوم مشغولاً بربه فهو غداً مشغول بربه.
وقال الثوري لرابعة: ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوفاً من ناره ولا حباً لجنته فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حباً له وشوقاً إليه وقالت في معنى المحبة نظماً:


[align=center]أحبك حبـين حـب الـهـوى وحبـاً لأنـك أهـل لـذاكـا
فأما الذي هو حـب الـهـوى فشغلي بذكرك عمن سواكـا
وأما الـذي أنـت أهـل لـه فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لـي ولكن لك الحد في ذا وذاكـا
[/align]


ولعلها أرادت بحب الهوى: حب الله لإحسانه إليها وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة، وبحبه لما هو أهل له: الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها؛ وهو أعلى الجبين وأقواهما، ولذة مطالعة جمال الربوبية هي التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال حاكياً عن ربه تعالى: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وقد تعجل بعض هذه اللذات في الدنيا لمن انتهى صفاء قلبه إلى الغاية، ولذلك قال بعضهم: إني أقول يا رب يا الله فأجد ذلك على قلبي أثقل من الجبال لأن النداء يكون من وراء حجاب؛ وهل رأيت جليساً ينادي جليسه؟ وقال: إذا بلغ الرجل في هذا العلم الغاية رماه الخلق بالحجارة؛ أي يخرج كلامه عن حد عقولهم فيرون ما يقوله جنوناً أو كفراً، فمقصد العارفين كلهم وصله ولقاؤه فقط، فهي قرة العين التي لا تعلم نفس ما أخفى لهم منها، وإذا حصلت انمحقت الهموم والشهوات كلها وصار القلب مستغرقاً بنعيمها، فلو ألقي في النار لم يحس بها لاستغراقه ولو عرض عليه نعيم الجنة لم يلتفت إليه لكمال نعيمه وبلوغه الغاية التي ليس فوقها غاية، وليت شعر من لم يفهم إلا حب المحسوسات كيف يؤمن بلذة النظر إلى وجه الله تعالى وماله صورة ولا شكل؟ وأي معنى لوعد الله تعالى به عباده وذكره أنه أعظم النعم؟ بل من عرف الله عرف أن اللذات المفرقة بالشهوات المختلفة كلها تنطوي تحت هذه اللذة كما قال بعضهم:

[align=center]كانـت لـقـلـبـي أهـواء مـفـرقة فاستجمعت مذ رأتك الـعـين أهـوائي
فصار يحسدني مـن كـنـت أحـسـده وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي
تركت لـلـنـاس دنـياهـم ودينـهـم شغـلاً بـذكـرك يا دينـي ودنــيائي
[/align]


ولذلك قال بعضهم:

[align=center]وهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته [/align]

وما أرادوا بهذا إلا إيثار القلب في معرفة الله تعالى على لذة الأكل والشرب والنكاح، فإن الجنة معدن تمتع الحواس، فأما القلب فلذته لقاء الله فقط.
ومثال أطوار الخلق في لذتهم ما نذكره: وهو أن الصبي في أول حركته وتمييزه يظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب واللهو، حتى يكون ذلك عنده ألذ من سائر الأشياء، ثم يظهر بعده لذة الزينة ولبس الثياب وركوب الدواب فيستحقر معها لذة اللعب، ثم يظهر بعده لذة الوقاع وشهوة النساء فيترك بها جميع ما قبلها في الوصول إليها، ثم تظهر لذة الرياسة والعلو والتكاثر، وهي آخر لذات الدنيا وأعلاها وأقواها كما قال تعالى: " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر " الآية. ثم بعد هذا تظهر غريزة أخرى يدرك بها لذة معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله فيستحقر معها جميع ما قبلها، فكل متأخر فهو أقوى، وهذا هو الأخير، إذ يظهر حب اللعب في سن التمييز، وحب النساء والزينة في سن البلوغ، وحب الرياسة بعد العشرين، وحب العلوم بقرب الأربعين، وهي الغاية العليا وكما أن الصبي يضحك على من يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرياسة؛ فكذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرياسة ويشتغل بمعرفة الله تعالى. والعارفون يقولون: " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون ".


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين نوفمبر 27, 2006 8:36 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان السبب في زيادة النظر في لذة الآخرة
على المعرفة في الدنيا
[/align]


اعلم أن المدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال، كالصور المتخيلة والأجسام المتلونة والمتشكلة من أشخاص الحيوان والنبات، وإلى ما لا يدخل في الخيال، كذات الله تعالى وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها. ومن رأى إنساناً ثم غض بصره وجد صورته حاضرة في خياله كأنه ينظر إليها، ولكن إذا فتح العين وأبصر أدرك تفرقة بينهما، ولا ترجع التفرقة إلى اختلاف بين الصورتين لأن الصورة المرئية تكون موافقة للمتخيلة وإنما الافتراق بمزيد الوضوح والكشف، فإن صورة المرئي صارت بالرؤية أتم انكشافاً ووضوحاً، وهو كشخص يرى في وقت الإسفار قبل انتشار ضوء النهار ثم عند تمام الضوء، فإنه لا تفارق إحدى الحالتين الأخرى إلا في مزيد الانكشاف. فإذن الخيال أول الإدراك والرؤية هو الاستكمال لإدراك الخيال وهو غاية الكشف، وسمي ذلك رؤية لأنه غاية الكشف لا لأنه في العين، بل لو خلق الله هذا الإدراك الكامل المكشوف في الجبهة أو الصدر مثلاً استحق أن يسمى رؤية وإذا فهمت هذا في المتخيلات فاعلم أن المعلومات التي لا تتشكل أيضاً في الخيال لمعرفتها وإدراكها درجتان أحدهما أولى، والثانية استكمال لها. وبين الأولى والثانية من التفاوت في مزيد الكشف والإيضاح ما بين المتخيل والمرئي، فيسمى الثاني أيضاً بالإضافة إلى الأول مشاهدة ولقاء ورؤية. وهذه التسمية حتى لأن الرؤية سميت رؤية لأنها غاية الكشف، وكما أن سنة الله تعالى جارية بأن تطبيق الأجفان يمنع من تمام الكشف بالرؤية ويكون حجاباً بين البصر والمرئي، ولا بد من ارتفاع الحجب لحصول الرؤية. وما لم ترتفع كان الإدراك الحاصل مجرد التخيل فكذلك مقتضى سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن ومقتضى الشهوات وما غلب عليها من الصفات البشرية، فإنها لا تنتهي إلى المشاهدة واللقاء في المعلومات الخارجة عن الخيال، بل هذه الحياة حجاب عنها بالضرورة كحجاب الأجفان عن رؤية الأبصار. والقول في سبب كونها حجاباً يطول ولا يليق بهذا العلم. ولذلك قال تعالى لموسى عليه السلام: " لن تراني " وقال تعالى " لا تدركه الأبصار " أي في الدنيا والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى الله تعالى ليلة المعراج. فإذا ارتفع الحجاب بالموت بقيت النفس ملوثة بكدورات الدنيا، غير منفكة عنها بالكلية وإن كانت متفاوتة، فمنها ما تراكم عليه الخبث والصدأ فصار كالمرآة التي فسد بطول تراكم الخبث جوهرها فلا تقبل الإصلاح والتصقيل، وهؤلاء هم المحجوبون عن ربهم أبد الآباد - نعوذ بالله من ذلك - ومنا ما لم ينته إلى حد الرين والطبع ولم يخرج عن قبول التزكية والتصقيل فيعرض على النار عرضاً يقمع منه الخبث الذي هو متدنس به، ويكون العرض على النار بقدر الحاجة إلى التزكية، وأقلها لحظة خفيفة وأقصاها حق المؤمنين - كما وردت به الأخبار- سبعة آلاف سنةولن ترتحل نفس عن هذا العالم إلا ويصحبها غبرة وكدورة ما، وإن قلت: ولذلك قال الله تعالى: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقتضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " فكل نفس مستيقنة للورود على النار وغير مستيقنة للصدور عنها، فإذا أكمل الله تطهيرها وتزكيتها وبلغ الكتاب أجله ووقع الفراغ عن جملة ما وعد به الشرع من الحساب والعرض وغيره، ووافى استحقاق الجنة - وذلك وقت مبهم لم يطلع الله عليه أحداً من خلقه فإنه واقع بعد القيامة؛ ووقت القيامة مجهول - فعند ذلك يشتغل بصفائه ونقائه عن الكدورات حيث لا يرهق وجهه غبرة ولا قترة لأن فيه يتجلى الحق سبحانه وتعالى، فيتجلى له تجلياً يكون انكشاف تجليه بالإضافة إلى ما علمه كانكشاف تجلي المرآة بالإضافة إلى ما تخيله. وهذه المشاهدة والتجلي هي التي تسمى رؤية، فإذن الرؤية حق، بشرط أن لا يفهم من الرؤية استكمال الخيال في متخيل متصور مخصوص بجهة ومكان؛ فإن ذلك مما يتعالى عنه رب الأرباب علواً كبيراً، بل كما عرفته في الدنيا معرفة حقيقية تامة من غير تخيل وتصور وتقدير شكل وصورة، فتراه في الآخرة كذلك. بل أقول: المعرفة الحاصلة في الدنيا بعينها هي التي تستكمل فتبلغ كمال الكشف والوضوح وتنقلب مشاهدة، ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة، والمعلوم في الدنيا اختلاف إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح كما ضربناه من المثال في استكمال الخيال بالرؤية. فإذا لم يكن في معرفة الله تعالى إثبات صورة وجهه فلا يكون في استكمال تلك المعرفة بعينها وترقيها في الوضوح إلى غاية الكشف أيضاً جهة وصورة لأنها هي بعينها لا تفترق منها إلا في زيادة الكشف، كما أن الصورة المرئية هي المتخيلة بعينها إلا في زيادة الكشف، وإليه الإشارة بقوله تعالى: " يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا " إذ تمام النور لا يؤثر إلا في زيادة التكشف، ولهذا لا يفوز بدرجة النظر والرؤية إلا العارفون في الدنيا، لأن المعرفة هي البذر الذي ينقلب في الآخرة مشاهدة كما تنقلب النواة شجرة والحب زرعاً، ومن لا نواة في أرضه كيف يحصل له نخل؟ ومن لم يزرع الحب فكيف يحصد الزرع؟ فكذلك من لم يعرف الله تعالى في الدنيا فكيف يراه في الآخرة؟ ولما كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان التجلي أيضاً على درجات متفاوتة، فاختلاف التجلي بالإضافة إلى اختلاف المعارف كاختلاف النبات بالإضافة إلى اختلاف البذر، إذ تختلف لا محالة بكثرتها وقلتها وحسنها وقوتها وضعفها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: " إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة" فلا ينبغي أن يظن أن غير أبي بكر ممن هو دونه يجد من لذة النظر والمشاهدة ما يجده أبو بكر، بل لا يجد إلا عشر عشيره إن كانت معرفته في الدنيا عشر عشيره، ولما فضل من الناس بسر وقر في صدره فضل لا محالة بتجل انفرد به، وكما أنك ترى في الدنيا من يؤثر لذة الرياسة على المطعوم والمنكوح، وترى من يؤثر لذة العلم وانكشاف مشكلات ملكوت السموات والأرض وسائر الأمور الإلهية على الرياسة وعلى المنكوح والمطعوم والمشروب جميعاً؛ فكذلك يكون في الآخرة قوم يؤثرون لذة النظر إلى وجه الله تعالى على نعيم الجنة، إذ يرجع نعيمها إلى المطعوم والمنكوح، وهؤلاء بعينهم هم الذين حالهم في الدنيا ما وصفنا من إيثار لذة العلم والمعرفة والإطلاع على أسرار الربوبية على لذة المنكوح والمطعوم والمشروب؛ وسائر الخلق مشغولون به. ولذلك لما قيل لرابعة: ما تقولين في الجنة؟ فقالت: الجار ثم الدار. فبينت أنه ليس في قلبها التفات إلى الجنة بل إلى رب الجنة. وكل من يعرف الله في الدنيا فلا يراه في الآخرة، وكل من لم يجد لذة المعرفة في الدنيا فلا يجد لذة النظر في الآخرة، إذ ليس يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه في الدنيا، ولا يحصد إلا ما زرع، ولا يحشر المرء إلا على ما مات عليه، ولا يموت إلا على ما عاش عليه، فما صحبه من المعرفة هو الذي يتنعم به بعينه فقط، إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء فتتضاعف اللذة به؛ كما تتضاعف لذة العاشق إذا استبدل بخيال صورة المعشوق رؤية صورته فإن ذلك منتهى لذته، وإنما طيبة الجنة لكل أحد فيها ما يشتهي، فمن لا يشتهي إلا لقاء الله تعالى فلا لذة له في غيره، بل ربما يتأذى به، فإذن نعيم الجنة بقدر حب الله تعالى وحب الله تعالى بقدر محبته، فأصل السعادات هي المعرفة التي عبر الشرع عنها بالإيمان فإن قلت: فلذة الرؤية إن كان لها نسبة إلى لذة المعرفة فهي قليلة وإن كان أضعافها، لأن لذة المعرفة في الدنيا ضعيفة فتضاعفها إلى حد قريب لا ينتهي في القوة إلى أن يستحقر سائر لذات الجنة فيها؟ فاعلم أن هذا الاستحقار للذة المعرفة صدر من الخلو عن المعرفة، فمن خلا عن المعرفة كيف يدرك لذتها؟ وإن انطوى على معرفة ضعيفة وقلبه مشحون بعلائق الدنيا فكيف يدرك لذتها؟ فللعارفين في معرفتهم وفكرتهم ومناجاتهم لله تعالى لذات لو عرضت عليهم الجنة في الدنيا بدلاً عنها لم يستبدلوا بها لذة الجنة، ثم هذه اللذة مع كمالها لا نسبة لها أصلاً إلى لذة اللقاء والمشاهدة، كما لا نسبة للذة خيال المعشوق إلى رؤيته، ولا لذة استنشاق روائح الأطعمة الشهية إلى ذوقها، ولا للذة اللمس باليد إلى لذة الوقاع.
وإظهار عظم التفاوت بينهما لا يمكن إلا بضرب مثال فنقول: لذة النظر إلى وجه المعشوق في الدنيا تتفاوت بأسباب: أحدها كمال جمال المعشوق ونقصانه، فإن اللذة في النظر إلى الأجمل أكمل لا محالة.
والثاني كمال قوة الحب والشهوة والعشق، فليس التذاذ من اشتد عشقه كالتذاذ من ضعفت شهوته وحبه.
والثالث كمال الإدراك، فليس التذاذ برؤية المعشوق في ظلمة أو من وراء ستر رقيق أو من بعده كالتذاذ بإدراكه على قرب من غير ستر وعند كمال الضوء، ولا إدراك لذة المضاجعة مع ثوب حائل كإدراكها مع التجرد.
والرابع اندفاع العوائق المشوشة والآلام الشاغلة للقلب، فليس التذاذ الصحيح الفارغ المتجرد للنظر إلى المعشوق كالتذاذ الخائف المذعور أو المريض المتألم أو المشغول قلبه بمهم من المهمات.
فقدر عاشقاً ضعيف العشق ينظر إلى وجه معشوقه من وراء ستر رقيق على بعد بحيث يمنع انكشاف كنه صورته في حالة اجتمع عليه عقارب وزنابير تؤذيه وتلدغه وتشغل قلبه، فهو في هذه الحالة لا يخلو عن لذة ما من مشاهدة معشوقه، فلو طرأت على الفجأة حالة انتهك بها الستر وأشرق بها الضوء واندفع عنه المؤذيات وبقي سليماً فارغاً وهجمت عليه الشهوة القوية والعشق المفرط حتى بلغ أقصى الغايات، فانظر كيف تتضاعف اللذة حتى لا يبقى للأولى إليها نسبة يعتد بها، فكذلك فافهم نسبة لذة النظر إلى لذة المعرفة فالستر الرقيق مثال البدن والاشتغال به، والعقارب والزنابير مثال الشهوات المتسلطة على الإنسان من الجوع والعطش والغضب والغم والحزن، وضعف الشهوة والحب مثال لقصور النفس في الدنيا ونقصانها عن الشوق إلى الملأ الأعلى والتفاتها إلى أسفل السافلين وهو مثل قصور الصبي عن ملاحظة لذة الرياسة والتفاته إلى اللعب بالعصفور، والعارف وإن قويت في الدنيا معرفته فلا يخلو عن هذه المشوشات ولا يتصور أن يخلو عنها البتة، نعم قد تضعف هذه العوائق في بعض الأحوال ولا تدوم، فلا جرم يلوح من جمال المعرفة ما يبهت العقل وتعظم لذته بحيث يكاد القلب يتفطر لعظمته، ولكن يكون ذلك كالبرق في الخاطف وقلما يدوم؛ بل يعرض من الشواغل والأفكار والخواطر ما يشوشه وينغصه، وهذه ضرورة دائمة في هذه الحياة الفانية فلا تزال هذه اللذة منغصة إلى الموت، وإنما الحياة الطيبة بعد الموت وإنما العيش عيش الآخرة " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " وكل من انتهى إلى هذه الرتبة فإنه يحب لقاء الله تعالى فيحب الموت، ولا يكره إلا من حيث ينتظر زيادة استكمال في المعرفة فإن المعرفة كالبذر وبحر المعرفة لا ساحل له، فالإحاطة بكنه جلال الله محال، فكلما كثرت المعرفة بالله وبصفاته وأفعاله وبأسرار مملكته وقويت، كثر النعيم في الآخرة وعظم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن، كثر الزرع وحسن، ولا يمكن تحصيل هذا البذر إلا في الدنيا، ولا يزرع إلا في صعيد القلب، ولا حصاد إلا في الآخرة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله" لأن المعرفة إنما تكمل وتكثر وتتسع في العمر الطويل بمداومة الفكر والمواظبة على المجاهدة والانقطاع عن علائق الدنيا والتجرد للطلب، ويستدعي ذلك زماناً لا محالة، فمن أحب الموت أحبه لأنه رأى نفسه واقفاً في المعرفة بالغاً إلى منتهى ما يسر له، ومن كره الموت كرهه لأنه كان يؤمل مزيد معرفة تحصل له بطول العمر ورأى نفسه مقصراً عما تحتمله قوته لو عمر، فهذا سبب كراهة الموت وحبه عند أهل المعرفة وأما سائر الخلق فنظرهم مقصور على شهوات الدنيا إن اتسعت أحبوا البقاء وإن ضاقت تمنوا الموت، وكل ذلك حرمان وخسران مصدره الجهل والغفلة، فالجهل والغفلة مغرس كل شقاوة، والعلم والمعرفة أساس كل سعادة فقد عرفت بما ذكرناه معنى المحبة، ومعنى العشق فإنه المحبة المفرطة القوية، ومعنى لذة المعرفة، ومعنى الرؤية، ومعنى لذة الرؤية، ومعنى كونها ألذ من سائر اللذات عند ذوي العقول والكمال وإن لم تكن كذلك عند ذوي النقصان، كما لم تكن الرياسة ألذ المطعومات عند الصبيان.
فإن قلت: فهذه الرؤيا محلها القلب أو العين في الآخرة؟ فاعلم أن الناس قد اختلفوا في ذلك وأرباب البصائر لا يلتفتون إلى هذا الخلاف ولا ينظرون فيه، بل العاقل يأكل البقل ولا يسأل عن المبقلة، ومن يشتهي رؤية معشوقه يشغله عشقه عن أن يلتفت إلى أن رؤيته تخلق في عينه أو جبهته، بل يقصد الرؤيا ولذتها سواء كان ذلك بالعين أو غيرها، فإن العين محل وظرف لا نظر إليه ولا حكم له، والحق فيه أن القدرة الأزلية واسعة فلا يجوز أن نحكم عليها بالقصور عن أحد الأمرين، هذا في حكم الجواز، فأما الواقع في الآخرة من الجائزين فلا يدرك إلا بالسمعوالحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين ليكون لفظ الرؤية والنظر، وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجري على ظاهره، إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلا لضرورة والله تعالى أعلم.

[align=center]بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى[/align]

اعلم أن أسعد الخلق حالاً في الآخرة أقواهم حباً لله تعالى، فإن الآخرة معناها القدوم على الله تعالى ودرك سعادة لقائه، وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه! وتمكن من دوام مشاهدته أبد الآباد من غير منغص ومكدر ومن غير رقيب ومزاحم ومن غير خوف انقطاع! إلا أن هذا النعيم على قدر قوة الحب فكلما ازدادت المحبة ازدادت اللذة، وإنما يكتسب العبد حب الله تعالى في الدنيا وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة، وأما قوة الحب واستيلاؤه حتى ينتهي إلى الاستهتار الذي يسمى عشقاً فذلك ينفك عنه الأكثرون، وإنما يحصل ذلك بسببين:
أحدهما قطع علائق الدنيا وإخراج حب غير الله من القلب، فإن القلب مثل الإناء لا يتسع للخل مثلاً ما لم يخرج منه الماء " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " وكمال الحب في أن يحب الله عز وجل بكل قلبه. وما دام يلتفت إلى غيره فزاوية من قلبه مشغولة بغيره. فبقدر ما يشغل بغير الله ينقص منه حب الله، وبقدر ما يبقى من الماء في الإناء ينقص من الخل المصبوب فيه. وإلى هذا التفريد والتجريد الإشارة بقوله تعالى: " قل الله ثم ذرهم في خوضهم"، وبقوله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " بل هو معنى قولك " لا إله إلا الله " أي معبود ولا محبوب سواه، فكل محبوب فإنه معبود، فإن العبد هو المقيد والمعبود هو المقيد به، وكل محب مقيد بما يحبه. ولذلك قال الله تعالى: " أرأيت من اتخذ إلهه هواه " وقال صلى الله عليه وسلم: " أبغض إله عبد في الأرض الهوى " ولذلك قال عليه السلام: " من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة" ومعنى الإخلاص أن يخلص قلبه لله فلا يبقى فيه شرك لغير الله، فيكون الله محبوب قلبه ومعبود قلبه ومقصود قلبه فقط، ومن هذا حاله فالدنيا سجنه لأنها مانعة من مشاهدة محبوبه وموته خلاص من السجن وقدوم على المحبوب، فما حال من ليس له إلا محبوب واحد وقد طال إليه شوقه وتمادى عنه حبسه فخلى من السجن ومكن من المحبوب وروح بالأمن أبد الآباد، فأحد أسباب ضعف حب الله في القلوب قوة حب الدنيا ومنه حب الأهل والمال والولد والأقارب والعقار والدواب والبساتين والمنتزهات حتى إن المنفرح بطيب أصوات الطيور وروح نسم الأسحار ملتفت إلى نعيم الدنيا ومتعرض لنقصان حب الله تعالى بسببه، فبقدر ما أنس بالدنيا فينقص أنسه بالله، ولا يؤتى أحد من الدنيا شيئاً بقدره من الآخرة بالضرورة، كما أنه لا يقرب الإنسان من المشرق إلا ويبعد بالضرورة من المغرب بقدره، ولا يطيب قلب امرأته إلا ويضيق به قلبه ضرتها، فالدنيا والآخرة ضرتان وهما كالمشرق والمغرب، وقد انكشف ذلك لذوي القلوب انكشافاً أوضح من الإبصار بالعين، وسبيل قلع حب الدنيا من القلب سلوك طريق الزهد وملازمة الصبر والانقياد إليهما بزمام الخوف والرجاء. فما ذكرناها من المقامات كالتوبة والصبر والزهد والخوف والرجاء هي مقدمات ليكتسب بها أحد ركني المحبة وهو تخلية القلب عن غير الله، وأوله الإيمان بالله واليوم الآخر والجنة والنار، ثم يتشعب منه الخوف والرجاء، ويتشعب منهما التوبة والصبر عليهما. ثم ينجر ذلك إلى الزهد في الدنيا وفي المال والجاه وكل حظوظ الدنيا حتى يحصل من جميعه طهارة القلب عن غير الله فقط، حتى يتسع بعده لنزول معرفة الله وحبه فكل ذلك مقدمات تطهير القلب وهو أحد ركني المحبة. وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: " الطهور شطر الإيمان" كما ذكرناه في أول كتاب الطهارة.
السبب الثاني: لقوة المحبة، قوة معرفة الله تعالى واتساعها واستيلاؤها على القلب، وذلك بعد تطهير القلب من جميع شواغل الدنيا وعلائقها يجري مجرى وضع البذر في الأرض بعد تنقيتها من الحشيش وهو الشطر الثاني. ثم يتولد من هذا البذر شجرة المحبة والمعرفة وهي الكلمة الطيبة التي ضرب الله بها مثلاً حيث قال: " ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء " وإليها الإشارة بقوله تعالى " إليه يصعد الكلم الطيب "، أي المعرفة " والعمل الصالح يرفعه " فالعمل الصالح كالجمال لهذه المعرفة وكالخادم وإنما العمل الصالح كله في تطهير القلب أولاً من الدنيا ثم إدامة طهارته، فلا يراد العمل إلا لهذه المعرفة، وأما العلم بكيفية العمل فيراد للعمل، فالعلم هو الأول وهو الآخر، وإنما الأول علم المعاملة وغرضه العمل، وغرض المعاملة صفاء القلب وطهارته ليتضح فيه جلية الحق ويتزين بعلم المعرفة وهو علم المكاشفة ومهما حصلت هذه المعرفة تبعتها المحبة بالضرورة، كما أن من كان معتدل المزاج إذا أبصر الجميل وأدركه بالعين الظاهرة أحبه ومال إليه، ومهما أحبه حصلت اللذة، فاللذة تبع المحبة بالضرورة، والمحبة تبع المعرفة بالضرورة، ولا يوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب إلا بالفكر الصافي والذكر الدائم والجد البالغ في الطلب والنظر المستمر في الله تعالى وفي صفاته وفي ملكوت سمواته وسائر مخلوقاته والواصلون إلى هذه الرتبة ينقسمون إلى الأقوياء ويكون أول معرفتهم بالله تعالى، ثم به يعرفون غيره. وإلى الضعفاء ويكون أول معرفتهم بالأفعال ثم يترقون منها إلى الفاعل. وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى: " أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " وبقوله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو " ومنه نظر بعضهم حيث قيل له: بم عرفت ربك؟ قال: عرفت ربي ولولا ربي لما عرفت ربي، وإلى الثاني بقوله تعالى: " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " الآية. وبقوله عز وجل: " أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض " وبقوله تعالى: " قل انظروا ماذا في السموات والأرض " وبقوله تعالى: " الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير " وهذا الطريق هو الأسهل على الأكثرين وهو الأوسع على السالكين، وإليه أكثر دعوة القرآن عند الأمر بالتدبر والتفكر والاعتبار والنظر في آيات خارجة عن الحصر.
فإن قلت: كلا الطريقين مشكل فأوضح لنا منهما ما يستعان به على تحصيل المعرفة والتوصل به إلى المحبة فاعلم أن الطريق الأعلى هو الاستشهاد بالحق سبحانه على سائر الخلق فهو غامض، والكلام فيه خارج عن حد فهم أكثر الخلق فلا فائدة في إيراده في الكتب، وأما الطريق الأسهل الأدنى فأكثره غير خارج عن حد الأفهام؛ وإنما قصرت الأفهام عنه لإعراضها عن التدبر واشتغالها بشهوات الدنيا وحظوظ النفس، والمانع من ذكر هذا اتساعه وكثرته وانشعاب أبوابه الخارجة عن الحصر والنهاية، إذ ما من ذرة من أعلى السموات إلى تخوم الأرضين إلا وفيها عجائب آيات تدل على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته ومنتهى جلاله وعظمته، وذلك مما لا يتناهى " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي " فالخوض فيه انغماس في بحار علوم المكاشفة ولا يمكن أن يتطفل به على علوم المعاملة، ولكن يمكن الرمز إلى مثال واحد على الإيجاز ليقع التنبيه لجنسه، فنقول:
أسهل الطريقين النظر إلى الأفعال فلنتكلم فيها ولنترك الأعلى، ثم الأفعال الإلهية كثيرة فنطلب أقلها وأحقرها وأصغرها ولننظر في عجائبها، فأقل المخلوقات هو الأرض وما عليها - أعني بالإضافة إلى الملائكة وملكوت السموات - فإنك إن نظرت فيها من حيث الجسم والعظم في الشخص فالشمس على ما ترى من صغر حجمها هي مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة، فانظر إلى صغر الأرض بالإضافة إليها، ثم انظر إلى صغر الشمس بالإضافة إلى فلكها الذي هي مركوزة فيه، فإنه لا نسبة لها إليه وهي في السماء الرابعة، وهي صغيرة بالإضافة إلى ما فوقها من السموات السبع، ثم السموات في الكرسي كخلقة في فلاة، والكرسي في العرش كذلك، فهذا نظر إلى ظاهر الأشخاص من حيث المقادير، وما أحقر الأرض كلها بالإضافة إليها! بل ما أصغر الأرض بالإضافة إلى البحار! فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأرض في البحر كالاصطبل في الأرض" ومصداق هذا عرف بالمشاهدة والتجبرة، وعلم أن المكشوف من الأرض عن الماء كجزيرة صغيرة بالإضافة إلى كل الأرض، ثم انظر إلى الآدمي المخلوق من التراب - الذي هو جزء من الأرض - وإلى سائر الحيوانات وإلى صغره بالإضافة إلى الأرض، ودع عنك جميع ذلك، فأصغر ما نعرفه من الحيوانات البعوض والنحل وما يجري مجراه، فانظر في البعوض على قدر صغره وتأمله بعقل حاضر وفكر صاف، فانظر كيف خلقه الله تعالى على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات! إذ خلق له خرطوماً مثل خرطومه، وخلق له شكله الصغير سائر الأعضاء كما خلقه للفيل بزيادة جناحين، وانظر كيف قسم أعضاءه الظاهرة فأنبت جناحه، وأخرج يده ورجله، وشق سمعه وبصره؟ ودبر في باطنه من أعضاء الغذاء وآلاته ما دبره في سائر الحيوانات، وركب فيها من القوى الغاذية والجاذبة والدافعة والماسكة والهاضمة ما ركب في سائر الحيوانات، هذا في شكله وصفاته، ثم انظر إلى هدايته كيف هداه الله تعالى إلى غذائه وعرفه أن غذاءه دم الإنسان ثم انظر كيف أنبت له آلة الطيران إلى الإنسان! وكيف خلق له الخرطوم الطويل وهو محدد الرأس! وكيف هداه إلى مسام بشرة الإنسان حتى يضع خرطومه في واحد منها! ثم كيف قواه حتى يغرز فيه الخرطوم! وكيف علمه المص والتجرع للدم! وكيف خلق الخرطوم مع دقته مجوفاً حتى يجري فيه الدم الرقيق وينتهي إلى باطنه وينتشر في سائر أجزائه ويغذيه! ثم كيف عرفه أن الإنسان يقصده بيده فعلمه حيلة الهرب واستعداد آلته! وخلق له السمع الذي يسمع به خفيف حركة اليد وهي بعد بعيدة منه فيترك المص ويهرب! ثم إذا سكنت اليد يعود! ثم انظر كيف خلق له حدقتين حتى يبصر موضع غذائه فيقصده مع صغر حجم وجهه. وانظر إلى أن حدقة كل حيوان صغير لما لم تحمل حدقته الأجفان لصغره وكانت الأجفان مصقلة لمرآة الحدقة عن القذى والغبار - خلق للبعوض والذباب فتنظر إلى الذباب فتراه على الدوام يمسح حدقتيه بيديه وأما الإنسان والحيوان الكبير فخلق لحدقتيه الأجفان حتى ينطبق أحدهما على الآخر، وأطرافهما حادة فيجمع الغبار الذي يلحق الحدقة ويرميه إلى أطراف الأهداب، وخلق الأهداب السود لتجمع ضوء العين وتعين على الإبصار وتحسن صورة العين وتشبكها عند هيجان الغبار فينظر من وراء شباك الأهداب، واشتباكها يمنع دخول الغبار ولا يمنع الإبصار. وأما البعوض فخلق لها حدقتين مصقلتين من غير أجفان وعلمها كيفية التصقيل باليدين، ولأجل ضعف أبصارها تراها تتهافت على السراج لأن بصره ضعيف فهي تطلب ضوء النهار، فإذا رأى المسكين ضوء السراج بالليل ظن أنه في بيت مظلم وأن السراج كوة من البيت المظلم إلى الموضع المضيء، فلا يزال يطلب الضوء ويرمي بنفسه إليه فإذا جاوزه ورأى الظلام ظن أنه لم يصب الكوة ولم يقصدها على السداد فيعود إليه مرة أخرى إلى أن يحترق ولعلك تظن أن هذا لنقصانها وجهلها، فاعلم أن جهل الإنسان أعظم من جهلها، بل صورة الآدمي في الإكباب على الشهوات الدنيا صورة الفراش في التهافت على النار، إذ تلوح للآدمي أنوار الشهوات من حيث ظاهر صورتها ولا يدري أن تحتها السم الناقع القاتل، فلا يزال يرمي نفسه عليها إلى أن ينغمس فيها ويتقيد بها ويهلك هلاكاً مؤبداً، فليت كان جهل الآدمي كجهل الفراش! فإنها باغترارها بظاهر الضوء إن احترقت تخلصت في الحال والآدمي يبقى في النار أبد الآباد أو مدة مديدة، ولذلك كان ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: " إني ممسك بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون فيها تهافت الفراش" فهذه لمعة عجيبة من عجائب صنع الله تعالى في أصغر الحيوانات، وفيها من العجائب ما لو اجتمع الأولون والآخرون على الإحاطة بكنهه عجزوا عن حقيقته ولم يطلعوا على أمور جلية من ظاهر صورته، فأما خفايا معاني ذلك فلا يطلع عليها إلا الله تعالى.
ثم في كل حيوان ونبات أعجوبة وأعاجيب تخصه لا يشاركه فيها غيره، فانظر إلى النحل وعجائبها وكيف أوحى الله تعالى إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل وجعل أحدهما ضياءً وجعل الآخر شفاءً، ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار واحترازها عن النجاحات والأقذار، وطاعتها لواحد من جملتها هو أكبرها شخصاً وهو أميرها، ثم ما سخر الله تعالى له أميرها من العدل والإنصاف بينها - حتى إنه ليقتل على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة - لقضيت منها عجباً آخر العجب إن كنت بصيراً في نفسك وفارغاً من هم بطنك وفرجك وشهوات نفسك في معاداة أقرانك وموالاة إخوانك، ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنائها بيوتها من الشمع، واختيارها من جملة الأشكال الشكل المسدس، فلا تبني بيتاً مستديراً ولا مربعاً ولا مخمساً بل مسدساً، لخاصية في الشكل المسدس يقصر فهم المهندسين عن دركها، وهو أن أوسع الأشكال وأحواها: المستديرة وما يقرب منها، فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة وشكل النحل مستدير مستطيل فترك المربع حتى لا تضيع الزوايا فتبقى فارغة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة فإن الأشكال المستديرة إذا جمعت لم تجتمع متراصة، ولا شكل في الأشكال ذات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس، وهذه خاصية هذه الشكل، فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل على صغر جرمه ولطافة قده لطفاً به وعناية بوجوده وما هو محتاج إليه ليتهنأ بعيشه، فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه!.
فاعتبر بهذه اللمعة اليسيرة من محقرات الحيوانات ودع عنك عجائب ملكوت الأرض والسموات، فإن القدر الذي بلغه فهمنا القاصر منه تنقضي الأعمار دون إيضاحه، ولا نسبة لما أحاط به علمنا إلى ما أحاط به العلماء والأنبياء، ولا نسبة لما أحاط به علم الخلائق كلهم إلى ما استأثر الله تعالى بعلمه، بل كل ما عرفه الخلق لا يستحق أن يسمى علماً في جنب علم الله تعالى، فبالنظر في هذا وأمثاله تزداد المعرفة الحاصلة بأسهل الطريقين، وبزيادة المعرفة تزداد المحبة، فإن كنت طالباً سعادة لقاء الله تعالى فانبذ الدنيا وراء ظهرك، واستغرق العمر في الذكر الدائم والفكر اللازم فعساك تحظى منها بقدر يسير، ولكن تنال بذلك اليسير ملكاً عظيماً لا آخر له

[align=center]بيان السبب في تفاوت الناس في الحب[/align]

اعلم أن المؤمنين مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبة، ولكنهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة وفي حب الدنيا، إذ الأشياء إنما تتفاوت بتفاوت أسبابه، وأكثر الناس ليس لهم من الله تعالى إلا الصفات والأسماء التي قرعت سمعهم فتلقنوها وحفظوها، وربما تخيلوا لها معاني يتعالى عنها رب الأرباب، وربما لم يطلعوا على حقيقتها ولا تخيلوا لها معنى فاسداً بل آمنوا بها إيمان تسليم وتصديق واشتغلوا بالعمل وتركوا البحث، وهؤلاء هم أهل السلامة من أصحاب اليمين، والمتخيلون هم الضالون، والعارفون بالحقائق هم المقربون. وقد ذكر الله حال الأصناف الثلاثة في قوله تعالى: " فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم"الآية. فإن كنت لا تفهم الأمور إلا بالأمثلة فلنضرب لتفاوت الحب مثالاً فنقول: أصحاب الشافعي مثلاً يشتركون في حب الشافعي - رحمه الله - الفقهاء منهم والعوام، لأنهم مشتركون في معرفة فضله ودينه وحسن سيرته ومحامد خصاله، ولكن العامي يعرف علمه مجملاً والفقيه يعرفه مفصلاً، فتكون معرفة الفقيه به أتم وإعجابه به وحبه له أشد، فإن من رأى تصنيف مصنف فاستحسنه وعرف به فضله أحبه لا محالة ومال إليه قلبه، فإن رأى تصنيفاً آخراً أحسن منه وأعجب تضاعف لا محالة حبه لأنه تضاعفت معرفته بعلمه، وكذلك يعتقد الرجل في الشاعر أنه حسن الشعر فيحبه، فإذا سمع من غرائب شعره ما عظم فيه حذقه وصنعته ازداد به معرفة وازداد له حباً. وكذا سائر الصناعات والفضائل. والعامي قد يسمع أن فلاناً مصنف وأنه حسن التصنيف ولكن لا يدرى ما في التصنيف فيكون له معرفة مجملة ويكون له بحسبه ميل مجمل، والبصير إذا فتش عن التصانيف على ما فيها من العجائب تضاعف حبه لا محالة، لأن عجائب الصنعة والشعر والتصنيف تدل على كمال صفات الفاعل والمصنف والعالم بجملته صنع الله تعالى وتصنيفه، والعامي يعلم ذلك ويعتقده: وأما البصير فإنه يطالع تفصيل صنع الله تعالى فيه، حتى يرى في البعوض - مثلاً - من عجائب صنعه ما ينبهر به عقله ويتحير فيه لبه ويزداد بسببه لا محالة عظمة الله وجلاله وكمال صفاته في قلبه فيزداد له حباً، وكلما ازداد على أعاجيب صنع الله إطلاعاً استدل على عظمة الله الصانع وجلاله، وازداد به معرفة وله حباً. وبحر هذه المعرفة - أعني معرفة العجائب صنع الله تعالى - بحر لا ساحل له، فلا جرم تفاوت أهل المعرفة في الحب لا حصر له، ومما يتفاوت بسببه الحب اختلاف الأسباب الخمسة التي ذكرناها للحب، فإنه من يحب الله مثلاً لكونه محسناً إليه منعماً عليه ولم يحبه لذاته ضعفت محبته، إذ تتغير بتغير الإحسان فلا يكون حبه في حالة البلاء كحبه في حالة الرضا والنعماء. وأما من يحبه لذاته ولأنه مستحق للحب بسبب كماله وجماله ومجده وعظمته فإنه لا يتفاوت حبه بتفاوت الإحسان إليه. فهذا وأمثاله وهو سبب تفاوت الناس في المحبة. والتفاوت في المحبة هو السبب للتفاوت في سعادة الآخرة. ولذلك قال تعالى " وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ".

[align=center]بيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله
سبحانه [/align]


اعلم أن أظهر الموجودات وأجلاها هو الله تعالى، وكان هذا يقتضي أن تكون معرفته أول المعارف وأسبقها إلى الأفهام وأسهلها على العقول، وترى الأمر بالضد من ذلك، فلا بد من بيان السبب فيه. وإنما قلنا إنه أظهر الموجودات وأجلاها لمعنى لا تفهمه إلا بمثال: وهو أنا إذا رأينا إنساناً يكتب أو يخيط مثلاً كان كونه حياً عندنا من أظهر الموجودات، فحياته وعلمه وقدرته وإرادته للخياطة أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة والباطنة، إذ صفاته الباطنة كشهوته وغضبه وخلقه وصحته ومرضه وكل ذلك لا نعرفه، وصفاته الظاهرة لا نعرف بعضها وبعضها نشك فيه كمقدار طوله واختلاف لون بشرته وغير ذلك من صفاته. أما حياته وقدرته وإرادته وعلمه وكونه حيواناً فإنه جلي عندنا من غير أن يتعلق حس البصر بحياته وقدرته وإرادته، فإن هذه الصفات لا نحس بشيء من الحواس الخمس، ثم لا يمكن أن نعرف حياته وقدرته وإرادته إلا بخياطته وحركته، فلو نظرنا إلى كل ما في العالم سواه لم نعرف به صفته، فما عليه إلا دليل واحد وهو مع ذلك جلي واضح، ووجود الله تعالى وقدرته وعلمه وسائر صفاته يشهد له بالضرورة كل ما نشاهده وندركه بالحواس الظاهرة والباطنة من حجر ومدر ونبات وشجر وحيوان وسماء وأرض وكوكب وبحر ونار وهواء وجوهر وعرض، بل أول شاهد عليه أنفسنا وأجسامنا وأوصافنا وتقلب أحوالنا وتغير قلوبنا وجميع أطوارنا في حركاتنا وسكناتنا، وأظهر الأشياء في علمنا أنفسنا ثم محسوساتنا بالحواس الخمس ثم مدركاتنا بالعقل والبصيرة - وكل واحد من هذه المدركات له مدرك واحد وشاهد واحد ودليل واحد، وجميع ما في العالم شواهد ناطقة وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها، ودالة علمه وقدرته ولطفه وحكمته، والموجودات المدركة لا حصر لها، فإن كانت حياة الكاتب ظاهرة عندنا وليس لها يشهد إلا شاهد واحد وهو ما أحسسنا به من حركة يده؛ فكيف لا يظهر ما لا يتصور في الوجود شيء داخل نفوسنا وخارجها وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله؟ إذ كل ذرة فإنها تنادي بلسان حالها أنه ليس وجودها بنفسها ولا حركتها بذاتها وأنها تحتاج إلى موجد ومحرك لها، يشهد بذلك أولاً تركيب أعضائنا وائتلاف عظامنا ولحومنا وأعصابنا ومنابت شعورنا وتشكل أطرافنا وسائر أجزائنا الظاهرة والباطنة، فإنه نعلم أنها لم تأتلف بأنفسها كما نعلم أن يد الكاتب لم تتحرك بنفسها، ولكن لما لم يبق في الوجود شيء مدرك ومحسوس ومعقول وحاضر وغائب إلا وهو شاهد ومعرف عظم ظهوره فانبهرت العقول ودهشت عن إدراكه.
فإن ما تقصر عن فهمه عقولنا فله سببان: أحدهما خفاؤه نفسه وغموضه وذلك لا يخفى مثاله، والآخر ما يتناهى وضوحه، وهذا كما أن الخفاش يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار، لا لخفاء النهار واستتاره ولكن لشدة ظهوره فإن بصر الخفاش ضعيف يبهره نور الشمس إذا أشرقت، فتكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سبباً لامتناع إبصاره فلا نرى شيئاً إلا إذا امتزج الضوء بالظلام وضعف ظهوره فكذلك عقولنا ضعيفة وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السموات والأرض فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره واختفى عن البصائر بظهوره، ولا يتعجب من اختفاء ذلك بسبب الظهور، فإن الأشياء تستبان بأضدادها وما عم وجوده حتى أنه لا ضد له عسر إدراكه، فلو اختلفت الأشياء فدل بعضها دون بعض أدركت التفرقة على قرب، ولما اشتركت في الدلالة على نسق واحد أشكل الأمر، ومثاله: نور الشمس المشرق على الأرض، فإنا نعلم أنه عرض من الأعراض يحدث في الأرض ويزول عند غيبة الشمس، فلو كانت الشمس دائمة الإشراق لا غروب لها لكنا نظن أنه لا هيئة في الأجسام إلا ألوانها وهي السواد والبياض وغيرهما، فإنا لا نشاهد في الأسود إلا السواد وفي الأبيض إلا البياض، فأما الضوء فلا ندركه وحده، ولكن لما غابت الشمس وأظلمت المواضع أدركنا تفرقة بين الحالين، فعلمنا أن الأجسام كانت قد استضاءت بضوء واتصفت بصفة فارقتها عند الغروب، فعرفنا وجود النور بعدمه، وما كنا نطلع عليه لولا عدمه إلا بعسر شديد، وذلك لمشاهدتنا الأجسام متشابهة غير مختلفة في الظلام والنور، هذا مع أن النور أظهر المحسوسات إذ به تدرك سائر المحسوسات، فما هو ظاهر في نفسه وهو مظهر لغيره، انظر كيف تصور استبهام أمره بسبب ظهوره لولا طريان ضده؟ فالله تعالى هو أظهر الأمور وبه ظهرت الأشياء كلها، ولو كان له عدم أو غيبة أو تغير لانهدت السموات والأرض وبطل الملك والملكوت، ولأدرك بذلك التفرقة بين الحالين، ولو كان بعض الأشياء موجوداً به وبعضها موجوداً بغيره لأدركت التفرقة بين الشيئين الدلالة، ولكن دلالته عامة في الأشياء على نسق واحد، ووجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه، فلا جرم أورثت شدة الظهور خفاء، فهذا هو السبب في قصور الأفهام.
وأما من قويت بصيرته ولم تضعف منته فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله تعالى ولا يعرف غيره، يعلم أنه ليس في الوجود إلا الله. وأفعاله أثر من الآثار قدرته فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة ودونه، وإنما الوجود للواحد الذي به وجود الأفعال كلها. ومن هذه حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل ويذهل عن الفعل من حيث إنه سماء وأرض وحيوان وشجر، بل ينظر فيه من حيث أنه صنع الواحد الحق فلا يكون نظره مجاوزاً له إلى غيره، كمن نظر في شعر إنسان أو خطه أو تصنيفه ورأى فيها الشاعر والمصنف ورأى آثاره من حيث أثره لا من حيث إنه حبر وعفص وزاج مرقوم على بياض، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف، وكل العالم تصنيف الله تعالى، فمن نظر إليه من حيث إنه فعل الله وعرفه من حيث إنه فعل الله وأحبه من حيث إنه فعل الله لم يكن ناظراً إلا في الله ولا عارفاً إلا بالله ولا محباً إلا له، وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث إنه عبد الله، فهذا الذي يقال فيه إنه فني في التوحيد وإنه فني عن نفسه. وإليه الإشارة بقول من قال: كنا بنا ففنينا عنا فبقينا بلا نحن. فهذه أمور معلومة عند ذوي البصائر، أشكلت لضعف الأفهام عن دركها وقصور قدرة العلماء بها عن إيضاحها وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام، أو باشتغالهم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم، فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى، وانضم إليه أن المدركات كلها التي هي شاهدة على الله إنما يدركها الإنسان في الصبا عند فقد العقل، ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلاً قليلاً وهو مستغرق الهم بشهواته وقد أنس بمدركاته ومحسوساته وألفها فسقط وقعها عن قلبه بطول الأنس، ولذلك إذا رأى على سبيل الفجأة حيواناً غريباً أو نباتاً غريباً أو فعلاً من أفعال الله تعالى خارقاً للعادة عجيباً انطلق لسانه بالمعرفة طبعاً فقال: "سبحان الله " وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاؤه وسائر الحيوانات المألوفة وكلها شواهد قاطعة لا يحس بشهادتها لطول الأنس بها، ولو فرض أكمه بلغ عاقلاً ثم انقشعت غشاوة عينه فامتد بصره إلى السماء والأرض والأشجار والنبات والحيوان دفعة واحدة على سبيل الفجأة لخيف على عقله أن ينبهر لعظم تعجبه من شهادة العجائب لخالقها فهذا وأمثاله من الأسباب مع الانهماك في الشهوات هو الذي سد على الخلق سبيل الاستضاءة بأنوار المعرفة والسباحة في بحارها الواسعة، فالناس في طلبهم معرفة الله كالمدهوش الذي يضرب به المثل إذا كان راكباً لحماره وهو يطلب حماره، والجليات إذا صارت مطلوبة صارت معتاصة. فهذا سر هذا الأمر فليحقق. ولذلك قيل:

[align=center]فقد ظهرت فما تخفى علـى أحـد إلا على أكمه لا يعرف القـمـرا
لكن بطنت بما أظهرت محتجـبـاً فكيف يعرف من بالعرف قد سترا
[/align]


[align=center]بيان معنى الشوق إلى الله تعالى[/align]

اعلم أن من أنكر حقيقة المحبة لله تعالى فلا بد وأن ينكر حقيقة الشوق، إذ لا يتصور الشوق إلا إلى محبوب ونحن نثبت وجود الشوق إلى الله تعالى، وكون العارف مضطراً إليه بطريق الاعتبار والنظر بأنوار البصائر وبطريق الأخبار والآثار أما الاعتبار فيكفي في إثباته ما سبق في إثبات الحب، فكل محبوب يشتاق إليه في غيبته لا محالة، فأما الحاصل فلا يشتاق إليه، فإن الشوق طلب وتشوف إلى أمر والموجود لا يطلب. ولكن بيانه أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه، فأما ما لا يدرك أصلاً فلا يشتاق إليه، فإن من لم ير شخصاً ولم يسمع وصفه ولا يتصور أن يشتاق إليه، وما أدرك بكماله لا يشتاق إليه، وكمال الإدراك بالرؤية فمن كان في مشاهدة محبوبه مداوماً للنظر إليه لا يتصور أن يكون له شوق، ولكن الشوق إنما يتعلق بما أدرك من وجه ولم يدرك من وجه، وهو من وجهين لا ينكشف إلا بمثال من المشاهدات.
فنقول مثلاً: من غاب عنه معشوقه وبقي في قلبه خياله فيشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية، فلو انمحى عن قلبه ذكره وخياله ومعرفته حتى نسيه لم يتصور أن يشتاق إليه، ولو رآه لم يتصور أن يشتاق في وقت الرؤية، فمعنى شوقه تشوق نفسه إلى استكمال خياله، فكذلك قد يراه في ظلمة بحيث لا ينكشف له حقيقة صورته فيشتاق إلى استكمال رؤيته، وتمام الانكشاف في صورته بإشراق الضوء عليه.
والثاني أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره مثلاً ولا سائر محاسنه فيشتاق لرؤيته، وإن لم يرها قط ولم يثبت في نفسه خيال صادر عن الرؤية ولكنه يعلم أن له عضواً وأعضاء جميلة ولم يدرك تفصيل جمالها بالرؤية فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط.
والوجهان جميعاً متصوران في حق الله تعالى، بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين، فإن ما اتضح للعارفين من الأمور الإلهية - وإن كان في غاية الوضوح - فكأنه من وراء ستر رقيق فلا يكون متضحاً غاية الاتضاح، بل يكون مشوباً بشوائب التخيلات، فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن التمثيل والمحاكاة لجميع المعلومات، وهي مكدرات للمعارف ومنغصات، وكذلك ينضاف إليها شواغل الدنيا، فإنما كمال الوضوح بالمشاهدة وتمام إشراق التجلي ولا يكون ذلك إلا في الآخرة، وذلك بالضرورة يوجب الشوق فإنه منتهى محبوب العارفين. فهذا أحد نوعي الشوق وهو استكمال الوضوح فيما اتضح اتضاحاً ما.
الثاني أن الأمور الإلهية لا نهاية لها وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة؟ والعارف يعلم وجودها وكونها معلومة لله تعالى. ويعلم أن ما غاب عن علمه من المعلومات أكثر مما حضر، فلا يزال متشوقاً إلى أن يحصل له أصل المعرفة فيما لم يحصل مما بقي من المعلومات التي لم يعرفها أصلاً، لا معرفة واضحة ولا معرفة غامضة.
والشوق الأول ينتهي في الدار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة، ولا يتصور أن يسكن في الدنيا. وقد كان إبراهيم بن أدهم من المشتاقين فقال: قلت ذات يوم؛ يا رب إن أعطيت أحداً من المحبين لك ما يسكن به قلبه قبل لقائك فأعطني ذلك فقد أضر بي القلق، قال: فرأيت في النوم أنه أوقفني بين يديه وقال: يا إبراهيم أما استحييت مني أن تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه، فقلت: يا رب تهت في حبك فلم أدر ما أقول فاغفر لي وعلمني ما أقول، فقال: قل اللهم رضني بقضائك وصبرني على بلائك وأوزعني شكر نعمائك. فإن هذا الشوق يسكن في الآخرة وأما الشوق الثاني فيشبه: أن لا يكون له نهاية لا في الدنيا ولا في الآخرة، إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة من جلال الله تعالى وصفاته وحكمته وأفعاله ما هو معلوم لله تعالى وهو محال لأن ذلك لا نهاية له.
ولا يزال العبد عالماً بأنه بقي من الجمال والجلال ما لم يتضح له فلا يسكن قط شوقه، لا سيما من يرى فوق درجته درجات كثيرة، إلا أنه تشوق إلى استكمال الوصال مع حصول أصل الوصال، فهو يجد لذلك شوقاً لذيذاً لا يظهر فيه ألم ولا يبعد أن تكون ألطاف الكشف والنظر متوالية إلى غير نهاية، فلا يزال النعيم واللذة متزايداً أبد الآباد، وتكون لذة ما يتجدد من لطائف النعيم شاغلة عن الإحساس بالشوق إلى ما لم يحصل، وهذا بشرط أن يمكن حصول الكشف فيما لم يحصل فيه كشف في الدنيا أصلاً، فإن كان ذلك غير مبذول فيكون النعيم واقفاً على حد لا يتضاعف ولكن يكون مستمراً على الدوام، وقوله سبحانه وتعالى: "نورهم يسعى بين أيديهم وبإيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا " محتمل لهذا المعنى، وهو أن ينعم عليه بإتمام النور مهما تزود من الدنيا أصل النور، ويحتمل أن يكون المراد به إتمام النور في غير ما استنار في الدنيا استنارة محتاجة إلى مزيد الاستكمال والإشراق، فيكون هو المراد بتمامه. وقوله تعالى: " انظرونا نقتبس من نوركم - قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً" يدل على أن الأنوار لا بد وأن يتزود أصلها في الدنيا ثم يزداد في الآخرة إشراقاً. فأما أن يتجدد نور فلا، والحكم في هذا برجم الظنون مخطر، ولم ينكشف لنا فيه بعد ما يوثق به، فنسأل الله تعالى أن يزيدنا علماً ورشداً ويرينا الحق حقاً. فهذا القدر من أنوار البصائر كاشف لحقائق الشوق ومعانيه.
وأما شواهد الأخبار والآثار فأكثر من أن تحصى، فمما اشتهر من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك".
وقال أبو الدرداء لكعب: أخبرني عن أخص آية - يعني في التوراة - فقال: يقول الله تعالى: طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقاً. قال: ومكتوب إلى جانبها: من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني. فقال أبو الدرداء: أشهد إني لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا.
وفي أخبار داود عليه السلام: إن الله تعالى قال: يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني وجليس لمن جالسني ومؤنس لمن أنس بذكري وصاحب لمن صاحبني ومختار لمن اختارني ومطيع لمن أطاعني، ما أحبني عبد أعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني؛ فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها ومصاحبتي ومجالستي، وائنسوا بي أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم، فإني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي وموسى نجيي ومحمد صفيي، وخلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعمتها بجلالي.
وروي عن بعض السلف: أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين: إن لي عباداً من عبادي يحبوني وأحبهم ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ويذكروني وأذكرهم وينظرون إلي وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك، قال: يا رب وما علامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما يحن الطائر إلى وكره عند الغروب، فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلى أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا إلي بإنعامي فبين صارخ وباك وبين متأوه وشاك وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحملون من أجلي، وبسمعي ما يشتكون من حبي، أول ما أعطيهم ثلاث: أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم. والثانية: لو كانت السموات والأرض وما فيها في موازينهم لاستقللتها لهم. والثالثة: أقبل بوجهي عليهم؛ فترى من أقبلت عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه وفي أخبار داود عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إليه: يا داود إلى كم تذكر الجنة ولا تسألني الشوق إلي، قال: يا رب من المشتاقون إليك؟ قال: إن المشتاقين إلى الذين صفيتهم من كل كدر ونبهتهم بالحذر وخرقت من قلوبهم إلي خرقاً ينظرون إلي، وإني لأحمل قلوبهم فأضعها على سمائي، ثم أدعو نجباء ملائكتي فإذا اجتمعوا سجدوا لي، فأقول: إني لم أدعكم لتسجدوا لي ولكني دعوتكم لأعرض عليكم قلوب المشتاقين إلي وأباهي بكم أهل الشوق إلي فإن قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتي كما تضيء الشمس لأهل الأرض، يا داود إني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني ونعمتها بنور وجهي فاتخذتهم لنفسي محدثي، وجعلت أبدانهم موضع نظري إلى الأرض وقطعت من قلوبهم طريقاً ينظرون به إلي يزدادون في كل يوم شوقاً، قال داود: يا رب أرني أهل محبتك، فقال: يا داود ائت جبل لبنان فإن فيه أربعة عشر نفساً فيهم شبان وفيهم شيوخ وفيهم كهول، فإذا أتيتهم فأقرئهم مني السلام وقل لهم: إن ربكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم. فأتاهم داود عليه السلام فوجدهم عن عين من العيون يتفكرون في عظمة الله عز وجل، فلما نظروا إلى داود عليه السلام نهضوا ليتفرقوا عنه، فقال داود: إني رسول الله إليكم جئتكم لأبلغكم رسالة ربكم، فأقبلوا نحوه وألقوا أسماعهم نحو قوله وألقوا أبصارهم إلى الأرض، فقال داود: إني رسول الله إليكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة؟ ألا تنادوني أسمع صوتكم وكلامكم فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم وأنظر إليكم في كل ساعة نظر الوالدة الشفيقة الرفيقة؟ قال: فجرت الدموع على خدودهم، فقال شيخهم: سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك فاغفر لنا ما قطع قلوبنا عن ذكرك فيما مضى من أعمارنا. وقال الآخر: سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك فامنن علينا بحسن النظر فيما بيننا وبينك. وقال الآخر: سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك أفنجترئ على الدعاء وقد علمت أنه لا حاجة لنا في شيء من أمورنا فأدم لنا لزوم الطريق إليك وأتمم بذلك المنة علينا. وقال الآخر: نحن مقصرون في طلب رضاك فأعنا علينا بجودك. وقال الآخر: من نطفة خلقتنا ومننت علينا بالتفكر في عظمتك أفيجترئ على الكلام من هو مشغل بعظمتك متفكر في جلالك؟ وطلبتنا الدنو من نورك. وقال الآخر: كلت ألسنتنا عن دعائك؛ لعظم شأنك، وقربك من أوليائك، وكثرة منتك على أهل محبتك. وقال الآخر: أنت هديت قلوبنا لذكرك؛ وفرغتنا للاشتغال بك، فاغفر لنا تقصيرنا في شكرك. وقال الآخر: قد عرفت حاجتنا إنما هي النظر إلى وجهك. وقال الآخر: كيف يجترئ العبد على سيده؟ إذ أمرتنا بالدعاء بجودك - فهب لنا نوراً نهتدي به في الظلمات من أطباق السموات؟ وقال آخر: ندعوك أن تقبل علينا وتديمه عندنا. وقال الآخر: نسألك تمام نعمتك فيما وهبت لنا وتفضلت به علينا. وقال الآخر: لا حاجة لنا في شيء من خلقك فامنن علينا بالنظر إلى جمال وجهك. وقال الآخر: أسألك من بينهم أن تعمي عيني عن النظر إلى الدنيا وأهلها وقلبي عن الاشتغال بالآخرة. وقال الآخر: قد عرفت تباركت وتعاليت أنك تحب أولياءك فامنن علينا باشتغال القلب بك عن كل شيء دونك. فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: قل لهم قد سمعت كلامكم وأجبتكم إلى ما أحببتم فليفارق كل واحد منكم صاحبه وليتخذ لنفسه سرباً فإني كاشف الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلى نوري وجلالي. فقال داود: يا رب بم نالوا هذا منك؟ قال: بحسن الظن والكف عن الدنيا وأهلها والخلوات بي ومناجاتهم لي وإن هذا منزل لا يناله إلا من رفض الدنيا وأهلها ولم يشتغل بشيء من ذكرها وفرغ قلبه لي واختارني على جميع خلقي، فعند ذلك أعطف عليه وأفرغ نفسه وأكشف الحجاب فيما بيني وبينه حتى ينظر إلي نظر الناظر بعينه إلى الشيء وأريه كرامتي في كل ساعة وأقربه من نور وجهي، إن مرض مرضته كما تمرض الوالدة الشفيقة ولدها، وإن عطش أرويته وأذيقه طعم ذكري، فإذا فعلت ذلك به يا داود عميت نفسه عن الدنيا وأهلها ولم أحببها إليه لا يفتر عن الاشتغال بي، يستعجلني القدوم وأنا أكره أن أميته لأنه موضع نظري من بين خلقي لا يرى غيري ولا أرى غيره فلو رأيته يا داود وقد ذابت نفسه ونحل جسمه وتهشمت أعضاؤه وانخلع قلبه إذا سمع بذكرى أباهي به ملائكتي وأهل سمواتي يزداد خوفاً وعبادة، وعزتي وجلالي يا داود لأقعدنه في الفردوس ولأشفين صدرهمن النظر إلي حتى يرضى وفوق الرضا.
وفي أخبار داود أيضاً: قل لعبادي المتوجهين إلى محبتي ما ضركم إذا احتجبت عن خلقي ورفعت الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلي بعيون قلوبكم، وما ضركم ما زويت عنكم من الدنيا إذا بسطت ديني لكم، وما ضركم مسخطة الخلق إذا التمستم رضائي.
وفي أخبار داود أيضاً: إن الله تعالى أوحى إليه: تزعم أنك تحبني، فإن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك فإن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب، يا داود خالص حبيبي مخالصة وخالط أهل الدنيا مخالطة ودينك فقلدنيه ولا تقلد دينك الرجال، أما ما استبان لك مما وافق محبتي فتمسك به، وأما ما أشكل عليك فقلدنيه حقاً على أني أسارع إلى سياستك وتقويمك وأكن قائدك ودليلك، أعطيك من غير أن تسألني وأعينك على الشدائد وإني قد حلفت على نفسي أني لا أثيب إلا عبداً قد عرفت من طلبته وإرادته إلفاء كنفه بين يدي وأنه لا غنى به عني. فإذا كنت كذلك نزعت الذلة والوحشة عنك وأسكن الغنى قلبك فإني قد حلفت على نفسي أنه لا يطمئن عبد لي إلى نفسه ينظر إلى فعالها إلا وكلته إليها، أضف الأشياء إلي لا تضاد عملك فتكون متعنياً ولا ينتفع بك من يصحبك ولا تجد لمعرفتي حداً فليس لها غاية، ومتى طلبت مني الزيادة أعطك ولا تجد للزيادة مني حداً، ثم اعلم بين إسرائيل أنه ليس بيني وبين أحد من خلقي نسب، فلتعظم رغبتهم وإرادتهم عندي أبح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ضعني بين عينيك وانظر إلي ببصر قلبك ولا تنظر بعينك التي في رأسك إلى الذين حجبت عقولهم فأمرجوها وسخت بانقطاع ثوابي عنها فإني حلفت بعزتي وجلالي لا أفتح ثوابي لعبد دخل في طاعتي للتجربة والتسويف، تواضع لمن تعلمه ولا تطاول على المريدين، فلو علم أهل محبتي منزلة المريدين عندي لكانوا لهم أرضاً يمشون عليها. يا داود لأن تخرج مريداً من سكرة هو فيها تستنقذه فأكتبك عندي جهيداً، ومن كتبته عندي جهيداً لا تكون عليه وحشة ولا فاقة إلى المخلوقين، يا داود تمسك بكلامي وخذ من نفسك لنفسك لا تؤتين منها فأحجب عنك محنتي لا تؤيس عبادي من رحمتي، اقطع شهوتك لي فإنما أبحت الشهوات لضعفة خلقي ما بال الأقوياء أن ينالوا الشهوات فإنها تنقص حلاوة مناجاتي، وإنما عقوبة الأقوياء عندي في موضع التناول أدنى ما يصل إليهم أن أحجب عقولهم عني فإني لم أرض الدنيا لحبيبي ونزهته عنها. يا داود لا تجعل بين وبينك عالماً يحجبك بسكره عن محبتي، أولئك قطاع الطريق على عبادي المريدين، استعن على ترك الشهوات بإدمان الصوم، وإياك والتجربة في الإفطار فإن محبتي للصوم إدمانه. يا داود تحبب إلي بمعاداة نفسك امنعها الشهوات أنظر إليك وترى الحجب بيني وبينك مرفوعة إنما أداريك مداراة لتقوى على ثوابي إذا مننت عليك به وإني أحبسه عنك وأنت متمسك بطاعتي.
أوحى الله تعالى إلى داود: يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي. يا داود هذه إرادتي في المدبرين فكيف إرادتي في المقبلين علي، يا داود أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني، وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني، وأجل ما يكون عندي إذا رجع إلي، فهذه الأخبار ونظائرها مما لا يحصى تدل على إثبات المحبة والشوق والأنس، وإنما تحقيق معناها ينكشف بما سبق.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يناير 14, 2007 5:43 pm 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]اعتذر عن هذا الأنقطاع ولتسمحوا لى بتكملة الكتاب[/align]

[align=center]بيان محبة الله للعبد ومعناها[/align]

اعلم أن شواهد القرآن متظاهرة على أن الله تعالى يحب عبده فلا بد من معرفة معنى ذلك. ولنقدم الشواهد على محبته فقد قال الله تعالى: " يحبهم ويحبونه " وقال تعالى: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً " وقال تعالى: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " ولذلك رد سبحانه على من ادعى أنه حبيب الله فقال: " قل فلم يعذبكم بذنوبكم ".
وقد روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أحب الله تعالى عبداً لم يضره ذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. ثم تلا " إن الله يحب التوابين". ومعناه أنه إذا أحبه تاب عليه قبل الموت فلم تضره الذنوب الماضية وإن كثرت، كما لا يضر الكفر الماضي بعد الإسلام، وقد اشترط الله تعالى للمحبة غفران الذنب فقال: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله".
وقال عليه السلام: " قال الله تعالى لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به" الحديث.
وقال زين بن أسلم: إن الله ليحب العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول: اعمل ما شئت فقد غفرت لك. وما ورد من ألفاظ المحبة خارج عن الحصر.
وقد ذكرنا أن محبة العبد لله تعالى حقيقة وليست بمجاز، إذ المحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى الشيء الموافق، والعشق عبارة عن الميل الغالب المفرط. وقد بينا أن الإحسان موافق للنفس، والجمال موافق أيضاً، وأن الجمال والإحسان تارة يدرك بالبصر وتارة يدرك بالبصيرة، والحب يتبع كل واحد منهما فلا يختص بالبصر.
فأما حب الله للعبد فلا يمكن أن يكون بهذا المعنى أصلاً، بل الأسامي كلها إذا أطلقت على الله تعالى وعلى غير الله لم تنطلق عليهما بمعنى واحد أصلاً، حتى إن اسم " الوجود " الذي هو أعم الأسماء اشتراكاً لا يشمل الخالق والخلق على وجه واحد، بل كل ما سوى الله تعالى فوجوده مستفاد من وجود الله تعالى، فالوجود التابع لا يكون مساوياً للوجود المتبوع. وإنما الاستواء في إطلاق الاسم نظيره اشتراك الفرس والشجر في اسم الجسم، إذ معنى الجسمية وحقيقتها متشابهة فيهما من غير استحقاق أحدهما، لأن يكون فيه أصلاً، فليست الجسمية لأحدهما مستفادة من الآخر وليس كذلك اسم الوجود لله ولا لخلقه، وهذا التباعد في سائر الأسامي أظهر كالعلم والإرادة والقدرة وغيرها فكل ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق، وواضع اللغة إنما وضع هذه الأسامي أو لا للخلق فإن الخلق أسبق إلى العقول والأفهام من الخالق، فكان استعمالها في حق الخالق بطريق الاستعارة والتجوز والنقل. والمحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى موافق ملائم، وهذا إنما يتصور في نفس ناقصة فإنها ما يوافقها فتستفيد بنيله كمالاً فتلتذ بنيله، وهذا محال على الله تعالى، فإن كل كمال وجمال وبهاء وجلال ممكن في حق الإلهية فهو حاضر وحاصل وواجب الحصول أبداً وأزلاً، ولا يتصور تجدده ولا زواله، فلا يكون له إلى غيره نظر من حيث إنه غيره بل نظره إلى ذاته وأفعاله فقط، وليس في الوجود إلا ذاته وأفعاله، ولذلك قال الشيخ أبو سعيد الميهني رحمه الله تعالى لما قرئ عليه قوله تعالى: " يحبهم ويحبونه " فقال: بحق يحبهم فإنه ليس يحب إلا نفسه، على معنى أنه الكل وأن ليس في الوجود غيره، فمن لا يحب إلا نفسه وأفعال نفسه وتصانيف نفسه فلا يجاوز حبه ذاته وتوابع ذاته من حيث هي متعلقة بذاته، فهو إذن لا يحب إلا نفسه، وما ورد من الألفاظ في حبه لعباده فهو مؤول ويرجع معناه إلى كشف الحجاب عن قلبه حتى يراه بقلبه وإلى تمكينه إياه من القرب منه وإلى إرادته ذلك به في الأزل، فحبه لمن أحبه أزلي مهما أضيف إلى الإرادة الأزلية التي اقتضت تمكين هذا العبد من سلوك طرق هذا القرب، وإذا أضيف إلى فعله الذي يكشف الحجاب عن قلب عبده فهو حادث يحدث بحدوث السبب المقتضي له كما قال تعالى: " لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " فيكون تقربه بالنوافل سبباً لصفاء باطنه وارتفاع الحجاب عن قلبه وحصوله في درجة القرب من ربه، فكل ذلك فعل الله تعالى ولطفه به فهو معنى حبه ولا يفهم هذا إلا بمثال وهو أن الملك قد يقرب عبده من نفسه ويأذن له في كل وقت في حضور بساطه لميل الملك إليه، إما لينصره بقوته أو ليستريح بمشاهدته أو ليستشيره في رأيه أو ليهيئ أسباب طعامه وشرابه، فيقال: إن الملك يحبه، ويكون معناه ميله إليه لما فيه من المعنى الموافق الملائم له، وقد يقرب عبداً ولا يمنعه من الدخول عليه لا للانتفاع به ولا للاستنجاد به ولكن لكون العبد في نفسه موصوفاً من الأخلاق المرضية والخصال الحميدة بما يليق به أن يكون قريباً من حضرة الملك وافر الحظ من قربه، مع أن الملك لا غرض له فيه أصلاً، فإذا رفع الملك الحجاب بينه وبينه يقال: قد أحبه، وإذا اكتسب من الخصال الحميدة ما اقتضى رفع الحجاب يقال: قد توصل وحبب نفسه إلى الملك. فحب الله للعبد إنما يكون بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول. وإنما يصح تمثيله بالمعنى الثاني بشرط أن لا يسبق إلى فهمك دخول تغير عليه عند تجدد القرب، فإن الحبيب هو القريب من الله تعالى، والقرب من الله في البعد من صفات البهائم والسباع والشياطين، والتخلق بمكارم الأخلاق التي هي الأخلاق الإلهية، فهو قرب بالصفة لا بالمكان، ومن لم يكن قريباً فصار قريباً فقد تغير، فربما يظن بهذا أن القرب لما تجدد فقد تغير وصف العبد والرب جميعاً إذ صار قريباً بعد أن لم يكن وهو محال في حق الله تعالى، إذ التغير عليه محال، بل لا يزال في نعوت الكمال والجلال على ما كان عليه في أزل الآزال.
ولا ينكشف هذا إلا بمثال في القرب بين الأشخاص، فإن الشخصين قد يتقاربان بتحركهما جميعاً، وقد يكون أحدهما ثابتاً فيتحرك الآخر فيحصل القرب بتغير في أحدهما من غير تغير في الآخر، بل القرب في الصفات أيضاً كذلك، فإن التلميذ يطلب القرب من درجة أستاذه في كمال العلم وجماله والأستاذ واقف في كمال علمه غير متحرك بالنزول إلى درجة تلميذه، والتلميذ متحرك مترق من حضيض الجهل إلى ارتفاع العلم، فلا يزال دائباً في التغير والترقي إلى أن يقرب من أستاذه، والأستاذ ثابت غير متغير، فكذلك ينبغي أن يفهم ترقي العبد في درجات القرب، فكلما صار أكمل صفة وأتم علماً وإحاطة بحقائق الأمور وأثبت قوة في قهر الشيطان وقمع الشهوات وأظهر نزاهة عن الرذائل صار أقرب من درجة الكمال، ومنتهى الكمال لله وقرب كل واحد من الله تعالى بقدر كماله. نعم قد يقدر التلميذ على القرب من الأستاذ وعلى مساواته وعلى مجاوزته وذلك في حق الله محال، فإنه لا نهاية لكماله، وسلوك العبد في درجات الكمال متناه ولا ينتهي إلا إلى حد محدود فلا مطمع له في المساواة، ثم درجات القرب تتفاوت تفاوتاً لا نهاية له أيضاً لأجل انتفاء النهاية عن ذلك الكمال.
فإذن محبة الله للعبد تقريبه من نفسه بدفع الشواغل والمعاصي عنه وتطهير باطنه عن كدورات الدنيا ورفع الحجاب عن قلبه حتى يشاهده كأنه يراه بقلبه.
وأما محبة العبد لله فهو ميله إلى درك هذا الكمال الذي هو مفلس عنه فاقد له، فلا جرم يشتاق إلى ما فاته، وإذا أدرك منه شيئاً يلتذ به، والشوق والمحبة بهذا المعنى محال على الله تعالى.
فإن قلت: محبة الله للعبد أمر ملتبس فبم يعرف العبد أنه حبيب الله؟ فأقول: يستدل عليه بعلاماته. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إذا أحب الله عبداً ابتلاه فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه" قيل: وما اقتناه؟ قال: " لم يترك له أهلاً ولا ماله" فعلامة محبة الله للعبد أن يوحشه من غيره ويحول بينه وبين غيره.
قيل لعيسى عليه السلام: لم لا تشتري حماراً فتركبه؟ فقال: أنا أعز على الله تعالى من أن يشغلني عن نفسه بحمار.
وفي الخبر: " إذا أحب الله تعالى عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه فإن رضي اصطفاه".
وقال بعض العلماء: إذا رأيتك تحبه ورأيته يبتليك فاعلم أنه يريد أن يصافيك.
وقال بعض المريدين لأستاذه: قد طولعت بشيء من المحبة، فقال: يا بني هل ابتلاك بمحبوب سواء فآثرت عليه إياه؟ قال: لا، قال: فلا تطمع في المحبة فإنه لا يعطيها عبداً حتى يبلوه.
وقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " إذ أحب الله تعالى عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه"، وقد قال: " إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه". فأخص علاماته حبه لله تعالى فإن ذلك يدل على حب الله تعالى له.
وأما الفعل الدال على كونه محبوباً فهو أن يتولى الله تعالى أمره ظاهره وباطنه سره وجهره فيكون هو المشير عليه والمدبر لأمره والمزين لأخلاقه والمستعمل لجوارحه والمسدد لظاهره وباطنه والجاعل همومه هماً واحداً والمبغض للدنيا في قلبه والموحش له من غيره والمؤنس له بلذة المناجاة في خلواته والكاشف له عن الحجب بينه وبين معرفته. فهذا وأمثاله هو علامة حب الله للعبد. فلنذكر الآن علامة محبة العبد لله تعالى فإنها أيضاً من علامات حب الله تعالى للعبد.

[align=center]القول في علامات محبة العبد لله تعالى[/align]

اعلم أن المحبة يدعيها كل أحد وما أسهل الدعوى وما أعز المعنى، فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان وخدع النفس مهما ادعيت محبة الله تعالى ما لم يمتحنها بالعلامات ولم يطالبها بالبراهين والأدلة. والمحبة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح. وتدل تلك الآثار الفائضة منها على القلب والجوارح على المحبة دلالة الدخان على النار ودلالة الثمار على الأشجار. وهي كثيرة فمنها حب لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار السلام، فلا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب مشاهدته ولقاءه، وإذا علم أنه لا وصول إلا بالارتحال من الدنيا ومفارقتها بالموت فينبغي أن يكون محباً للموت غير فار منه، فإن المحب لا يثقل عليه السفر عن وطنه إلى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته والموت مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المشاهدة.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه".
وقال حذيفة عند الموت: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم.
وقال بعض السلف: ما من خصلة أحب إلى الله أن تكون في العبد بعد حب لقاء الله من كثرة السجود فقدم حب لقاء الله على السجود. وقد شرط الله سبحانه لحقيقته الصدق في الحب القتل في سبيل الله، حيث قالوا إنا نحب الله فجعل القتل في سبيل الله وطلب الشهادة علامته فقال تعالى: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً " وقال عز وجل: " يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ".
وفي وصية أبي بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما: الحق ثقيل وهو مع ثقله مرئ والباطل خفيف وهو مع خفته وبئ، فإن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت وهو مدركك، وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولن تعجزه.
ويروى عن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص قال: حدثني أبي أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا ندعو الله؟ فخلوا في ناحية فدعا عبد الله بن جحش فقال: يا رب إني أقسمت عليك إذا لقيت العدو غداً فلقني رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني ويبقر بطني، فإذا لقيتك غداً قلت: يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك، فأقول: فيك يا رب وفي رسولك، فتقول: صدقت. قال سعد: فلقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط، قال سعيد بن المسيب: أرجو أن يبر الله آخر قسمه كما أبر أوله.
وقد كان الثوري وبشر الحافي يقولان: لا يكره الموت إلا مريب، لأن الحبيب على كل حال لا يكره لقاء حبيبه.
وقال البويطي لبعض الزهاد: أتحب الموت؟ فكأنه توقف، فقال: لو كنت صادقاً لأحببته. وتلا قوله تعالى: " فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " فقال الرجل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يتمنين أحدكم الموت" فقال: إنما قاله لضر نزل به لأن الرضا بقضاء الله تعالى أفضل من طلب الفرار منه.
فإن قلت: من لا يحب الموت فهل يتصور أن يكون محباً لله؟ فأقول: كراهة الموت قد تكون لحب الدنيا والتأسف على فرق الأهل والمال والولد، وهذا ينافي كمال حب الله تعالى لأن الحب الكامل هو الذي يستغرق كل القلب، ولكن لا يبعد أن يكون له مع حب الأهل والولد شائبة من حب الله تعالى ضعيفة، فإن الناس متفاوتون في الحب. ويدل على التفاوت ما روي أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس لما زوج أخته فاطمة من سالم مولاه عاتبته قريش في ذلك وقالوا: أنكحت عقيلة من عقائل قريش لمولى؟ فقال: والله لقد أنكحته إياها وإني لأعلم أنه خير منها، فكان قوله ذلك أشد عليهم من فعله، فقالوا: وكيف وهي أختك وهو مولاك؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أراد أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم". فهذا يدل على أن من الناس من لا يحب الله بكل قلبه فيحبه ويحب أيضاً غيره فلا جرم يكون نعيمه بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبه، وعذابه بفراق الدنيا عند الموت على قدر حبه لها.
وأما السبب الثاني للكراهة: فهو أن يكون العبد في ابتداء مقام المحبة وليس يكره الموت وإنما يكره عجلته قبل أن يستعد للقاء الله، فذلك لا يدل على ضعف الحب وهو كالمحب الذي وصله الخبر بقدوم حبيبه عليه فأحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيئ له داره ويعد له أسبابه فيلقاه كما يهواه فارغ القلب عن الشواغل خفيف الظهر عن العوائق، فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال الحب أصلاً، وعلامته الدؤوب في العمل واستغراق الهم في الاستعداد.
ومنها أن يكون مؤثراً ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه فيلزم مشاق العمل ويجتنب إتباع الهوى ويعرض عنه دعة الكسل، ولا يزال مواظباً على طاعة الله ومتقرباً إليه بالنوافل وطالباً عنده مزايا الدرجات كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه، وقد وصف الله تعالى المحبين بالإيثار فقال: " يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " ومن بقي مستقراً على متابعة الهوى فمحبوبه ما يهواه، بل يترك المحب هوى نفسه كما قيل:

[align=center]أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لمـا يريد [/align]

بل الحب إذا غلب قمع الهوى فلم يبق له تنعم بغير المحبوب، كما روي أن زليخا لما آمنت وتزوج بها يوسف عليه السلام انفردت عنه وتخلت للعبادة وانقطعت إلى الله تعالى، فكان يدعوها إلى فراشه نهاراً فتدفعه إلى الليل، فإذا دعاها ليلاً سوفت به إلى النهار وقالت: يا يوسف إنما كنت أحبك قبل أن أعرفه فأما إذ عرفته فما أبقت محبته محبة لسواه وما أريد به بديلاً، حتى قال لها: إن الله جل ذكره أمرني بذلك وأخبرني أنه مخرج منك ولدين وجاعلهما نبيين، فقالت: أما إذا كان الله تعالى أمرك بذلك وجعلني طريقاً إليه فطاعة لأمر الله تعالى، فعندها سكنت إليه. فإذن من أحب الله لا يعصيه، ولذلك قال ابن المبارك فيه:

[align=center]تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعتـه إن المحب لمن يحب مطيع [/align]


وفي هذا المعنى:

[align=center]وأترك ما أهوى لـمـا قـد هـويتـه فأرضى بما ترضى وإن سخطت نفسي [/align]

وقال سهل رحمه الله تعالى: علامة الحب إيثاره على نفسك وليس كل من عمل بطاعة الله عز وجل صار حبيباً، وإنما الحبيب من اجتنب المناهي، وهو كما قال، لأن محبته لله تعالى سبب محبة الله له كما قال تعالى: " يحبهم ويحبونه " وإذا أحبه الله تولاه ونصره على أعدائه، وإنما عدوه نفسه وشهواته فلا يخذله الله ولا يكله إلى هواه وشهواته.
ولذلك قال تعالى: " والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً ".
فإن قلت: فالعصيان هل يضاد أصل المحبة؟ فأقول: إنه يضاد كمالها ولا يضاد أصلها، فكم من إنسان يحب نفسه وهو مريض ويحب الصحة ويأكل ما يضره مع العلم بأنه يضره؟ وذلك لا يدل على عدم حبه لنفسه. ولكن المعرفة قد تضعف والشهوة وقد تغلب فيعجز عن القيام بحق المحبة. ويدل عليه ما روي أن نعيمان كان يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل قليل فيحده في معصية يرتكبها إلى أن أتي به يوماً فحده، فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" فلم يخرجه بالمعصية عن المحبة نعم تخرجه المعصية عن كمال الحب وقد قال بعض العارفين: إذا كان الإيمان في ظاهر القلب أحب الله تعالى حباً متوسطاً، فإذا دخل سويداء القلب أحبه الحب البالغ وترك المعاصي. وبالجملة في دعوى المحبة خطر، ولذلك قال الفضيل: إذا قيل لك أتحب الله تعالى؟ فاسكت، فإنك إن قلت: لا، كفرت وإن قلت: نعم، فليس وصفك وصف المحبين فاحذر المقت. ولقد قال بعض العلماء: ليس في الجنة نعيم أعلى من نعيم أهل المعرفة والمحبة ولا في جهنم عذاب أشد من عذاب من ادعى المعرفة والمحبة ولم يتحقق بشيء من ذلك.
ومنها أن يكون مستهتراً بذكر الله تعالى لا يفتر عنه لسانه ولا يخلو عنه قلبه، فمن أحب شيئاً أكثر بالضرورة من ذكره ما يتعلق به، فعلامة حب الله حب ذكره وحب القرآن الذي هو كلامه وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب كل من ينسب إليه، فإن من يحب إنساناً يحب كلب محلته. فالمحبة إذا قويت تعدت من المحبوب إلى كل ما يكتف بالمحبوب ويحيط به ويتعلق بأسبابه، وذلك ليس شركة في الحب فإن من أحب رسول المحبوب لأنه رسوله، وكلامه لأنه كلامه، فلم يجاوز حبه إلى غيره بل هو دليل على كمال حبه، ومن غلب حب الله على قلبه أحب جميع خلق الله لأنهم خلقه، فكيف لا يحب القرآن والرسول وعباد الله الصالحين، وقد ذكرنا تحقيق هذا في كتاب الأخوة والصحبة ولذلك قال تعالى: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لله تعالى".
وقال سفيان: من أحب من يحب الله تعالى فإنما أحب الله، ومن أكرم من يكرم الله تعالى فإنما يكرم الله.
وحكي عن بعض المريدين قال: كنت قد وجدت حلاوة المناجاة في سن الإرادة فأدمنت قراءة القرآن ليلاً ونهاراً ثم لحقتني فترة فانقطعت عن التلاوة قال: سمعت قائلاً يقول في المنام: إن كنت تزعم أنك تحبني فلم جفوت كتابي أما تدبرت ما فيه من لطيف عتابي، قال: فانتبهت وقد أشرب في قلبي محبة القرآن فعاودت إلى حالي.
وقال ابن مسعود: لا ينبغي أن يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله عز وجل وإن لم يكن يحب القرآن فليس يحب الله.
وقال سهل رحمة الله تعالى عليه: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب الله وحب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا زاداً وبلغة إلى الآخرة.
ومنها أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى وتلاوة كتابه، فيواظب على التهجد ويغتنم هدء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق، وأقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب والتنعم بمناجاته، فمن كان النوم والاشتغال بالحديث ألذ عنده وأطيب من مناجاة الله كيف تصح محبته؟ قيل لإبراهيم بن أدهم وقد نزل من الجبل: من أين أقبلت؟ فقال: من الأنس بالله.
وفي أخبار داود عليه السلام: لا تستأنس إلى أحد من خلقي، فإني إنما أقطع عني رجلين رجل استبطأ ثوابي فانقطع ورجلاً نسيني فرضي بحاله، وعلامة ذلك أن أكله إلى نفسه وأن أدعه في الدنيا حيران، ومهما أنس بغير الله كان بقدر أنسه بغير الله مستوحشاً من الله تعالى ساقطاً عن درجة محبته.
وفي قصة برخ - وهو العبد الأسود الذي استسقى به موسى عليه السلام - أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: إن برخاً نعم العبد هو لي إلا أن فيه عيباً، قال: يا رب وما عيبه؟ قال: يعجبه نسيم الأسحار فيسكن إليه ومن أحبني لم يسكن إلى شيء.
وروي أن عابداً عبد الله تعالى في غيضة دهراً طويلاً فنظر إلى طائر وقد عشش في شجرة يأوي إليها ويصفر عندها، فقال: لو حولت مسجدي إلى تلك الشجرة فكنت آنس بصوت هذا الطائر قال: ففعل، فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان: قل لفلان العابد استأنست بمخلوق لأحطنك درجة لا تنالها بشيء من عملك أبداً.
فإذن علامة المحبة كمال الأنس بمناجاة المحبوب وكمال التنعم بالخلوة به وكمال الاستيحاش من كل ما ينغص عليه الخلوة ويعوق عن لذة المناجاة. وعلامة الأنس مصير العقل والفهم كله مستغرقاً بلذة المناجاة، كالذي يخاطب معشوقه ويناجيه، وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به، وقطعت رجل بعضهم بسبب علة أصابته وهو في الصلاة فلم يشعر به ومهما غلب الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عينه يدفع بها جميع الهموم، بل يستغرق الأنس والحب قلبه حتى لا يفهم أمور الدنيا ما لم تكرر على سمعه مراراً. مثل العاشق الولهان فإنه يكلم الناس بلسانه وأنسه في الباطن بذكر حبيبه. فالمحب من لا يطمئن إلا بمحبوبه.
وقال قتادة في قوله تعالى: " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب" قال: هشت إليه واستأنست به.
وقال الصديق رضي الله تعالى عنه: من ذاق من خالص محبة الله شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر.
وقال مطرف بن أبي بكر: المحب لا يسأم من حديث حبيبه.
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: قد كذب من ادعى محبتي إذا جنه الليل نام عني أليس كل محب يحب لقاء حبيبه فها أنا ذا موجود لمن طلبني.
وقال موسى عليه السلام: يا رب أين أنت فأقصدك؟ فقال: إذا قصدت فقد وصلت.
وقال يحيى بن معاذ: من أحب الله أبغض نفسه. وقال أيضاً: من لم تكن فيه ثلاث خصال فليس بمحب؛ يؤثر كلام الله تعالى على كلام الخلق، ولقاء الله تعالى على لقاء الخلق والعبادة على خدمة الخلق.
ومنها أن لا يتأسف على ما يفوته مما سوى الله عز وجل ويعظم تأسفه على فوت كل ساعة خلت عن ذكر الله تعالى وطاعته، فيكثر رجوعه عند الغفلات بالاستعطاف والاستعتاب والتوبة.
قال بعض العارفين: إن لله عباداً أحبوه واطمأنوا إليه فذهب عنهم التأسف فلم يتشاغلوا بحظ أنفسهم إذ كان ملك مليكهم تاماً، وما شاء كان، فما كان لهم واصل إليهم وما فاتهم فبحسن تدبيره لهم. وحق المحب إذا رجع من غفلته في لحظته أن يقبل على محبوبه ويشتغل بالعتاب، ويسأله ويقول: رب بأي ذنب قطعت برك عني وأبعدتني عن حضرتك وشغلتني بنفسي وبمتاعبة الشيطان؟ فيستخرج ذلك منه صفاء ذكر ورقة قلب يكفر عنه ما سبق من الغفلة، وتكون هفوته سبباً لتجدد ذكره وصفاء قلبه. ومهما لم ير المحب إلا المحبوب ولم ير شيئاً إلا منه لم يتأسف ولم يشك واستقبل الكل بالرضا وعلم أن المحبوب لم يقدر له إلا ما فيه خيرته، ويذكر قوله: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ".
ومنها أن يتنعم بالطاعة ولا يستثقلها ويسقط عنه تعبها كما قال بعضهم: كابدت الليل عشرين سنة. ثم تنعمت به عشرين سنة.
وقال الجنيد: علامة المحب دوام النشاط والدؤوب بشهوة تفتر بدنه ولا تفتر قلبه.
وقال بعضهم: العمل على المحبة لا يدخله الفتور.
وقال بعض العلماء: والله ما اشتفى محب لله من طاعته ولو حل بعظيم الوسائل.
فكل هذا وأمثاله موجود في المشاهدات، فإن العاشق لا يستثقل السعي في هوى معشوقه ويستلذ خدمته بقلبه وإن كان شاقاً على بدنه. ومهما عجز بدنه كان أحب الأشياء إليه أن تعاوده القدرة وأن يفارقه العجز حتى يشغل به، فهكذا يكون حب الله تعالى، فإن كل حب صار غالباً قهر لا محالة ما هو دونه. فمن كان محبوبه أحب إليه من الكسل ترك الكسل في خدمته، وإن كان أحب إليه من المال ترك المال في حبه.
وقيل لبعض المحبين - وقد كان بذل نفسه وماله حتى لم يبق له شيء - ما كان سبب حالك هذه في المحبة؟ فقال: سمعت يوماً محباً وقد خلا بمحبوبه وهو يقول: أنا والله أحبك بقلبي كله وأنت معرض عني بوجهك كله! فقال له المحبوب: إن كنت تحبني فأيش تنفق علي؟ قال: يا سيدي أملكك ما أملك ثم أنفق عليك روحي حتى تهلك فقلت: هذا خلق لخلق وعبد لعبد فكيف بعبيد لمعبود؟ فكل هذا بسببه.
ومنها أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله رحيماً بهم شديداً على جميع أعداء الله وعلى كل من يقارف شيئاً مما يكرهه كما قال الله تعالى: " أشداء على الكفار رحماء بينهم " ولا تأخذه لومة لائم ولا يصرفه عن الغضب لله صارف، وبه وصف الله أولياؤه إذ قال الذين يكلفون بحبي كما يكلف الصبي بالشيء ويأوون إلى ذكري كما يأوي النسر إلى وكره، ويغضبون لمحارمه كما يغضب النمر إذا حرد فإنه لا يبالي قل الناس أو كثروا، فانظر إلى هذا المثال فإن الصبي إذا كلف بالشيء لم يفارقه أصلاً، وإن أخذ منه لم يكن له شغل إلا البكاء والصياح حتى يرد إليه، فإن نام أخذه معه في ثيابه، فإذا انتبه عاد وتمسك به ومهما فارقه بكى ومهما وجده ضحك، ومن نازعه فيه أبغضه ومن أعطاه أحبه. وأما النمر فإنه لا يملك نفسه عند الغضب حتى يبلغ من شدة غضبه أنه يهلك نفسه. فهذه علامات المحبة، فمن تمت فيه هذه العلامات فقد تمت محبته وخلص حبه فصفا في الآخرة شرابه وعذب مشربه، ومن امتزج بحبه حب غير الله تنعم في الآخرة بقدر حبه، إذ يمزج شرابه بقدر من شراب المقربين كما قال تعالى في الأبرار: " إن الأبرار لفي نعيم " ثم قال: " يسقون من رحيق مختوم مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون " فإذا طاب شراب الأبرار لشوب الشراب الصرف الذي هو للمقربين. والشراب عبارة عن جملة نعيم الجنان، كما أن الكتاب عبر به عن جميع الأعمال فقال: " إن كتاب الأبرار لفي عليين " ثم قال: "يشهده المقربون " فكان أمارة علة كتابهم أنه ارتفع إلى حيث يشهده المقربون، وكما أن الأبرار يجدون المزيد في حالهم ومعرفتهم بقربهم من المقربين ومشاهدتهم لهم، فكذلك يكون حالهم في الآخرة " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة كما بدأنا أول خلق نعيده "، وكما قال تعالى: " جزاء وفاقاً " أي وافق الجزاء أعمالهم فقوبل الخالص بالصرف من الشراب وقوبل المشوب بالمشوب، وشوب كل شراب على قدر ما سبق من الشوب في حبه وأعماله " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره - وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم - إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها - وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " فمن كان حبه في الدنيا رجاءه لنعيم الجنة والحور العين والقصور مكن من الجنة ليتبوأ منها حيث يشاء فيلعب مع الولدان ويتمتع بالنسوان؛ فهناك تنتهي لذته في الآخرة لأنه إنما يعطى كل إنسان في المحبة ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه. ومن كان مقصده رب الدار ومالك الملك ولم يغلب عليه إلا حبه بالإخلاص والصدق، أنزل " في مقعد صدق عند مليك مقتدر " فالأبرار يرتعون في البساتين ويتنعمون في الجنان مع الحور العين والولدان، والمقربون ملازمون للحضرة عاكفون بطرفهم عليها يستحقرون نعيم الجنان بالإضافة إلى ذرة منها فقوم بقضاء شهوة البطن والفرج مشغولون، وللمجالسة أقوام آخرون، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب" ولما قصرت الأفهام عن درك معنى عليين عظم أمره فقال: " وما أدراك ما عليون " كما قال تعالى: " القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة ".
ومنها أن يكون في حبه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم، وقد يظن أن الخوف يضاد الحب وليس كذلك، بل إدراك العظمة يوجب الهيبة كما أن إدراك الجمال الحب ولخصوص المحبين مخاوف في مقام المحبة ليست لغيرهم،، وبعض مخاوفهم أشد من بعض، فأولها خوف الإعراض، وأشد منه خوف الحجاب، وأشد منه خوف الإبعاد، وهذا المعنى في سورة هود هو الذي شيب سيد المحبينإذ سمع قوله تعالى: " ألا بعداً لثمود - ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود" وإنما تعظم هيبة البعد وخوفه في قلب من ألف القرب وذاقه وتنعم به، فحديث البعد في حق المبعدين يشيب سماعه أهل القرب في القرب، ولا يحن إلى القرب من ألف البعد، ولا يبكي لخوف البعد من لم يمكن من بساط القرب، ثم خوف الوقوف وسلب المزيد، فإنا قدمنا أن درجات القرب لا نهاية لها وحق العبد أن يجتهد في كل نفس حتى يزداد فيه قرباً. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من استوى يوماه فهو مغبون ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون".
وكذلك قال عليه السلام: " إنه ليغان على قلبي في اليوم والليلة حتى أستغفر الله سبعين مرة" وإنما كان استغفاره من القدم الأول فإنه كان بعداً بالإضافة إلى القدم الثاني، ويكون ذلك عقوبة لهم على الفتور في الطريق والالتفات إلى غير المحبوب، كما روي أن الله تعالى يقول: إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوات الدنيا على طاعتي أن أسلبه لذيذ مناجاتي. فسلب المزيد بسبب الشهوات عقوبة للعموم، فأما الخصوص فيحجبهم عن المزيد مجرد الدعوى والعجب والركون إلى ما ظهر من مبادئ اللطف، وذلك هو المكر الخفي الذي لا يقدر على الاحتراز منه إلا ذوو الأقدام الراسخة، ثم خوف فوت ما لا يدرك بعد فوته سمع إبراهيم بن أدهم قائلاً يقول وهو في سياحة وكان على الجبل:

[align=center]كل شيء منك مغفـو ر سوى الإعراض عنا
قد وهبنا لـك مـا فـا ت فهب لنا ما فات منا [/align]


فاضطرب وغشي عليه فلم يفق يوماً وليلة طرأت عليه أحوال ثم قال: سمعت النداء من الجبل: يا إبراهيم كن عبداً فكنت عبداً واسترحت.
ثم خوف السلو عنه فإن المحب يلازمه الشوق والطلب الحثيث فلا يفتر عن طلب المزيد ولا يتسلى إلا بلطف جديد، فإن تسلى عن ذلك كان ذلك سبب وقوفه أو سبب رجعته، والسلو يدخل عليه من حيث لا يشعر كما قد يدخل عليه الحب من حيث لا يشعر، فإن هذه التقلبات لها أسباب خفية سماوية ليس في قوة البشر الإطلاع عليها، فإذا أراد الله المكر به واستدراجه أخفى عنه ما ورد عليه من السلو فيقف مع الرجاء ويغتر بحسن النظر أو بغلبة الغفلة أو الهوى أو النسيان، فكل ذلك من جنود الشيطان التي تغلب جنود الملائكة من العلم والعقل والذكر والبيان، وكما أن من أوصاف الله تعالى ما يظهر فيقتضى هيجان الحب وهي أوصاف اللطف والرحمة والحكمة، فمن أوصافه ما يلوح فيورث السلو كأوصاف الجبرية والعزة والاستغناء، وذلك من مقدمات المكر والشقاء والحرمان. ثم خوف الاستبدال به بانتقال القلب من حبه إلى حب غيره، وذلك هو المقت والسلو عنه مقدمة هذا المقام والإعراض والحجاب مقدمة السلو وضيق الصدر بالبر وانقباضه عن دوام الذكر وملاله لوظائف الأوراد أسباب هذه المعاني ومقدماتها. وظهور هذه الأسباب دليل على النقل عن مقلم الحب إلى مقام المقت، نعوذ بالله منه، وملازمة الخوف لهذه الأمور وشدة الحذر منها بصفاء المراقبة دليل صدق الحب. فإن من أحب شيئاً خاف لا محالة فقده فلا يخلو المحب عن خوف إذا كان المحبوب مما يمكن فواته، وقد قال بعض العارفين: من عبد الله تعالى بمحبة من غير خوف هلك بالبسط والإدلال، ومن عبده من طريق الخوف من غير محبة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش، ومن عبده من طريق المحبة والخوف أحبه الله تعالى فقربه ومكنه وعلمه، فالمحب لا يخلو عن خوف والخائف لا يخلو عن محبة، ولكن الذي غلبت عليه المحبة حتى اتسع فيها ولم يكن له من الخوف إلا يسير يقال هو في مقام المحبة ويعد من المحبين، وكان شوب الخوف يسكن قليلاً من سكر الحب، فلو غلب الحب واستولت المعرفة لم تثبت لذلك طاقة البشر، فإنما الخوف يعدله ويخفف وقعه على القلب. فقد روي في بعض الأخبار: أن بعض الصديقين سأله بعض الأبدال أن يسأل الله تعالى أن يرزقه ذرة من معرفته، ففعل ذلك، فهام في الجبال وحار عقله ووله قلبه وبقي شاخصاً سبعة أيام لا ينتفع بشيء ولا ينتفع به شيء، فسأل له الصديق ربه تعالى فقال: يا رب أنقصه من الذرة بعضها، فأوحى الله تعالى إليه إنما أعطيناه جزءاً من مائة ألف جزء من المعرفة. وذلك أن مائة ألف عبد سألوني شيئاً من المحبة في الوقت الذي سألني هذا، فأخرت إجابتهم إلى أن شفعت أنت لهذا، فلما أجبتك فيما سألت أعطيتهم كما أعطيته، فقسمت ذرة من المعرفة بين مائة ألف عبد، فهذا ما أصابه من ذلك، فقال: سبحانك يا أحكم الحاكمين أنقصه مما أعطيته! فأذهب الله عنه جملة الجزء، وبقي معه عشر معشاره وهو جزء من عشرة آلاف جزء من مائة ألف جزء من ذرة، فاعتدل خوفه وحبه ورجاؤه وسكن وصار كسائر العارفين، وقد قيل في وصف حال العارف:

[align=center] قريب الوجد ذو مرمى بعـيد عن الأحرار منهم والعـبـيد
غريب الوصف ذو علم غريب كان فـؤاده زبـر الـحـديد
لقد عزت معانـيه وجـلـت عن الأبصار إلا للـشـهـيد
يرى الأعياد في الأوقات تجري له في كـل يوم ألـف عـيد
وللأحـبـاب أفـراح بـعـيد ولا يجد السرور لـه بـعـيد [/align]


وقد كان الجنيد رحمه الله ينشد أبياتاً يشير بها إلى أسرار أحوال العارفين وإن كان ذلك لا يجوز إظهاره، وهي هذه الأبيات:

[align=center]سرت بأناس في الغيوب قلوبـهـم فخلوا بقرب الماجد المتفـضـل
عراصاً بقرب الله في ظل قدسـه تجول بها أرواحهـم وتـنـقـل
مواردهم فيها على العز والنهـي ومصدرهم عنها لما هو أكـمـل
تروح بعز مفرد من صـفـاتـه وفي حلل التوحيد تمشي وترفـل
ومن بعد هذا ما تدق صـفـاتـه وما كتمه أولـى لـديه وأعـدل
سأكتم من علمي به ما يصـونـه وأبذل منه ما أرى الحـق يبـذل
وأعطي عباد الله منه حقـوقـهـم وأمنع منه ما أرى المنع يفضـل
على أن للرحمن سـراً يصـونـه إلى أهله في السر والصون أجمل [/align]


وأمثال هذه المعارف التي إليها الإشارة لا يجوز أن يشترك الناس فيها، ولا يجوز أن يظهرها من انكشف له شيء من ذلك لمن لم ينكشف له، بل لو اشترك الناس فيها لخربت الدنيا، فالحكمة تقتضي شمول الغفلة لعمارة الدنيا، بل لو أكل الناس كلهم الحلال أربعين يوماً لخربت الدنيا لزهدهم فيها، وبطلت الأسواق والمعايش، بل لو أكل العلماء الحلال لاشتغلوا بأنفسهم ولوقفت الألسنة والأقلام عن كثير مما انتشر من العلوم، ولكن الله تعالى فيما هو شر في الظاهر أسرار وحكم، كما أن له في الخير أسراراً وحكماً، ولا منتهى لحكمته كما لا غاية لقدرته.
ومنها كتمان الحب واجتناب الدعوى والتقوى من إظهار الوجد والمحبة تعظيماً للمحبوب وإجلالاً له وهيبة منه وغيرة على سره، فإن الحب سر من أسرار الحبيب ولأنه قد يدخل في الدعوى ما يتجاوز حد المعنى ويزيد عليه فيكون ذلك من الافتراء وتعظم العقوبة عليه في العقبى وتتعجل عليه البلوى في الدنيا، نعم قد يكون للمحب سكرة في حبه حتى يدهش فيه وتضطرب أحواله فيظهر عليه حبه، فإن وقع ذلك عن غير تمحل أو اكتساب فهو معذور لأنه مقهور، وربما تشتعل من الحب نيرانه فلا يطاق سلطانه وقد يفيض القلب به فلا يندفع فيضانه. فالقادر على الكتمان يقول:

[align=center]وقالوا: قريب، قلت: مـا أنـا صـانـع بقرب شعاع الشمس لو كان في حجري؟
فمالي مـنـه غـير ذكـر بـخـاطـر يهيج نار الحب والشوق فـي صـدري! [/align]


والعاجز عنه يقول:

[align=center]يخفى فيبدي الدمع أسراره ويظهر الوجد عليه النفس [/align]

ويقول أيضاً:

[align=center]ومن قلبه مع غيره كيف حالـه ومن سره في جفنه كيف يكتم؟ [/align]

وقد قال بعض العارفين: أكثر الناس من الله بعداً أكثرهم إشارة به. كأنه أراد: من يكثر التعريض به في كل شيء ويظهر التصنع بذكره عند كل أحد فهو ممقوت عند المحبين والعلماء بالله عز وجل.
ودخل ذو النون: المصري على بعض إخوانه - ممن كان يذكر المحبة - فرآه مبتلى ببلاء فقال: لا يحبه من وجد ألم ضره! فقال الرجل: لكني أقول لا يحبه من لم يتنعم بضره، فقال ذو النون: ولكن أقول: لا يحبه من شهر نفسه بحبه، فقال الرجل: أستغفر الله وأتوب إليه.
فإن قلت: المحبة منتهى المقامات وإظهارها إظهار للخير فلماذا يستنكر؟ فاعلم أن المحبة محمودة وظهورها محمود أيضاً وإنما المذموم التظاهر بها لما يدخل فيها من الدعوى والاستكبار، وحق المحب أن ينم على حبه الخفي أفعاله وأحواله دون أقواله وأفعاله. وينبغي أن يظهر حبه من غير قصد منه إلى إظهار الحب ولا إلى إظهار الفعل الدال على الحب، بل ينبغي أن يكون قصد المحب إطلاع الحبيب فقط. فأما إرادته إطلاع غيره فشرك في الحب وقادح فيه، كما ورد في الإنجيل: إذا تصدقت فتصدق بحيث لا تعلم شمالك يمينك. فالذي يرى الخفيات يجزيك علانية وإذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك لئلا يعلم بذلك غير ربك. فإظهار القول والفعل كله مذموم إلا إذا غلب سكر الحب فانطلق اللسان واضطربت الأعضاء فلا يلام فيه صاحبه.
حكي أن رجلاً رأى من بعض المجانين ما استجهله فيه فأخبر بذلك معروفاً الكرخي رحمه الله فتبسم ثم قال: يا أخي له محبون صغار وكبار وعقلاء ومجانين! فهذا الذي رأيته من مجانينهم.
ومما يكره: التظاهر بالحب، بسبب أن المحب إن كان عارفاً - وعرف أحوال الملائكة في حبهم الدائم وشوقهم اللازم الذي به يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون - لاستنكف من نفسه ومن إظهار حبه وعلم قطعاً أنه من أخس المحبين في مملكته وأن حبه أنقص من حب كل محب لله.
قال بعض المكاشفين من المحبين: عبدت الله تعالى ثلاثين سنة بأعمال القلوب والجوارح على بذل المجهود واستفراغ الطاقة حتى ظننت أن لي عند الله شيئاً، فذكر أشياء من مكاشفات آيات السموات في قصة طويلة قال في آخرها: فبلغت صفاً من الملائكة بعدد جميع ما خلق الله من شيء، فقلت: من أنتم؟ فقالوا: نحن المحبون لله عز وجل نعبده ههنا منذ ثلاثمائة ألف سنة ما خطر على قلوبنا قط سواء ولا ذكرنا غيره، قال: فاستحييت من أعمالي فوهبتها لمن حق عليه الوعيد تخفيفاً عنه في جهنم.
فإذن من عرف نفسه عرف ربه واستحيا منه حق الحياء خرس لسانه عن التظاهر بالدعوى. نعم يشهد على حبه حركاته وسكناته وإقدامه وإحجامه وتردداته؛ كما حكي عن الجنيد أنه قال: مرض أستاذنا السري رحمه الله فلم نعرف لعلته دواء ولا عرفنا لها سبباً. فوصف لنا طبيب حاذق، فأخذ قارورة مائه فنظر إليها الطبيب وجعل ينظر إليه ملياً ثم قال لي: أراه بول عاشق! قال الجنيد: فصعقت وغشي علي ووقعت القارورة من يدي، ثم رجعت إلى السري فأخبرته، فتبسم قال: قاتله الله ما أبصره! قلت: يا أستاذ وتبين المحبة في البول! قال: نعم.
وقد قال السري مرة: لو شئت أقول: ما أيبس جلدي على عظمي ولا سل جسمي إلا حبه! ثم غشي عليه. وتدل الغشية على أنه أفصح في غلبة الوجد ومقدمات الغشية. فهذه مجامع علامات الحب وثمراته.
ومنها الأنس والرضا كما سيأتي.
وبالجملة جميع محاسن الدين ومكارم الأخلاق ثمرة الحب، وما لا يثمره الحب فهو إتباع الهوى وهو من رذائل الأخلاق. نعم قد يحب الله لإحسانه إليه وقد يحبه لجلاله وجماله وإن لم يحسن إليه. والمحبون لا يخرجون عن هذين القسمين، ولذلك قال الجنيد: الناس في محبة الله تعالى عام وخاص، فالعوام نالوا ذلك بمعرفتهم في دوام إحسانه وكثرة نعمه فلم يتمالكوا أن أرضوه إلا أنهم تقل محبتهم وتكثر على قدر النعم والإحسان؛ فأما الخاصة فنالوا المحبة بعظم القدر والقدرة والعم والحكمة والتفرد بالملك. ولما عرفوا صفاته الكاملة وأسماءه الحسنى لم يمتنعوا أن أحبوه إذ استحق عندهم المحبة بذلك لأنه أهل لها ولو أزال عنهم جميع النعم، نعم من الناس من يحب هواه. وعدو الله إبليس - وهو مع ذلك يلبس على نفسه بحكم الغرور والجهل - فيظن أنه محب لله عز وجل وهو الذي فقدت فيه هذه العلامات، أو يلبس بها نفاقاً ورياءً وسمعةً وغرضه عاجل حظ الدنيا وهو يظهر من نفسه خلاف ذلك، كعلماء السوء وقراء السوء أولئك بغضاء الله في أرضه. وكان سهل إذا تكلم مع إنسان قال: يا دوست - أي يا حبيب - فقيل له: قد لا يكون حبيباً فكيف تقول هذا؟ فقال في أذن القائل سراً: لا يخلو إما أن يكون مؤمناً أو منافقاً: فإن كان مؤمناً فهو حبيب الله عز وجل، وإن كان منافقاً فهو حبيب إبليس، وقد قال أبو تراب التخشبي - في علامات المحبة - أبياتاً:

[align=center]لا تخدعن فللـحـبـيب دلائل ولديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعـمـه بـمـر بـلائه وسروره في كل ما هو فاعل
فالمنع منه عطية مـقـبـولة والفقر إكرام وبـر عـاجـل
ومن الدلائل أي ترى من عزمه طوع الحبيب وإن ألح العـاذل
ومن الدلائل أن يرى متبسـمـاً والقلب فيه من الحبيب بلابـل
ومن الدلائل أن يرى متفهـمـاً لكلام من يحظى لديه السـائل
ومن الدلائل أن يرى متقشـفـاً متحفظاً من كل ما هو قـائل [/align]


وقال يحيى بن معاذ:

[align=center]ومن الدلائل أن تراه مـشـمـراً في خرقتين على شطوط الساحل
ومن الدلائل حزنـه ونـحـيبـه جوف الظلام فما له من عـاذل
ومن الدلائل أن تراه مسافـراً نحو الجهاد وكل فعل فاضـل
ومن الدلائل زهده فيمـا يرى من دار ذل والنعـيم الـزائل
ومن الدلائل أن تـراه بـاكـياً أن قد رآه على قبيح فعـائل
ومن الدلائل أن تراه مسلـمـاً كل الأمور إلى المليك العادل
ومن الدلائل أن تراه راضـياً بمليكه في كل حكـم نـازل
ومن الدلائل ضحكه بين الورى والقلب محزون كقلب الثاكل [/align]


[align=center]بيان معنى الأنس بالله[/align]

قد ذكرنا أن الأنس والخوف والشوق من آثار المحبة، إلا أن هذه آثار مختلفة على المحب بحسب نظره وما يغلب عليه في وقته، فإذا غلب عليه التطلع من وراء حجب الغيب إلى منتهى الجمال واستشعر قصوره عن الإطلاع على كنه الجلال انبعث القلب إلى الطلب وانزعج له وهاج إليه، وتسمى هذه الحالة في الانزعاج شوقاً وهو بالإضافة إلى أمر غائب، وإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف وكان نظره مقصوراً على مطالعة الجمال الحاضر المكشوف غير ملتفت إلى ما لم يدركه بعد؛ استبشر القلب بما يلاحظه فيسمى استبشاره أنساً، وإن كان نظره إلى صفات العز والاستغناء وعدم المبالاة وخطر إمكان الزول والبعد تألم القلب بهذا الاستشعار فيسمى تألمه خوفاً. وهذه الأحوال تابعة لهذه الملاحظات، والملاحظات تابعة لأسباب تقتضيها لا يمكن حصرها، فالأنس معناه استبشار القلب فرحه بمطالعة الجمال، حتى إنه إذا غلب وتجرد عن ملاحظة ما غاب عنه وما يتطرق إليه من خطر الزوال عظم نعيمه ولذته، ومن هنا نظر بعضهم حيث قيل له: أنت مشتاق؟ فقال: لا إنما الشوق إلى غائب، فإذا كان الغائب حاضراً فإلى من يشتاق؟ وهذا الكلام مستغرق بالفرح بما ناله غير ملتفت إلى ما بقي في الإمكان من مزايا الألطاف.
ومن غلب عليه حال الأنس لم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة، كما حكي أن إبراهيم بن أدهم نزل من الجبل فقيل له: من أين أقبلت؟ فقال: من الأنس بالله، وذلك لأن الأنس بالله يلازمه التوحش من غير الله، بل كل ما يعوق عن الخلوة فيكون من أثقل الأشياء على القلب، كما روي أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه مكث دهراً لا يسمع كلام أحد من الناس إلا أخذه الغثيان، لأن الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره فيخرج من القلب عذوبة ما سواه، ولذلك قال بعض الحكماء في دعائه: يا من آنسني بذكره وأوحشني من خلقه، وقال الله عز وجل لداود عليه السلام: كن لي مشتاقاً وبي متأنساً ومن سواي مستوحشاً.
وقيل لرابعة: بم نلت هذه المنزلة؟ قالت: بتركي ما لا يعنيني وأنسي بمن لم يزل.
وقال عبد الواحد بن زيد: مررت براهب فقلت له: يا راهب لقد أعجبتك الوحدة؟ فقال: يا هذا لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك، الوحدة رأس العبادة، فقلت: يا راهب ما أقل ما تجده في الوحدة؟ قال: الراحة من مداراة الناس والسلامة من شرهم، قلت يا راهب: متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله تعالى؟ قال: إذا صفا الود وخلصت المعاملة، قلت: ومتى يصفو الود؟ قال: إذا اجتمع الهم فصار هماً واحداً في الطاعة.
وقال بعض الحكماء: عجباً للخلائق كيف أرادوا بك بدلاً؟ عجباً للقلوب كيف استأنست بسواك عنك؟.
فإن قلت: فما علامة الأنس؟ فاعلم أن علامته الخاصة ضيق الصدر من معاشرة الخلق والتبرم بهم واستهتاره بعذوبة الذكر، فإن خالط فهو كمنفرد في جماعة ومجتمع في خلوة، وغريب في حضر وحاضر في سفر، وشاهد في غيبة وغائب في حضور، مخالط بالبدن منفرد بالقلب، مستغرق بعذوبة الذكر، كما قال علي كرم الله وجهه في وصفهم: هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعر المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه، فهذا معنى الأنس بالله وهذه علامته وهذه شواهده.
وقد ذهب بعض المتكلمين إلى إنكار الأنس والشوق والحب لظنه أن ذلك يدل على التشبيه، وجهله بأن جمال المدركات بالبصائر أكمل من جمال المبصرات، ولذة معرفتها أغلب على ذوي القلوب ومنهم أحمد بن غالب، يعرف بغلام الخليل أنكر على الجنيد وعلى أبي الحسن النوري والجماعة حديث الحب والشوق والعشق حتى أنكر بعضهم مقام الرضا، وقال: ليس إلا الصبر فأما الرضا فغير متصور. وهذا كلام ناقص قاصر لم يطلع من مقامات الدين إلا على القشور فظن أنه لا وجود إلا للقشر، فإن المحسوسات وكل ما يدخل في الخيال من طريق الدين قشر مجرد ووراءه اللب المطلوب، فمن لم يصل من الجوز إلا إلى قشره يظن أن الجوز خشب كله، ويستحيل عنده خروج الدهن منه لا محالة وهو معذور ولكن عذره غير مقبول وقد قيل:

ا[align=center]لأنس بالله لا يحويه بطـال وليس يدركه بالحول محتال
والآنسون رجال كلهم نجب وكلهم صفوة لله عـمـال [/align]


[align=center]بيان معنى الانبساط والإدلال الذي تثمره غلبة الأنس[/align]

اعلم أن الأنس إذا دام وغلب واستحكم ولم يشوشه قلق الشوق ولم ينغصه خوف التغير والحجاب فإنه يثمر نوعاً من الانبساط في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الله تعالى، وقد يكون منكر الصورة لما فيه من الجراءة وقلة الهيبة ولكنه محتمل ممن أقيم في مقام الأنس، ومن لم يقم في ذلك المقام ويتشبه بهم في الفعل والكلام هلك به وأشرف على الكفر.
ومثاله: مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل؛ بعد أن قحطوا سبع سنين وخرج موسى عليه السلام ليستسقي لهم في سبعين ألفاً، فأوحى الله عز وجل إليه: كيف أستجيب لهم وقد أظلمت عليهم ذنوبهم، سرائرهم خبيثة يدعونني على غير يقين ويأمنون مكري، ارجع إلى عبد من عبادي يقال له برخ فقل له يخرج حتى أستجيب له، فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف، فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق إذا بعبد أسود قد استقبله بين عينيه تراب من أثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فمعرفة موسى عليه السلام بنور الله عز وجل فسلم عليه وقال له: ما اسمك؟ فقال: اسمي برخ، قال: فأنت طلبتنا منذ حين أخرج فاستسق لنا. فخرج فقال في كلامه: ما هذا من فعالك ولا هذا من حلمك؟ وما الذي بدا لك! أنقصت عليك عيونك أم عاندت الرياح عن طاعتك أم نفد ما عندك أم اشتد غضبك على المذنبين؟ ألست كنت غفاراً قبل خلق الخطائين؟ خلقت الرحمة وأمرت بالعطف، أم ترينا أنك ممتنع أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة، قال فما برح حتى اخضلت بنو إسرائيل بالقطر وأنبت الله تعالى العشب في نصف يوم حتى بلغ الركب، قال: فرجع برخ فاستقبله موسى عليه السلام فقال: كيف رأيت حين خاصمت كيف أنصفني؟ فهم موسى عليه السلام به، فأوحى الله تعالى إليه: إن برخاً يضحكني كل يوم ثلاث مرات.
وعن الحسن قال: احترقت أخصاص بالبصرة فبقي في وسطها خص لم يحترق، وأبو موسى يومئذ أمير البصرة، فأخبر بذلك فبعث إلى صاحب الخص، قال: فأتي بشيخ فقال: يا شيخ ما بال خصك لم يحترق؟ قال: إني أقسمت على ربي عز وجل أن لا يحرقه، فقال أبو موسى رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يكون في أمتي قومشعثة رؤوسهم، دنسة ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم".
قال: ووقع حريق بالبصرة فجاء أبو عبيدة الخواص فجعل يتخطى النار، فقال له أمير البصرة: انظر لا تحترق بالنار، فقال: إني أقسمت على ربي عز وجل أن لا يحرقني بالنار، قال: فاعزم على النار أن تطفأ، قال: فعزم عليها فطفئت.
وكان أبو حفص يمشي ذات يوم فاستقبله رستاقي مدهوش فقال له أبو حفص: ما أصابك؟ فقال: ضل حماري ولا أملك غيره، قال: فوقف أبو حفص وقال: وعزتك لا أخطو خطوة ما لم ترد عليه حماره، قال: فظهر حماره في الوقت ومر أبو حفص رحمه الله.
فهذا وأمثاله يجري لذوي الأنس وليس لغيرهم أن يتشبه بهم.
قال الجنيد رحمه الله: أهل الأنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم في خلواتهم أشياء هي كفر عند العامة، وقال مرة: لو سمعها العموم لكفروهم وهم يجدون المزيد في أحوالهم بذلك. وذلك يحتمل منهم ويليق بهم وإليه أشار القائل:

[align=center]قوم تخالجهم زهو بـسـيدهـم والعبد يزهو على مقدار مولاه
تاهوا برؤيته عمـا سـواه لـه يا حسن رؤيتهم في عز ما تاهوا[/align]


ولا تستبعدون رضاه عن العبد بما يغضب به على غيره مهما اختلف مقامهما، ففي القرآن تنبيهات على هذه المعاني لو فطنت وفهمت، فجميع قصص القرآن تنبيهات لأولي البصائر والأبصار حتى ينظروا إليها بعين الاعتبار، فإنما هي عند ذوي الاعتبار من الأسماء.
فأول القصص: قصة آدم عليه السلام وإبليس أما تراهما كيف اشتركا في اسم المعصية والمخالفة ثم تباينا في الاجتباء والعصمة. أما إبليس فأبلس عن رحمته، وقيل إنه من المبعدين. وأما آدم عليه السلام فقيل فيه " وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ".
وقد عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن عبد والإقبال على عبد، وهما في العبودية سيان ولكن في الحال مختلفان، فقال: " وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنده تلهى "، وقال في الآخر: " أما من استغنى فأنت له تصدى " وةكذلك أمره بالقعود مع طائفة، فقال عز وجل: " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم " وأمره بالإعراض عن غيرهم، فقال: " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم " حتى قال: " فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين " وقال تعالى: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ".
فكذلك الانبساط والإدلال يحتمل من بعض العباد دون بعض. فمن انبساط الأنس قول موسى عليه السلام: " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " وقوله في التعليل والاعتذار لما قيل له: " اذهب إلى فرعون "، فقال: " ولهم على ذنب " وقوله: " إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني "، وقوله: " إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " وهذا من غير موسى عليه السلام من سوء الأدب لأن الذي أقيم مقام الأنس يلاطف ويحتمل، ولم يحتمل ليونس عليه السلام ما دون هذا لما أقيم مقام القبض والهيبة، فعوقب بالسجن في بطن الحوت - في ظلمات ثلاث - ونودي عليه إلى يوم القيامة " لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم ". قال الحسن: العراء هو القيامة. ونهى نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقتدى به وقيل له: " فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ".
وهذه الاختلافات بعضها لاختلاف الأحوال والمقامات وبعضها لما سبق في الأزل من التفاضل والتفاوت في القسمة بين العباد، وقد قال تعالى: " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض "، وقد قال: " منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " فكان عيسى عليه السلام من المفضلين ولإدلاله سلم على نفسه، فقال: " والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً" وهذا انبساط منه لما شاهد من اللطف في مقام الأنس.
وأما يحيى بن زكريا عليه السلام فإنه أقيم مقام الهيبة والحياء فلم ينطق حتى أثنى عليه خالقه، فقال: " وسلام عليه ".
وانظر كيف احتمل لأخوة يوسف ما فعلوه بيوسف وقد قال بعض العلماء: قد عددت من أول قوله تعالى: " إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا " إلى رأس العشرين من إخباره تعالى عن زهدهم فيه نيفاً وأربعين خطيئة بعضها أكبر من بعض، وقد يجتمع في الكلمة الواحدة الثلاث والأربع - فغفر لهم وعفا عنهم ولم يحتمل العزيز في مسألة واحدة سأل عنها في القدر، حتى قيل مُحِيَ من ديوان النبوة! وكذلك كان بلعام بن باعوراء من أكابر العلماء فأكل الدنيا بالدين فلم يحتمل له ذلك.
وكان آصف من المسرفين وكانت معصيته في الجوارح فعفا عنه. فقد روي أن الله تعالى أحوى إلى سليمان عليه السلام: يا رأس العابدين ويا ابن محجة الزاهدين إلى كم يعصيني ابن خالتك آصف وأنا أحلم عليه مرة بعد مرة فو عزتي وجلالي لئن أخذته عصفة من عصفاتي عليه لأتركنه مثلة لمن معه ونكالاً لمن بعده، فلما دخل آصف على سليمان عليه السلام أخبره بما أوحى الله تعالى إليه فخرج حتى علا كثيباً من رمل، ثم رفع رأسه ويديه نحو السماء وقال: إلهي وسيدي أنت أنت وأنا أنا فكيف أتوب إن لم تتب علي وكيف أستعصم؟ إن لم تعصمني لأعودن، فأوحى الله تعالى إليه: صدقت يا آصف أنت أنت وأنا أنا أستقبل التوبة وقد تبت عليك وأنا التواب الرحيم، وهذا كلام مدل به عليه وهارب منه إليه وناظر به إليه.
وفي الخبر: إن الله تعالى أوحى إلى عبد تداركه أن كان أشفى على الهلكة كم من ذنب واجهتني به غفرته لك وقد أهلكت في دونه أمة من الأمم، فهذه سنة الله تعالى في عباده بالتفضيل والتقديم والتأخير على ما سبقت به المشيئة الأزلية.
وهذه القصص وردت في القرآن لتعرف بها سنة الله في عباده الذي خلوا من قبل، فما في القرآن شيء إلا وهو هدى ونور وتعرف من الله تعالى إلى خلقه، فتارة يتعرف إليهم بالتقديس فيقول: " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " وتارة يتعرف إليهم بصفات جلاله فيقول: " الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر " وتارة يتعرف إليهم في أفعاله المخوفة والمرجوة فيتلو عليهم سنته في أعدائه وفي أنبيائه فيقول: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد - ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ".
ولا يعدو القرآن هذه الأقسام الثلاثة وهي: الإرشاد إلى معرفة ذات الله وتقديسه، أو معرفة صفاته وأسمائه، أو معرفة أفعاله وسنته مع عباده، ولما اشتملت سورة الإخلاص على أحد هذه الأقسام الثلاثة وهو التقديس وازنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلث القرآن فقال: "من قرأ سورة الإخلاص فقد قرأ ثلث القرآن" لأن منتهى التقديس أن يكون واحداً في ثلاثة أمور، لا يكون حاصلاً منه من هو نظيره وشبهه، ودل عليه قوله " لم يلد " ولا يكون حاصلاً ممن هو نظيره وشبهه، ودل عليه قوله " ولم يولد " ولا يكون في درجته وإن لم يكن أصلاً له ولا فرعاً من هو مثله، ودل عليه قوله: " ولم يكن له كفواً أحد " ويجمع جميع ذلك قوله تعالى: " قل هو الله أحد " وجملته تفصيل قول " لا إله إلا الله " فهذه أسرار القرآن ولا تتناهى أمثال هذه الأسرار في القرآن " ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: نوروا القرآن والتمسوا غرائب ففيه علم الأولين والآخرين، وهو كما قال، ولا يعرفه إلا من طال في آحاد كلماته فكره وصفا له فهمه حتى تشهد له كل كلمة منه بأنه كلام جبار قاهر مليك قادر وأنه خارج عن حد استطاعة البشر. وأكثر أسرار القرآن معبأة في طي القصص والأخبار، فكن حريصاً على استنباطها ليكشف لك فيه من العجائب ما تستحقر معه العلوم المزخرفة الخارجة عنه. فهذا ما أردنا ذكره من معنى الأنس والانبساط الذي هو ثمرته وبيان تفاوت عباد الله فيه والله سبحانه وتعالى أعلم.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يناير 15, 2007 4:54 pm 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]القول في معنى الرضا بقضاء الله تعالى
وحقيقته وما ورد في فضيلته
[/align]


اعلم أن الرضا ثمرة من ثمار المحبة وهو من أعلى مقامات المقربين وحقيقته غامضة على الأكثرين، وما يدخل عليه من التشابه والإبهام غير منكشف إلا لمن علمه الله تعالى التأويل وفهمه وفقهه في الدين، فقد أنكر منكرون تصور الرضا بما يخالف الهوى ثم قالوا: إن أمكن الرضا بكل شيء لأنه فعل الله فينبغي أن يرضى بالكفر والمعاصي وانخدع بذلك قوم فرأوا الرضا بالفجور والفسوق وترك الاعتراض والإنكار من باب التسليم لقضاء الله تعالى. ولو انكشفت هذه الأسرار لمن اقتصر على سماع ظواهر الشرع لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس حيث قال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فلنبدأ ببيان فضيلة الرضا، ثم بحكايات أحوال الراضين، ثم تذكر حقيقة الرضا وكيفية تصوره فيما يخالف الهوى، ثم نذكر ما يظن أنه من تمام الرضا وليس منه كترك الدعاء والسكوت على المعاصي.

[align=center]بيان فضيلة الرضا[/align]

أما من الآيات فقوله تعالى: " رضي الله عنهم ورضوا عنه "، وقد قال تعالى: " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " ومنتهى الإحسان رضا الله عن عبده وهو ثواب رضا العبد عن الله تعالى.
وقال تعالى: " ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر " فقد رفع الله الرضا فوق جنات عدن كما رفع ذكره الصلاة حيث قال: " إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " فكما أن مشاهدة المذكور في الصلاة أكبر من الصلاة فرضوان رب الجنة أعلى من الجنة بل هو غاية مطلب سكان الجنان.
وفي الحديث: " إن الله تعالى يتجلى للمؤمنين فيقول سلوني فيقولون رضاك" فسؤالهم الرضا بعد النظر نهاية التفضيل. وأما رضا العبد فسنذكر حقيقته، وأما رضوان الله تعالى عن العبد فهو بمعنى آخر يقرب مما ذكرناه في حب الله للعبد، ولا يجوز أن يكشف إذ تقصر أفهام الخلق عن دركه ومن يقوى عليه فيستقل بإدراكه من نفسه. وعلى الجملة فلا رتبة فوق النظر إليه فإنما سألوه الرضا لأنه سبب دوام النظر، فكأنهم رأوه غاية الغايات وأقصى الأماني لما ظفروا بنعيم النظر، فلما أمروا بالسؤال لم يسألوا إلا دوامه وعلموا أن الرضا هو سبب دوام رفع الحجاب.
وقال الله تعالى: " ولدينا مزيد ". قال بعض المفسرين: يأتي أهل الجنة في وقت المزيد ثلاث تحف من عند رب العالمين؛ أحداها: هدية من عند الله تعالى ليس عندهم في الجنان مثلها فذلك قوله تعالى: " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " والثانية: السلام عليهم من ربهم، فيزيد ذلك على الهدية فضلاً وهو قوله تعالى: " سلام قولاً من رب رحيم " والثالثة: يقول الله تعالى: إني عنكم راض فيكون ذلك أفضل من الهدية والتسليم فذلك قوله تعالى: " ورضوان من الله أكبر " أي من النعيم الذي هم فيه فهذا فضل رضا الله تعالى وهو ثمرة رضا العبد.
وأما من الأخبار: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل طائفة من أصحابه: " ما أنتم " فقالوا: مؤمنون، فقال: " ما علامة إيمانكم " فقالوا: نصبر على البلاء ونشكر عند الرخاء ونرضى بمواقع القضاء، فقال: " مؤمنون ورب الكعبة".
وفي خبر آخر أنه قال: " حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء".
وفي الخبر " طوبى لمن هدي للإسلام وكان رزقه كفافاً ورضي به".
وقال صلى الله عليه وسلم: " من رضي من الله تعالى بالقليل من الرزق رضي الله تعالى منه بالقليل من العمل". وقال أيضاً: " إذا أحب الله تعالى عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه فإن رضي اصطفاه " وقال أيضاً: " إذا كان يوم القيامة أنبت الله تعالى لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان يسرحون فيها ويتنعمون فيها كيف شاؤوا، فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم الحساب؟ فيقولون: ما رأينا حساباً، فتقول لهم: هل جزتم الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطاً، فتقول لهم: هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئاً، فتقول الملائكة: من أمة من أنتم؟ فيقولون: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فتقول: ناشدناكم الله حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا، فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلغنا هذه المنزلة بفضل رحمة الله، فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة: يحق لكم هذا".
وقال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا".
وفي أخبار موسى عليه السلام؛ إن بني إسرائيل قالوا له: سل لنا ربك أمراً إذا نحن فعلناه يرضى به عنا، فقال موسى عليه السلام: إلهي قد سمعت ما قالوا. فقال: يا موسى قل لهم يرضون عنهم. ويشهد لهذا ما روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحب أن يعلم ما له عند الله عز وجل فلينظر ما لله عز وجل عنده، فإن الله تبارك وتعالى ينزل العبد منه حيث أنزله العبد من نفسه".
وفي أخبار داود عليه السلام: ما لأوليائي والهم بالدنيا، إن الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، يا داود إن محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمون.
وروي أن موسى عليه السلام قال: يا رب دلني على أمر فيه رضاك حتى أعمله، فأوحى الله تعالى إليه: إن رضاي في كرهك وأنت لا تصبر على ما تكره، قال: يا رب دلني عليه، قال: فإن رضاي في رضاك بقضائي.
وفي مناجاة موسى عليه السلام: أي رب أي خلقك أحب إليك؟ قال: من إذا أخذت منه المحبوب سالمني، قال: فأي خلقك أنت عليه ساخط؟ قال: من يستخيرني في الأمر فإذا قضيت له سخط قضائي.
وقد روي ما هو أشد من ذلك وهو أن الله تعالى قال: " أنا الله لا إله إلا أنا من لم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي ولم يرض بقضائي فليتخذ رباً سوائي" ومثله في الشدة قوله تعالى فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قال الله تعالى: قدرت المقادير ودبرت التدبير وأحكمت الصنع، فمن رضي فله الرضا مني حتى يلقاني ومن سخط فله السخط مني حتى يلقاني".
وفي الخبر المشهور " يقول الله تعالى: خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريت الخير على يديه، وويل لمن خلقته للشر وأجريت الشر على يديه، وويل ثم ويل لمن قال لم وكيف".
وفي الأخبار السالفة أن نبياً من الأنبياء شكا إلى الله عز وجل الجوع والفقر والقمل عشر سنين فما أجيب إلى ما أراد، ثم أوحى الله تعالى إليه كم تشكو، هكذا كان بدؤك عندي في أم الكتاب قبل أن أخلق السموات والأرض وهكذا سبق لك مني وهكذا قضيت عليك قبل أن أخلق الدنيا، أفتريد أن أعيد خلق الدنيا من أجلك أم تريد أن أبدل ما قدرته عليك فيكون ما تحب فوق ما أحب ويكون ما تريد فوق ما أريد، وعزتي وجلالي لئن تلجلج هذا في صدرك مرة أخرى لأمحونك من الديوان النبوة.
وروي أن آدم عليه السلام كان بعض أولاده الصغار يصعدون على بدنه وينزلون - يجعل أحدهم رجله على أضلاعه كهيئة الدرج فيصعد إلى رأسه، ثم ينزل على أضلاعه كذلك وهو مطرق إلى الأرض لا ينطق ولا يرفع رأسه - فقال له بعض ولده: يا أبت! أما ترى ما يصنع هذا بك لو نهيته عن هذا! فقال: يا بني إني رأيت ما لم تروا، وعلمت ما لم تعلموا، إني تحركت حركة واحدة فأهبطت من دار الكرامة إلى دار الهوان ومن دار النعيم إلى دار الشقاء، فأخاف أن أتحرك فيصيبني ما لا أعلم.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته، ولا قال لشيء كان ليته لم يكن، ولا في شيء لم يكن ليتهم كان، وكان إذا خاصمني مخاصم من أهله يقول دعوه لو قضي شيء لكان.
ويروى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود إنك تريد وأريد وإنما يكون ما أريد، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد.
وأما الآثار: فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذي يحمدون الله تعالى على كل حال.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما بقي لي سرور إلا في مواقع القدر، وقيل له: ما تشتهي؟ فقال: ما يقضي الله.
وقال ميمون بن مهران: من لم يرض بالقضاء فليس لحمقه دواء.
وقال الفضيل: إن لم تصبر على تقدير الله لم تصبر على تقدير نفسك.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: ليس الشأن في أكل خبز الشعير والخل ولا في لبس الصوف والشعر، ولكن الشأن في الرضا عن الله عز وجل.
وقال عبد الله بن مسعود: لأن الحس جمرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت أحب إلي من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن ليته كان.
ونظر رجل إلى قرحة في رجل محمد بن واسع. فقال: إني لأرحمك من هذه القرحة، فقال: إني لأشكرها منذ خرجت إذ لم تخرج في عيني.
وروي في الإسرائيليات: أن عابداً عبد الله دهراً طويلاً فأري في المنام، فلانة الراعية رفيقتك في الجنة؛ فسأل عنها إلى أن وجدها فاستضافها ثلاثاً لينظر إلى عملها، فكان يبيت قائماً وتبيت نائمة ويظل صائمة وتظل مفطرة. فقال: أما لك عمل غير ما رأيت؟ فقالت: ما هو والله إلا ما رأيت لا أعرف غيره. فلم يزل يقول: تذكري، حتى قالت: خصيلة واحدة هي في؛ إن كنت في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء، وإن كنت في مرض لم أتمن أن أكون في صحة، وإن كنت في الشمس لم أتمن أن أكون في الظل، فوضع العابد يده على رأسه وقال: أهذه خصيلة؟ هذه والله خصلة عظيمة يعجز عنها العباد.
وعن بعض السلف: إن الله تعالى إذا قضى في السماء قضاء أحب من أهل الأرض أن يرضوا بقضائه.
وقال أبو الدرداء: ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر.
وقال عمر رضي الله عنه: ما أبالي على أي حال أصبحت وأمسيت من شدة أو رخاء.
وقال الثوري يوماً عن رابعة: اللهم ارض عني، فقالت: أما تستحي من الله أن تسأله الرضا وأنت غير راض؟ فقال: أستغفر الله، فقال جعفر بن سليمان الضبعي: فمتى يكون العبد راضياً عن الله تعالى؟ قالت: إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة.
وكان الفضيل يقول: إذا استوى عنده المنع والعطاء فقد رضي عن الله تعالى.
وقال أحمد بن أبي الحواري: قال أبو سليمان الداراني إن الله عز وجل من كرمه قد رضي من عبيده بما رضي العبيد من مواليهم قلت: وكيف ذاك؟ قال: أليس مراد العبد من الخلق أن يرضى عنه مولاه قلت: نعم، قال: فإن محبة الله من عبيده أن يرضوا عنه.
وقال سهل: حظ العبيد من اليقين على قدر حظهم من الرضا وحظهم من الرضا على قدر عيشهم مع الله عز وجل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل بحكمته وجلاله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط".

[align=center]بيان حقيقة الرضا وتصوره فيما يخالف الهوى[/align]

اعلم أن من قال: ليس فيما يخالف الهوى وأنواع البلاء إلا الصبر فأما الرضا فلا يتصور؟ فإنما أتى من ناحية إنكار المحبة. فأما إذا ثبت تصور الحب لله تعالى واستغراق الهم به فلا يخفى أن الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب، ويكون ذلك من وجهين: أحدهما أن يبطل الإحساس بالألم حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس، وتصيبه جراحة ولا يدرك ألمها، ومثاله: الرجل المحارب فإنه غضبه أو في حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بألم ذلك لشغل قلبه. بل الذي يحجم رأسه بحديدة كآلة يتألم به، فإن كان مشغول القلب بمهم من مهماته فرغ المزين والحجام وهو لا يشعر به. وكل ذلك لأن القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما عداه، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه أو بحبه قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتم له لولا عشقه، ثم لا يدرك غمه وألمه لفرطه استيلاء الحب على قلبه. هذا إذا أصابه من غير حبيبه! فكيف إذا أصابه من حبيبه؟ وشغل القلب بالحب والعشق من أعظم الشواغل، وإذا تصور هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف تصور في الألم العظيم بالحب العظيم، فإن الحب أيضاً يتصور تضاعفه في القوة كما يتصور تضاعف الألم، وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسة البصر فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة، وجمال حضرة الربوبية وجلالها لا يقاس به جمال ولا جلال، فمن ينكشف له شيء منه فقد يبهره بحث يدهش يغشى عليه فلا يحس بما يجري عليه. فقد روي أن امرأة فتح الموصلي عثرت فانقطع ظفرها فضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.
وكان سهل رحمه الله تعالى به علة يعالج غيره منها ولا يعالج نفسه، فقيل له في ذلك فقال: يا دوست ضرب الحبيب لا يوجع!.
وأما الوجه الثاني: فهو أن يحس به ويدرك ألمه ولكن يكون راضياً به بل راغباً فيه مريداً له - أعني بعقله - وإن كان كارهاً بطبعه، كالذي يلتمس من الفصاد الفصد والحجامة فإنه يدرك ألم ذلك إلا انه راض به وراغب فيه ومتقلد من الفصاد به منة بفعله، فهذا حال الراضي بما يجري عليه من الألم. وكذلك المسافر في طلبالربح يدرك مشقة السفر ولكن حبه لثمرة سفره طيب عنده مشقة السفر وجعله راضياً بها. ومهما أصابه بلية من الله تعالى وكان له يقين بأن ثوابه الذي ادخر له فوق ما فاته رضي به ورغب فيه وأحبه وشكر الله عليه. هذا إن كان يلاحظ الثواب والإحسان الذي يجازى به عليه، ويجوز أن يغلب الحب بحيث يكون حظ المحب في مراد محبوبه ورضاه لا لمعنى آخر وراءه، فيكون مراد حبيبه ورضاه محبوباً عنده ومطلوباً، وكل ذلك موجود في المشاهدات في حب الخلق وقد تواصفها المتواصفون في نظمهم ونثرهم، ولا معنى له إلا ملاحظة جمال الصورة الظاهرة بالبصر، فإن نظر إلى الجمال فما هو إلا جلد ولحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث بدايته من نطفة مذرة ونهايته جيفة قذرة وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة، وإن نظر إلى المدرك للجمال فهي العين الخسيسة التي تغلط فيما ترى كبيراً، فترى الصغير كبيراً والكبير صغيراً والبعيد قريباً والقبيح جميلاً، فإذا تصور استيلاء هذا الحب فمن أين يستحيل ذلك في حب الجمال الأزلي الأبدي الذي لا منتهى لكماله المدرك بعين البصيرة التي لا يعتريها الغلط ولا يدور بها الموت بل تبقى بعد الموت؟ حية عند الله فرحة برزق الله تعالى مستفيدة بالموت مزيد تنبيه واستكشاف؟ فهذا أمر واضح من حيث النظر بعين الاعتبار، ويشهد لذلك الوجود وحكايات أحوال المحبين وأقوالهم.
فقد قال شقيق البلخي: من يرى ثواب الشدة لا يشتهي المخرج منها؟ وقال الجنيد: سألت سرياً السقطي هل يجد المحب ألم البلاء؟ قال: لا، قلت: وإن ضرب بالسيف! قال: نعم، وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة - ضربة على ضربة.
وقال بعضهم: أحببت كل شيء يحبه حتى لو أحب النار أحببت دخول النار.
وقال بشر بن الحارث: مررت برجل وقد ضرب ألف سوط في شرقية بغداد ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس، فتبعته فقلت له: لم ضربت؟ فقال: لأني عاشق، فقلت له: ولم سكت؟ قال: لأن معشوقي كان بحذائي ينظر إلي، فقلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر! قال: فزعق زعقة خر ميتاً.
وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: إذا نظر أهل الجنة إلى الله تعالى ذهبت عيونهم في قلوبهم من لذة النظر إلى الله تعالى ثلاثمائة سنة لا ترجع إليهم، فما ظنك بقلوب وقعت بين جماله وجلاله؟ إذا لاحظت جلاله هابت وإذا لاحظت جماله تاهت!.
وقال بشر: قصدت عبادان في بدايتي فإذا برجل أعمى مجذوم مجنون قد صرع والنمل يأكل لحمه، فرفعت رأسه فوضعته في حجري وأنا أردد الكلام، فلما أفاق قال: من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربي لو قطعني إرباً إرباً ما ازددت له إلا حباً؟ قال بشر: فما رأيت بعد ذلك نقمة بين عبد وبين ربه فأنكرتها.
وقال أبو عمرو محمد بن الأشعث إن أهل مصر مكثوا أربعة أشهر لم يكن لهم غذاء إلا النظر إلى وجه يوسف الصديق عليه السلام، كانوا إذا جاعوا نظروا إلى وجهه فشغلهم بجماله عن الإحساس بألم الجوع. بل في القرآن ما هو أبلغ من ذلك وهو قطع النسوة أيديهن لاستهتارهن بملاحظة جماله حتى ما أحسسن بذلك.
وقال سعيد بن يحيى: رأيت بالبصرة في خان عطاء بن مسلم شاباً وفي يده مدية وهو ينادي بأعلى صوته والناس حوله وهو يقول:

[align=center]يوم الفراق من القيامة أطـول والموت من ألم الفراق أجمل
قالوا الرحيل فقلت لست براحل لكن مهجتي التي تـتـرحـل [/align]


ثم بقر بالمدية بطنه وخر ميتاً، فسألت عنه وعن أمره فقيل لي إنه كان يهوى فتى لبعض الملوك حجب عنه يوماً واحداً.
ويروى أن يونس عليه السلام قال لجبريل: دلني على أعبد أهل الأرض؟ فدله على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه وذهب ببصره، فسمعه وهو يقول: إلهي متعتني بهما ما شئت أنت، وسلبتني ما شئت أنت، وأبقيت لي فيك الأمل يا بر يا وصول.
ويروى عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه اشتكى له ابن فاشتد وجده عليه حتى قال بعض القوم: لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث، فمات الغلام فخرج ابن عمر في جنازته وما رجل أشد سروراً أبداً منه. فقيل له في ذلك، فقال ابن عمر: إنما كان حزني رحمة له، فلما وقع أمر الله رضينا به.
وقال مسروق: كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك، فالديك يوقظهم للصلاة، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم، والكلب يحرسهم، قال: فجاء الثعلب فأخذ الديك، فحزنوا له وكان الرجل صالحاً فقال: عسى أن يكون خيراً، ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار فقتله، فحزنوا عليه فقال الرجل: عسى أن يكون خيراً، ثم أصيب الكلب بعد ذلك فقال: عسى أن يكون خيراً، ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم. قال: وإنما أخذوا أولئك لما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة، فكانت الخيرة لهؤلاء في هلاك هذه الحيوانات كما قدره الله تعالى. فإذن من عرف خفي لطف الله تعالى رضي بفعله على كل حال.
ويروى أن عيسى عليه السلام مر برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجبين بفالج وقد تناثر لحمه من الجذام وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلي به كثيراً من خلقه، فقال له عيسى: يا هذا أي شيء من البلاء أراه مصروفاً عنك؟ فقال: يا روح الله أنا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته، فقال له: صدقت هات يدك، فناوله يده فإذا هو أحسن الناس وجهاً وأفضلهم هيئة! وقد أذهب الله عنه ما كان به، فصحب عيسى عليه السلام وتعبد معه.
وقطع عروة بن الزبير رجله - من ركبته - من أكلة خرجت بها ثم قال: الحمد لله الذي أخذ مني واحدة وايمك لئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت ابتليت فقد عافيت، ثم لم يدع ورده تلك الليلة.
وكان ابن مسعود يقول: الفقر والغنى مطيتان ما أبالي أيتهما ركبت؟ إن كان الفقر فإن فيه الصبر وإن كان الغنى فإن فيه البذل.
وقال أبو سليمان الداراني: قلت قد نلت من كل مقام حالاً إلا الرضا فما لي منه إلا مشام الريح، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلهم الجنة وأدخلني النار كنت بذلك راضياً.
وقيل لعارف آخر: هل نلت غاية الرضا عنه؟ فقال: أما الغاية فلا، ولكن مقام الرضا قد نلته، لو جعلني جسراً على جهنم يعبر الخلائق علي إلى الجنة ثم ملأ بي جهنم - تحلة لقسمه وبدلاً من خليقته - لأحببت ذلك من حكمه ورضيت به من قسمه.
وهذا كلام من علم أن الحب قد استغرق همه حتى منعه الإحساس بألم النار. فإن بقي إحساس فيغمره ما يحصل من لذته في استشعاره حصول رضا محبوبه بإلقائه إياه في النار. واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه وإن كان بعيداً من أحوالنا الضعيفة، ولكن لا ينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم أحوال الأقوياء ويظن أن ما هو عاجز عنه يعجز عنه الأولياء.
وقال الروذباري: قلت لأبي عبد الله بن الجلاء الدمشقي: قول فلان؛ وددت أن جسدي قرض بالمقاريض وأن هذا الخلق أطاعوه؛ ما معناه؟ فقال: يا هذا إن كان هذا من طريق التعظيم والإجلال فلا أعرف وإن كان هذا من طريق الإشفاق والنصح للخلق فأعرف، قال: ثم غشي عليه.
وقد كان عمران بن الحصين قد استسقى بطنه فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد - قد نقب له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته - فدخل عليه مطرف وأخوه العلاء فجعل يبكي لما يراه من حاله، فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة! قال: لا تبك فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي! ثم قال: أحدثك شيئاً لعل الله أن ينفعك به، واكتم علي حتى أموت، إن الملائكة تزورني فآنس بها وتسلم علي فأسمع تسليمها فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة إذ هو سبب هذه النعمة الجسيمة! فمن يشاهد هذا في بلائه كيف لا يكون راضياً به؟ قال: ودخلنا على سويد بن متعبة نعوده، فرأينا ثوباً ملقى فما ظننا أن تحته شيئاً حتى كشف، فقالت له امرأته: أهلي فداؤك ما نطعمك ما نسقيك؟ فقال: طالت الضجعة ودبرت الحراقيف وأصبحت نضواً ولا أطعم طعاماً ولا أسيغ شراباً منذ كذا، فذكر أياماً، وما يسرني أني نقصت من هذا قلامة ظفر.
ولما قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة - وقد كان كف بصره - جاءه الناس يهرعون إليه كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعوا لهذا ولهذا - وكان مجاب الدعوة - قاله عبد الله بن السائب: فأتيته وأن غلام فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم، فذكر قصة قال في آخرها: فقلت له: يا عم أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك فرد الله عليك بصرك! فتبسم وقال: يا بني قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري! وضاع لبعض الصوفية ولد صغير من ثلاثة أيام لم يعرف له خبر، فقيل له: لو سألت الله تعالى أن يرده عليك، فقال: اعتراضي عليه فيما قضي أشد علي من ذهاب ولدي. وعن بعض العباد أنه قال: إني أذنبت ذنباً عظيماً فأنا أبكي عليه منذ ستين سنة - وكان قد اجتهد في العبادة لأجل التوبة من الذنب - فقيل له: وما هو؟ قال: قلت مرة لشيء كان، ليته لم يكن.
وقال بعض السلف: لو قرض جسمي بالمقاريض لكان أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى سبحانه ليته لم يقضه.
وقيل لعبد الواحد بن زيد: ههنا رجل قد تعبد خمسين سنة، فقصده فقال له: يا حبيبي أخبرني عنك هل قنعت به؟ قال: لا، قال: أنست به؟ قال: لا، قال: فهل رضيت عنه؟ قال: لا، قال: فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة؟ قال: نعم. قال: لولا أني أستحيي منك لأخبرتك بأن معاملتك خمسين سنة مدخولة! ومعناه أنك لم يفتح لك باب القلب فتترقى إلى درجات القرب بأعمال القلب، وإنما أنت تعد في طبقات أصحاب اليمين، لأن مزبدك منه في أعمال الجوارح التي هي مزبد أهل العموم.
ودخل جماعة من الناس على الشبلي رحمه الله تعالى في مارستان قد حبس فيه وقد جمع بين يديه حجارة، فقال: من أنتم؟ فقالوا: محبوك، فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة فتهاربوا فقال: ما بالكم ادعيتم محبتي إن صدقتم فاصبروا على بلائي!.
وللشبلي رحمه الله تعالى:

[align=center]إن المحبة للرحمن أسكـرنـي وهل رأيت محباً غير سكران؟ [/align]

وقال بعض عباد أهل الشام: كلكم يلقى الله عز وجل مصدقاً ولعله قد كذبه، وذلك أن أحدكم لو كان له إصبع من ذهب ظل يشير بها، ولو كان بها شلل ظل يواريها؛ يعني بذلك أن الذهب مذموم عند الله والناس يتفاخرون به، والبلاء زينة أهل الآخرة وهم يستنكفون منه.
وقيل إنه وقع الحريق في السوق فقيل للسري: احترق السوق وما احترق دكانك! فقال: الحمد لله ، ثم قال: كيف قلت الحمد لله على سلامتي دون المسلمين! فتاب من التجارة وترك الحانوت بقية عمره توبة واستغفاراً من قوله الحمد لله.
فإذا تأملت هذه الحكايات عرفت قطعاً أن الرضا بما يخالف الهوى ليس مستحيلاً بل هو مقام عظيم من مقامات أهل الدين. ومهما كان ذلك ممكناً في حب الخلق وحظوظهم كان ممكناً في حق حب الله تعالى وحظوظ الآخرة قطعاً. وإمكانه من وجهين: أحدهما الرضا بالألم لما يتوقع من الثواب الموجود كالرضا بالفصد والحجامة وشرب الدواء انتظاراً للشفاء.
والثاني الرضا به لا لحظ وراءه بل لكونه مراد المحبوب ورضا له، فقد يغلب الحب بحيث ينغمر مراد الحب في مراد المحبوب، فيكون ألذ الأشياء عنده سرور قلب محبوبه ورضاه ونفوذ إرادته ولو في هلاك روحه. كما قيل: فما الجرح إذا أرضاكم ألم
وهذا ممكن مع الإحساس بالألم، وقد يستولي الحب بحيث يدهش عن إدراك الألم، فالقياس والتجربة والمشاهدة دالة على وجوده، فلا ينبغي أن ينكره من فقده من نفسه! لأنه إنما فقده لفقد سببه وهو فرط حبه، ومن لم يذق طعم الحب لم يعرف عجائبه فللمحبين عجائب أعظم مما وصفناه.
وقد روي عن عمر بن الحارث الرافعي قال: كنت في مجلس بالرقة عند صديق لي، وكان معنا فتى يتعشق جارية مغنية، وكانت معنا في المجلس فضربت بالقضيب وغنت: علامة ذل الهـوى على العاشقين البكا
ولا سيما عـاشـق إذا لم يجد مشتكى
فقال لها الفتى: أحسنت والله يا سيدتي أفتأذنين لي أن أموت! فقالت: مت راشداً! قال: فوضع رأسه على الوسادة وأطبق فمه وغمض عينيه، فحركناه فإذا هو ميت.
وقال الجنيد: رأيت رجلاً متعلقاً بكم صبي وهو يتضرع إليه ويظهر له المحبة، فالتفت إليه الصبي وقال له: إلى متى ذا النفاق الذي تظهر لي؟ فقال: قد علم الله أني صادق فيما أورده، حتى لو قلت لي مت لمت، فقال: إن كنت صادقاً فمت، قال: فتنحى الرجل وغمض عينيه فوجد ميتاً.
وقال سمنون المحب: كان في جيراننا رجل وله جارية يحبها غاية الحب، فاعتلت الجارية فجلس الرجل ليصلح لها حيساً، فبينما هو يحرك القدر إذ قالت الجارية آه! قال: فدهش الرجل وسقطت الملعقة من يده وجعل يحرك ما في القدر بيده حتى سقطت أصابعه! فقالت الجارية: ما هذا؟ قال: هذا مكان قولك آه.
وحكي عن محمد بن عبد الله البغدادي قال: رأيت بالبصرة شاباً على سطح مرتفع وقد أشرف على الناس وهو يقول: من مات عشقاً فليمت هكذا لا خير في عشق بلا موت!
ثم رمى بنفسه الأرض، فحملوه ميتاً. فهذا وأمثاله قد يصدق به في حب المخلوق والتصديق به في حب الخالق أولى، لأن البصيرة الباطنة أصدق من البصر الظاهر، وجمال الحضرة الربانية أوفى من كل جمال، بل كل جمال في العالم فهو حسنة من حسنات ذلك الجمال. نعم الذي فقد البصر ينكر جمال الصور، والذي فقد السمع ينكر لذة الألحان والنغمات الموزونة، فالذي فقد القلب لا بد وأن ينكر أيضاً هذه اللذات التي لا مظنة لها سوى القلب.

[align=center]بيان أن الدعاء غير مناقض للرضا[/align]

ولا يخرج صاحبه عن مقام الرضا، وكذلك كراهة المعاصي ومقت أهلها ومقت أسبابها والسعي في إزالتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يناقضه أيضاً. وقد غلط في ذلك بعض البطالين المغترين وزعم أن المعاصي والفجور والكفر من قضاء الله وقدره عز وجل فيجب الرضا به، وهذا جهل بالتأويل وغفلة عن أسرار الشرع.
فأما الدعاء فقد تعبدنا به، وكثرت دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام - على ما نقلناه في كتاب الدعوات - تدل عليه. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى المقامات من الرضا. وقد أثنى الله تعالى على بعض عباده بقوله "ويدعوننا رغباً رهباً " وأما إنكار المعاصي وكراهتها وعدم الرضا بها فقد تعبد الله به عباده وذمهم على الرضا به فقال: " ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها "، وقال تعالى: " رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم ".
وفي الخبر المشهور " من شهد منكراً فرضي به فكأنه قد فعله ".
وفي الحديث " الدال على الشر كفاعله".
وعن ابن مسعود: إن العبد ليغيب عن المنكر ويكون عليه مثل وزر صاحبه وقيل: وكيف ذلك؟ قال: يبلغه فيرضى به.
وفي الخبر " لو أن عبداً قتل بالمشرق ورضي بقتله آخر بالمغرب كان شريكاً في قتله".
وقد أمر الله تعالى بالحسد والمنافسة في الخيرات وتوقي الشرور فقال تعالى: " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ".
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله حكمة فهو يبثها في الناس ويعلمها ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق". وفي لفظ آخر " ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار فيقول الرجل لو آتاني الله مثل هذا لفعلت مثل ما يفعل".
وأما بغض الكفار والإنكار عليهم ومقتهم فما ورد فيه من شواهد القرآن والأخبار لا يحصى مثل قوله تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ".
وقال تعالى: " يا أيها الذي آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ".
وقال تعالى: " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً ".
وفي الخبر: " إن الله تعالى أخذ الميثاق على كل مؤمن أن يبغض كل منافق وعلى كل منافق أن يبغض كل مؤمن".
وقال عليه السلام: " المرء مع من أحب" وقال: " من أحب قوماً ووالاهم حشر معهم يوم القيامة".
وقال عليه السلام: " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله". وشواهد هذا قد ذكرناها في بيان الحب والبغض في الله تعالى من كتاب آداب الصحبة، وفي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلا نعيده.
فإن قلت: فقد وردت الآيات والأخبار بالرضا بقضاء الله تعالىفإن كانت المعاصي بغير قضاء الله تعالى فهو محال وهو قادح في التوحيد، وإن كانت بقضاء الله تعالى فكراهتها ومقتها كراهة لقضاء الله تعالى، وكيف السبيل إلى الجمع وهو متناقض على هذا الوجه وكيف يمكن الجمع بين الرضا والكراهة في شيء واحد؟ فاعلم أن هذا مما يلتبس على الضعفاء القاصرين عن الوقوف على أسرار العلوم، وقد التبس على قوم حتى رأوا السكوت عن المنكر مقاماً من مقامات الرضا وسموه حسن الخلق وهو جهل محض، بل نقول الرضا والكراهة يتضادان إذا تواردا على شيء واحد من جهة واحدة على وجه واحد، فليس من التضاد في شيء واحد أن يكرهه من وجه ويرضى به من وجه؛ إذ قد يموت عدوك الذي هو أيضاً عدو بعض أعدائك وساع في إهلاكه، فتكره موته من حيث إنه مات عدو عدوك وترضاه من حيث إنه مات عدوك. وكذلك المعصية لها وجهان وجه إلى الله تعالى من حيث إنه فعله واختياره وإرادته، فيرضى به من هذا الوجه تسليماً لذلك للملك إلى مالك الملك ورضا بما يفعله فيه، ووجه إلى العبد من حيث إنه كسبه ووصفه وعلامة كونه ممقوتاً عند الله وبغيضاً عنده حيث سلط عليه أسباب البعد والمقت، فهو من هذا الوجه منكر ومذموم. ولا ينكشف هذا لك إلا بمثال:
فلنفرض محبوباً من الخلق قال بين يدي محبيه: إني أريد أن أميز بين من يحبني ويبغضني، وأنصب فيه معياراً صاجقاً وميزناً ناطقاً وهو أني أقصد إلى فلان فأؤذيه وأضربه ضرباً يضطره ذلك إلى الشتم لي. حتى إذا شتمني أبغضته واتخذته عدواً لي، فكل من أحبه أعلم أيضاً أنه عدوي، وكل من أبغضه أعلم أنه صديقي ومحبي. ثم فعل ذلك وحصل مراده من الشتم الذي هو سبب البغض وحصل البغض الذي هو سبب العداوة. فحق على كل من هو صادق في محبته وعالم بشروط المحبة أن يقول: أما تدبيرك في إيذاء هذا الشخص وضربه وإبعاده وتعريضك إياه للبغض والعداوة - فأنا محب له وراض به فإنه رأيك وتدبيرك وفعلك وإرادتك! وأما شتمه إياك فإنه عدوان من جهته إذ كان حقه أن يصبر ولا يشتم، ولكنه كان مرادك منه؛ فإنك قصدت بضربه استنطاقه بالشتم الموجب للمقت، فهو من حيث إنه حصل على وفق مرادك وتدبيرك الذي دبرته فأنا راض به، ولو لم يحصل لكان ذلك نقصاناً في تدبيرك وتعويقاً في مرادك، وأنا كاره لفوات مرادك، ولكنه من حيث إنه وصف لهذا الشخص وكسب له وعدوان وتهجم منه عليك على خلاف ما يقتضيه جمالك إذ كان ذلك يقتضي أن يحتمل منك الضرب ولا يقابل بالشتم، فأنا كاره له من حيث نسبته إليه ومن حيث هو وصف له لا من حيث هو مرادك ومقتضى تدبيرك وأما بغضك له بسبب شتمك فأنا راض به ومحب له لأنه مرادك وأنا على موافقتك أيضاً مبغض له، لأن شرط المحب أن يكون لحبيب المحبوب حبيباً ولعدوه عدواً. وأما بغضه لك فإني أرضاه من حيث إنك أردت أن يبغضك إذ أبعدته عن نفسك وسلطت عليه دواعي البغض، ولكني أبغضه من حيث إنه وصف ذلك المبغض وكسبه وفعله وأمقته لذلك، فهو ممقوت عندي لمقته إياك، وبغضه ومقته لك أيضاً عندي مكروه من حيث أنه وصفه وكل ذلك من حيث إنه مرادك فهو مرضي. وإنما التناقض أن يقول: هو من حيث إنه مرادك مرضي ومن حيث إنه مرادك مكروه، وأما إذا كان مكروهاً لا من حيث إنه فعله ومراده بل من حيث إنه وصف غيره وكسبه فهذا لا تناقض فيه، ويشهد لذلك كل ما يكره من وجه ويرضى به من وجه، ونظائر ذلك لا تحصى.
فإذن تسليط الله دواعي الشهوة والمعصية عليه حتى يجره ذلك إلى حب المعصية ويجره الحب إلى فعل المعصية يضاهي ضرب المحبوب للشخص الذي ضربناه مثلاً، ليجره الضرب إلى الغضب والغضب إلى الشتم. ومقت الله تعالى لمن عصاه وإن كانت معصيته بتدبيره، يشبه بغض المشتوم لمن شتمه وإن كان شتمه إنما يحصل بتدبيره واختياره لأسبابه وفعل الله تعالى ذلك بكل عبد من عبيده - أعني تسليط دواعي المعصية عليه - يدل على أنه سبقت مشيئته بإبعاده ومقته. فواجب على كل عبد محب لله أن يبغض من أبغضه الله ويمقت من مقته الله ويعادي من أبعده الله عن حضرته - وإن اضطره بقهره وقدرته إلى معاداته ومخالفته - فإنه بعيد مطرود ملعون عن الحضرة، وإن كان بعيداً بإبعاده قهراً ومطروداً بطرده واضطراره. والمبعد عن درجات القرب ينبغي أن يكون مقيتاً بغيضاً إلى جميع المحبين - موافقة للمحبوب بإظهار الغضب على من أظهر المحبوب الغضب عليه بإبعاده.
بهذا يتقرر جميع ما وردت به الأخبار من البغض في الله والحب في الله والتشديد على الكفار والتغليظ عليهم والمبالغة في مقتهم مع الرضا بقضاء الله تعالى من حيث إنه قضاء الله عز وجل. وهذا كله يستمد من سر القدر - الذي لا رخصة في إفشاءه - وهو أن الشر والخير كلاهما داخلان في المشيئة والإرادة، ولكن الشر مراد مكروه والخير مراد مرضي به. فمن قال: ليس الشر من الله، فهو جاهل وكذا من قال: إنهما جميعاً منه - من غير افتراق في الرضا والكراهة - فهو أيضاً مقصر. وكشف الغطاء عنه غير مأذون فيه؛ فالأولى السكوت والتأدب بأدب الشرع فقد قال صلى الله عليه وسلم: " القدر سر الله فلا تفشوه" وذلك يتعلق بعلم المكاشفة. وغرضنا الآن بيان الإمكان فيما تعبد به الخلق من الجمع بين الرضا بقضاء الله تعالى ومقت المعاصي مع أنها من قضاء الله تعالى، وقد ظهر الغرض من غير حاجة إلى كشف السر فيه.
وبهذا يعرف أيضاً أن الدعاء بالمغفرة والعصمة من المعاصي وسائر الأسباب المعينة على الدين غير مناقض للرضا بقضاء الله تعالى، فإن الله تعبد العباد بالدعاء ليستخرج الدعاء منهم صفاء الذكر وخشوع القلب ورقة التضرع، ويكون ذلك جلاء للقلب ومفتاحاً للكشف وسبباً لتواتر مزايا اللطف. كما أن حمل الكوز وشرب الماء ليس مناقضاً للرضا بقضاء الله تعالى في العطش، وشرب الماء طلباً لإزالة العطش مباشرة سبب رتبه مسبب الأسباب فكذلك الدعاء سبب رتبه الله تعالى وأمر به. وقد ذكرنا أن التمسك بالأسباب جرياً على سنة الله تعالى لا يناقض التوكل - واستقصيناه في كتاب التوكل - فهو أيضاً لا يناقض الرضا لأن الرضا ملاصق للتوكل ويتصل به نعم إظهار البلاء في معرض الشكوى، وإنكاره بالقلب على الله تعالى مناقض للرضا، وإظهار البلاء على سبيل الشكر والكشف عن قدرة الله تعالى لا يناقض. وقد قال بعض السلف: من حسن الرضا بقضاء الله تعالى أن لا يقول هذا يوم حار، أي في معرض الشكاية، وذلك في الصيف فأما الشتاء فهو شكر، والشكوى تناقض الرضا بكل حال وذم الأطعمة وعيبها يناقض الرضا بقضاء الله تعالى لأن مذمة الصنعة مذمة للصانع، والكل من صنع الله تعالى. وقول القائل: الفقر بلاء ومحنة والعيال هم وتعب والاحتراف كد ومشقة، كل ذلك قادح في الرضا، بل ينبغي أن يسلم التدبير لمدبره والمملكة لمالكها ويقول ما قاله عمر رضي الله عنه: لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيراً فإني لا أدري أيهما خير لي.

[align=center]بيان أن الفرار من البلاد التي هي مظان المعاصي
ومذمتها لا يقدح في الرضا [/align]


اعلم أن الضعيف قد يظن أن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخروج من بلد ظهر به الطاعونيدل على النهي عن الخروج من بلد ظهرت فيه المعاصي، لأن كل واحد منهما فرار من قضاء الله تعالى وذلك محال؛ بل العلة في النهي عن مفارقة البلد بعد ظهور الطاعون أنه لو فتح هذا الباب لارتحل عنه الأصحاء وبقي فيه المرضى مهملين لا متعهد لهم فيهلكون هزالاً وضراً، ولذلك شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأخبار بالفرار من الزحفولو كان ذلك للفرار من القضاء لما أذن لمن قارب البلدة في الانصراف - وقد ذكرنا حكم ذلك في كتاب التوكل - وإذا عرف المعنى ظهر أن الفرار من البلاد التي هي مظان المعاصي ليس فراراً من القضاء بل من القضاء الفرار مما لا بد من الفرار منه. وكذلك مذمة المواضع التي تدعو إلى المعاصي والأسباب التي تدعو إليها - لأجل التنفير عن المعصية - ليست مذمومة. فما زال السلف الصالح يعتادون ذلك حتى اتفق جماعة على ذم بغداد وإظهارهم ذلك وطلب الفرار منها، فقال ابن المبارك: قد طفت الشرق والغرب فما رأيت بلداً شراً من بغداد! قيل: وكيف؟ قال: هو بلد تزدري فيه نعمة الله وتستصغر فيه معصية الله. ولما قدم خراسان قيل له: كيف رأيت بغداد؟ قال: ما رأيت بها إلا شرطياً غضبان أو تاجراً لهفان أو قارئاً حيران! ولا ينبغي أن تظن أن ذلك من الغيبة؛ لأنه لم يتعرض لشخص بعينه حتى يستضر ذلك الشخص به وإنما قصد بذلك تحذير الناس وكان يخرج إلى مكة -وقد كان مقامه ببغداد - يرقب استعداداً القافلة ستة عشر يوماً، فكان يتصدق بستة عشر دينار لكل يوم دينار كفارة مقامه. وقد ذم العراق جماعة: كعمر بن عبد العزيز وكعب الأحبار.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما لمولى له: أين تسكن؟ فقال: العراق، قال: فما تصنع به؟ بلغني أن ما من أحد يسكن العراق إلا قيض الله قريناً من البلاء.
وذكر كعب الأحبار يوماً العراق فقال: فيه تسعة أعشار الشر وفيه الداء العضال.
وقد قيل: قسم الخير عشرة أجزاء؛ فتسعة أعشاره بالشام وعشره بالعراق. وقسم الشر عشر أقسام؛ على العكس من ذلك.
وقال بعض أصحاب الحديث: كنا يوماً عند الفضيل بن عياض فجاءه صوفي متدرع بعباءة، فأجلسه إلى جانبه وأقبل عليه ثم قال: أين تسكن؟ فقال: بغداد، فأعرض عنه وقال: يأتينا أحدهم في زي الرهبان فإذا سألناه أين تسكن قال في عش الظلمة؟.
وكان بشر بن الحارث يقول: مثال المتعبد ببغداد مثال المتعبد في الحش. وكان يقول: لا تقتدوا بي في المقام بها! من أراد أن يخرج فليخرج
وكان أحمد بن حنبل يقول: لولا تعلق هؤلاء الصبيان بنا كان الخروج من هذا البلد آثر في نفسي! قيل: وأين تختار السكنى؟ قال: بالثغور.
وقال بعضهم وقد سئل عن أهل بغداد: زاهدهم زاهد وشريرهم شرير.
فهذا يدل على أن من بلي ببلدة تكثر فيها المعاصي ويقل فيها الخير فلا عذر له في المقام بها، بل ينبغي أن يهاجر قال الله تعالى " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " فإن منعه عن ذلك عيال أو علاقة فلا ينبغي أن يكون راضياً بحاله مطمئن النفس إليه، بل ينبغي أن يكون منزعج القلب منها قائلاً على الدوام " ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها " وذلك لأن الظلم إذا عم نزل البلاء ودمر الجميع وشمل المطيعين، قال الله تعالى: " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " فإذن ليس في شيء من أسباب نقص الدين البتة رضاً مطلق إلا من حيث إضافتها إلى فعل الله تعالى، فأما هي في نفسها فلا وجه للرضا بها بحال.
وقد اختلف العلماء في الأفضل من أهل المقامات الثلاث: رجل يحب الموت شوقاً إلى لقاء الله تعالى، ورجل يحب البقاء لخدمة المولى، ورجل قال لا أختار شيئاً بل أرضى بما اختاره الله تعالى؛ ورفعت هذه المسألة إلى بعض العارفين فقال: صاحب الرضا أفضلهم لأنه أقلهم فضولاً.
واجتمع ذات يوم وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط، فقال الثوري: كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم، واليوم وددت أني مت، فقال له يوسف: لم؟ قال: لما أتخوف من الفتنة، فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء، فقال سفيان: لم؟ قال: لعلي أصادف يوماً أتوب فيه وأعمل صالحاً، فقيل لوهيب: إيش تقول أنت؟ فقال: أنا لا أختار شيئاً، أحب ذلك إلي أحبه إلى الله سبحانه تعالى، فقبله الثوري بين عينيه وقال: روحانية ورب الكعبة.

[align=center]بيان جملة من حكايات المحبين وأقوالهم ومكاشفاتهم[/align]

قيل لبعض العارفين إنك محب فقال: لست محباً إنما أنا محبوب والمحب متعوب. وقيل له أيضاً: الناس يقولون إنك واحد من السبعة؟ فقال: أنا كل السبعة. وكان يقول: إذا رأيتموني فقد رأيتم أربعين بدلاً، قيل: وكيف وأنت شخص واحد؟ قال: لأني رأيت أربعين بدلاً وأخذت من كل بدل خلقاً من أخلاقه. وقيل له: بلغنا أنك ترى الخضر عليه السلام؟ فتبسم وقال: ليس العجب ممن يرى الخضر ولكن العجب ممن يريد الخضر أن يراه فيحتجب عنه! وحكي عن الخضر عليه السلام أنه قال: ما حدثت نفسي يوماً قط أنه لم يبق ولي لله تعالى إلا عرفته إلا ورأيت في ذلك اليوم ولياً لم أعرفه.
وقيل لأبي يزيد البسطامي مرة: حدثنا عن مشاهدتك من الله تعالى، فصاح ثم قال: ويلكم لا يصلح لكم أن تعلموا ذلك! قيل: فحدثنا بأشد مجاهدتك لنفسك في الله تعالى، فقال: وهذا أيضاً لا يجوز أن أطلعكم عليه، قيل: فحدثنا عن رياضة نفسك في بدايتك، فقال: نعم، دعوت نفسي إلى الله فجمحت علي فعزمت عليها أن لا أشرب الماء سنة ولا أذوق النوم سنة فوفت لي بذلك.
ويحكى عن يحيى بن معاذ أنه رأى أبا يزيد - في بعض مشاهداته من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر - مستوفزاً على صدور قدميه رافعاً أخمصيه مع عقبيه عن الأرض ضارباً بذقنه على صدره شاخصاً بعينيه لا يطرف، قال: ثم سجد عند السحر فأطاله ثم قعد فقال: اللهم إن قوماً طلبوك فأعطيتهم المشي على الماء والمشي في الهواء فرضوا بذلك، وإني أعوذ بك من ذلك، وإن قوماً طلبوك فأعطيتهم طي الأرض فرضوا بذلك وإني أعوذ بك من ذلك، وإن قوماً طلبوك فأعطيتهم كنوز الأرض فرضوا بذلك وإني أعوذ بك من ذلك، حتى عد نيفاً وعشرين مقاماً من كرامات الأولياء، ثم التفت فرآني فقال: يحيى! قلت: نعم يا سيدي، فقال: مذ متى أنت ههنا؟ قلت: منذ حين، فسكت، فقلت: يا سيدي حدثني بشيء فقال: أحدثك بما يصلح لك، أدخلني في الفلك الأسفل فدورني في الملكوت السفلى وأراني الأرضين وما تحتها إلى الثرى، ثم أدخلني في الفلك العلوي بي في السموات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش، أوقفني بين يديه فقال: سلني أي شيء رأيت حتى أهبه لك؟ فقلت: يا سيدي ما رأيت شيئاً استحسنته فأسألك إياه! فقال: أنت عبدي حقاً تعبدني لأجلي صدقاً لأفعلن بك ولأفعلن فذكر أشياء. قال يحيى: فهالني ذلك وامتلأت به وعجبت منه فقلت: يا سيدي لم لا سألته المعرفة به؟ وقد قال لك ملك الملوك: سلني ما شئت، قال: فصاح بي صيحة وقال: اسكت ويلك! غرت عليه مني حتى لا أحب أن يعرفه سواه.
وحكي أن أبا تراب التخشبي كان معجباً ببعض المريدين فكان يدنيه ويقوم بمصالحه والمريد مشغول بعبادته ومواجدته فقال له أبو تراب يوماً: لو رأيت أبا يزيد؟ فقال: إني عنه مشغول، فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله: لو رأيت أبا يزيد، هاج وجد المريد فقال: ويحك ما أصنع بأبي يزيد قد رأيت الله تعالى فأغناني عن أبي يزيد؟ قال أبو تراب: فهاج طبعي ولم أملك نفسي، فقلت: ويلك تغتر بالله عز وجل لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة! قال: فبهت الفتى من قوله وأنكره فقال: وكيف ذلك؟ قال له: ويلك أما ترى الله تعالى عندك فيظهر لك على مقدارك وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره؟ فعرف ما قلت، فقال: احملني إليه، فذكر قصة قال في آخرها: فوقفنا على تل ننتظره ليخرج إلينا من الغيضة - وكان يأوي إلى غيضة فيها سباع - قال: فمر بنا وقد قلب فروة على ظهره فقلت للفتى:هذا أبو يزيد فانظر إليه! فنظر إليه الفتى فصعق، فحركناه فإذا هو ميت، فتعاونا على دفنه فقلت لأبي يزيد: يا سيدي نظره إليك قتله، قال: لا ولكن كان صاحبكم صادقاً واستكن في قلبه سر لم ينكشف له بوصفه، فلما رآنا انكشف له سر قلبه فضاق عن حمله، لأنه في مقام الضعفاء المريدين، فقتله ذلك.
ولما دخل الزنج البصرة فقتلوا الأنفس ونهبوا الأموال اجتمع إلى سهل إخوانه فقالوا: لو سألت الله تعالى دفعهم؟ فسكت ثم قال: إن لله عباداً في هذه البلدة لو دعوا على الظالمين لم يصبح على وجه الأرض ظالم إلا مات في ليلة واحدة؛ ولكن لا يفعلون، قيل: لم؟ قال: لأنهم لا يحبون ما لا يحب، ثم ذكر من إجابة الله تعالى أشياء لا يستطاع ذكرها، حتى قال: ولو سألوه أن لا يقيم الساعة لم يقمها. وهذه أمور ممكنة في أنفسها فمن لم يحظ بشيء منها، فلا ينبغي أن يخلو عن التصديق والإيمان بإمكانها، فإن القدرة واسعة والفضل عميم وعجائب الملك والملكوت كثيرة، ومقدورات الله تعالى لا نهاية لها وفضله على عباده الذين اصطفى لا غاية له. ولذلك كان أبو يزيد يقول: إن أعطاك مناجاة موسى وروحانية عيسى وخلة إبراهيم فاطلب ما وراء ذلك، فإن عنده فوق ذلك أضعافاً مضاعفة، فإن سكت إلى ذلك حجبك به، وهذا بلاء مثلهم ومن هو في مثل حالهم لأنهم الأمثل فالأمثل.
وقد قال بعض العارفين: كوشفت بأربعين حوراء رأيتهن يتساعين في الهواء، عليهن ثياب من ذهب وفضة وجوهر يتخشخش ويتثنى معهن فنظرت إليهن نظرة فعوقبت أربعين يوماً، ثم كوشفت بعد ذلك بثمانين حوراء فوقهن في الحسن والجمال، وقيل لي: انظر إليهن، قال: فسجدت وغمضت عيني في سجودي لئلا أنظر إليهن وقلت: أعوذ بك مما سواك! لا حاجة لي بهذا، فلم أزل أتضرع حتى صرفهن الله عني.
فأمثال هذه المكاشفات لا ينبغي أن ينكرها المؤمن لإفلاسه عن مثلها، فلو لم يؤمن كل واحد إلا بما يشاهده من نفسه المظلمة وقلبه القاسي لضاق مجال الإيمان عليه، بل هذه أحوال تظهر بعد مجاوزة عقبات ونيل ومقامات كثيرة أدناها الإخلاص وإخراج حظوظ النفس وملاحظة الخلق عن جميع الأعمال ظاهراً وباطناً، ثم مكاتمة ذلك عن الخلق بستر الحال حتى يبقى متحصناً بحصن الخمول: فهذه أوائل سلوكهم وأقل مقاماتهم وهي أعز موجود في الأتقياء من الناس. وبعد تصفية القلب عن كدورة الالتفات إلى الخلق يفيض عليه نور اليقين وينكشف له مبادي الحق، وإنكار ذلك دون التجربة وسلوك الطريق يجري مجرى إنكار من أنكر إمكان انكشاف الصورة في الحديدة إذا شكلت ونقيت وصقلت وصورت بصورة المرأة، فنظر المنكر إلى ما في يده من زبرة حديد مظلم قد استولى عليه الصدأ والخبث وهو لا يحكي صورة من الصور فأنكر إمكان انكشاف المرئي فيها عند ظهور جوهرة، وإنكار ذلك غاية الجهل والضلال.
فهذا حكم كل من أنكر كرامات الأولياء إذ لا مستند له إلا قصوره عن ذلك وقصور من رآه، وبئس المستند ذلك في إنكار قدرة الله تعالى، بل إنما روائح المكاشفة من سلك شيئاً ولو من مبادي الطريق، كما قيل لبشر: بأي شيء بلغت هذه المنزلة؟ قال: كنت أكاتم الله تعالى حالي. معناه: أسأله أن يكتم على ويخفي أمري. وروي أنه رأى الخضر عليه السلام فقال له: ادع الله تعالى لي، فقال: يسر الله عليك طاعته، قلت: زدني، قال: وسترها عليك. فقيل: معناه سترها عن الخلق، وقيل: معناه سترها عنك حتى لا تلتفت أنت إليها، وعن بعضهم أنه قال: أقلقني الشوق إلى الخضر عليه السلام فسألت الله تعالى مرة أن يريني إياه ليعلمني شيئاً كان أهم الأشياء علي، قال: فرأيته فما غلب علي همي ولا همتي إلا أن قلت له: يا أبا العباس علمني شيئاً إذا قلته حجبت عن قلوب الخليقة فلم يكن لي فيها قدر ولا يعرفني أحد بصلاح ولا ديانة، فقال: قل اللهم أسبل علي كثيف سترك وحط علي سرادقات حجبك واجعلني في مكنون غيبك واحجبني عن قلوب خلقك، قال: ثم غاب فلم أره ولم أشتق إليه بعد ذلك، فما زلت أقول هذه الكلمات في كل يوم، فحكي أنه صار بحيث كان يستذل ويمتهن - حتى كان أهل الذمة يسخرون به ويستسخرونه في الطرق يحمل الأشياء لهم لسقوطه عندهم وكان الصبيان يلعبون به - فكانت راحته ركود قلبه، واستقامة حاله في ذله وخموله، فهكذا حال أولياء الله تعالى، ففي أمثال هؤلاء ينبغي أن يطلبوا، والمغرورين إنما يطلبونهم تحت المرقعات والطيالسة وفي المشهورين بين الخلق بالعلم والورع والرياسة. وغيرة الله تعالى على أوليائه تأبى إلا إخفاءهم كما قال تعالى: أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري.
وقال صلى الله عليه وسلم: " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره".
وبالجملة فأبعد القلوب عن مشام هذه المعاني القلوب المتكبرة المعجبة بأنفسها المستبشرة بعملها وعلمها. وأقرب القلوب إليها القلوب المنكسرة المستشعرة ذل أنفسها استشعاراً إذا ذل واهتضم لم يحس بالذل، كما لا يحس العبد بالذل مهما ترفع عليه مولاه، فإذا لم يحس بالذل ولم يشعر أيضاً بعدم التفاته إلى الذل، بل كان عند نفسه أخس منزلة من أن يرى جميع أنواع الذل ذلاً في حقه بل يرى نفسه دون ذلك، حتى صار التواضع بالطبع صفة ذاته. فمثل هذا القلب يرجى له أن يستنشق مبادئ هذه الروائح، فإن فقدنا مثل هذا القلب وحرمنا مثل هذا الروح فلا ينبغي أن يطرح الإيمان بإمكان ذلك لأهله، فمن لا يقدر أن يكون من أولياء الله فليكن محباً لأولياء الله مؤمناً بهم فعسى أن يحشر مع من أحب، ويشهد لهذا ما روي أن عيسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: أين ينبت الزرع؟ قالوا: في التراب، فقال: بحق أقول لكم لا تنبت الحكمة إلا في قلب مثل التراب. ولقد انتهى المريدون لولاية الله تعالى في طلب شروطها بإذلال النفس إلى منتهى الضعة والخسة، حتى روي أن ابن الكريبي وهو أستاذ الجنيد دعاه رجل إلى طعام ثلاث مرات، ثم كان يرده ثم يستدعيه فيرجع إليه بعد ذلك حتى أدخله في المرة الرابعة، فسأله عن ذلك، فقال: قد رضيت نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد ثم يدعى فيرمى له عظم فيعود، ولو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت. وعنه أنه قال: نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح، فتشتت علي قلبي، فدخلت الحمام وعدلت إلى ثياب فاخرة فسرقتها ولبستها ثم لبست مرقعتي فوقها وخرجت، وجعلت أمشي قليلاً قليلاً، فلحقوني فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني وأوجعوني ضرباً، فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام فسكنت نفسي.
فهكذا كانوا يروضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق ثم من النظر إلى النفس، فإن الملتفت إلى نفسه محجوب عن الله تعالى وشغله بنفسه حجاب له، فليس بين القلب وبين الله حجاب بعد وتخلل حائل، وإنما بعد القلوب شغلها بغيره أو بنفسها وأعظم الحجب شغل النفس. ولذلك حكي أن شاهداً عظيم القدر من أعيان أهل بسطام كان لا يفارق مجلس أبي يزيد، فقال له يوماً: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر لا أفطر وأقوم الليل لا أنام ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئاً وأنا أصدق به وأحبه، فقال أبو يزيد: ولو صمت ثلثمائة سنة وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة! قال: ولم؟ قال: لأنك محجوب بنفسك، قال: فلهذا دواء؟ قال: نعم، قال: قل لي حتى أعمله، قال: لا تقبله، قال: فاذكره لي حتى أعمل، قال: اذهب الساعة إلى المزين فاحلق رأسك ولحيتك وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً، واجمع الصبيان حولك وقل: كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل السوق وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك، فقال الرجل: سبحان الله! تقول لي مثل هذا! فقال أبو زيد: قولك " سبحان الله " شرك، قال: وكيف؟ قال: لأنك عظمتك نفسك فسبحتها وما سبحت ربك! فقال: هذا لا أفعله ولكن دلني على غيره! فقال: ابتدئ بهذا قبل كل شيء. فقال: لا أطيقه، قال: قد قلت لك إنك لا تقبل؟. فهذا الذي ذكره أبو يزيد هو دواء من اعتل بنظره إلى نفسه ومرض بنظر الناس إليه، ولا ينجي من هذا المرض دواء سوى هذا وأمثاله، فمن لا يطيق الدواء فلا ينبغي أن ينكر إمكان الشفاء في حق من داوى نفسه بعد المرض أو لم يمرض بمثل هذا المرض أصلاً، فأقل درجات الصحة الإيمان بإمكانها، فويل لمن حرم هذا القدر القليل أيضاً.
وهذه أمور جلية في الشرع واضحة وهي مع ذلك مستبعدة عند من يعد نفسه من علماء الشرع فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يستكمل العبد الإيمان حتى تكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته وحتى يكون أن لا يعرف أحب من أن يعرف".
وقد قال عليه السلام: " ثلاث من كن فيه استكمل إيمانه: لا يخاف في الله لومة لائم ولا يرائي بشيء من عمله وإذا عرض عليه أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة آثر أمر الآخرة على الدنيا".
وقال عليه السلام: " لا يكمل إيمان عبد حتى يكون فيه ثلاث خصال: إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له".
وفي حديث آخر " ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود: العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وخشية الله في السر والعلانية" فهذه شروط ذكرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأولى الإيمان فالعجب ممن يدعي علم الدين ولا يصادف في نفسه ذرة من هذه الشروط ثم يكون نصيبه من علمه وعقله أن يجحد ما لا يكون إلا بعد مجاوزة مقامات عظيمة علية وراء الإيمان؛ وفي الأخبار أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: إنما اتخذ لخلتي من لا يفتر عن ذكري ولا يكون له هم غيري ولا يؤثر علي شيئاً من خلقي وإن حرق بالنار لم يجد لحرق النار وجعاً وإن قطع بالمناشير لم يجد لمس الحديد ألماً. فمن لم يبلغ إلى أن يغلبه الحب إلى هذا الحد فمن أين يعرف ما وراء الحب من الكرامات والمكاشفات؟ وكل ذلك وراء الحب والحب وراء كمال الإيمان، ومقامات الإيمان وتفاوته في الزيادة والنقصان لا حصر له. ولذلك قال عليه السلام للصديق رضي الله تعالى عنه: " إن الله تعالى قد أعطاك مثل إيمان كل من آمن بي من أمتي وأعطاني مثل إيمان كل من آمن به من ولد آدم".
وفي حديث آخر: " إن لله تعالى ثلثمائة خلق من لقيه بخلق منها مع التوحيد دخل الجنة "، فقال أبو بكر: يا رسول الله هل فيّ منها خلق، فقال: " كلها فيك يا أبا بكر وحبها إلى الله تعالى السخاء".
وقال عليه السلام: " رأيت ميزاناً دلي من السماء فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة فرجحت بهم، ووضع أبو بكر في كفة وجيء بأمتي فوضعت في كفة فرجحت بهم". ومع هذا كله فقد كان استغراق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله تعالى بحيث لم يتسع قلبه للخلة مع غيره فقال: " لو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله تعالى" يعني نفسه.

[align=center]خاتمة الكتاب بكلمات متفرقة تتعلق بالمحبة
ينتفع بها [/align]


قال سفيان:

[align=center]المحبة إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.[/align]

وقال غيره: دوام الذكر، وقال غيره: إيثار المحبوب. وقال بعضهم: كراهية البقاء في الدنيا. وهذا كله إشارة إلى ثمرات المحبة فأما نفس المحبة فلم يتعرضوا لها.

وقال بعضهم:

[align=center] المحبة معنى من المحبوب قاهر للقلوب عن إدراكه وتمتنع الألسن عن عبارته.[/align]

وقال الجنيد:

[align=center]حرم الله تعالى المحبة على صاحب العلاقة. وقال: كل محبة تكون بعوض فإذا زال العوض زالت المحبة[/align].

وقال ذو النون:

[align=center]قل لمن أظهر حب الله احذر أن تذل لغير الله.[/align]

وقيل للشبلي رحمه الله: صف لنا العارف والمحب؟ فقال:

[align=center]العارف إن تكلم هلك، والمحب إن سكت هلك.[/align]

وقال الشبلي رحمه الله:

[align=center] يا أيها السـيد الـكـريم حبك بين الحشا مـقـيم
يا رافع النوم عن جفوني أنت بما مر بي علـيم [/align]


ولغيره:

[align=center]عجبت يقول ذكـرت إلـفـي وهل أنسى فأذكر ما نسـيت
أموت إذا ذكـرت ثـم أحـيا ولولا حسن ظني مـا حـييت
فأحيا بالمنى وأمـوت شـوقـاً فكم أحيا عليك وكـم أمـوت
شربت الحب كأساً بعد كـأس فما نفد الشرب ومـا رويت؟
فليت خياله نصب لـعـينـي! فإن قصرت في نظري عميت [/align]


وقالت رابعة العدوية يوماً:

[align=center]من يدلنا على حبيبنا، فقال خادمة لها: حبيبنا معنا ولكن الدنيا قطعتنا عنه.[/align]

وقال ابن الجلاء رحمه الله تعالى:

[align=center]أوحى الله إلى عيسى عليه السلام: إني إذا اطلعت على سر عبد فلم أجد فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبي وتوليته بحفظي.[/align]

وقيل:

[align=center]تكلم سمنون يوماً في المحبة فإذا بطائر نزل بين يديه فلم يزل ينقر بمنقاره الأرض حتى سال الدم منه فمات.[/align]

وقال إبراهيم بن أدهم:

[align=center]إلهي إنك تلعم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة في جنب ما أكرمتني من محبتك وآنستني بذكرك وفرغتني للتفكر في عظمتك.[/align]

وقال السري رحمه الله:

[align=center]من أحب الله عاش، ومن مال إلى الدنيا طاش، والأحمق يغدو ويروح في لاش، والعاقل عن عيوبه فتاش.[/align]

وقيل لرابعة: كيف حبك للرسول صلى الله عليه وسلم؟ فقالت:

[align=center] والله إني لأحبه حباً شديداً ولكن حب الخالق شغلني عن حب المخلوقين.[/align]

وسئل عليه السلام عن أفضل الأعمال فقال:

[align=center] " الرضا عن الله تعالى والحب له ".[/align]

وقال أبو يزيد:

[align=center]المحب لا يحب الدنيا ولا الآخرة، إنما يحب من مولاه مولاه[/align].


وقال الشبلي: الحب دهش في لذة وحيرة في تعظيم.
وقيل: المحبة أن تمحو أثرك عنك حتى لا يبقى فيك شيء راجع منك إليك.
وقيل: المحبة قرب القلب من المحبوب بالاستبشار والفرح.
وقال الخواص: المحبة محو الإرادات واحتراق الصفات والحاجات.
وسئل سهل عن المحبة فقال: عطف الله بقلب عبده لمشاهدته بعد الفهم للمراد منه.
وقيل: معاملة المحب على أربع منازل؛ على المحبة والهيبة والحياء والتعظيم، وأفضلها التعظيم والمحبة لأن هاتين المنزلتين يبقيان مع أهل الجنة في الجنة ويرفع عنهم غيرهما.
وقال هرم بن حيان: المؤمن إذا عرف ربه عز وجل أحبه، وإذا أحبه أقبل عليه، وإذا وجد حلاوة الإقبال عليه لم ينظر إلى الدنيا بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة، وهي تحسره في الدنيا وتروحه في الآخرة.
وقال عبد الله بن محمد سمعت امرأة من المتعبدات تقول - وهي باكية والدموع على خدها جارية -: والله لقد سئمت من الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقاً إلى الله تعالى وحباً للقائه، قال: فقلت لها: فعلى ثقة أنت من عملك؟ قالت: لا ولكن لحبي إياه وحسن ظني به أفتراه يعذبني وأنا أحبه؟ وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي، يا داود هذه إرادتي في المدبرين علي فكيف إرادتي في المقبلين علي، يا داود أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني وأجل ما يكون عبدي إذا رجع إلي.
وقال أبو خالد الصفار: لقي نبي من الأنبياء عابداً فقال له: إنكم معاشر العباد تعملون على أمر لسنا معشر الأنبياء نعمل عليه، أنتم تعملون على الخوف والرجاء ونحن نعمل على المحبة والشوق.
وقال الشبلي رحمه الله: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود ذكري للذاكرين، وجنتي للمطيعين، وزيارتي للمشتاقين، وأنا خاصة للمحبين.
وأوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام: يا آدم من أحب حبيباً صدق قوله، من أنس بحبيبه رضي فعله ومن اشتاق إليه جد في مسيره.
وكان الخواص رحمه الله يضرب على صدره ويقول: وا شوقاه لمن يراني ولا أراه.
وقال الجنيد رحمه الله: بكى يونس عليه السلام حتى عمي، وقام حتى انحنى، وصلى حتى أقعد، وقال: وعزتك وجلالك لو كان بيني وبينك بحر من نار لخضته إليك شوقاً مني إليك.
وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سنته فقال: " المعرفة رأس مالي والعقل أصل ديني والحب أساسي والشوق مركبي وذكر الله أنيسي والثقة كنزي والحزن رفيقي والعلم سلاحي والصبر ردائي والرضا غنيمتي والعجز فخري والزهد حرفتي واليقين قوتي والصدق شفيعي والطاعة حبي والجهاد خلقي وقرة عيني في الصلاة".
وقال ذو النون: سبحان من جعل الأرواح جنود مجندة فأرواح العارفين جلالية قدسية فلذلك اشتاقوا إلى الله تعالى، وأرواح المؤمنين روحانية فلذلك حنوا إلى الجنة، وأرواح الغافلين هوائية فلذلك مالوا إلى الدنيا.
وقال بعض المشايخ: رأيت في جبل اللكام رجلاً أسمر اللون ضعيف البدن وهو يقفز من حجر إلى حجر ويقول: الشوق والـهـوى صيراني كما ترى
ويقال الشوق نار الله أشعلها في قلوب أوليائه حتى يحرق بها ما في قلوبهم من الخواطر والإرادات والعوارض والحاجات، فهذا القدر كاف في شرح المحبة والأنس والشوق والرضا، فلنقتصر عليه والله الموفق للصواب.



[align=center]تم كتاب المحبة والشوق والأنس، يتلوه كتاب النية والإخلاص والصدق.[/align]

[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء يناير 16, 2007 5:38 pm 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب النية والإخلاص والصدق
وهو الكتاب السابع من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين.

بسم الله الرحمن الرحيم
[/align]

نحمد الله حمد الشاكرين، ونؤمن به إيمان الموقنين، ونقر بوحدانيته إقرار الصادقين، ونشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وخالق السموات والأرضين، ومكلف الجن والإنس والملائكة المقربين أن يعبدوه عبادة المخلصين، فقال تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " فما لله إلا الدين الخالص المتين، فإنه أغنى الأغنياء عن شركة المشاركين، والصلاة على نبيه محمد سيد المرسلين وعلى جميع النبيين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

أما بعد: فقد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان وأنوار القرآن أن لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة فالناس كلهم هلكى إلا العالمون؛ والعالمون كلهم هلكى العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم. فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، وهو للنفاق كفاء، ومع العصيان سواه، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء، وقد قلل الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوباً مغموراً " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً " وليت شعري كيف يصحح نيته من لا يعرف حقيقة النية؟ أو كيف يخلص من صحح النية إذا لم يعرف حقيقة الإخلاص؟ أو كيف تطالب المخلص نفسه بالصدق إذا لم يتحقق معناه؟ فالوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله تعالى أن يتعلم النية أولاً لتحصل المعرفة، ثم يصححها بالعمل بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص اللذين هما وسيلتا العبد إلى النجاة والخلاص.
ونحن نذكر معاني الصدق والإخلاص في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في حقيقة النية ومعناها.
الباب الثاني: في الإخلاص وحقائقه.
الباب الثالث: في الصدق وحقيقته.

[align=center]الباب الأول
في حقيقة النية ومعناها
وفيه بيان فضيلة النية، وبيان حقيقة النية، وبيان كون النية خيراً من العمل، وبيان تفضيل الأعمال المتعلقة بالنفس، وبيان خروج النية عن الاختيار.
[/align]



[align=center]بيان فضيلة النية[/align]

قال الله تعالى " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " والمراد بتلك الإرادة هي النية.
وقال صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
وقال صلى الله عليه وسلم: " أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته".
وقال تعالى: " إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما " فجعل النية سبب التوفيق.
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". وإنما نظر إلى القلوب لأنها مظنة النية.
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليعمل أعمالاً حسنة فتصعد الملائكة في صحف مختمة فتلقى بين يدي الله تعالى فيقول: ألقوا هذه الصحيفة فإنه لم يرد فيها وجهي ثم ينادي الملائكة: اكتبوا له كذا وكذا اكتبوا له كذا وكذا فيقولون: يا ربنا إنه لم يعمل شيئاً من ذلك فيقول الله تعالى: إنه نواه".
وقال صلى الله عليه وسلم: " الناس أربعة: رجل أتاه الله عز وجل علماً ومالاً فهو يعمل بعلمه في ماله فيقول رجل: لو آتاني الله تعالى مثل ما آتاه لعملت كما يعمل، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله تعالى مالاً ولم يؤته علماً فهو يتخبط بجهله في ماله فيقول رجل: لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت كما يعمل، فهما في الوزر سواء". ألا ترى كيف شركه بالنية في محاسن عمله ومساويه. وكذلك في حديث أنس بن مالك: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال: " إن بالمدينة أقواماً ما قطعنا وادياً ولا وطئنا موطئاً يغيظ الكفار ولا أنفقنا نفقة ولا أصابتنا مخمصة إلا شركونا في ذلك وهم بالمدينة!" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله وليسوا معنا؟ قال: " حبسهم العذر فشركوا بحسن النية".
وفي حديث ابن مسعود: من هاجر يبتغي شيئاً فهو له، فهاجر رجل فتزوج امرأة منا فكان يسمى مهاجر أم قيس.
وكذلك جاء في الخبر: " إن رجلاً قتل في سبيل الله وكان يدعى قتيل الحمار" لأنه قاتل رجلاً ليأخذ سلبه وحماره فقتل على ذلك فأضيف إلى نيته.
وفي حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى". وقال أبي: استعنت رجلاً يغزو معي فقال: لا حتى تجعل لي جعلاً، فجعلت له، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ليس له من دنياه وآخرته إلا ما جعلت له".
وروي في الإسرائيليات: أن رجلاً مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه: لو كان هذا الرمل طعاماً لقسمته بين الناس، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أن قل له إن الله تعالى قد قبل صدقتك وقد شكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به.
وقد ورد في أخبار كثيرة: " من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة".
وفي حديث عبد الله بن عمرو: " من كانت الدنيا نيته جعل الله فقره بين عينيه وفارقها أرغب ما يكون فيها ومن تكن الآخرة نيته جعل الله تعالى غناه في قلبه وجمع عليه ضيعته وفارقها أزهد ما يكون فيها".
وفي حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر جيشاً يخسف بهم البيداء فقلت: يا رسول الله أيكون فيهم المكره والأجير؟ فقال: " يحشرون على نياتهم".
وقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما يقتتل المقتتلون على النيات".
وقال عليه السلام: " إذا التقى الصفان نزلت الملائكة تكتب الخلق على مراتبهم فلان يقاتل للدنيا فلان يقاتل حمية فلان يقاتل عصبية ألا فلا تقولوا فلان قتل في سبيل الله فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يبعث كل عبد على ما مات عليه".
وفي حديث الأحنف عن أبي بكرة: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: " لأنه أراد قتل صاحبه".
وفي حديث أبي هريرة: " من تزوج امرأة على صداق وهو لا ينوي أداءه فهو زان، ومن أدان ديناً وهو لا ينوي قضاءه فهو سارق".
وقال صلى الله عليه وسلم: " من تطيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة".
وأما الآثار: فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى والورع عما حرم الله تعالى وصدق النية فيما عند الله تعالى.
وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز: اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النية فمن تمت نيته تم عون الله له وإن نقصت نقص بقدره.
وقال بعض السلف: رب عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبير تصغره النية.
وقال داود الطائي: البر همته التقوى فلو تعلقت جميع جوارحه بالدنيا لردته نيته يوماً إلى نية صالحة وكذلك الجاهل بعكس ذلك.
وقال الثوري: كانوا يتعلمون النية للعمل كما تتعلمون العمل.
وقال بعض العلماء: اطلب النية للعمل قبل العمل، وما دمت تنوي الخير فأنت بخير.
وكان بعض المريدين يطوف على العلماء يقول: من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملاً لله تعالى فإني لا أحب أن يأتي علي ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله، فقيل له: قد وجدت حاجتك فاعمل الخير ما استطعت فإذا فترت أو تركته فهم بعمله فإن الهام بعمل الخير كعامله.
وكذلك قال بعض السلف: وإن نعمة الله عليكم أكثر من أن تحصوها وإن ذنوبكم أخفى من أن تعلموها ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين يغفر لكم ما بين ذلك.
وقال عيسى عليه السلام: طوبى لعين نامت ولا تهم بمعصية وانتبهت إلى غير إثم.
وقال أبو هريرة: يبعثون يوم القيامة على قدر نياتهم.
وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ " ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " يبكي ويرددها ويقول إنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.
وقال الحسن: إنما خلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بالنيات.
وقال أبو هريرة: مكتوب في التوراة: ما أريد به وجهي فقليله كثير، وما أريد به غيري فكثيره قليل.
وقال بلال بن سعد: إن العبد ليقول قول مؤمن فلا يدعه الله عز وجل وقوله حتى ينظر في عمله، فإذا عمل لم يدعه الله حتى ينظر في ورعه، فإن تورع لم يدعه حتى ينظر ماذا نوى، فإن صلحت نيته فبالحري أن يصلح ما دون ذلك فإذن عماد الأعمال النيات فالعمل مفتقر إلى النية لصير بها خيراً، والنية في نفسها خير وإن تعذر العمل بعائق.

[align=center]بيان حقيقة النية[/align]

اعلم أن النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد، وهو حالة وصفة للقلب يكتنفها أمران: علم، وعمل، العلم يقدمه لأنه أصله وشرطه، والعمل يتبعه لأنه ثمرته وفرعه، وذلك لأن كل عمل أعني كل حركة وسكون اختياري فإنه لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة. لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه فلا بد وأن يعلم، ولا يعمل ما لم يرد فلا بد من إرادة. ومعنى الإرادة انبعاث القلب إلى ما يراه موافقاً للغرض إما في الحال أو في المآل، فقد خلق الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور ويلائم غرضه، ويخالفه بعض الأمور، فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق إلى نفسه ودفع الضار المنافي عن نفسه، فافتقر بالضرورة إلى معرفة وإدراك للشيء المضر والنافع حتى يجلب هذا ويهرب من هذا، فإن من لا يبصر الغذاء ولا يعرفه لا يمكنه أن يتناول، ومن لا يبصر النار لا يمكنه الهرب منه، فخلق الله الهداية والمعرفة وجعل لها أسباباً وهي الحواس الظاهرة والباطنة - وليس ذلك من غرضنا - ثم لو أبصر الغذاء وعرف أنه موافق له فلا يكفيه ذلك لنتناول ما لم يكن فيه ميل إليه ورغبة فيه وشهوة له باعثة عليه، إذا المريض يرى الغذاء ويعلم أنه موافق ولا يمكنه التناول لعدم الرغبة والميل ولفقد الداعية المحركة إليه، فخلق الله تعالى له الميل والرغبة والإرادة - وأعني به نزوعاً في نفسه إليه وتوجهاً في قلبه إليه - ثم ذلك لا يكفيه من مشاهد طعاماً راغب فيه مريد تناوله عاجز عنه لكونه زمناً؟ فخلقت له القدرة والأعضاء المتحركة حتى يتم به التناول، والعضو لا يتحرك إلا بالقدرة، والقدرة تنتظر الداعية الباعثة، والداعية تنتظر العلم والمعرفة أو الظن والاعتقاد وهو أن يقوى في نفسه كون الشيء موافقاً له، فإذا جزمت المعرفة بأن الشيء موافق ولا بد وأن يفعل، وسمت عن معارضة باعث آخر صارف عنه انبعثت الإرادة وتحقق الميل، فإذا انبعثت الإرادة انتهضت القدرة لتحريك الأعضاء فالقدرة خادمة للإرادة، والإرادة تابعة لحكم الاعتقاد والمعرفة. فالنية عبارة عن الصفة المتوسطة وهي الإرادة وانبعاث النفس بحكم الرغبة والميل إلى ما موافق للغرض إما في الحال وإما في المآل. فالمحرك الأول هو الغرض المطلوب وهو الباعث، والغرض الباعث هو المقصد المنوي، والانبعاث هو القصد والنية، وانتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء هو العمل، إلا أن انتهاض القدرة للعمل قد يكون بباعث واحد وقد يكون بباعثين اجتمعا في فعل واحد. وإذا كان بباعثين فقد يكون كل واحد بحيث لو انفرد لكان ملياً بإنهاض القدرة، وقد يكون كل واحد قاصراً عنه إلا بالاجتماع؟ وقد يكون أحدهما كافياً لولا الآخر لكن الآخر انتهض عاضداً له ومعاوناً. فيخرج من هذا القسم أربعة أقسام: فلنذكر لكل واحد مثالاً واسماً.
أما الأول: فهو أن ينفرد الباعث الواحد ويتجرد، كما إذا هجم على الإنسان سبع فكلما رآه قام من موضعه، فلا مزعج له إلا غرض من الهرب من السبع فإنه رأى السبع وعرفه ضاراً فانبعثت نفسه إلى الهرب ورغبت فيه، فانتهضت القدرة عاملة بمقتضى الانبعاث، فيقال: نيته الفرار من السبع لا نية له في القيام لغيره. وهذه النية تسمى خالصة ويسمى العمل بموجبها إخلاصاً بالإضافة إلى الغرض الباعث، ومعناه أنه خلص عن مشاركة غيره وممازجته.
وأما الثاني: فهو أن يجتمع باعثان كل واحد مستقل بالإنهاض لو انفرد، ومثاله من المحسوس أن يتعاون رجلان على حمل شيء بمقدار من القوة كان كافياً في الحمل لو انفرد. ومثاله في غرضنا أن يسأله قريبه الفقير حاجة فيقضيها لفقره وقرابته، وعلم أنه لولا فقره لكان يقضيها بمجرد القرابة وأنه لولا قرابته لكان يقضيها بمجرد الفقر، وعلم ذلك من نفسه بأنه يحضره قريب غني فيرغب، في قضاء حاجته، وفقيرا أجنبي فيرغب أيضاً فيه، وكذلك من أمره الطبيب بترك الطعام ودخل عليه يوم عرفة فصام وهو يعلم أنه لو لم يكن يوم عرفة لكان يترك الطعام حمية، ولولا الحية لكان يتركه لأجل أنه يوم عرفة، وقد اجتمعا جميعاً فأقدم على الفعل وكان الباعث الثاني رفيق الأول، فلنسم هذا: مرافقة للبواعث
والثالث: أن لا يستقل كل واحد لو انفرد ولكل قوى مجموعهما على إنهاض القدرة. ومثاله في المحسوس أن يتعاون ضعيفان على حمل ما لا ينفرد أحدهما به، ومثاله غرضنا أن يقصد قريبه الغني فيطلب درهماً فلا يعطيه، ويقصده الأجنبي الفقير فيطلب درهماً فلا يعطيه، ثم يقصده القريب فيعطيه، فيكون انبعاث داعيته بمجموع الباعثين وهو القرابة والفقر. وكذلك الرجل يتصدق بين يدي الناس لغرض الثواب ولغرض الثناء، ويكون بحيث لو كان منفرداً لكان لا يبعثه مجرد قصد الثواب على العطاء، ولو كان الطالب فاسقاً لا ثواب في التصدق عليه لكان لا يبعثه مجرد الرياء على العطاء، ولو اجتمعا أورثا بمجموعهما تحريك القلب. ولنسم هذا الجنس مشاركة.
والرابع: أن يكون أحد الباعثين مستقلاً لو انفرد بنفسه والثاني لا يستقل. ولكن لما انضاف إليه لم ينفك عن تأثير بالإعانة والتسهيل. ومثاله في المحسوس أن يعاون الضعيف الرجل القوي على الحمل، ولو انفرد القوي لاستقل ولو انفرد الضعيف لم يستقل، فإن ذلك بالجملة يسهل العمل ويؤثر في تخفيفه. ومثاله في غرضنا أن يكون للإنسان ورد في الصلاة وعادة في الصدقات فاتفق أن حضر في وقتها جماعة من الناس، فصار الفعل أخف علة بسبب مشاهدتهم، وعلم من نفسه أنه لو كان منفرداً خالياً لم يفتر عن عمله،وعلم أن عمله لو لم يكن طاعة لم يكن مجرد الرياء يحمله عليه، فهو شرب تطرق إلى النية، ولنسم هذا الجنس المعاونة.
فالباعث إما أن يكون رفيقاً أو شريكاً أو معيناً، وسنذكر حكمها في باب الإخلاص. والغرض الآن بيان أقسام النيات، فإن العمل تابع للباعث عليه فيكتسب الحكم منه. ولذلك قيل: إنما الأعمال بالنيات، لأنها تابعة لا حكم لها في نفسها وإنما الحكم للمتبوع.

[align=center]بيان سر قوله صلى الله عليه وسلم
نية المؤمن خير من عمله [/align]


اعلم أنه قد يظن أن سبب هذا الترجيح أن النية سر لا يطلع عليه إلا الله تعالى، والعمل الظاهر، ولعمل السر فضل. وهذا صحيح ولكن ليس هو المراد؛ لأنه لو نوى أن يذكر الله بقلبه أو يتفكر في مصالح المسلمين فيقتضي عموم الحديث أن تكون نية التفكر خيراً من التفكر، وقد يظن أن سبب الترجيح أن النية تدوم إلى آخر العمل والأعمال لا تدوم وهو ضعيف، لأن ذلك يرجع معناه إلى أن العمل الكثير خير من القليل، بل ليس كذلك فإن نية أعمال الصلاة قد لا تدوم إلا في لحظات معدودة والأعمال تدوم، والعموم يقتضي أن تكون نيته خيراً من عمله. وقد يقال: إن معناه أن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية، وهو كذلك ولكنه بعيد أن يكون هو المراد، إذ العمل بلا نية أو على الغفلة لا خير فيه أصلاً، والنية بمجردها خير؛ وظاهر الترجيح للمشتركين في أصل الخير، بل المعنى أن كل طاعة تنتظم بنية وعمل وكانت النية من جملة الخيرات وكان العمل من جملة الخيرات ولكن النية من جملة الطاعة خير من العمل، أي لكل واحد منهما أثر في المقصود وأثر في النية أكثر من أثر العمل، فمعناه: نية المؤمن من جملة طاعته خير من عمله الذي هو من جملة طاعته، والغرض أن للعبد اختياراً في النية وفي العمل، فهما عملان والنية من الجملة خيرهما؛ فهذا معناه.
وأما سبب كونها خيراً ومترجحة على العمل فلا يفهمه إلا من فهم مقصد الدين وطريقه ومبلغ أثر الطريق في الاتصال إلى المقصد وقاس بعض الآثار بالبعض حتى يظهر له بعد ذلك الأرجح بالإضافة إلى المقصود. فمن قال: الخبز خير من الفاكهة، فإنما يعني به أنه خير بالإضافة إلى مقصود القوت والاغتذاء، ولا يفهم ذلك إلا من فهم أن للغذاء مقصداً وهو الصحة والبقاء، وأن الأغذية مختلفة الآثار فيها، وفهم أثر كل واحد وقاس بعضها بالبعض فالطاعات غذاء للقلوب، والمقصود شفاؤها وبقاؤها وسلامتها في الآخرة، وسعادتها وتنعمها بلقاء الله تعالى، فالمقصد لذة السعادة بلقاء الله فقط، ولن يتنعم بلقاء الله إلا من مات محباً لله تعالى عارفاً بالله، ولن يحبه إلا من عرفه ولن يأنس بربه إلا من طال ذكره له، فالآنس يحصل بدوام الذكر، والمعرفة تحصل بدوام الفكر، والمحبة تتبع المعرفة بالضرورة، ولن يتفرغ القلب لدوام الذكر والفكر إلا إذا فرغ من شواغل الدنيا، ولن يتفرغ من شواغلها إلا إذا انقطع عنه شهواتها حتى يصير مائلاً إلى الخير مريداً له نافراً عن الشر مبغضاً له، وإنما يميل إلى الخيرات والطاعات إذا علم أن سعادته في الآخرة منوطة بها، كما يميل العاقل إلى الفصد والحجامة لعلمه بأن سلامته فيهما، وإذا حصل أصل الميل بالمعرفة فإنما يقوى بالعمل بمقتضى الميل والمواظبة عليه، فإن المواظبة على مقتضى صفات القلب وأرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء والقوت لتلك الصفة حتى تترشح الصفة وتقوى بسببها. فالمائل إلى طلب العلم أو الرياسة لا يكون ميله في الابتداء إلا ضعيفاً، فإن اتبع مقتضى الميل واشتغل بالعلم وتربية الرياسة والأعمال المطلوبة لذلك تأكيد ميله ورسخ وعسر عليه النزوع، وإن خالف مقتضى ميله ضعف ميله وانكسر وربما زال وانمحق، بل الذي ينظر إلى وجه حسن مثلاً فيميل إليه طبعه ميلاً ضعيفاً، لو تبعه وعمل بمقتضاه فداوم على النظر والمجالسة والمخالطة والمحاورة تأكد ميله حتى يخرج أمره عن اختياره فلا يقدر على النزوع عنه، ولو فطم نفسه ابتداء وخالف مقتضى ميله لكان ذلك كقطع القوت والغذاء عن صفة الميل، ويكون ذلك زبراً ودفعاً في وجهه حتى يضعف وينكسر بسببه وينقمع وينمحي. وهكذا جميع الصفات والخيرات والطاعات كلها هي التي تراد بها الآخرة، والشرور كلها هي التي تراد بها الدنيا لا الآخرة. وميل النفس إلى الخيرات الأخروية وانصرافها عن الدنيوية هو الذي يفرغها للذكر والفكر، ولن يتأكد ذلك إلا بالمواظبة على أعمال الطاعة وترك المعاصي بالجوارح، لأن بين الجوارح وبين القلب علاقة حتى إنه يتأثر كل واحد منهما بالآخر، فترى العضو إذا أصابته جراحة تألم بها القلب، وترى القلب إذا تألم بعلمه بموت عزيز من أعزته أو بهجوم أمر مخوف تأثرت به الأعضاء وارتعدت الفرائض وتغير اللون، إلا أن القلب هو الأصل المتبوع فكأنه الأمير والراعي والجوارح كالخدم والرعايا والأتباع. فالجوارح خادمة للقلب بتأكيد صفاتها فيه، فالقلب هو المقصود والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد".
وقال عليه الصلاة والسلام: " اللهم أصلح الراعي والرعية". وأراد بالراعي القلب.
وقال الله تعالى: " لن ينال لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " وهي صفة القلب. فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح. ثم يجب أن تكون النية من جملتها أفضل لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له.
وغرضنا من الأعمال بالجوارح أن يعود القلب إرادة الخير ويؤكد فيه الميل إليه ليفرغ من شهوات الدنيا ويكب على الذكر والفكر. فبالضرورة يكون خيراً بالإضافة إلى الغرض لأنه متمكن من نفس المقصود، وهذا كما أن المعدة إذا تألمت فقد تداوى بأن يوضع الطلاء على الصدر وتداوى بالشرب والدواء الواصل إلى المعدة، فالشرب خير من طلاء الصدر لأن طلاء الصدر أيضاً إنما أريد به أن يسري منه الأثر إلى المعدة، فما يلاقي عين المعدة فهو خير وأنفع.
فهكذا ينبغي أن تفهم تأثير الطاعات كلها، إذ المطلوب منها تغيير القلوب وتبديل صفاتها فقط دون الجوارح، فلا تظنن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضاً من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب، فإن من يجد في نفسه تواضعاً، فإذا استكان بأعضائه وصورها بصورة التواضع تأكد تواضعه ومن وجد في قلبه رقة على يتيم فإذا مسح رأسه وقبله تأكد الرقة في قلبه، ولهذا لم يكن العمل بغير نية مفيد أصلاً، لأن من يمسح رأس يتيم وهو غافل أو ظان أنه يمسح ثوباً - لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه لتأكيد الرقة، وكذلك من يسجد غافلاً وهو مشغول الهم بأعراض الدنيا لم ينتشر من جبهته ووضعها على الأرض أثر إلى قلبه يتاكد به التواضع، فكان وجود ذلك كعدمه، وما ساوى وجوده عدمه بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه يسمى باطلاً، فيقال: العبادة بغير نية باطلة وهذا معناه إذا فعل عن غفلة، فإذا قصد به رياء أو تعظيم شخص آخر لم يكن وجوده كعدمه بل زاده شراً، فإنه لم يؤكد الصفة المطلوب تأكيدها حتى أكد الصفة المطلوب قمعها وهي صفة الرياء التي هي من الميل إلى الدنيا. فهذا وجه كون النية خير من العمل.
وبهذا أيضاً يعرف معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة " لأن هم القلب هو ميله إلى الخير وانصرافه عن الهوى وحب الدنيا وهي غاية الحسنات، وإنما الإتمام بالعمل يزيدها تأكيداً، فليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم بل ميل القلب عن حب الدنيا وبذلها إيثاراً لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة وإن عاق عن العمل عائق ف " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " والتقوى ههنا صفة القلب، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: " إن قوماً بالمدينة قد شركونا في جهادنا " - كما تقدم ذكره - لأن قلوبهم في صدق إرادة الخير وبذل المال والنفس والرغبة في طلب الشهادة وإعلاء كلمة الله تعالى كقلوب الخارجين في الجهاد وإنما فارقوهم بالأبدان لعوائق تخص الأسباب الخارجة عن القلب وذلك غير مطلوب إلا لتأكيد هذه الصفات. وبهذه المعاني تفهم جميع الأحاديث التي أوردناه في فضيلة النية فاعرضها عليها لينكشف لك أسرارها فلا تطول بالإعادة.

[align=center]بيان تفضيل الأعمال المتعلقة بالنية[/align]

اعلم أن الأعمال وإن انقسمت أقساماً كثيرة من فعل وقول وحركة وسكون وجلب ودفع وفكر وذكر وغير ذلك مما لا يتصور إحصاؤه واستقصاؤه - فهي ثلاثة أقسام: معاص وطاعات ومباحات.
القسم الأول: المعاصي، وهي لا تتغير عن موضعها بالنية، فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه السلام: " إنما الأعمال بالنيات " فيظن أن المعصية تنقلب طاعة بالنية، كالذي يغتاب إنساناً مراعاة لقلب غيره، أو يطعم فقيراً من مال غيره، أو يبني مدرسة أو مسجداً أو رباطاً بمال حرام، وقصده الخير. فهذا كله جهل، والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلماً وعدواناً ومعصية، بل قصده الخير بالشر - على خلاف مقتضى الشرع - شر آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص بجهله إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم، والخيرات إنما يعرف كونها خيرات للشرع، فكيف يمكن أن يكون الشر خير؟ هيهات، بل المروج لذلك على القلب خفي الشهوة وباطن الهوى، فإن القلب إذا كان مائلاً إلى طلب الجاه واستمالة قلوب الناس وسائر حظوظ النفس توسل الشيطان به إلى التلبيس على الجاهل، ولذلك قال سهل رحمه الله تعالى: ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل! قيل: يا أبا محمد هل تعرف شيئاً أشد من الجهل؟ قال: نعم الجهل بالجهل. وهو كما قال، لأن الجهل بالجهل يسد بالكلية باب التعلم، فمن يظن بالكلية بنفسه أنه عالم فكيف يتعلم؟ وكذلك أفضل ما أطيع الله تعالى به العلم، ورأس العلم: العلم بالعلم، كما أن رأس الجهل: الجهل بالجهل، فإن من لا يعلم العلم النافع من العلم الضار اشتغل بما أكب الناس عليه من العلوم المزخرفة التي هي وسائلهم إلى الدنيا، وذلك هو مادة الجهل ومنبع فساد العلم، والمقصود أن من قصد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام ولم يجد بعد مهلة للتعلم، وقد قال اللهسبحانه: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يعذر الجاهل على الجهل، ولا يحل للجاهل أن يسكت على جهله، ولا للعالم أن يسكت على علمه".
ويقرب من تقرب السلاطين ببناء المساجد والمدارس بالمال الحرام تقرب العلماء السوء بتعليم العلم للسفهاء والأشرار؛ المشغولين بالفسق والفجور القاصرين هممهم على مماراة العلماء ومباراة السفهاء واستمالة وجوه الناس وجمع حطام الدنيا وأخذ أموال السلاطين واليتامى والمساكين، فإن هؤلاء إذا تعلموا كانوا قطاع طريق الله تعالى، وانتهض كل واحد منهم في بلدته نائباً عن الدجال يتكالب على الدنيا ويتبع الهوى عن التقوى ويستجرئ الناس بسبب مشاهدته على معاصي الله تعالى، ثم قد ينتشر ذلك العلم إلى مثله وأمثاله ويتخذونه أيضاً آلة ووسيلة في الشر وإتباع الهوى. ويتسلسل ذلك، ووبال جميعه يرجع إلى المعلم الذي علمه العلم مع علمه بفساد نيته وقصده، ومشاهدته أنواع المعاصي من أقواله وأفعاله وفي مطعمه وملبسه ومسكنه، فيموت هذا العالم وتبقى آثار شره منتشرة في العالم ألف سنة مثلاً وألفي سنة، وطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه، ثم العجب من جهله حيث يقول: " إنما الأعمال بالنيات " وقد قصدت بذلك نشر علم الدين؛ فإن استعماله هو الفساد فالمعصية منه لا مني وما قصدت به إلا أن يستعين به على الخير. وإنما حب الرياسة والاستتباع والتفاخر بعلو العلم يحسن ذلك في قلبه، والشيطان بواسطة حب الرياسة يلبس عليه. وليت شعري ما جوابه عمن وهب سيفاً من قاطع طريق وأعد له خيلاً وأسباباً يستعين بها على مقصوده؛ ويقول إنما أردت الذل والسخاء والتخلق بأخلاق الله الجميلة؛ وقصدت به أن يغزو بهذا السيف والفرس في سبيل الله تعالى، فإن إعداد الخيل والرباط والقوة للغزاة من أفضل القربات، فإن صرفه إلى قطع الطريق فهو العاصي. وقد أجمع الفقهاء على أن ذلك حرام مع أن السخاء هو أحب الأخلاق إلى الله تعالى حتى قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " إن لله تعالى ثلثمائة خلق من تقرب إليه بواحد منها دخل الجنة وأحبها إليه السخاء". فليت شعري لم حرم هذا السخاء؟ ولم وجب عليه أن ينظر إلى قرينه الحال من هذا الظالم فإذا لاح له من عادته أنه يستعين بالسلاح على الشر فينبغي أن يسعى في سلب سلاحه لا أن يمده بغيره؟ والعلم سلاح يقاتل به الشيطان وأعداء الله تعالى وقد يعاون به أعداء الله عز وجل وهو الهوى! فمن لا يزال مؤثراً لدنياه على دينه ولهواه على آخرته وهو عاجز عنها لقلة فضله فكيف يجوز إمداده بنوع علم يتمكن به من الوصول إلى شهواته؟ بل لم يزل علماء السلف رحمهم الله تعالى يتفقدون أحوال من يتردد إليهم، فلو رأوا منه تقصير في نفل من النوافل أنكروه وتركوا إكرامه، وإذا رأوا منه فجوراً واستحلال حرام هجروه، ونفوه عن مجالسهم وتركوا تكليمه فضلاً عن تعليمه، لعلمهم بأن من تعلم مسألة ولم يعمل بها وجاوزها إلى غيرها فليس يطلب إلا آلة الشر، وقد تعوذ جميع السلف بالله تعالى من الفاجر العالم بالسنة وما تعوذوا من الفاجر الجاهل، حكي عن بعض أصحاب أحمد بن حنبل رحمه الله انه كان يتردد إليه سنين، ثم اتفق أن أعرض عنه أحمد وهجره وصار لا يكلمه، فلم يزل يسأله عن تغيره عليه وهو لا يذكره، حتى قال: بلغني أنك طينت حائط دارك من جانب الشارع وقد أخذت قدر سمك الطين وهو أنملة من شارع المسلمين فلا تصلح لنقل العلم. فهكذا كانت مراقبة السلف لأحوال طلاب العلم، وهذا وأمثاله مما يلتبس على الأغبياء وأتباع الشيطان وإن كانوا أرباب الطيالسة والأكمام الواسعة وأصحاب الألسنة الطويلة والفضل الكثير، أعني الفضل من العلوم التي لا تشتمل على التحذير من الدنيا والزجر عنها والترغيب في الآخرة والدعاء إليها، بل هي العلوم التي تتعلق بالخلق ويتوصل بها إلى جمع الحطام واستتباع الناس والتقدم على الأقران.
فإذن قوله عليه السلام: " إنما الأعمال بالنيات " يختص من الأقسام الثلاثة بالطاعات والمباحات دون المعاصي، إذ الطاعة تنقلب معصية بالقصد، والمباح ينقلب معصية وطاعة بالقصد، فأما المعصية فلا تنقلب طاعة بالقصد أصلاً نعم للنية دخل فيها وهو أنه إذا انضاف إليها قصود خبيثة تضاعف وزرها وعظم وبالها - كما ذكرنا ذلك في كتاب التوبة.
القسم الثاني: الطاعات، وهي مرتبطة بالنيات في أصل صحتها وفي تضاعف فضلها. أما الأصل: فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى لا غير، فإن نوى الرياء صارت معصية، وأما تضاعف الفضل: فبكثرة النيات الحسنة فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة فيكون له بكل نية ثواب، إذ كل واحدة منها حسنة ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها" كما ورد به الخبر.
ومثاله القعود في المسجد فإنه طاعة ويمكن أن ينوي فيه نيات كثيرة حتى يصير من فضائل أعمال المتقين ويبلغ به درجات المقربين: أولها أن يعتقد أنه بيت الله وأن داخله زائر الله، فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما وعد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: " من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى وحق على المزور أن يكرم زائره".
وثانيها: أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون في جملة انتظاره في الصلاة وهو معنى قوله تعالى " ورابطوا ".
وثالثها: الترهب بكف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات والترددات، فإن الاعتكاف كف - وهو في معنى الصوم - وهو نوع ترهب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رهبانية أمتي القعود في المساجد".
ورابعها: عكوف الهم على الله ولزوم السر للفكر في الآخرة ودفع الشواغل الصارفة عنه بالاعتزال إلى المسجد.
وخامسها: التجرد لذكر الله أو لاستماع ذكره وللتذكر به كما روي في الخبر " من غدا إلى المسجد ليذكر الله تعالى أو يذكرها به كان كالمجاهد في سبيل الله تعالى".
وسادسها: أن يقصد إفادة العلم بأمر بمعروف ونهي عن منكر، إذ المسجد لا يخلو عمن يسيء في صلاته أو يتعاطى ما لا يحل له فيأمره بالمعروف ويرشده إلى الدين فيكون شريكاً معه في خيره الذي يعلم منه فتتضاعف خيراته.
وسابعها: أن يستفيد أخاً في الله فإن ذلك غنيمة وذخيرة للدار الآخرة، والمسجد معشش أهل الدين المحبين لله وفي الله.
وثامنها: أن يترك الذنوب حياء من الله تعالى وحياء من أن يتعاطى في بيت الله ما يقتضي هتك الحرمة، وقد قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: من أدمن الاختلاف إلى المسجد رزقه الله إحدى سبع خصال: أخاً مستفاداً في الله، أو رحمة مستنزلة، أو علماً مستظرفاً، أو كلمة تدل على هدى، أو تصرفه عن ردى، أو يترك الذنوب خشية أو حياء.
فهذا طريق تكثير النيات، وقس به سائر الطاعات والمباحات إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة، وإنما تحضر في قلب العبد المؤمن بقدر جده في طلب الخير وتشمره له وتفكره فيه. فبهذا تزكوا الأعمال وتتضاعف الحسنات.
القسم الثالث: المباحات، وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات وينال بها معالي الدرجات، فما أعظم خسران من يغفل عنها ويتعاطاه تعاطي البهائم المهملة عن سهو وغفلة، ولا ينبغي أن يستحقر العبد شيئاً من الخطرات والخطوات واللحظات فكل ذلك يسأل عنه يوم القيامة أنه لم فعله وما الذي قصد به؟ هذا في مباح محض لا يشوبه كراهة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " حلالها حساب وحرامها عقاب".
وفي حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العبد ليسأل يوم القيامة عن كل شيء حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطينة بإصبعيه وعن لمسه ثوب أخيه".
وفي خبر آخر " من تطيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك ومن تطيب لغير الله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة " فاستعمال الطيب مباح ولكن لا بد فيه من نية.
فإن قلت: فما الذي يمكن أن ينوي بالطيب وهو حظ من حظوظ النفس وكيف يتطيب لله؟ فاعلم أن من يتطيب مثلاً يوم الجمعة وفي سائر الأوقات يتصور أن يقصد التنعم بلذات الدنيا، أو يقصد به إظهار التفاخر بكثرة المال ليحسده الأقران، أو يقصد به رياء الخلق ليقوم له الجاه في قلوبهم ويذكر بطيب الرائحة، أو ليتودد به إلى قلوب النساء الأجنبيات إذا كان مستحيلاً للنظر إليهن، ولأمور أخرى لا تحصى. وكل هذا يجعل التطيب معصية فبذلك يكون أنتن من الجيفة في القيامة إلا القصد الأول وهو التلذذ والتنعم فإن ذلك ليس بمعصية إلا أنه يسأل عنه، ومن نوقش الحساب عذب، ومن أتى شيئاً من مباح الدنيا لم يعذب عليه في الآخرة ولكن ينقص من نعيم الآخرة له بقدره، وناهيك خسراناً بأن يستعجل ما يفنى ويخسر زيادة نعيم لا يفنى. وأما النية الحسنة فإنه ينوي به إتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وينوي بذلك أيضاً تعظيم المسجد واحترام بيت الله فلا يرى أن يدخله زائراً لله إلا طيب الرائحة، وأن يقصد به ترويح جيرانه ليستريحوا في المسجد عند مجاورته بروائحه، وأن يقصد به دفع الروائح الكريهة عن نفسه التي تؤدي إلى إيذاء مخالطيه، وأن يقصد جسم باب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة فيعصون الله بسببه، فمن تعرض للغيبة وهو قادر على الاحتراز منها فهو شريك في تلك المعصية كما قيل: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم
وقال الله تعالى " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم " أشار به إلى أن التسبب إلى الشر شر، وأن يقصد به معالجة دماغه لتزيد به فطنته وذكاؤه ويسهل عليه درك مهمات دينه بالفكر، فقد قال الشافعي رحمه الله: من طاب ريحه زاد عقله، فهذا وأمثاله من النيات لا يعجز الفقيه عنها إذا كانت تجارة الآخرة وطلب الخير غالبة على قلبه. وإذا لم يغلب على قلبه إلا نعيم الدنيا لم تحضره هذه النيات وإن ذكرت له لم ينبعث لها قلبه فلا يكون معه منها إلا حديث النفس وليس ذلك من النية في شيء.
والمباحات كثيرة ولا يمكن إحصاء النيات فيها فقس بهذا الواحد ما عداه، ولهذا قال بعض العارفين من السلف: إني أستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي إلى الخلاء، وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات البدن فهو معين على الدين، فمن قصده من الأكل التقوى على العبادة، ومن الوقاع تحصين دينه وتطييب قلب أهله والتوصل به إلى نسل صالح يعبد الله تعالى بعده فتكثر به أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان مطيعاً بأكله ونكاحه، وأغلب حظوظ النفس الأكل والوقاع وقصد الخير بهما غير ممتنع لمن غلب على قلبه هم الآخرة، ولذلك ينبغي أن يحسن نيته مهما ضاع له مال ويقول هو في سبيل الله، وإذا بلغه اغتياب غيره فليطيب قلبه بأنه سيحمل سيآته وستنتقل إلى ديوانه حسناته، ولينوي ذلك بسكوته عن الجواب. ففي الخبر " إن العبد ليحاسب فتبطل أعماله لدخول الآفة فيها حتى يستوجب النار، ثم ينشر له من الأعمال الصالحة ما يستوجب به الجنة فيتعجب ويقول: يا رب هذه أعمال ما عملتها قط؟ فيقال: هذه أعمال الذين اغتابوك وآذوك وظلموك".
وفي الخبر " إن العبد ليوافى يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال لو خلصت له لدخل الجنة فيأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا فيقتص لهذا من حسناته ولهذا من حسناته حتى لا يبقى له حسنة. فتقول الملائكة: قد فنيت حسناته وبقي طالبون فيقول الله تعالى: ألقوا عليه من سيآتهم ثم صكوا له صكاً إلى النار" وبالجملة فإياك ثم إياك أن تستحقر شيئاً من حركاتك فلا تحترز من غرورها وشرورها ولا تعد جوابها يوم السؤال والحساب فإن الله تعالى مطلع عليك وشهيد " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ".
وقال بعض السلف: كتبت كتاباً وأردت أن أتربه من حائط جار لي فتحرجت ثم قلت: تراب وما تراب! فتربته فتهتف بي هاتف: سيعلم من استخف بتراب جاره ما يلقى غداً من سوء الحساب.
وصلى رجل مع الثوري فرآه مقلوب الثوب فعرفه فمد يده ليصلحه ثم قبضها فلم يسوه، فسأله عن ذلك فقال: إني لبسته لله تعالى ولا أريد أن أسويه لغير الله.
وقد قال الحسن: إن الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: بيني وبينك الله! فيقول: والله ما أعرفك؟ فيقول: بلى أنت أخذت لبنة من حائطي وأخذت خيطاً من ثوبي!.
فهذا وأمثاله من الأخبار قطع قلوب الخائفين، فإن كنت من أولي العزم والنهي ولم تكن من المغترين فانظر لنفسك الآن ودقق الحساب على نفسك قبل أن يدقق عليك. وراقب أحوالك ولا تسكن ولا تتحرك ما لم تتأمل أولاً أنك لم تتحرك، وماذا تقصد، وما الذي تنال به من الدنيا، وما الذي يفوتك من الآخرة، وبماذا ترجح الدنيا على الآخرة؟ فإذا علمت أنه لا باعث إلا الدين فأمض عزمك وما خطر ببالك وإلا فأمسك، ثم راقب أيضاً قلبك في إمساكك وامتناعك فإن ترك الفعل فعل ولا بد له من نية صحيحة، فلا ينبغي أن يكون الداعي هوى خفي لا يطلع عليه، ولا يغرنك ظواهر الأمور ومشهورات الخيرات وافطن للأغوار والأسرار تخرج من حيز أهل الاغترار.
فقد روي عن زكريا عليه السلام أنه كان يعمل في حائط بالطين، وكان أجيراً لقوم فقدموا له رغيفاً - إذا كان لا يأكل إلا من كسب يده - فدخل عليه قوم فلم يدعهم إلى الطعام حتى فرغ، فتعجبوا منه لما علموا من سخائه وزهده وظنوا أن الخير في طلب المساعدة في الطعام، فقال: إني أعمل لقوم بالأجرة وقدموا إلي الرغيف لأتقوى به على عملهم، فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت عن عملهم. فالبصير هكذا ينظر في البواطن بنور الله، فإن ضعفه عن العمل نقص في فرض وترك الدعوة إلى الطعام نقص في فضل، ولا حكم للفضائل مع الفرائض.
وقال بعضهم: دخلت على سفيان وهو يأكل فما كلمني حتى لعق أصابعه ثم قال: لولا أني أخذته بدين لأحببت أن تأكل منه.
وقال سفيان: من دعا رجلاً إلى طعامه وليس له رغبة أن يأكل منه فإن أجابه فأكل فعليه وزران وإن لم يأكل فعليه وزر واحد. وأراد بأحد الوزرين النفاق وبالثاني تعريضه أخاه لما يكره لو علمه. فهكذا ينبغي أن يتفقد العبد نيته في سائر الأعمال فلا يقدم ولا يحجم إلا بنية، فإن لم تحضره النية توقف فإن النية لا تدخل تحت الاختيار.

[align=center]بيان أن النية غير داخلة تحت الاختيار[/align]

اعلم أن الجاهل يسمع ما ذكرناه من الوصية بتحسين النية وتكثيرها مع قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " فيقول في نفسه عند تدريسه أو تجارته أو أكله: نويت أن أدرس لله أو آكل لله، ويظن ذلك نية وهيهات! فذلك حديث نفس وحديث لسان وفكر أو انتقال من خاطر إلى خاطر، والنية بمعزل من جميع ذلك. وإنما النية انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلاً وإما آجلاً.
والميل إذا لم يكن لا يمكن اختراعه واكتسابه بمجرد الإرادة، بل ذلك كقول الشبعان: نويت أن أشتهي الطعام وأميل إليه، أو قول الفارغ: نويت أن أعشق فلاناً وأحبه وأعظمه بقلبي، فذلك محال. بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء وميله إليه وتوجهه نحوه إلا باكتساب أسبابه وذلك مما قدم يقدر عليه وقد لا يقدر عليه. وإنما تنبعث النفس إلى الفعل إجابة للغرض الباعث الموافق للنفس الملائم لها، وما لم يعتقد الإنسان أن غرضه منوط بفعل من الأفعال فلا يتوجه نحوه قصده. وذلك مما لا يقدر على اعتقاده في كل حين، وإذا اعتقد فإنما يتوجه القلب إذا كان فارغاً غير مصروف عنه شاغل أقوى منه وذلك لا يمكن في كل وقت، والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة بها تجتمع، ويختلف ذلك بالأشخاص وبالأحوال وبالأعمال. فإذا غلبت شهوة النكاح مثلاً ولم يعتقد غرضاً صحيحاً في الولد ديناً ولا دنيا لا يمكنه أن يواقع على نية الولد بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة، إذ النية هي إجابة الباعث ولا باعث إلا الشهوة، فكيف ينوي الولد؟ وإذا لم يغلب على قلبه أن إقامة سنة النكاحإتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم فضلها لا يمكن أن ينوى بالنكاح إتباع السنة إلا أن يقول ذلك بلسانه وقلبه، وهو حديث محض ليس بنية، نعم طريق اكتساب هذه النية مثلاً أن يقوي أولاً إيمانه بالشرع ويقوي إيمانه بعظم ثواب من سعى في تكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويدفع عن نفسه جميع المنفرات عن الولد من ثقل المؤنة وطول التعب وغيره، فإذا فعل ذلك ربما انبعث من قلبه رغبة إلى تحصيل الولد للثواب فتحركه تلك الرغبة وتتحرك أعضاؤه لمباشرة العقد، فإذا انتهضت القدرة المحركة للسان بقبول العقد طاعة لهذا الباعث الغالب على القلب كان ناوياً، فإن لم يكن كذلك فما يقدره في نفسه ويردده في قلبه من قصد الولد وسواس وهذيان.
ولهذا امتنع جماعة من السلف من جملة من الطاعات إذ لم تحضرهم النية وكانوا يقولون ليس تحضرنا فيه نية، حتى إن ابن سيرين لم يصل على جنازة الحسن البصري وقال: ليس تحضرني نية.
ونادى بعضهم امرأته وكان يسرح شعره أن هات المدري، فقالت: أجيء بالمرآة؟ فسكت ساعة ثم قال: نعم، فقيل له في ذلك، فقال: كان لي في المدري نية ولم تحضرني في المرآة نية فتوقفت حتى هيأها الله تعالى.
ومات حماد بن سليمان - وكان أحد علماء أهل الكوفة - فقيل للثوري: ألا تشهد جنازته؟ فقال: لو كان لي نية لفعلت.
وكان أحدهم إذا سئل عملاً من أعمال البر يقول: إن رزقني الله تعالى نية فعلت.
وكان طاوس لا يحدث إلا بنية وكان يسأل أن يحدث فلا يحدث، ولا يسأل فيبتدئ! فقيل له في ذلك قال: أفتحبون أن أحدث بغير نية؟ إذا حضرتني نية فعلت.
وحكي أن داود بن المحبر لما صنف كتاب العقل، جاءه أحمد بن حنبل فطلبه منه فنظر فيه أحمد صفحاً ورده فقال: ما لك؟ قال: فيه أسانيد ضعاف، فقال له داود: أنا لم أخرجه على الأسانيد، فانظر فيه بعين الخبر إنما نظرت فيه بعين العمل فانتفعت، قال أحمد: فرده علي حتى أنظر فيه بالعين التي نظرت فأخذه ومكث عنده طويلاً ثم قال: جزاك الله خيراً فقد انتفعت به.
وقيل لطاوس: ادع لنا! فقال: حتى أجد له نية.
وقال بعضهم: أنا في طلب نية لعيادة رجل منذ شهر فما صحت لي بعد.
وقال عيسى بن كثير: مشيت مع ميمون بن مهران فلما انتهى إلى باب داره انصرفت فقال ابنه: ألا تعرض عليه العشاء؟ قال: ليس من نيتي.
وهذا لأن النية تتبع النظر فإذا تغير النظر تغيرت النية، وكانوا لا يرون أن يعملوا عملاً إلا بنية لعلمهم بأن النية روح العمل وأن العمل بغير نية صادقة رياء وتكلف وهو سبب مقت لا سبب قرب، وعلموا أن النية ليست هي قول القائل بلسانه: نويت، بل هو انبعاث القلب يجري مجرى الفتوح من الله تعالى، فقد تتيسر في بعض الأوقات وقد تتعذر في بعضها، نعم من كان الغالب على قلبه أمر الدين تيسر عليه في أكثر الأحوال إحضار النية للخيرات فإن قلبه مائل بالجملة إلى أصل الخير فينبعث إلى التفاصيل غالباً. ومن مال قلبه إلى الدنيا وغلبت عليه لم يتيسر له ذلك بلا لا يتيسر له في الفرائض إلا بجهد جهيد، وغايته أن يتذكر النار ويحذر نفسه عقابها أو نعيم الجنة ويرغب نفسه فيها فربما تنبعث له داعية ضعيفة فيكون ثوابه بقدر رغبته ونيته. وأما الطاعة على نية إجلال الله تعالى لاستحقاقه الطاعة والعبودية فلا تتيسر للراغب في الدنيا، وهذه أعز النيات وأعلاها، ويعز على بسيط الأرض من يفهمها فضلاً عمن يتعاطاها. ونيات الناس في الطاعات أقسام: إذ منهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار. ومنهم من يعمل إجابة لباعث الرجاء وهو الرغبة في الجنة، وهذا وإن كان نازلاً بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله لا لأمر سواه، فهو من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة وإن كان من جنس المألوفات في الدنيا، وأغلب البواعث باعث الفرج والبطن وموضع قضاء وطرهما الجنة، فالعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه - كالأجير السوء - ودرجته درجة البله وإنه لينالها بعمله إذ أكثر أهل الجنة البله. وأما عبادة ذوي الألباب فإنها لا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه حباً لجماله وجلاله وسائر الأعمال تكون مؤكدات وروادف، وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة فإنهم لم يقصدوها، بل هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه فقط، وثواب الناس بقدر نياتهم فلا جرم يتنعمون بالنظر إلى وجهه الكريم، ويسخرون ممن يلتفت إلى وجه الحور العين كما يسخر المتنعم بالنظر إلى الحور العين ممن يتنعم بالنظر إلى وجه الصور المصنوعة من الطين! بل أشد. فإن التفاوت بين جمال حضرة الربوبية وجمال الحور العين أشد وأعظم كثيراً من التفاوت بين جمال الحور العين والصور المصنوعة من الطين، بل استعظام النفوس البهيمية الشهوانية لقضاء الوطر من مخالطة الحسان وإعراضهم عن جمال وجه الله الكريم يضاهي استعظام الخنفساء لصاحبتها وإلفها لها وإعراضها عن النظر إلى جمال وجوه النساء، فعمي أكثر القلوب عن إبصار جمال الله وجلاله يضاهي عمى الخنفساء عن إدراك جمال النساء بأنها لا تشعر به أصلاً ولا تلتفت إليه، ولو كان لها عقل وذكرن لها لاستحسنت عقل من يلتفت إليهن " ولا يزالون مختلفين - كل حزب بما لديهم فرحون - ولذلك خلقهم ".
حكي أن أحمد بن خضرويه رأى ربه عز وجل في المنام فقال له: كل الناس يطلبون مني الجنة إلا أبا يزيد فإنه يطلبني.
ورأى أبو يزيد ربه في المنام فقال: يا رب كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعالى إلي.
ورؤي الشبلي بعد موته في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: لم يطالبني على الدعاوي بالبرهان إلا على قول واحد: قلت يوماً وبأي خسارة أعظم من خسران الجنة؟ فقال: أي خسارة أعظم من خسران لقائي.
والغرض من هذه النيات متفاوتة الدرجات ومن غلب على قلبه واحدة منها ربما لا يتيسر له العدول إلى غيرها. ومعرفة هذه الحقائق تورث أعمالاً وأفعالاً لا يستنكرها الظاهريون من الفقهاء. فإنا نقول: من حضرت له نية في مباح ولم تحضر في فضيلة فالمباح أولى وانتقلت الفضيلة إليه وصارت الفضيلة في حقه نقيصة لأن الأعمال بالنيات. وذلك مثل العفو فإنه أفضل من الانتصار في الظالم، وربما تحضره نية في الانتصار دون العفو فيكون ذلك أفضل ومثل أن يكون له نية في الأكل والشرب والنوم ليريح نفسه ويتقوى على العبادات في المستقبل وليس تنبعث نيته في الحالين للصوم والصلاة فالأكل والشرب والنوم هو الأفضل له. بل لو مل العبادة لمواظبته عليها وسكن نشاطه وضعفت رغبته وعلم أنه لو ترفه ساعة بلهو وحديث عاد نشاطه فاللهو أفضل له من الصلاة.
قال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فيكون ذلك عوناً لي على الحق.
وقال علي كرم الله وجهه: روحوا القلوب فإنها إذا أكرهت عميت. وهذه دقائق لا يدركها إلا سماسرة العلماء دون الحشوية منهم، بل الحاذق بالطب قد يعالج المحرور باللحم مع حرارته ويستبعده القاصر في الطب وإنما يبتغي به أن يعيد أولاًً قوته ليحتمل المعالجة بالضد، والحاذق في لعب الشطرنج مثلاً قد ينزل عن الرخ والفرس مجاناً ليتوصل بذلك إلى الغلبة، والضعيف البصيرة قد يضحك به ويتعجب منه. وكذلك الخبير بالقتال قد يفر بين يدي قرينه ويوليه دبره حيلة منه ليستجره إلى مضيق فيكر عليه فيقهره. فكذلك سلوك طريق الله تعالى كله قتال مع الشيطان ومعالجة للقلب والبصير الموفق يقف فيها على لطائف من الحيل يستبعدها الضعفاء، فلا ينبغي للمريد أن يضمر إنكاراً على ما يراه من شيخه ولا للمتعلم أن يعترض على أستاذه، بل ينبغي أن يقف عند حد بصيرته وما لا يفهمه من أحوالهما يسلمه لهما إلى أن ينكشف له أسرار ذلك بأن يبلغ رتبتهما وينال درجتهما ومن الله حسن التوفيق.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يناير 17, 2007 5:34 pm 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الباب الثاني
في الإخلاص وفضيلته وحقيقته ودرجاته
[/align]

[align=center]فضيلة الإخلاص[/align]


قال الله تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين.
وقال: " ألا لله الدين الخالص ".
وقال تعالى: " إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ".
وقال تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً " نزلت فيمن يعمل لله ويحب أن يحمد عليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يغل عليهن قلب رجل مسلم إخلاص العمل لله".
وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: ظن أبي أن له فضلاً على من هو دونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما نصر الله عز وجل هذه الأمة بضعفائها ودعوتهم وإخلاصهم".
وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: الإخلاص سر من سري استودعه قلب من أحببت من عبادي".
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لا تهتموا لقلة العمل واهتموا للقبول فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: " أخلص العمل يجزك منه القليل".
وقال عليه السلام: " ما من عبد يخلص لله العمل أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".
وقال عليه الصلاة والسلام: " أول من يسأل يوم القيامة ثلاثة: رجل آتاه الله العلم فيقول الله تعالى ما صنعت فيما علمت؟ فيقول: يا رب كنت أقوم آناء الليل وأطراف النهار، فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت بل أردت أن يقال فلان عالم ألا فقد قيل ذلك، ورجل آتاه الله مالاً فيقول الله تعالى: لقد أنعمت عليك فماذا صنعت؟ فيقول: يا رب كنت أتصدق به آناء الليل والنهار، فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد ألا فقد قيل ذلك. ورجل قتل في سبيل الله تعالى فيقول الله تعالى: ماذا صنعت؟ فيقول: يا رب أمرت بالجهاد فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع ألا فقد قيل ذلك ". قال أبو هريرة، ثم خبط رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذي وقال: " يا أبا هريرة أولئك أول خلق تسعر نار جهنم بهم يوم القيامة". فدخل راوي هذا الحديث على معاوية وروى له ذلك فبكى حتى كادت نفسه تزهق ثم قال: صدق الله إذ قال: "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها " الآية وفي الإسرائيليات: أن عابداً كان يعبد الله دهراً طويلاً فجاءه قوم فقالوا: إن ههنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالى، فغضب لذلك وأخذ فأسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها، فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد رحمك الله؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة، قال: وما أنت وذاك! تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرغت لغير ذلك! فقال: إن هذا من عبادتي، قال: إني لا أتركك أن تقطعها، فقاتله فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض وقعد على صدره فقال له إبليس: أطلقني حتى أكلمك، فقام عنه فقال إبليس: يا هذا إن الله تعالى قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك! وما تعبدها أنت وما عليك من غيرك ولله تعالى أنبياء في أقاليم الأرض ولو شاء لبعثهم إلى أهلها وأمرهم بقطعها! فقال العابد: لا بد لي من قطعها، فنابذه للقتال فغلبه العابد وصرعه وقعد على صدره فعجز إبليس فقال له: هل لك في أمر فصل بيني وبينك وهو خير لك وأنفع؟ قال: وما هو؟ قال: أطلقني حتى أقول لك، فأطلقه فقال إبليس: أنت رجل فقير لا شيء لك إنما أنت كل على الناس يعولونك، ولعلك تحب أن تتفضل على إخوانك وتواسي جيرانك وتشبع وتستغني عن الناس! قال: نعم، قال: فارجع عن هذا الأمر ولك على أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين إذا أصبحت أخذتهما فأنفقت على نفسك وعيالك وتصدقت على إخوانك، فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يغرس مكانها ولا يضرهم قطعها شيئاً ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إياها! فتفكر العابد فيما قال وقال: صدق الشيخ! لست بنبي فيلزمني قطع هذه الشجرة ولا أمرني الله أن أقطعها فأكون عاصياً بتركها، وما ذكره أكثر منفعة، فعاهده على الوفاء بذلك وحلف له، فرجع العابد إلى متعبده فبات، فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه فأخذهما وكذلك الغد، ثم أصبح اليوم الثالث وما بعده فلم ير شيئاً، فغضب وأخذ فأسه على عاتقه فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال له: إلى أين؟ قال: أقطع تلك الشجرة، فقال: كذبت والله ما أنت بقادر على ذلك ولا سبيل لك إليها، قال: فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أول مرة فقال: هيهات، فأخذه إبليس وصرعه، فإذا هو كالعصفور بين رجليه وقعد إبليس على صدره، وقال: لتنتهين عن هذا الأمر أو لأذبحنك؟ فنظر العابد فإذا لا طاقة له به، قال: يا هذا غلبتني فخل عني وأخبرني كيف غلبتك أولاً وغلبتني الآن؟ فقال: لأنك غضبت أول مرة لله وكانت نيتك الآخرة فسخرني الله لك، وهذه المرة غضبت لنفسك وللدنيا فصرعتك.
هذه الحكايات تصديق قوله تعالى " إلا عبادك منهم المخلصين " إذ لا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص، ولذلك كان معروف الكرخي رحمه الله تعالى يضرب نفسه ويقول: يا نفس أخلصي تتخلصي.
وقال يعقوب المكفوف: المخلص من يكتم إحسانه كما يكتم سيئاته.
وقال سليمان: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعري: من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، وكتب بعض الأولياء إلى أخ له: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل.
وقال أيوب السختياني: تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال.
وكان مطرف يقول: من صفا صفي له ومن خلط خلط عليه.
ورؤي بعضهم في المنام فقيل له: كيف وجدت أعمالك؟ فقال: كل شيء عملته لله وجدته، حتى حبة رمان لفظتها من طريق وحتى هرة ماتت لنا رأيتها في كفة الحسنات، وكان في قلنسوتي خيط من حرير فرأيته في كفة السيئات، وكان قد نفق حمار لي قيمته مائة دينار فما رأيت له ثواباً فقلت: موت سنور في كفة الحسنات وموت حمار ليس فيها؟ فقيل لي: إنه قد وجه حيث بعثت به، فإنه لما قيل لك: قد مات، قلت: في لعنة الله، فبطل أجرك فيه، ولو قلت: في سبيل الله، لوجدته في حسناتك. وفي رواية قال: وكنت قد تصدقت بصدقة بين الناس فأعجبني نظرهم إلي فوجدت ذلك لا علي ولا لي. قال سفيان - لما سمع هذا -: ما أحسن حاله؟ إذ لم يكن عليه فقد أحسن إليه.
وقال يحيى بن معاذ: الإخلاص يميز العمل من العيوب كتمييز اللبن من الفرث والدم وقيل: كان رجل يخرج في زي النساء ويحضر كل موضع يجتمع فيه النساء من عرس أو مأتم، فاتفق أن حضر يوماً موضعاً فيه مجمع للنساء فسرقت درة فصاحوا: أن أغلقوا الباب حتى نفتش، فكانوا يفتشون واحدة واحدة حتى بلغت النوبة إلى الرجل وإلى امرأة معه، فدعا الله تعالى بالإخلاص وقال: إن نجوت من هذه الفضيحة لا أعود إلى مثل هذا، فوجدت الدرة مع تلك المرأة فصاحوا: أن أطلقوا الحرة فقد وجدنا الدرة.
وقال بعض الصوفية: كنت قائماً مع أبي عبيد التستري وهو يحرث أرضه بعد العصر من يوم عرفة، فمر به بعض أخوانه من الأبدال فساره بشيء فقال أبو عبيد: لا، فمر كالسحاب يمسح الأرض حتى غاب عن عيني، فقلت لأبي عبيد: ما قال لك؟ فقال: سألني أن أحج معه، قلت: لا، قلت: فهلا فعلت؟ قال: ليس لي في الحج نية وقد نويت أن أتمم هذه الأرض العشية فأخاف إن حججت معه لأجله تعرضت لمقت الله تعالى، لأني أدخل في عمل الله شيئاً غيره فيكون ما أنا فيه أعظم عندي من سبعين حجة.
ويروى عن بعضهم قال: غزوت في البحر فعرض بعضنا مخلاة، فقلت: أشتريها فأنتفع بها في غزوي فإذا دخلت مدينة كذا بعتها فربحت فيها، فاشتريتها فرأيت تلك الليلة في النوم كأن شخصين نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه: اكتب الغزاة، فأملي عليه، خرج فلان متنزهاً وفلان مرائياً وفلان تاجراً وفلان في سبيل الله، ثم نظر إلي وقال: اكتب فلان خرج تاجراً، فقلت: الله الله في أمري! ما خرجت أتجر وما معي تجارة أتجر فيها ما خرجت إلا للغزو، فقال: يا شيخ قد اشتريت أمس مخلاة تريد أن تربح بها، فبكيت وقلت: لا تكتبوني تاجراً، فنظر إلى صاحبه وقال: ما ترى؟ فقال: اكتب خرج فلان غازياً إلا أنه اشترى في طريقه مخلاة ليربح فيها حتى يحكم الله عز وجل فيه بما يرى.
وقال سري السقطي رحمه الله تعالى: لأن تصلي ركعتين في خلوة تخلصهما خير لك من أن تكتب سبعين حديثاً أو سبعمائة بعلو وقال بعضهم: في إخلاص ساعة نجاة الأبد ولكن الإخلاص عزيز.
ويقال: العلم بذر والعمل زرع وماؤه الإخلاص.
وقال بعضهم: إذا أبغض الله عبداً أعطاه ثلاثاً ومنعه ثلاثاً: أعطاه صحبة الصالحين ومنعه القبول منهم، وأعطاه الأعمال الصالحة ومنعه الإخلاص فيها، وأعطاه الحكمة ومنعه الصدق فيها.
وقال السوسي: مراد الله من عمل الخلائق الإخلاص فقط.
وقال الجنيد: إن لله عباداً عقلوا فلما عقلوا عملوا فلما عملوا أخلصوا فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع.
وقال محمد بن سعيد المروزي: الأمر كله يرجع إلى أصلين: فعل منه بك، وفعل منك له، فترضى ما فعل وتخلص فيما تعمل. فإذن أنت سعدت بهذين وفزت في الدارين.

[align=center]بيان حقيقة الإخلاص[/align]

اعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سمي خالصاً، ويسمى الفعل المصفى المخلص: إخلاصاً. قال الله تعالى: " من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين " فإنما خلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث ومن كل ما يمكن أن يمتزج به، والإخلاص بضادة الإشراك، فمن ليس مخلصاً فهو مشرك إلا أن الشرك درجات، فالإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية. والشرك - منه خفي ومنه جلي وكذا الإخلاص - والإخلاص وضده يتواردان على القلب فمحله القلب وإنما يكون ذلك في القصود والنيات. وقد ذكر حقيقة النية وأنها ترجع إلى إجابة البواعث، فمهما كان الباعث واحد على التجرد سمي الفعل الصادر عنه إخلاصاً بالإضافة إلى المنوي، فمن تصدق وغرضه محض الرياء فهو مخلص، ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص. ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، كما أن الإلحاد عبارة عن الميل ولكن خصصته العادة بالميل عن الحق، ومن كان باعثه مجرد الرياء فهو معرض للهلاك - ولسنا نتكلم فيه إذ قد ذكرنا ما يتعلق به في كتاب الرياء من ربع المهلكات - وأقل أموره ما ورد في الخبر من " إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربع أسام: يا مرائي يا مخادع يا مشرك يا كافر".
وإنما نتكلم الآن فيمن انبعث لقصد التقرب ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر إما من الرياء أو من غيره من حظوظ النفس. ومثال ذلك أن الصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب. أو يعتق عبد ليتخلص من مؤنته وسوء خلقه، أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر، أو يتخلص من شر يعرض له في بلده، أو ليهرب عن عدو له في منزله، أو يتبرم بأهله وولده، أو بشغل هو فيه فأراد أن يستريح منه أياماً. أو ليغزو وليمارس الحرب ويتعلم أسبابه ويقدر به على تهيئة العساكر وجرها. أو يصلي بالليل وله غرض في دفع النعاس عن نفسه به ليراقب أهله أو رحله، أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال أو ليكون عزيزاً بين العشيرة، أو ليكون عقاره أو ماله محروساً بعز العلم عن الأطماع، أو اشتغل بالدرس والوعظ ليتخلص عن كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث. أو تكفل بخدمة العلماء الصوفية لتكون حرمته وافرة عندهم وعند الناس، أو لينال به رفقاً في الدنيا. أو كتب مصحفاً ليجود بالمواظبة على الكتابة خطه. أو حج ماشياً ليخفف عن نفسه الكراء. أو توضأ ليتنظف أو يتبرد. أو اغتسل لتطيب رائحته، أو روى الحديث ليعرف بعلو الإسناد أو اعتكف في المسجد ليخف كراء المسكن، أو صام ليخفف عن نفسه التردد في طبخ الطعام أو ليتفرغ لأشغاله فلا يشغله الأكل عنها، أو تصدق على السائل ليقطع إبرامه في السؤال عن نفسه. أو يعود مريضاً ليعاد إذا مرض. أو يشيع جنازة ليشيع جنائز أهله أو يفعل شيئاً من ذلك ليعرف بالخير ويذكر به وينظر إليه بعين الصلاح والوقار فمهما كان باعثه هو التقرب إلى الله تعالى ولكن انضاف إليه خطرة من هذه الخطرات، حتى صار العمل أخف عليه بسبب هذه الأمور، فقد خرج عمله عن حد الإخلاص وخرج عن أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى وتطرق إليه الشرك. وقد قال تعالى: " أنا أغني الشركاء عن الشركة " وبالجملة كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب - قل أم كثر - إذا تطرق إلى العمل تكدر به صفوه وزال به إخلاصه. والإنسان مرتبط في حظوظه منغمس في شهواته قلما ينفك فعل من أفعاله وعبادة من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس. فلذلك قيل: من سلم له من عمره لحظة واحد خالصة لوجه الله نجا. وذلك لعزة الإخلاص وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب، بل الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى. وهذه الحظوظ إن كانت هي الباعثة وحدها فلا يخفى شدة الأمر على صاحبه فيها، وإنما نظرنا فيما إذا كان القصد الأصلي هو التقرب وانضافت إليه هذه الأمور، ثم هذه الشوائب إما أن تكون رتبة الموافقة أو في رتبة المشاركة أو في رتبة المعاونة - كما سبق في النية - وبالجملة؛ فإما أن يكون الباعث النفسي مثل الباعث الديني أو أقوى منه أو أضعف، ولكل واحد حكم آخر - كما سنذكره - وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها - قليلها وكثيرها - حتى يتجرد فيه قصد التقرب فلا يكون فيه باعث سواه. وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتر بالله مستغرق الهم بالآخرة بحيث لم يبق لحب الدنيا في قلبه قرار حتى لا يحب الأكل والشرب أيضاً، بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة، فلا يشتهي الطعام لأنه طعام بل لأنه يقويه على عبادة الله تعالى، ويتمنى أن لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل فلا يبقى في قلبه حظ من الفضول الزائدة على الضرورة، ويكون قدر الضرورة مطلوباً عنده لأنه ضرورة دينه فلا يكون له هم إلا الله تعالى. فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته، فلو نام مثلاً حتى يريح نفسه ليتقوى على العبادة بعده كان نومه عبادة وكان له درجة المخلصين فيه، ومن ليس كذلك فباب الإخلاص في الأعمال مسدود عليه إلا على الندور، وكما أن من غلب عليه حب الله وحب الآخرة فاكتسبت حركاته الاعتيادية صفة همه وصارت إخلاصاً؛ فالذي يغلب على نفسه: الدنيا والعلو والرياسة - وبالجملة غير الله - فقد اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة، فلا تسلم له عباداته من صوم وصلاة وغير ذلك إلا نادراً. فإذن علاج الإخلاص كسر حظوظ النفس وقطع الطمع عن الدنيا والتجرد للآخرة بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيسر الإخلاص، وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ويظن أنها خالصة لوجه الله ويكون فيها مغرور لأنه لا يرى وجه الآفة فيها إلا كما حكي عن بعضهم أنه قال: قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت صليتها في المسجد في الصف الأول لأني تأخرت يوماً لعذر فصليت في الصف الثاني فاعترتني خجلة من الناس حيث رأوني في الصف الثاني، فعرفت أن نظر الناس إلي في الصف الأول كان مسرتي وسبب استراحة قلبي من حيث لا أشعر، وهذا دقيق غامض قلما تسلم الأعمال من أمثاله وقل من يتنبه إلا من وفقه الله تعالى، والغافلون يرون حسناتهم كلها في الآخرة سيئات وهم المرادون بقوله تعالى: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون - وبدا لهم سيئات ما كسبوا " وبقوله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً " وأشد الخلق تعرضاً لهذه الفتنة العلماء، فإن الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستيلاء والفرح بالاستتباع والاستبشار بالحمد والثناء، والشيطان يلبس عليهم ذلك ويقول: غرضكم نشر دين الله والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وترى الواعظ يمن على الله تعالى بنصيحة الخلق ووعظه للسلاطين ويفرح بقبول الناس قوله وإقبالهم عليه، وهو يدعي أنه يفرح بما يسر له من نصرة الدين ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه وعظاً وانصرف الناس عنه وأقبلوا عليه ساءه ذلك وغمه، ولو كان باعثه الدين لشكر الله تعالى إذ كفاه الله تعالى هذا المهم بغيره، ثم الشيطان مع ذلك لا يخليه ويقول: إنما غمك لانقطاع الثواب عنك لا لانصراف وجوه الناس عنك إلى غيرك إذ لو اتعظوا بقولك لكنت أنت المثاب واغتمامك لفوات الثواب محمود، ولا يدري المسكين أن انقياده للحق وتسليمه الأمر أفضل وأجزل ثواباً وأعود عليه في الآخرة من انفراده. وليت شعري لو اغتم عمر رضي الله عنه بتصدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه للإمامة أكان غمه محموداً أو مذموماً؟ ولا يستريب ذو دين أن لو كان ذلك لكان مذموماً. لأن انقياده للحق وتسليمه الأمر إلى من هو أصلح منه أعود عليه في الدين من تكفله بمصالح الخلق مع ما فيه من الثواب الجزيل، بل فرح عمر رضي الله تعالى عنه باستقلال من هو أولى منه بالأمر. فما بال العلماء لا يفرحون بمثل ذلك؟ وقد ينخدع بعض أهل العلم بغرور الشيطان فيحدث نفسه بأنه لو ظهر من هو أولى منه بالأمر لفرح به، وإخباره بذلك عن نفسه قبل التجربة والامتحان محض الجهل والغرور، فإن النفس سهلة القياد في الوعد بأمثال ذلك قبل نزول الأمر، ثم إذا دهاه الأمر تغير ورجع ولم يف بالوعد. وذلك لا يعرفه إلا من عرف مكايد الشيطان والنفس وطال اشتغاله بامتحانها، فمعرفة حقيقة الإخلاص والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع إلا الشاذ النادر والفرد الفذ وهو المستثنى في قوله تعالى " إلا عبادك منهم المخلصين " فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق وإلا التحق بأتباع الشياطين وهو لا يشعر

[align=center]بيان أقاويل الشيوخ في الإخلاص[/align]

قال السوسي: الإخلاص فقد رؤية الإخلاص، فإن من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص. وما ذكره إشارة إلى تصفية العمل عن العجب بالفعل فإن الالتفات إلى الإخلاص والنظر إليه عجب؛ وهو من جملة الآفات، والخالص: ما صفا عن جميع الآفات، فهذا تعرض لآفة واحدة.
وقال سهل رحمه الله تعالى: الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة، وهذه كلمة جامعة محيطة بالغرض، وفي معناه قول إبراهيم بن أدهم: الإخلاص صدق النية مع الله تعالى.
وقيل لسهل: أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب.
وقال رويم: الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عليه عوضاً في الدارين. وهذا إشارة إلى أن حظوظ النفس آفة آجلاً وعاجلاً. والعابد لأجل التنعم بالشهوات في الجنة معلول، بل الحقيقة أن لا يراد بالعمل إلا وجه الله تعالى وهو إشارة إلى إخلاص الصديقين وهو الإخلاص المطلق. فأما من يعمل لرجاء الجنة وخوف النار فهو مخلص بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة وإلا فهو في طلب حظ البطن والفرج، وإنما المطلوب الحق لذوي الألباب وجه الله تعالى فقط، وهو القائل لا يتحرك الإنسان إلا لحظ، والبراءة من الحظوظ صفة الإلهية، ومن ادعى ذلك فهو كافر. وقد قضى القاضي أبو بكر الباقلاني بتكفير من يدعي البراءة من الحظوظ وقال: هذا من صفات الإلهية وما ذكره حق، ولكن القوم إنما أرادوا به البراءة عما يسميه الناس حظوظاً، وهو الشهوات الموصوفة في الجنة فقط. فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة والنظر إلى وجه الله تعالى فهذا حظ هؤلاء، وهذا لا يعده الناس حظاً بل يتعجبون منه. وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة وملازمة السجود للحضرة الإلهية سراً وجهراً جميع نعيم الجنة لاستحقروه ولم يلتفتوا إليه؛ فحركتهم لحظ وطاعتهم لحظ ولكن حظهم معبودهم فقط دون غيره.
وقال أبو عثمان: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق فقط. وهذا إشارة إلى آفة الرياء فقط؛ ولذلك قال بعضهم: الإخلاص في العمل أن لا يطلع عليه شيطان فيفسده ولا ملك فيكتبه، فإنه إشارة إلى مجرد الإخفاء.
وقد قيل: الإخلاص ما استتر عن الخلق وصفا عن العلائق. وهذا أجمع للمقاصد.
وقال المحاسبي: الإخلاص هو إخراج الخلق عن معاملة الرب. وهذا إشارة إلى مجرد نفي الرياء. وكذلك قول الخواص: من شرب من كأس الرياسة فقد خرج عن إخلاص العبودية.
وقال الحواريون لعيسى عليه السلام: ما الخالص من الأعمال؟ فقال: الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده عليه أحد. وهذا أيضاً تعرض لترك الرياء وإنما خصه بالذكر لأنه أقوى الأسباب المشوشة للإخلاص.
وقال الجنيد: الإخلاص تصفية العمل من الكدورات.
وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص بأن يعافيك الله منهما.
وقيل: الإخلاص دوام المراقبة ونسيان الحظوظ كلها. وهذا هو البيان الكامل والأقاويل في هذا كثيرة ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة.
وإنما البيان الشافي بيان سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الإخلاص، فقال: " أن تقول ربي الله ثم تستقيم كما أمرت". أي لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلا ربك وتستقيم في عبادته كما أمرت وهذا إشارة إلى قطع ما سوى الله عن مجرى النظر وهو الإخلاص حقاً.

[align=center]بيان درجات الشوائب والآفات المكدرة للإخلاص[/align]

اعلم أن الآفات المشوشة للإخلاص بعضها جلي وبعضها خفي وبعضها ضعيف مع الجلاء وبعضها قوي مع الخفاء، ولا يفهم اختلاف درجاته في الخفاء والجلاء إلا بمثال. وأظهر مشوشات الإخلاص الرياء فلنذكر منه مثالاً: فنقول: الشيطان يدخل الآفة على المصلي مهما كان مخلصاً في صلاته؛ ثم نظر إليه جماعة أو دخل عليه داخل فيقول له: حسن صلاتك حتى ينظر إليك هذا الحاضر بعين الوقار والصلاح ولا يزدريك ولا يغتابك! فتخشع جوارحه، وتسكن أطرافه، وتحسن صلاته، وهذا هو الرياء الظاهر؛ ولا يخفى ذلك على المبتدئين من المريدين.
الدرجة الثانية: يكون المريد قد فهم هذه الآفة وأخذ منها حذره فصار لا يطيع الشيطان فيها ولا يلتفت إليه ويستمر في صلاته كما كان. فيأتيه في معرض الخير ويقول: أنت متبوع ومقتدى بك ومنظور إليك وما تفعله يؤثر عنك ويتأسى بك غيرك، فيكون لك ثواب أعمالهم إن أحسنت وعليك الوزر إن أسأت، فأحسن عملك بين يديه فعساه يقتدي بك في الخشوع وتحسين العبادة! وهذا أغمض من الأول وقد ينخدع به من لا ينخدع بالأول، وهو أيضاً عين الرياء ومبطل للإخلاص، فإنه إن كان يرى الخشوع وحسن العبادة خيراً لا يرضى لغيره تركه فلم لم يرتض لنفسه ذلك في الخلوة ولا يمكن أن تكون نفس غيره أعز عليه من نفسه؟ فهذا محض التلبيس، بل المقتدي به هو الذي في نفسه واستنار قلبه فانتشر نوره إلى غيره فيكون له ثواب عليه فأما هذا فمحض النفاق والتلبيس، فمن اقتدى به أثيب عليه وأما هو فيطالب بتلبيسه ويعاقب على إظهاره من نفسه ما ليس متصفاً به.
الدرجة الثالثة: وهي أدق مما قبلها، أن يجرب العبد نفسه في ذلك ويتنبه لكيد الشيطان ويعلم أن مخالفته بين الخلوة والمشاهدة للغير محض الرياء، ويعلم أن الإخلاص في أن تكون صلاته في الخلوة مثل صلاته في الملأ، ويستحيي من نفسه ومن ربه أن يتخشع لمشاهدة خلقه تخشعاً زائداً على عادته، فيقبل على نفسه في الخلوة ويحسن صلاته على الوجه الذي يرتضيه في الملأ، ويصلي في الملأ أيضاً كذلك، فهذا أيضاً من الرياء الغامض لأنه حسن صلاته في الخلوة لتحسن في الملأ فلا يكون قد فرق بينهما، فالتفاته في الخلوة والملأ إلى الخلق، بل الإخلاص أن تكون مشاهدة البهائم لصلاته ومشاهدة الخلق على وتيرة واحدة، فكأن نفس هذا ليست تسمح بإساءة الصلاة بين أظهر الناس ثم يستحيي من نفسه أن يكون في صورة المرائين، ويظن أن ذلك يزول بأن تستوي صلاته في الخلا والملا وهيهات! بل زوال ذلك بأن لا يلتفت إلى الخلق كما لا يلتفت إلى الجمادات في الخلا والملأ جميعاً، وهذا من شخص مشغول الهم بالخلق في الملأ والخلا جميعاً، وهذا من المكايد الخفية للشيطان.
الدرجة الرابعة: وهي أدق وأخفى، أن ينظر إليه الناس وهو في صلاته فيعجز الشيطان عن أن يقول له: اخشع لأجلهم، فإنه قد عرف أنه قد تفطن لذلك فيقول له الشيطان: تفكر في عظمة الله تعالى وجلاله ومن أنت واقف بين يديه واستحي من أن ينظر الله إلى قلبك وهو غافل عنه، فيحضر بذلك قلبه وتخشع جوارحه ويظن أن ذلك عين الإخلاص وهو عين المكر والخداع، فإن خشوعه لو كان لنظره إلى جلاله لكانت هذه الخطرة تلازمه في الخلوة ولكان لا يختص حضورها بحالة حضور غيره، وعلامة الأمن من هذه الآفة أن يكون هذا الخاطر مما يألفه في الخلوة كما يألفه في الملأ، ولا يكون حضور الغير هو السبب في حضور الخاطر كما لا يكون حضور البهيمة سبباً فما دام يفرق في أحواله بين مشاهدة إنسان ومشاهدة بهيمة فهو بعد خارج عن صفو الإخلاص مدنس الباطن بالشرك الخفي من الرياء، وهذا الشرك أخفي في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، كما ورد في الخبر ولا يسلم من الشيطان إلا من دق نظره وسعد بعصمة الله تعالى وتوفيقه وهدايته، وإلا فالشيطان ملازم للمتشمرين لعبادة الله تعالى لا يغفل عنهم لحظة حتى يحملهم على الرياء في كل حركة من الحركات حتى في كحل العين وقص الشارب وطيب يوم الجمعة ولبس الثياب، فإن هذه سنن في أوقات مخصوصة وللنفس فيها حظ خفي لارتباط نظر الخلق بها ولاستئناس الطبع بها، فيدعوه الشيطان إلى فعل ذلك ويقول هذه سنة لا ينبغي أن تتركها، ويكون انبعاث القلب باطناً لها لأجل تلك الشهوة الخفية، أو مشوبة بها شوباً يخرج عن حد الإخلاص بسببه، وما لا يسلم عن هذه الآفات كلها فليس بخالص، بل من يتعكف في مسجد معمور نظيف حسن العمارة يأنس إليه الطبع فالشيطان يرغبه ويكثر عليه من فضائل الاعتكاف، وقد يكون المحرك الخفي في سره هو الأنس بحسن صورة المسجد واستراحة الطبع إليه، ويتبين ذلك في ميله إلى أحد المسجدين أو أحد الموضعين إذا كان أحسن من الآخر، وكل ذلك امتزاج بشوائب الطبع وكدورات النفس ومبطل حقيقة الإخلاص لعمري الغش الذي يمزج بخالص الذهب له درجات متفاوتة. فمنها ما يغلب ومنها ما يقل لكن يسهل دركه. ومنها ما يدق بحيث لا يدركه إلا الناقد البصير. وغش القلب ودغل الشيطان وخبث النفس أغمض من ذلك وأدق كثيراً. ولهذا قيل: ركعتان من عالم أفضل من عبادة سنة من جاهل، وأريد به العالم البصير بدقائق آفات الأعمال حتى يخلص عنها، فإن الجاهل نظره إلى ظاهر العبادة واغتراره بها كنظر السوادي إلى حمرة الدينار المموه واستدارته وهو مغشوش زائف في نفسه، وقيراط من الخالص الذي يرتضيه الناقد البصير خير من دينار يرتضيه الغر الغبي. فهكذا يتفاوت أمر العبادات بل أشد وأعظم. ومداخل الآفات المتطرقة إلى فنون الأعمال لا يمكن حصرها وإحصاؤها فلينتفع بما ذكرناه مثالاً، والفطن يغنيه القليل عن الكثير والبليد لا يغنيه التطويل أيضاً فلا فائدة في التفصيل.

[align=center]بيان حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب به[/align]

اعلم أن العمل إذا لم يكن خالصاً لوجه الله تعالى بل امتزج به شوب من الرياء أو حظوظ النفس فقد اختلف الناس في أن ذلك هل يقتضي ثواباً أم يقتضي عقاباً أم لا يقتضي شيئاً أصلاً فلا يكون له ولا عليه؟ أما الذي لم يرد به إلا الرياء فهو عليه قطعاً وهو سبب المقت والعقاب. وأما الخالص لوجه الله تعالى فهو سبب الثواب وإنما النظر في المشوب، وظاهر الأخبار تدل على أنه لا ثواب له، وليس تخلو الأخبار عن تعارض فيه. والذي ينقدح لما فيه - والعلم عند الله - أن ينظر إلى قدر قوة الباعث. فإن كان الباعثالديني مساوياً للباعث النفسي تقاوماً وتساقطاً وصار العمل لا له ولا عليه، وإن كان باعث الرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع وهو مع ذلك مضر ومفض للعقاب. نعم العقاب الذي فيه من عقاب العمل الذي تجرد للرياء ولم يمتزج به شائبة التقرب. وإن كان قصد التقرب أغلب بالإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني وهذا لقوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره "، ولقوله تعالى: " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها " فلا ينبغي أن يضيع قصد الخير، بل إن كان غالباً على قصد الرياء حبط منه القدر الذي يساويه وبقيت زيادة، وإن كان مغلوباً سقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسد، وكشف الغطاء عن هذا أن الأعمال تأثيرها في القلوب بتأكيد صفاتها. فداعية الرياء من المهلكات وإنما غذاء هذا المهلك وقوته العمل على وفقه، وداعية الخير من المنجيات وإنما قوتها بالعمل على وفقها، فإذا اجتمعت الصفتان في القلب فهما متضادتان، فإذا عمل على وفق مقتضى الرياء فقد قوي تلك الصفة، وإذا كان العمل على وفق مقتضى التقرب فقد قوي أيضاً تلك الصفة، وأحدهما مهلك والآخر منج، فإن كان تقوية هذا بقدر تقوية الآخر فقد تقاوما، فكان كالمستضر بالحرارة إذا تناول ما يضره ثم تناول من المبردات ما يقاوم قدر قوته، فيكون بعد تناولهما كأنه لم يتناولهما، وإن كان أحدهما غالباً لم يخل الغالب عن أثر، فكما لا يضيع مثقال ذرة من الطعام والشراب والأدوية ولا ينفك عن أثر في الجسد بحكم سنة الله تعالى، فكذلك لا يضيع مثقال ذرة من الخير والشر ولا ينفك عن تأثير في إنارة القلب أو تسويده وفي تقريبه من الله أو إبعاده، فإذا جاء بما يقربه شبراً مع ما يبعده شبراً فقد عاد إلى ما كان فلم يكن له ولا عليه، وإن كان الفعل مما يقربه شبرين والآخر يبعده شبراً واحداً فضل له لا محالة شبر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أتبع السيئة الحسنة تمحها" فإذا كان الرياء المحض يمحوه الإخلاص المحض عقيبه، فإذا اجتمعا جميعاً فلا بد وأن يتدافعا بالضرورة. ويشهد لهذا إجماع الأمة على أن من خرج حاجاً ومعه تجارة صح حجه وأثيب عليه، وقد امتزج به حظ من حظوظ النفس. نعم يمكن أن يقال: إنما يثاب على أعمال الحج عند انتهائه إلى مكة وتجارته غير موقوفة عليه فهو خالص، وإنما المشترك طول المسافة ولا ثواب فيه مهما قصد التجارة. ولكن الصواب أن يقال: مهما كان الحج هو المحرك الأصلي وكان غرض التجارة كالمعين والتابع فلا ينفك نفس السفر عن ثواب ما. وعندي: أن الغزاة لا يدركون في أنفسهم تفرقة بين غزو الكفار في جهة تكثر فيها الغنائم وبين جهة لا غنيمة فيها، ويبعد أن يقال: إدراك هذه التفرقة يحبط بالكلية ثواب جهادهم، بل العدل أن يقال: إذا كان الباعث الأصلي والمزعج القوي هو إعلاء كلمة الله تعالى وإنما الرغبة في الغنيمة على سبيل التبعية فلا يحبط به الثواب. نعم لا يساوي ثوابه ثواب من لا يلتفت قلبه إلى الغنيمة أصلاً، فإن هذا الالتفات نقصان لا محالة.
فإن قلت: فالآيات والخبار تدل على أن شوب الرياء محبط للثواب، وفي معناه شوب طلب الغنيمة والتجارة وسائر الحظوظ فقد روى طاوس وغيره من التابعين: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يصطنع المعروف - أو قال يتصدق - فيحب أن يحمد ويؤجر فلم يدر ما يقوله حتى نزلت " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحد "، وقد قصد الأجر والحمد جميعاً.
وروى معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أدنى الرياء شرك".
وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يقال لمن أشرك في عمله خذ أجرك ممن عملت له".
وروي عن عبادة " أن الله عز وجل يقول: أنا أغنى الأغنياء عن الشركة من عمل لي عملاً فأشرك معي غيري ودعت نصيبي لشريكي ".
وروى أبو موسى أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى مكانه فأيهم في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
وقال عمر رضي الله عنه: تقولون فلان شهيد ولعله أن يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقاً.
وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من هاجر يبتغي شيئاً من الدنيا فهو له".
فنقول هذه الأحاديث لا تناقض ما ذكرناه بل المراد بها من لم يرد بذلك إلا الدنيا كقوله: " من هاجر يبتغي شيئاً من الدنيا " وكان ذلك هو الأغلب على همه وقد ذكرنا أن ذلك عصيان وعدوان لا لأن طلب الدنيا حرام ولكن طلبها بأعمال الدين حرام لما فيه من الرياء وتغيير العبادة عن موضعها، وأما لفظ الشركة حيث ورد فمطلق للتساوي وقد بينا أنه إذا تساوى القصدان تقاوما ولم يكن له ولا عليه، فلا ينبغي أن يرجى عليه ثواب، ثم إن الإنسان عند الشركة أبداً في خطر فإنه لا يدري أي الأمرين أغلب على قصده فربما يكون عليه وبالاً ولذلك قال تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحد " أي لا يرجى اللقاء مع الشركة التي أحسن أحوالها التساقط، ويجوز أن يقال: منصب الشهادة لا ينال إلا بالإخلاص في الغزو. وبعيد أن يقال: من كانت داعيته الدينية بحيث تزعجه إلى مجرد الغزو - وإن لم يكن غنيمة - وقدر على غزو طائفتين من الكفار إحداهما غنية والأخرى فقيرة فمال إلى جهة الأغنياء - لإعلاء كلمة الله وللغنيمة - لا ثواب له على غزوه البتة، ونعوذ بالله أن يكون الأمر كذلك فإن هذا حرج في الدين ومدخل لليأس على المسلمين، لأن أمثال هذه الشوائب التابعة قط لا ينفك الإنسان عنها إلا على الندور، فيكون تأثير هذا في نقصان الثواب، فأما أن يكون في إحباطه فلا، نعم الإنسان فيه على خطر عظيم لأنه ربما يظن أن الباعث الأقوى هو قصد التقرب إلى الله ويكون الأغلب على سره الحظ النفسي، وذلك مما يخفى غاية الخفاء، فلا يحصل الأجر إلا بالإخلاص والإخلاص قلما يستيقنه العبد من نفسه وإن بالغ في الاحتياط، فلذلك ينبغي أن يكون أبداً بعد كمال الاجتهاد متردداً بين الرد والقبول خائفاً أن تكون في عبادته آفة يكون وبالها أكثر من ثوابها. وهكذا كان الخائفون من ذوي البصائر، وهكذا ينبغي أن يكون كل ذي بصيرة. ولذلك قال سفيان رحمه الله: لا أعتد بما ظهر من عملي.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: جاورت هذا البيت ستين سنة وحججت ستين حجة فما دخلت في شيء من أعمال الله تعالى إلا وحاسبت نفسي فوجدت نصيب الشيطان أوفى من نصيب الله، ليته لا لي ولا علي.
ومع هذا فلا ينبغي أن يترك العمل عند خوف الآفة والرياء فإن ذلك منتهى بغية الشيطان منه إذ المقصود أن لا يفوت الإخلاص، ومهما ترك العمل فقد ضيع العمل والإخلاص جميعاً. وقد حكي أن بعض الفقراء كان يخدم أبا سعيد الخراز ويخف في أعماله فتكلم أبو سعيد في الإخلاص يوماً - يريد إخلاص الحركات - فأخذ الفقير يتفقد قلبه عند كل حركة ويطالبه بالإخلاص فتعذر عليه قضاء الحوائج واستضر الشيخ بذلك، فسأله عن أمره فأخبره بمطالبته نفسه بحقيقة الإخلاص وأنه يعجز عنها في أكثر أعماله فيتركها، فقال أبو سعيد: لا تفعل إذ الإخلاص لا يقطع المعاملة فواظب على العمل واجتهد في تحصيل الإخلاص، فما قلت لك اترك العمل وإنما قلت لك أخلص العمل.
وقد قال الفضيل: ترك العمل بسبب الخلق رياء وفعله لأجل الخلق شرك.

[align=center]الباب الثالث
في الصدق وفضيلته وحقيقته
[/align]

[align=center]فضيلة الصدق[/align]

قال الله تعالى: " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً".ويكفي في فضيلة الصدق أن الصديق مشتق منه والله تعالى وصف الأنبياء به في معرض المدح والثناء فقال: " واذكروا في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً "، وقال: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً ".
وقال تعالى: " واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً ".
وقال ابن عباس: أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر.
وقال بشر بن الحارث: من عامل الله بالصدق استوحش من الناس.
وقال أبو عبد الله الرملي: رأيت منصوراً الدينوري في المنام فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني وأعطاني ما لم أؤمل، فقلت له: أحسن ما توجه العبد به إلى الله ماذا؟ قال: الصدق وأقبح ما توجه به الكذب.
وقال أبو سليمان: اجعل الصدق مطيتك والحق سيفك والله تعالى غاية طلبتك.
وقال رجل لحكيم: ما رأيت صادقاً! فقال له: لو كنت صادقاً لعرفت الصادقين.
وعن محمد بن علي الكتاني قال: وجدنا دين الله تعالى مبنياً على ثلاثة أركان: الحق والصدق والعدل، فالحق على الجوارح والعدل على القلوب، والصدق على العقول.
وقال الثوري في قوله تعالى: " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة " قال: هم الذين ادعوا محبة الله تعالى ولم يكونوا بها صادقين.
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود من صدقني في سريرته صدقته عند المخلوقين في علانيته.
وصاح رجل في مجلس الشبلي ورمى نفسه في دجلة، فقال الشبلي: إن كان صادقاً فالله تعالى ينجيه كما نجى موسى عليه السلام، وغن كان كاذباً فالله تعالى يغرقه كما أغرق فرعون.
وقال بعضهم: أجمع الفقهاء والعلماء على ثلاث خصال أنها إذا صحت ففيها النجاة - ولا يتم بعضها إلا ببعض - الإسلام الخالص عن البدعة والهوى، والصدق لله تعالى في الأعمال، وطيب المطعم.
وقال وهب بن منبه: وجدت على حاشية التوراة اثنين وعشرين حرفاً كان صلحاء بني إسرائيل يجتمعون فيقرؤونها ويتدارسونها: لا كنز أنفع من العلم، ولا مال أربح من الحلم، ولا حسب أوضع من الغضب، ولا قرين أزين من العمل، ولا رفيق أشين من الجهل، ولا شرف أعز من التقوى، ولا كرم أوفى من ترك الهوى، ولا عمل أفضل من الفكر، ولا حسنة أعلى من الصبر، ولا سيئة أخزى من الكبر، ولا دواء ألين من الرفق، ولا داء أوجع من الخرق، ولا رسول أعدل من الحق، ولا دليل أنصح من الصدق، ولا فقر أذل من الطمع، ولا غنى أشقى من الجمع، ولا حياة أطيب من الصحة، ولا معشية أهنأ من العفة، ولا عبادة أحسن من الخشوع، ولا زهد خير من القنوع، ولا حارس أحفظ من الصمت، ولا غائب أقرب من الموت.
وقال محمد بن سعيد المروزي: إذا طلبت الله بالصدق آتاك الله تعالى مرآة بيدك حتى تبصر كل شيء من عجائب الدنيا والآخرة.
وقال أبو بكر الوراق: احفظ الصدق فيما بينك وبين الله تعالى والرفق فيما بينك وبين الخلق.
وقيل لذي النون: هل للعبد إلى صلاح أموره سبيل؟ فقال:

[align=center]قد بقينا من الذنوب حيارى نطلب الصدق ما إليه سبيل
فدعاوى الهوى تخف علينا وخلاف الهوى علينا ثقيل [/align]


وقيل لسهل: ما أصل هذا الأمر الذي نحن عليه؟ فقال: الصدق والسخاء والشجاعة. فقيل: زدنا، فقال: التقى والحياء وطيب الغذاء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكمال فقال: " قول الحق والعمل بالصدق".
وعن الجنيد في قوله تعالى: " ليسأل الصادقين عن صدقهم " قال: يسأل الصادقين عند أنفسهم عن صدقهم عند ربهم، وهذا أمر على خطر.

[align=center]بيان حقيقة الصدق ومعناه ومراتبه[/align]

اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صديق لأنه مبالغة في الصدق. ثم هم أيضاً على درجات فمن كان له حظ في الصدق في شيء من الجملة فهو صادق بالإضافة إلى ما فيه صدقه
الصدق الأول: صدق اللسان وذلك لا يكون إلا في الإخبار أو فيما يتضمن الإخبار وينبه عليه، والخبر إما أن يتعلق بالماضي أو بالمستقبل، وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه. وحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه فلا يتكلم إلا بالصدق، وهذا هو أشهر أنواع الصدق وأظهرها، فمن حفظ لسانه عن الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه فهو صادق ولكن لهذا الصدق كمالان: أحدهما الاحتراز عن المعاريض؛ فقد قيل: في المعاريض مندوحة عن الكذب وذلك لأنها تقوم مقام الكذب، إذ المحذور من الكذب تفهيم الشيء على خلاف ما هو في نفسه، إلا أن ذلك مما تمس إليه الحاجة وتقتضيه المصلحة في الأحوال وفي تأديب الصبيان والنسوان ومن يجري مجراهم وفي الحذر عن الظلمة وفي قتال الأعداء والاحتراز عن إطلاعهم على أسرار الملك، فمن اضطر إلى شيء من ذلك فصدقه فيه أن يكون نطقه فيه لله فيما يأمره الحق به ويقتضيه الدين، فإذا نطق به فهو صادق وإن كان كلامه مفهماً غير ما هو عليه، لأن الصدق ما أريد لذاته بل للدلالة على الحق والدعاء إليه فلا ينظر إلى صورته بل إلى معناه، نعم في مثل هذا الموضع ينبغي أن يعدل إلى المعاريض ما وجد إليه سبيلاً، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توجه إلى سفر ورى بغيره، وذلك كي لا ينتهي الخبر إلى الأعداء فيقصد، وليس هذا من الكذب في شيء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيراً أو أنمى خيراً" ورخص في النطق على وفق المصلحة في ثلاثة مواضع: من أصلح بين اثنين، ومن كان له زوجتان، ومن كان في مصالح الحرب. والصدق ههنا يتحول إلى النية فلا يراعي فيه إلا صدق النية وإرادة الخير، فمهما صح قصده وصدقت نيته وتجردت للخير إرادته صار صادقاً وصديقاً كيفما كان لفظه، ثم التعريض فيه أولى. وطريقه ما حكي عن بعضهم، أنه كان يطلبه بعض الظلمة وهو في داره فقال لزوجته: خطي بإصبعك دائرة وضعي الإصبع على الدائرة وقولي ليس هو ههنا، واحترز بذلك عن الكذب ودفع الظالم عن نفسه، فكان قوله صدق وأفهم الظالم أنه ليس في الدار. فالكمال الأول في اللفظ أن يحترز عن صريح اللفظ وعن المعاريض أيضاً إلا عند الضرورة.
والكمال الثاني: أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه كقوله: " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض " فإن قلبه إن كان منصرفاً عن الله تعالى مشغولاً بأماني الدنيا وشهواته فهو كذب. وكقوله: " إياك نعبد " وقوله: أنا عبد الله، فإنه إذا لم يتصف بحقيقة العبودية وكان له مطلب سوى الله لم يكن كلامه صدقاً، ولو طولب يوم القيامة بالصدق في قوله: أنا عبد الله، لعجز تحقيقه فإنه كان عبداً لنفسه أو عبداً لدنيا أو عبداً لشهواته لم يكن صادقاً في قوله. وكل ما تقيد العبد به فهو عبد له كما قال عيسى عليه السلام: يا عبيد الدنيا! وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة" فسمى كل من تقيد بشيء عبداً له.
وإنما العبد الحق - لله عز وجل - من أعتق أولاً من غير الله تعالى فصار حراً مطلقاً، فإذا تقدمت هذه الحرية صار القلب فارغاً فحلت فيه العبودية لله فتشغله بالله وبمحبته وتقيد باطنه وظاهره بطاعته فلا يكون له مراد إلا الله تعالى، ثم تجاوز هذا إلى مقام آخر أسمى منه يسمى الحرية وهو أن يعتق أيضاً عن إرادته لله من حيث هو بل يقنع بما يريد الله له من تقريب أو إبعاد فتفنى إرادته في إرادة الله تعالى، وهذا عبد عتق عن غير الله فصار حراً، ثم عاد وعتق عن نفسه فصار حراً، وصار مفقوداً لنفسه موجوداً لسيده ومولاه إن حركه تحرك وإن سكنه سكن وإن ابتلاه رضي، لم يبق فيه متسع لطلب والتماس واعتراض، بل هو بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل وهذا منتهى الصدق في العبودية لله تعالى، فالعبد الحق هو الذي وجوده لمولاه لا لنفسه وهذه درجة الصديقين. وأما الحرية عن غير الله فدرجات الصادقين، وبعدها تتحقق العبودية لله تعالى، وما قبل هذا فلا يستحق صاحبه أن يسمى صادقاً ولا صديقاً، فهذا هو معنى الصدق في القول.
الصدق الثاني: في النية والإرادة! ويرجع ذلك إلى الإخلاص وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى، فإن مازجه شوب من حظوظ النفس بطل صدق النية وصاحبه يجوز أن يسمى كاذباً - كما روينا في فضيلة الإخلاص من حديث الثلاثة حين يسأل العالم ما عملت فيما علمت؟ فقال: فعلت كذا وكذا، فقال الله تعالى: كذبت بل أردت أن يقال فلان عالم- فإنه لم يكذبه ولم يقل له لم تعمل ولكنه كذبه في إرادته ونيته.
وقد قال بعضهم: الصدق صحة التوحيد في القصد.
وكذلك قول الله تعالى: " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " وقد قالوا إنك لرسول الله وهذا صدق، ولكن كذبهم لا من حيث نطق اللسان بل من حيث ضمير القلب وكان التكذيب يتطرق إلى الخبر. وهذا القول يتضمن إخباراً بقرينة الحال إذ صاحبه يظهر من نفسه أن يعتقد ما يقول فكذب في دلالته بقرينة الحال على ما في قلبه، فإنه كذب ولم يكذب فيما يلفظ به، فيرجع أحد معاني الصدق إلى خلوص النية وهو الإخلاص فكل صادق فلا بد وأن يكون مخلصاً.
الصدق الثالث: صدق العزم؛ فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل فيقول في نفسه. إن رزقني الله مالاً تصدقت بجميعه - أو بشطره. أو إن لقيت عدواً في سبيل الله تعالى قاتلت ولم أبال وإن قتلت، وإن أعطاني الله تعالى ولاية عدلت فيها ولم أعص الله تعالى بظلم وميل إلى خلق. فهذه العزيمة قد يصادفها من نفسه وهي عزيمة جازمة صادقة، وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة، فكان الصدق ههنا عبارة عن التمام والقوة كما يقال: لفلان شهوة صادقة. ويقال: هذا المريض شهوته كاذبة، مهما لم تكن شهوته عن سبب ثابت قوي أو كانت ضعيفة، فقد يطلق الصدق ويراد به هذا المعنى. والصادق والصديق هو الذي تصادف عزيمته في الخيرات كلها قوة تامة ليس فيها ميل ولا ضعف ولا تردد، بل تسخو نفسه أبداً بالعزم المصمم الجازم على الخيرات وهو كما قال عمر رضي الله عنه: لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر - رضي الله عنه - فإنه قد وجد من نفسه العزم الجازم، والمحبة الصادقة بأنه لا يتأمر مع وجود أبي بكر رضي الله عنه، وأكد ذلك بما ذكره من القتل.
ومراتب الصديقين في العزائم تختلف؛ فقد يصادف العزم ولا ينتهي به إلى أن يرضى بالقتل فيه ولكن إذا خلي ورأيه لم يقدم، ولو ذكر له حديث القتل لم ينقض عزمه، بل في الصادقين والمؤمنين من لو خير بين أن يقتل هو أو أبو بكر كانت حياته أحب من حياة أبي بكر الصديق.
الصدق الرابع: في الوفاء بالعزم، فإن النفس قد تسخو بالعزم في الحال إذ لا مشقة في الوعد والعزم والمؤنة فيه خفيفة، فإذا حقت الحقائق وحصل التمكن وهاجت الشهوات انحلت العزيمة وغلبت الشهوات ولم يتفق الوفاء بالعزم، وهذا يضاد الصدق فيه، ولذلك قال الله تعالى: "رجال صدقوا الله ما عاهدوا الله عليه "، فقد روي عن أنس أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على قلبه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه أما والله لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع! قال: فشهد أحداً في العام القابل فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ فقال: واها لريح الجنة! إني أجد ريحها دون أحد. فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة فقالت أخته بنت النضر: ما عرفت أخي إلا بثيابه، فنزلت هذه الآية " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ".
ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير - وقد سقط على وجهه يوم أحد شهيداً وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ".
وقال فضالة بن عبيد: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا " ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته، قال الراوي: فلا أدري قلنسوة عمر أو قلنسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، " ورجل جيد الإيمان إذا لقي العدو فكأنما يضرب وجهه بشوك الطلح أتاه سهم عاثر فقتله فهو في الدرجة الثانية، ورجل مؤمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الثالثة، ورجل أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الرابعة".
وقال مجاهد: رجلان خرجا على ملأ من الناس قعود فقالا: إن رزقنا الله تعالى لنتصدقن فبخلوا به فنزلت " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ".
وقال بعضهم: إنما هو شيء نووه في أنفسهم لم يتكلموا به فقال " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضين فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون " فجعل العزم عهداً وجعل الخلف فيه كذباً والوفاء به صدقاً. وهذا الصدق أشد من الصدق الثالث، فإن الناس قد تسخو بالعزم ثم تكيع عند الوفاء لشدته عليها ولهيجان الشهوة عند التمكن وحصول الأسباب. ولذلك استثنى عمر رضي الله عنه فقال: لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند القتل شيئاً لا أجده الآن لأني لا آمن أن يثقل عليها ذلك فتتغير عن عزمها. أشار بذلك إلى شدة الوفاء بالعزم.
وقال أبو سعيد الخراز: رأيت في المنام كأن ملكين نزلا من السماء فقالا لي: ما الصدق؟ قلت: الوفاء بالعهد، فقالا لي: صدقت، وعرجا إلى السماء.
الصدق الخامس: في الأعمال، وهو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به، لا بأن يترك الأعمال ولكن بأن يستجر الباطن إلى تصديق الظاهر، وهذا مخالف ما ذكرناه من ترك الرياء لأن المرائي هو الذي يقصد ذلك، ورب واقف على هيئة الخشوع في صلاته ليس يقصد به مشاهدة غيره ولكن قلبه غافل عن الصلاة، فمن ينظر إليه يراه قائماً بين يدي الله تعالى وهو بالباطن قائم في السوق بين يدي شهوة من شهواته فهذه أعمال تعرب بلسان الحال عن الباطن إعراباً هو فيه كاذب وهو مطلب بالصدق في الأعمال وكذلك قد يمشي الرجل على هيئة السكون والوقار وليس باطنه موصوفاً بذلك الوقار، فهذا غير صادق في عمله وإن لم يكن ملتفتاً إلى الخلق ولا مرائياً إياهم، ولا ينجو من هذا إلا باستواء السريرة والعلانية بأن يكون باطنه مثل ظاهره أو خيراً من ظاهره. ومن خيفة ذلك اختار بعضهم تشويش الظاهر ولبس ثياب الأشرار كيلا يظن به الخير بسبب ظاهره فيكون كاذباً في دلالة الظاهر على الباطن.
إذن مخالفة الظاهر للباطن إن كانت عن قصد سميت رياء ويفوت بها الإخلاص، وإن كانت عن غير قصد فيفوت بها الصدق.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم اجعل سريرتي خيراً من علانيتي واجعل علانيتي صالحة".
وقال يزيد بن الحارث: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النصف، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور. وأنشدوا:

[align=center] إذا السر والإعلان في المؤمن استوى فقد عز في الدارين واستوجب الثنـا
فإن خالف الإعلان سراً فـمـا لـه على سعيه فضل سوى الكد والعنـا
فما خالص الدينار في السوق نافـق ومغشوشه المردود لا يتقضى المنـا [/align]


وقال عطية بن عبد الغافر: إذا وافقت سريرة المؤمن علانيته باهى الله به الملائكة يقول: هذا عبدي حقاً.
وقال معاوية بن قرة: من يدلني على بكاء بالليل بسام بالنهار.
وقال عبد الواحد بن زيد: كان الحسن إذا أمر بشيء كان من أعمل الناس به وإذا نهي عن شيء كان من أترك الناس له، ولم أر أحداً قط أشبه سريرة بعلانية منه.
وكان أبو عبد الرحمن الزاهد يقول: إلهي عاملت الناس فيما بيني وبينهم بالأمانة، وعاملتك فيما بيني وبينك بالخيانة - ويبكي.
وقال أبو يعقوب النهرجوري: الصدق موافقة الحق في السر والعلانية.
فإذن مساواة السريرة للعلانية أحد أنواع الصدق.
الصدق السادس: وهو أعلى الدرجات وأعزها؛ الصدق في مقامات الدين، كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور. فإن هذه الأمور لها مباد ينطلق الاسم بظهورها، ثم لها غايات وحقائق والصادق المحقق من نال حقيقتها، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقاً فيه، كما يقال: فلان صدق القتال. ويقال: هذا هو الخوف الصادق، وهذه هي الشهوة الصادقة. وقال الله تعالى " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا " إلى قوله " أولئك هم الصادقون ".
وقال تعالى: " ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر " إلى قوله " أولئك الذين صدقوا ".
وسئل أبو ذر عن الإيمان فقرأ هذه الآية فقيل له: سألناك عن الإيمان؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ هذه الآية.
ولنضرب للخوف مثلاً: فما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفاً ينطلق عليه الاسم، ولكنه خوف غير صادق أي غير بالغ درجة الحقيقة، أما تراه إذا خاف، سلطاناً أو قاطع طريق في سفره كيف يصفر لونه وترتعد فرائصه ويتنغص عليه عيشه ويتعذر عليه أكله ونومه وينقسم عليه فكره، حتى لا ينتفع به أهله وولده، وقد ينزعج عن الوطن فيستبدل بالأنس الوحشة، وبالراحة التعب والمشقة والتعرض للأخطار، كل ذلك خوفاً من درك المحذور. ثم إنه يخاف النار ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند جريان معصية عليه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لم أر مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها" فالتحقيق في هذه الأمور عزيز جداً ولا غاية لهذه المقامات حتى ينال تمامها، ولكن لكل عبد منه حفظ يحسب حاله إما ضعيف وإما قوي، فإذا قوي سمي صادقاً فيه. فمعرفة الله تعالى وتعظيمه والخوف منه لا نهاية لها ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: " أحب أن أراك في صورتك التي هي صورتك " فقال: لا تطيق ذلك، قال: " بل أرني " فواعده بالبقيع في ليلة مقمرة فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو به قد سد الأفق - يعني جوانب السماء - فوقع النبي صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه فأفاق وقد عاد جبريل لصورته الأولى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما ظننت أن أحداً من خلق الله هكذا " قال: وكيف لو رأيت إسرافيل؟ إن العرش لعلى كاهله، وإن رجليه قد مرقتا تخوم الأرض السفلى وإنه ليتصاغر من عظمة الله حتى يصير كالوصع، يعني العصفور الصغير، فانظر ما الذي يغشاه من العظمة والهيبة حتى يرجع إلى ذلك الحد؟ وسائر الملائكة ليسوا كذلك لتفاوتهم في المعرفة فهذا هو الصدق في التعظيم.
وقال جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مررت ليلة أسري بي وجبريل بالملأ الأعلى كالحلس البالي من خشية الله تعالى" يعني الكساء الذي يلقى على ظهر البعير، وكذلك الصحابة كانوا خائفين وما كانوا بلغوا خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: لن تبلغ حقيقة الإيمان حتى تنظر الناس كلهم حمقى في دين الله.
وقال مطرف: ما من الناس أحد إلا وهو أحمق فيما بينه وبين ربه إلا أن بعض الحمق أهون من بعض.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى ينظر إلى الناس كالأباعر في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيجدها أحقر حقير". فالصادق إذن في جميع هذه المقامات عزيز. ثم درجات الصدق لا نهاية لها وقد يكون للعبد صدق في بعض الأمور دون بعض، فإن كان صادقاً في الجميع فهو الصديق حقاً.
قال سعد بن معاذ: ثلاثة أنا فيهن قوي وفيما سواهن ضعيف: ما صليت صلاة منذ أسلمت فحدثت نفسي حتى أفرغ منها، ولا شيعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي قائلة وما هو مقول لها حتى يفرغ من دفنها، وما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قولاً إلا علمت أنه حق، فقال ابن المسيب: ما ظننت أن هذه الخصال تجتمع إلا في النبي عليه السلام. فهذا صدق في هذه الأمور، وكم قوم من جلة الصحابة قد أدوا الصلاة واتبعوا الجنائز ولم يبلغوا هذا المبلغ؟ فهذه هي درجات الصدق ومعانيه. والكلمات المأثورة عن المشايخ في حقيقة الصدق في الأغلب لا تتعرض إلا لآحاد لهذه المعاني نعم قد قال أبو بكر الوراق: الصدق ثلاثة: صدق التوحيد، وصدق الطاعة، وصدق المعرفة. فصدق التوحيد لعامة المؤمنين، قال الله تعالى: " والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون " وصدق الطاعة لأهل العلم والورع، وصدق المعرفة لأهل الولاية الذين هم أوتاد الأرض - وكل هذا يدور على ما ذكرناه في الصدق السادس، ولكنه ذكر أقسام ما فيه الصدق وهو أيضاً غير محيط بجميع الأقسام - وقال جعفر الصادق: الصدق هو المجاهدة وأن لا تختار على الله غيره كما لم يختر عليك غيرك فقال تعالى " هو اجتباكم "، وقيل أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: إني إذا أحببت عبداً ابتليته ببلايا لا تقوم لها الجبال لأنظر كيف صدقه، فإن وجدته صابراً اتخذته ولياً وحبيباً، وإن وجدته جزوعاً يشكوني إلى خلقي خذلته ولا أبالي. فإذن من علامات الصدق كتمان المصائب والطاعات جميعاً وكراهة إطلاع الخلق عليها.

[align=center]تم كتاب الصدق والإخلاص، يتلوه كتاب المراقبة والمحاسبة، والحمد لله[/align].


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يناير 26, 2007 3:27 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت يناير 27, 2007 2:28 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]خاتمة كتاب احياء علوم الدين[/align]


[align=center]نختتم الكتاب بباب في سعة رحمة الله تعالى
على سبيل التفاؤل بذلك
[/align]

فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يحب الفألوليس لنا من الأعمال ما نرجو به المغفرة فنقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في التفاؤل، ونرجو أن يختم عاقبتنا بالخير في الدنيا والآخرة كما ختمنا الكتاب بذكر رحمة الله تعالى. فقد قال الله تعالى " إن لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ".
وقال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ".
وقال تعالى: " ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ".
ونحن نستغفر الله تعالى من كل ما زلت به القدم أو طغى به القلم في كتابنا هذا وفي سائر كتبنا، ونستغفره من أقوالنا التي لا توافقها أعمالنا، ونستغفره مما ادعيناه وأظهرناه من العلم والبصيرة بدين الله تعالى مع التقصير فيه ونستغفره من كل علم وعمل قصدنا به وجهه الكريم ثم خالطه غيره، ونستغفره من كل وعد وعدناه به من أنفسنا ثم قصرنا في الوفاء به، ونستغفره من كل نعمة أنعم بها علينا فاستعملناها في معصيته، ونستغفره من كل تصريح وتعريض بنقصان ناقص وتقصير مقصر كنا متصفين به، ونستغفره من كل خطرة دعتنا إلى تصنع وتكلف تزينا للناس في كتاب سطرناه أو كلام نظمناه أو علم أفدناه أو استفدناه ونرجو بعد الاستغفار من جميع ذلك كله لنا ولمن طالع كتابنا هذا أو كتبه أو سمعه أن نكرم بالمغفرة والرحمة والتجاوز عن جميع السيئات ظاهراً وباطناً فإن الكرم عميم والرحمة واسعة والجود على أصناف الخلائق فائض. ونحن خلق من خلق الله عز وجل لا وسيلة لنا إليه إلا فضله وكرمه. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والأنس والطير والبهائم والهوام فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة".
ويروى أنه كان يوم القيامة أخرج الله تعالى كتاباً من تحت العرش فيه: إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين فيخرج من النار مثلا أهل الجنة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يتجلى الله عز وجل لنا يوم القيامة ضاحكاً فيقول: أبشروا معشر المسلمين فإنه ليس منكم أحد إلا وقد جعلت مكانه في النار يهودياً أو نصرانياً".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يشفع الله تعالى آدم يوم القيامة من جميع ذريته في مائة ألف ألف وعشرة آلاف ألف".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل يقول يوم القيامة للمؤمنين: هل أحببتم لقائي فيقولون: نعم يا ربنا فيقول: لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك فيقول: قد أوجبت لكم مغفرتي".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عز وجل يوم القيامة: أخرجوا من النار من ذكرني يوماً أو خافني في مقام".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا اجتمع أهل النار في النار ومن شاء الله معهم من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين قالوا: بلى، فيقولون: ما أغنى عنكم إسلامكم إذ أنتم معنا في النار فيقولون: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فيسمع الله عز وجل ما قالوا فيأمر بإخراج من كان في النار من أهل القبلة فيخرجون فإذا رأى ذلك الكفار قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما أخرجوا " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها".
وقال جابر بن عبد الله: من زادت حسناته على سيئاته يوم القيامة فذلك الذي يدخل الجنة بغير حساب ومن استوت حسناته وسيآته فذلك الذي يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة، وإنما شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أوبق نفسه وأثقل ظهره.
ويروى أنه الله عز وجل قال لموسى عليه السلام: يا موسى استغاث بك قارون فلم تغثه وعزتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته وعفوت عنه.
وقال سعد بن بلال: يؤمر يوم القيامة بإخراج رجلين من النار، فيقول الله تبارك وتعالى: ذلك بما قدمت أيديكما وما أنا بظلام للعبيد، ويأمر بردهما إلى النار، فيعدو أحدهما في سلاسله حتى يقتحمها ويتلكأ الآخر ويأمر بردهما ويسألهما عن فعلهما، فيقول الذي عدا إلى النار: قد حذرت من وبال المعصية فلم أكن لأتعرض لسخطك ثانية، ويقول الذي تلكأ: حسن ظني بك كان يشعرني أن لا تردني إليها بعد ما أخرجتني منها، فيأمر بهما إلى الجنة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ينادي مناد من تحت العرش يوم القيامة: يا أمة محمد أما ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم وبقيت التبعات فتواهبوها وادخلوا الجنة برحمتي".
ويروى أن أعرابياً سمع ابن عباس يقرأ " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " فقال الأعرابي: فوالله ما أنقذكم منها وهو يريد أن يوقعكم فيها، فقال ابن عباس: خذوها من غير فقيه.
وقال الصنابحي: دخلت على عبادة بن الصامت وهو في مرض الموت فبكيت فقال: مهلاً . . لم تبكي؟ فوالله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً سوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله النار عليه".
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون، فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر فيقول: لا يا رب فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله " فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم " قال: " فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة " قال: " فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حديث طويل يصف فيه القيامة والصراط: " إن الله يقول للملائكة من وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه من النار فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: يا ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: يا ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به، يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: يا ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به ". فكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً " قال: فيقول الله تعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال لهم نهر الحياة فيخرجون منها كما تخرج الحية في حميل السيل ألا ترونها تكون مما يلي الحجر والشجر ما يكون إلى الشمس أصفر وأخضر، وما يكون منها إلى الظل أبيض ؟ قالوا: يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة يقولون هؤلاء عتقاء الرحمن الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتم فهو لكم فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول الله تعالى: إن لكم عندي ما هو أفضل من هذا فيقولون: يا ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم بعده أبداً". رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وروى البخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: " عرضت علي الأمم يمر النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد، والنبي معه الرهط، فرأيت سواداً كثيراً فرجوت أن تكون أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر فرأيت سواداً كثيراً قد سد الأفق، فقيل لي انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً، فقيل لي: هؤلاء أمتك وهؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب " فتفرق الناس ولم يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكر ذلك الصحابة فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكن قد آمنا بالله ورسوله هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة فقال: ادع الله أن يجعلني منهم يا رسول الله، فقال: " أنت منهم " ثم قام آخر فقال مثل قول عكاشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سبقك بها عكاشة".
وعن عمر بن حزم الأنصاري قال: تغيب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً لا يخرج إلا لصلاة مكتوبة ثم يرجع، فلما كان اليوم الرابع خرج إلينا فقلنا: يا رسول الله احتبست عنا حتى ظننا أنه قد حدث حدث، قال: " لم يحدث إلا خير إن ربي عز وجل وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم وإني سألت ربي في هذه الثلاثة أيام المزيد فوجدت ربي ماجداً واجداً كريماً فأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعين ألفاً " قال "قلت: يا رب وتبلغ أمتي هذا؟ قال: أكمل لك العدد من الأعراب".
وقال أبو ذر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عرض لي جبريل في جانت الحرة فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، فقلت: يا جبريل وإن سرق وإن زنا؟ قال: نعم وإن سرق وإن زنى، قلت: وإن سرق وإن زنا؟ قال: نعم وإن سرق وإن زنى، قلت: وإن سرق وإن زنا؟ قال: نعم وإن سرق وإن زنى وإن شرب الخمر".
وقال أبو الدرداء: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولمن خاف مقام ربه جنتان " فقلت: وإن سرق وإن زنى يا رسول الله؟ فقال: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " فقلت: وإن سرق وإن زنى يا رسول الله؟ فقال: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " فقلت: وإن سرق وإن زنى يا رسول الله؟ قال: وإن رغم أنف أبي الدرداء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل مؤمن رجل من أهل الملل فقيل له هذا فداؤك من النار".
وروى مسلم في الصحيح عن أبي بردة: أنه حدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله تعالى مكانه النار يهودياً أو نصرانياً " فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو - ثلاث مرات - أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف له.
وروي أنه وقف صبي في بعض المغازي ينادي عليه فيمن يزيد - في يوم صائف شديد الحر- فبصرت به امرأة في خباء القوم فأقبلت تشتد وأقبل أصحابها خلفها، حتى أخذت الصبي وألصقته إلى صدرها ثم ألقت ظهرها على البطحاء وجعلته على بطنها تقيه الحر، وقالت: ابني ابني! فبكى الناس وتركوا ما هم فيه، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف عليهم فأخبروه الخبر فسر برحمتهم ثم بشرهم فقال: " أعجبتم من رحمة هذه لابنها؟" قالوا: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: " فإن الله تبارك وتعالى أرحم بكم جميعاً من هذه بابنها" فتفرق المسلمون على أفضل السرور وأعظم البشارة.


[align=center]فهذه الأحاديث وما أوردنا في كتاب الرجاء يبشرنا بسعة رحمة الله تعالى، فنرجو من الله تعالى أن لا يعاملنا بما نستحقه ويتفضل علينا بما هو أهله بمنه وسعة جوده ورحمته[/align].



[align=center][priq]تم الكتاب بحمد الله وفضله [/priq][/align]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 167 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 8, 9, 10, 11, 12  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 3 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط