الفصل الرابع عشر
كفالة عمه بعد موت جده وأمه
بسم الله الرحمن الرحيم
فكفله عمه أبو طالب ، الذي كان صنواً لأباه ، وكان يؤثره على نفسه وعلى ولده ، وكان يحبه ويرعاه ويقول له : يا حبة القلب إن لك شأناً عند الله ، ويوم عرضت عليه قريش أن سلمنا ابنك محمداً ، واختر من أبنائنا أياً منهم ، فقال : كيف هذا ، أؤسلمكم ابني تقتلونه ، ويبقى ابنكم عندي حياً ، قال لا ورب البيت وقد أنشد أبو طالب :
أنسلمه حتى نصرع حوله
ونذهق عن أبنائنا والحلائل
حدبت بنفسي دونه وحميته
ودافعت عنه بالذرا والكلا كل
وكان يخفي إسلامه حتى يرد عن النبي عداه ، فنعم العم ونعم الوصي ، وكان يستسقى به إذا عطشت قريش ، وكان يأخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويخرج به إلى الكعبة وكانوا يسقون به الغيث ولما قاطعت قريش رسول الله وأعمامه بني المطلب وبني هاشم ، كان أبو طالب رضي الله عنه يذكرهم برسول الله ، حينما كان يستسقى به لهم قبل بعثته ، وكان يقول :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة ومواصل
وقد علموا أن إبننا لا مكذب
لدينا ولا يعزى لقول الأباطل
حليم رشيد عاقل غير جاهل
يوالي إلهاً ليس عنه بغافل
وأصبح فينا أحمد في أرومة
تقصر عنها صولة المتباطل
ولما رأيت القوم لا ود فيهم
وقد قطعوا كل العرى والوصائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوماً علينا أضنة
يعضون غيظاً خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة
وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي
وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياماً معاً مستقبلين لتاجه
لدا حيث يقضي خلفه كل نافل
أعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة
ومن ملحق في الدنيا ما لم يحاول
كذبتم وبيت الله نبزي محمداً
ولما نطعن حوله ونناضل
أنسلمه حتى نصرع حوله
ونذهق عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكم
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
فلما بلغ صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين عاماً ذهب في تجارة لخديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال له عمه : يا حبة القلب ورب هذه البنية ، لولا السنون العجاف وما أصابنا ، ما رضيت بفراقك ولو لحظة واحدة ، فذهب صلى الله عليه وسلم في التجارة ورأى ميسرة محمداً صلى الله عليه وسلم يظلانه ملكان إلى أن وصل إلى الديار البصرية ، وجلس تحت شجرة فخرج نسطورا راهب النصرانية ، فقال : يا ميسرة من هذا الذي معك ومن أين أتى ؟ ، فقال : هو محمد بن عبد الله من البلاد الحرمية ، فقال والذي أنزل الكتب على أنبيائه إن هذا للنبي المنتظر ، ما جلس تحت هذه الشجرة بعد عيسى إلا نبي ، فوصاه : يا ميسرة كن معه في السفرية ، فلما عاد من سفره صلى الله عليه وسلم وربحت تجارته ، حكى ميسرة لخديجة ما رآه ، وما حدثه به الراهب ، فعرضت خديجة نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لتحظى بهذه الرتبة العلية وكانت إمرأة حازمة جلدة فطنة ، لم يكن مثلها في النساء القرشية فخطبها له عمه أبو طالب ، واجتمعت كل البطون المضرية ، فخطب أبو طالب ثم قال : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل وضأضأ معد ، وعنصر مضر ، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه ، فجعل لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً وجعلنا الحكام على الناس ، ثم إن ابن أخي هذا محمداً بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً ، فإن كان في المال قلة فالمال ظل زائل ، وأمر حائل ، ومحمد قد عرفت مرتبته ، وقد خطب خديجة بنت خويلد ، وبذل لها ما آجله وعاجله كذا وهو بعد ذلك له نبأ عظيم ، وخطب جليل جسيم فلما أنهى أبو طالب خطبته ، تكلم ورقة بن نوفل فقال ، الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت وفضلنا على ما عددت ، ونحن سادة العرب ، وقادتها ، وأنتم أهل ذلك ، لا تنكر العشيرة فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم ، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم ، وشهدت بذلك صناديد قريش ، فهي أفضل نساء العالمين ، رزقها الله منه البنات والبنين وكانت له عوناً في كل الملمات حتى لاقت مولاها ، فلم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت عليها السلام .
ولقد ورد عن سيدنا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال نطق أبو طالب بالشهادتين لحظة وفاته ، وكيف يحرم من بركته وهو دافع عنه وعن أصحابه حتى مات وعاش السنوات العجاف ، في مقاطعة قريش ، حتى أكلوا العشب وجلود الحيوانات اليابسة ، حتى بلغه صلى الله عليه وسلم ، أن دابة الأرض أكلت الوثيقة ولم يبق منها إلا اسم الله .
اللهم صل وسلم وبارك على الذات المحمدية وارزقنا محبته واجمعنا به وأقرئه منا السلام .