الاخيار والأبدال والنجباء:
أخرج الطبرانى، وأبو نعيم، وابن عساكر، عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله r خيار أمتى فى كل قرن خمسمائة، والأبدال أربعون. فلا الخمسمائة ينقصون، ولا الأربعون، كلما مات رجل أبدل من الخمسمائة مكانه قالوا: يارسول الله دلنا على أعمالهم، قال: يعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من ما أساء إليهم، ويتواسون فيما أتاهم الله عز وجل.
قلنا: والأخيار الخمسمائة، هم المتفق على تسميتهم عند الصوفية بالأقطاب يعنى صفوة الأولياء. وأخرج أحمد فى مسنده عن شريح، قال: قال على بن أبى طالب: سمعت رسول الله r يقول: الأبدال بالشام وهم أربعون رجلاً، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً، يسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب. وأخرج الطبرانى عن ابن مسعود (رضى الله عنه) قال: قال رسول الله r: لا يزال أربعون رجلاً من أمتى قلوبهم على قلب إبراهيم عليه السلام، يدفع الله بهم عن أهل الأرض يقال لهم الأبدال، إنهم لم يدركوها بصلاةٍ ولا صومٍ ولا صدقةٍ قالوا: يارسول الله فبم أدركوها؟ قال: بالسخاء والنصيحة للمسلمين. وأخرج الطبرانى، فى الأوسط عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله r: لن تخلو الأرض من أربعين رجلاً، فبهم تسقون. وبهم تنصرون ما مات رجل إلا أبدل الله ما كانه آخر. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس، عن على بن أبى طالب قال: الأبدال من الشام. والنجباء من أهل مصر. والأخيار من أهل العراق.
ومن مجموع هذه النصوص التى يعتضد بعضها ببعض، فتأخذ الرتبة التى تستعلى على الطعن والتجريح، فى مثل موضوعها يتبين أن:
أولاً: من عامة الصوفية الصادقين يختار الله السادة وهم (المفردون) الذين يأتون يوم القيامة خفاقاً كالغمام لا يحصيهم عدد، كما جاء فى الجامع الصغير وغيره. وأولئك هم الأولياء.
ثانياً: من (المفردين) يختار الله (الأخيار) الخمسمائة ولفظ الأخيار فيه معنى الاختيار والاصطفاء، وهؤلاء الأخيار هم أقطاب الأمة، فهم خلاصة الأولياء (المفردين).
ثالثاً: من الأخيار الخمسمائة وهم الأقطاب يختار الله (الأبدال) أربعون رجلاً. كلما مات منهم رجل بدله الله برجل من الخمسمائة.
رابعاً: من الأبدال يختار الله النجباء، وهم الأربعة الخواص. من أهل القطبانية العظمى.
خامساً: من الأربعة الخواص يختار الله (الغوث) الذى هو وارث المقام المحمدى حالاً وفعالاً ومقالاً، ويسمى الغوث لأن الله يغيث العباد ببركته وتوجهاته ولأن المستغيث به إلى الله مستجاب الوسيلة.
وكما أن هذا الغوث عندهم هو وارث المقام المحمدى، الأعظم فهم يقولون: إن الأقطاب الأربعة، كل منهم وارث للمقام الروحى لواحد من الخلفاء الأربعة، أبى بكر، وعمر، وعثمان وعلى رضى الله عنهم أجمعين. كما أنهم يقولون إن بقية الأقطاب على اقدام الخيرة من الصحابة رضى الله عنهم جميعاً. وإن هؤلاء الصفوة كانوا على أقدام الأنبياء والمرسلين. وهذا الترتيب لا يختلف مع العلم ولا مع العقل ولا مع الدين فى شئز فإنه لابد من جماعة هى خير من جماعة (هم درجات عند الله. ولكل درجات مما عملوا وما منا غلا له مقام معلوم) ثم إن طبيعة التفاضل تقتضى أنه لابد من رجل يكون له منزلة هى أفضل منازل أهل عصره. فهو سيد هذا العصر وصاحب وقته. وهو الذى يسميه الصوفية القطب الأعظم أو الغوث. ولا يعنينا التسميات. بقدر ما تعنينا الحقيقة الفعلية الواقعة. وليس أحد ملزماً باعتقاد هذا الترتيب فبعض السادة يخالف عنه، بحسب ذوقه وحاله. وكشفه ومقامه كما لا يكون اعتقاده إثما كذلك. ولكنه أمر منسق مع السنن الكونية. ومؤيد بالخبر النبوى. والإدراك الصحيح وكل امرئ حر فيما اختار لنفسه فيه. إلا فى إنكاره نهائياً، فتلك مجازفة علمية. وواقعية لا ينبغى لأهل الحق ولا تكون من العلماء بأية حال. وإنما هى من التعصب والجمود العقلى. والتخلف العلمى والروحى. ومن عمى البصائر والقلوب.
وقت الورد الأسبوعى:
وأما أن بعض الشاذلية والتجانية يلازمون الورد الأسبوعى بعد عصر الجمعة بصفة خاصة، فدليلهم ما نقله المنذرى. قال: أكثر الحديث فى الساعة التى ترجى فيها إجابة الدعوة أنها بعد صلاة العصر وثمة آثار ثابتة تدل أيضاً على أنها بين العصر والمغرب. وأفضل الدعاء الذكر، أخرج الترمذى وغيره: يقول الرب: من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين. وهكذا يختم هؤلاء المتعبدون أسبوعهم السابق بعبادة، وفى الوقت نفسه يستقبلون الأسبوع الجديد بنفس العبادة رجاء غفران ما مضى، وإصلاح ما بقى، ومعروف أن أوثق الأحاديث فى الصلاة الوسطى، أنها صلاة العصر، فهذا الوقت من الأوقات المشهودة فى أيام الأسبوع بعامة وفى يوم الجمعة بخاصة. ثم إن هذا الوقت وقت الأصيل، الذى كلفنا الله تعالى بذكره فيه حيث يقول عز شأنه: ﴿واذْكُر اسْم ربَك بُكْرةً وأَصِيلا﴾ وقد تكرر هذا المعنى على صورة متعددة.
وليس الناس ملزمين بإدراك الصواب، ولكنهم ملزمون بتحرى الصواب، ومن هنا لم يكن قول مجتهد مفروضاً على مجتهد آخر. وهذا هو السر فى أن شيئاً مندوباً فى مذهب ثم يكون هو مكروهاً فى مذهب آخر، واختيار وقت الورد الأسبوعى من هذا الباب. ولو لم يكن فيه إلا صرف العبد عن اللهو مع الركون إلى الله فى هذا الوقت لكفى وشفى.
أصل السبحة عند الصوفية:
جاء فى صحاح الأحاديث تكرار الندب وتكرار الحث على الذكر والتسبيح والتحميد وغيره، بأعدادٍ مخصوصةٍ، ثلاثة أو سبعة أو عشرة، أو أحد عشر، أو ثلاثة وثلاثين، أو سبعين أو مائة. إلخ كما هو ثابت فى أحاديث متعددة صحيحة كلها، ومازاد على ذلك فهو مأخوذ عن الصحابة والتابعين والسلف بأدلتهم الثابتة. وليس كل الناس قادراً على أن يسبح التسبيحات الكثيرة. بالقدر المطلوب هذا على أصابعه لاختلاف القدرات. والاستعدادات، وبعض الناس لو ذهب يعد على أصابعه لصرفه ذلك عن الأصل فى الذكر وهو التأمل والاستغراق، والتحقق، بما يقول حتى يندمج فى أنوار الفيض والمدد: فكان لابد من وسيلة للجمع بين الحصر وبين التأمل والتحقق والانتفاع بالعبادة.
وقد ثبت أن النبى دخل على بعض نسائه. وبين يديها حصى تعد به الذكر فسألها: هل لازلت على الحال التى تركتك عليه؟! ومعنى هذا أنه رأى بين يديها الحصى الذى تعد به. وهو خارج من داره ثم رآه وقد عاد إلى داره مرة أخرى. ولم ينكر عليها ذالك. r.
ثم علمها رسول الله صيغة تتعبد بها فيجتمع لها الخير الكثير، وليس فى هذا الحديث سنداً أو متناً طعن لطاعن، وجاء نحوه من طرق متعددة وألفاظ مختلفة. فكان هذا هو أصل السبحة فى الإسلام. وقد أخرج الإمام أحمد فى (الزهد) عن القاسم بن عبد الرحمن قال: كان لأبى الدرداء نوى من نوى العجوة فى كيس، فكان إذا صلى الغداة. أخرجهن واحدةً واحدةً يسبح بهن حتى ينفدن.
وأخرج ابن أبى شيبة عن أبى سعيد الخدرى أنه كان يسبح بالحصى، وأخرج عبد الله بن أحمد فى زوائد (الزهد) وأخرج أبو نعيم فى الحلية: أنه كان لأبى هريرة خيط عقد فيه ألف عقدة فلا ينام حتى يسبح به. وفى مسند الفردوس عن على مرفوعاً "نعم المذكر السبحة" وللسيوطى رسالة خاصة فى هذا الباب سماها: [المنحة فى اتخاذ السبحة].
ومن هذه الحاديث نستخلص:
أولاً: أنه السنة الثابتة جاءت بعبادة محصورة فى عدد خاص يجب أن تؤدى كما جاء بها الإذن، لما فى ذلك من أدب الطاعة وسر العدد.
ثانياً: ليس كل الناس قادراً على العد على يديه. مع استجماع الهمة والاستحضار فكان مما لا يتم الواجب إلا به اتخاذ سبب ووسيلة يتحقق بها الجمع بين العدد وفقه القلب. فكانت السبحة.
ثالثاً: كان ممن اتخذ هذه الوسيلة بعض زوجات النبى التى كانت تعد ذكرها على الحصى. وقد رآها النبى غير مرة فلم يمنعها. فأصبح اتخاذ وسيلة العد سنة إقرارية مستحسنة الاتباع.
رابعاً: فهم الصحابة: وعتهم أخذنا الدين: بعد رسول الله. أن الباب واسع فاتخذ بعضهم للعد كيس النوى. واتخذ البعض الآخر الخيط المعقد. حتى لا ينشغل بالعدد عن المدد الذى هو هدف الذكر والعبادة.
ثم تطورت الوسائل إلى السبحة المعروفة الآن. وربما اتخذها بعضهم من خامة غالية الثمن. فإن كان يريد بذلك تمجيد العبادة وتذكير نفسه بها، فلا نعلم بذلك بأساً، والأعمال بالنيات. وإن كان يريد بذلك شهرة ورياء ولفتاً لنظر الناس وعبثاً بأداة العبادة، فإثمه عليه، ولكل امرئ ما نوى.
وقد كان من وصايا أشياخنا أن يجعل الرجل يده وسبحته فى جيبه. ويذكر بقلبه أو لسانه، ويعد لا يراه أحد. ولا يحس به حتى من معه. اللهم إلا إذا كان فى محارمه وإخوانه فله أن يخرج مسبحته ليؤدى عليها راتب العبادة. منعاً من أن يحيط عمله بالرياء وعبث الشيطان. ومن المضحك المبكى أن تنصب الآن المعارك القلمية فى بعض الصحف من الفارغين والجامدين والحمقى. ليشغلوا الناس بما إذا كان استخدام السبحة جائزاً أو غير جائز. وحولهم النيا تمور وتفور بمتلاحق الفواجع. والبلاء المحيق بالدين والوطن. ثم لا تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزاً.
الإنشاد الصوفى سنة نبوية:
أخرج الشيخان فى صحيحيهما عن البراء بن عازب أن النبى r كان ينشد يوم الخندق من شعر عبد الله بن رواحة:
والله لولا الله ما اهتدينا . ولا تصــدقنــا ولا صليــنا .
فأنــزلن سكــينة عليـــنا وثــبت الأقــدام إن لاقيــنا
إلخ.. إلخ../
روى البخارى، أن النبى r كان يمد صوته بالكلمات الأخيرة من المقطع فيقول: (لاقينا.. أبينا...) وكان الصحابة يرددون عليه إنشاه r فتأمل وتأمل! !.
وفى هذا الحديث وحده غناً وكفاية أى كفاية. وإقناع أى إقناع. فى بيان جواز الإنشاد الفردى كما كان يفعل النبى r. والإنشاد الجماعى كما كان يردد عليه الصحابة ومعنى هذا أن الإنشاد الفردى بالتلحين والإنشاد الجماعى به كلاهما سنة نبوية فعلية ثابتة. وأن رسول الله r هو إمام المنشدين المسلمين. أفراداً كانوا أو جماعات ولعل وراثة هذا المقام هى السبب فى النجاح الأكبر الذى كان يصادفه المنشدون الدعاة من أمثال ذى النون المصرىورابعة وأضرابهما. وممن كان يدعو إلى الله بجهاده وإنشاده، والحديث المذكور متفق عليه بين الشيخين البخارى ومسلم. وهما صاحبا أصح كتابين نأخذ عنهما ديننا بعد كتاب الله عز وجل. فالحديث فى أعلى مراتب الصحة. ولا حاجة بعده إلى دليلٍ فى هذا الباب.
ومع ذلك فقد ثبت أن ابن رواحة كان يغنى حادياً للعبس بين يدى النبى (ص)، وقصة غنائه عند منصرفه من خيبر. وقول النبى له إعجاباً وتذليلاً "رفقاً بالقوارير" يريد بالقوارير النساء المصاحبات للركب. فإنهن أضعف من احتمال هزات البعران وهى تنتشى مأخوذة بجمال الإنشاد لحناً وصوتاً، كل ذلك ثابت وثابت معه غناء أنس وإنشاده. مما يمنح مزيداً من القطع بسنية الإنشاد الفردى بحده الشرعى.
وإلى جانب ذلك ما ثبت من تغنى جماعة الصحابة وإنشادهم فى أثناء إقامة المسجد النبوى بقولهم:
اللهم إن العيش عيش الآخــرة . فبــارك الأنصــار والمهاجـــرة .
أو كما كانوا يقولون ثم ما ثبت من استقبال أهل المدينة له (ص) بالنشيد المشهور "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع".. إلخ .. إلخ. ففىهذا وذاك جديد من تعزيز الدليل على سنية الإنشاد الجماعى شأن الإنشاد الفردى سواء بسواء كلاهما سنة نبوية فعلية أو إقرارية! ! وبجوار ذلك مسألة جمال الصوت بالتلحين فإنها ثابتة فى الصحاح من قصة ابن مسعود فى التلاوة وقصة بلا وأبى محذورة فى الأذان وقصة ابن رواحة وأنس فى الحداء والإنشاد، ولا أحسبنى بعد هذا بحاجة إلى تفريغ الكلام فى هذا المقام وما جاء به فى باب [الإنشاد والسماع] من كلام حكم الشعر الصوفى فى الإسلام.
ولم يقل أحد بحرمة الشعر فى الإسلام حتى يقال إن تعاطى الصوفية للشعر خروج على مبادئ الإسلام. بل إن قول الشعر وسماعه سنة نبوية محققة. فقد استشهد الرسول (ص) بالشعر وأجراه الله على لسانه غير مقصود. فى مثل قوله: "أنا النبى لا كذب . أنا ابن عبد المطلب" ومثل قوله (ص) "إن أنت إلا أصبع دميت وفى سبيل الله مالاقيت" فلو كان الشعر رجساً ما أجراه الله على لسان النبى (ص)، وهذا إجازته (ص) كعباً على شعره ببردته التاريخية المشهورة. ثم نصبه المنبر لحسان فى المسجد ليلقى الشعر من فوقه مع دعائه (ص) لحسان. وتأييده وتشجيعه له. (ص) وقوله: "إن من الشعر لحكمة" إلخ.. إلخ. فكل ذلك دليل على سنية سماع الشعر، وقوله، والشعر كلام من الكلام: حسنه حسن. وقبيحه قبيح! !.
أما الآية: ﴿والشُّعَراءُ يَتَّبعُهُم الغَاوُونَ﴾ ففيها التنديد بنوع خاص من الشعراء الآثمين. الذين يناوءون دعوة الله. وليس فيها أى مساس بالشعر نفسه، وبجوار التنديد بهوؤلاء الشعراء الذين يتبعهم الغاوون. والذين هم فى كل وادٍ يهيمون والذين يقولون مالا يفعلون: فيها التمجيد بالاستثناء للشعراء الذين أمنوا وعملوا الصالحات. وذكروا الله كثيراً. مدافعين عن دعوته فى شعرهم. وانتصروا لدينهم ولرسولهم بشعرهم ذلك. من بعد ما ظلموا. من الشعراء وغير الشعراء. وبجوار التنديد والتمجيد. تهديد ووعيد. يرفع رتبة التنديد والتمجيد فى قوله تعالى: ﴿وَسَيَعْلَم الَّذِين ظَلَمُوا..﴾ إلخ هذا هو صريح الآية: تنديد بالشعراء الذين لا تقيدهم قيم ولا مثل ولا مبادئ ولا دعوات. وتمجيد اللسالكين المجاهدين منهم. حتى لقد قال ابن كثير: إن المراد بالشعراء فى هذه الآية هم الكفار بالذات وهو رأى على بن طلحة عن ابن عباس. ومجاهد. وعبد الرحمن بن زيد وجمعة. أما قوله تعالى: ﴿ومَا عَلَّمناهُ الشِّعْرَ ومَايَنْبَغى لَهُ﴾ فليس فيه المساس بالشعر كقيمة أدبية أو فنية بل فيه ارتفاع به. يجعل مستواه أعلىمستوى تستطيعه البشرية، ثم يجعل القرآن فوق هذا المستوى الأعلى حيث ﴿نزلَهُ رُوحُ القُدُس مِنْ رَبّك بالحَقِّ﴾ وليس سواء ما يصعد من الأرض، وما ينزل من السماء. وما يقال هنا. يقال فى قوله تعالى: ﴿وما هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾ ونفى الشاعرية عن النبى هنا ضرورية لإثبات أن ما يقوله إنما هو من عند الله. على عكس ما يقوله الشاعر فإنه من أثر العبقرية والذكاء والتوفيق. وفرق هائل بين العبقرية والنبوة، وأظن الأمر قد وضح بعد. فسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
بماذا نتوسل؟!
مرة أخيرة نتحدث فى هذا الموضوع باختصار. فنقرر أن إجماع أهل الحق من الصوفية على أن التوسل إلى الله بأحد من خلقه حياً كان أو ميتاً ليس توسلاً بالذات الشرية ذات الطول والعرض، والحجم والجرم، واللون والظل، والحيز المعين فليس معقولاً ولا مقبولاً. أن يتوسل العبد إلى المعبود بكومةٍ من لحم وعظم وعصب، وإلا فإن الفيلة والأبقار والجمال والدببة أضخم جثة من الإنسان، ثم إن ذات الذهب والفضة ومختلف المعادن الثمينة والأحجار الكريمة، أغلى قدراً من ذات اللحم والعظم. فلو كان المتوسل يعنى أن يتوسل بالذوات لذهب إلى ما هو أضخم. أو ما هو أغلى (ولا تنس بقرة موسى وعجل السامرى) فتعين أن يكون توسل المسلم بذات الحى والميت إنما هو توسل بشئ آخر غير الذات المتحيز الذى يشغل قدراً صغيراً أو كبيراً من الفراغ الكونى. هذا الشئ الآخر الذى يتوسل به المسلم. هو المعنى لخالد المحبوب للحق تعالى فى ذات عبده: من نحو الإيمان. والإخلاص والمحبة والصفاء واليقين والطاعة والجهاد والعلم والصبر والبركة والمعرفة والعمل الصالح. الذى تكون هذه الذات وعاءه ومصدره. وهذا هو المعنى المحبوب لله. هو التوسل. وبه يكون التوجه إله جل وعلا وهذا المعنى خالد ملازم لحقيقة الإنسان فى حياته الدنيا. وحياته الآخرة لأن الجزاء فى اليوم الآخر إنما يكون على أساسه. وهذا هو مفهوم جمهور المسلمين الذى به يعلمون جميعاً فى توسلهم بالحى والميت تؤيدهم هذه الأدلة العقلية، ثم النقلية معاً. أما تكريمهم لذات المتوسل به فمن حيث إن هذه الذات كانت ظرفاً ووعاء ومصدراً للمعنى الكريم المحب إلى الله وهو الذى به يكون التوسل كما قدمنا.
أنواع التوسل وحديث الأعمى:
إنه لا خلاف بين طوائف المسلمين إجماعاً. على ثلاثة أنواع من التوسل
النوع الأول: توسل الحى بالحى الصالح إلى الله.
النوع الثانى: توسل الحى بالعمل الصالح إلى الله.
النوع الثالث: التوسل إلى الله بذاته تعالى وبأسمائه وصفاته ونحوها.
وبما أن هذه النواع متفق عليها. فلا داعى لسرد الأدلة.
وإنما الخلاف هو على التوسل بالميت الصالح. فمنعه الوهابية ومن لف لفهم. أما جمهور المسلمين فأجازه إجماعاً للدليل العقلى الذى أسلفنا. ثم للأدلة النقلية المتعاضدة التى قد نكتفى منها بحديث الأعمى. من حيث إنه المحور الأكبر فى هذا الباب وحوله غالباً يدور النقاش.
روى الترمذى بسنده عن عثمان بن حنيف أن رجلاً أعمى أتى النبى (ص) فقال: إنى أصبت فى بصرى. فادع الله لى. قال: اذهب فتوضأ. وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إنى أسألك وأتوجه اليك. بنبيى محمد. نبى الرحمة. يامحمد: إنى استشفع بك إلى ربى. فى رد بصرى. ثم قال (ص) وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك.
(وفى بعض روايات الحديث خلاف يسير فى الألفاظ ليس بذى بالٍ) ومن هذا الحديث. أخذ الفقهاء مندوبية صلاة الحاجة. فمن كانت له إلى الله تعالى حاجة صلى هذه الصلاة وتوجه إلى الله بهذا الدعاء. مع ما يناسبه من الدعاء المأثور وغيره. مما تمس إليه الحاجة.
ومنطوق الحديث حجة فى صحة التوسل بالحى. ومفهومه حجة على صحة التوسل بالميت على الأساس الذى قدمناه. من أن التوسل بالحى أو الميت. ليس توسلاً بالجسم ولا بالحياة ولا بالموت، ولكن بالمعنى الطيب الملازم للإنسان فى الموت والحياة، وما الجسم إلا حقيبة لصيانة هذا المعنى، فاستوجب بهذا تكريمه حياً كان أو ميتاً. على أن قوله (يامحمد) نداء للغائب الذى يستوى فيه الحى والميت.
حديث العمى والتوسل بالموتى:
ومع هذا فقد أخرج الطبرانى فى معجمه الصغير. عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه فى حاجة له وكان عثمان بن عفان لا يلتفت إليه ولا ينظر فى حجته فلقى ابن حنيف فشكا إليه ذلك فقال له عثمان بن حنيف: إيت الميضأة فتوضأ. ثم إيت المسجد. فصل فيه ركعتين. ثم قل: اللهم إنى اسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبى الرحمة، يامحمد إنى أتوجه بك إلى ربى. فيقضىحجتى. وقال: (وتذكر حاجتك. وروح. حتى أروح معك) فانطلق الرجل يصنع ما قال له: ثم أتى بالباب عثمان بن عفان رضى الله عنه فجاء البواب حتى أخذ بيده. فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة فال: ما حاجتك؟! فذكر حاجته. وقضاها له. ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت الساعة! ! وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها! ! ثم إن الرجل خرج من عنده فلقى عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر فى حاجتى ولا يلتفت إلى. حتى كلمته (يريد أن ابن حنيف كلمه وتوسط له) فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته. ولكنى شهدت رسول الله (ص) وأتاه ضرير. فشكا إليه ذهاب بصره فقال له. النبى (ص) أو تصبر؟! فقال يارسول الله إنه ليس لى قائد. وقد شق على فقال (ص): إيت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات. قال ابن حنيف فوالله ما تفرقنا. وطال بنا الحديث. حتى دخل علينا الرجل كأن لم يكن به ضر قط. وهذا نص قطعى فى صحة التوسل بالموتى.
تحقيق صحة حديث الضرير: قال الطبرانى: إنه حديث صحيح. وذكر أن عثمان بن عمر تفرد به عن شعبة. قال الشيخ ابن تيمية: إن الطبرانى ذكر تفرده بمبلغ علمه ولم يبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة. وذلك غسناد صحيح يبين أنه لم ينفرد به عثمان بن عمر(أهـ) وحتى لو سلمنا بانفراده به عن شعبة. وانفراد أبى جعفر عن عمارة. فهما ثقتان بإجماع علماء الحديث. وبهذا ينتفى تغريب الحديث عند الترمذى، وكم من حديث صحيح. ولكنه غريب كحديث (إنما الأعمال بالنيات) قلنا: وبهذا يتحقق علمياً أن الحديث صحيح على شرط الشيخين (البخارى ومسلم) ومع هذا فبعض من فى صدورهم غرض معين يضعف حديث الأعمى هذا من رواية الترمذى. بحجة أن فى سنده رجلاً غير معروف. والقاعدة عند علماء الحديث. أن المجهول عند واحدٍ. إذا كان معلوماً عند غيره. فالحجة للعالم به والمثبت مقدم على النافى عند أهل العلم وقد قال الترمذى عنه (حجديث: حسن صحيح غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه من حديث أبى جعفر. قال: وهو غير الخطمى) بفتح الخاء. ومعنى هذا أن رواة الحديث مع مجهولية أبى جعفر عند الترمذى: مقبولون.
وعلماء الحديث الذين سبقوا الترمذى حققوا أن أبا جعفر هذا المجهول عند الترمذى هو الخطمى بعينه. قال ابن أبى خيثمة: أبو جعفر هذا. الذى حدث عنه حماد بن سامة اسمه عمير بن يزيد. وهو أبو جعفر الذى يروى عنه شعبة، ثم روى الحديث من طريق عثمان عن شعبة عن أبى جعفر. قال ابن تيمية بعد أن روى حديث الترمذى: (وسائر العلماء قالوا هو أبو جعفر الخطمى وهو الصواب) قلنا: وفى (تغريب التهذيب) للحافظ بن حجر أنه الخطمى. وأنه صدوق (من السادسة) وفى (الاستيعاب) لابن عبد البر. أنه الخطمى كذلك. ثم إن الحديث كذلك رواه البيهقى من طريق الحاكم وأقر تصحيحه. وقد رواه الحاكم بسند على شرط اشيخين وأقره الحافظ الذهبى. ومعنى هذا أن جميع رجال السند معروفون لكبار أئمة الحديث كالذهبى (وهو من هو تشدداً) وابن حجر (وهو من هو ضبطاً وحفظاً وتحقيقاً) والحاكم والبيهقى والطبرانى وابن عبد البر وابن تيمية إلخ. ثم إن هذا الحديث أخرجه البخارى فى (التاريخ الكبير) وابن ماجه فى (السنن) ونص على صحته. والنسائى فى (عمل اليوم والليلة) وأبو نعيم فى (معرفة الصحابة) والبيهقى فى (دلائل النبوة) والمنذرى فى (الترغيب) والهيثمى فى (المجمع) والطبرانى فى (الكبير) وقد نص على صحته نحو خمسة عشر حافظاً. وهكذا جاء الحديث كما قدمنا على شرط الصحيحين: البخارى ومسلم فلم يبق بعد هذا مطعن لطاعن أو مغمز لمغتمز فى صحة الحديث، وبالتالى فى جواز التوسل بالحى والميت جميعاً. وأنف الكارهين فى الرغام.
موضوع توسل الصحابة بالعباس:
وتوسل بعض الصحابة بالعباس عم رسول الله فى الاستسقاء بعد وفاة النبى لا ينفى أبداً صحة التوسل بالنبى فى قبره. إذ لا تنافى بين الأمرين. بدليل أنه بينما كانت طائفة تتوسل بالعباس لقرابته من النبى (ص) (ومعنى هذا أنهم يتوسلون بالنبى) كان بعضهم يتوسل إلى الله مستسقياً بالرسول فى قبره فقد أخرج البخارى فى (التاريخ) وابن أبى خيثمة. والبيهقى: أن بلال بن الحارث الصحابى أتى إلى قبر رسول الله (ص) أيام الرمادة (القحط) فى عهد عمر. وقال: (يارسول الله: استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا) إلخ. وهو نص من فعل الصحابة فى صحة التوسل بالميت لم ينكر عليه أحد.
وقد روى ابن عبد البر فى الاستيعاب سبب توسل الصحابة بالعباس وهو لا يتنافى مع التوسل بالنبى (ص) فى قبره. بل هو هو. قلنا: لأن علة توسلهم به (رضى الله عنه) هى قرابته من الرسول. فكأنهم توسلوا بالرسول وبعمه فى وقت واحدٍ.
وكلام الحافظ فى (الفتح) يؤيد هذا الجانب شأن جمهور علماء المسلمين وهو معتضد بخبر فتح الكوى فى سقف الحجرة المشرفة توسلاً إلى الله باللطف بالعباد.
علماء الأصول والتوسل بالموتى:
وعلماء (أصول الدين) هم أهل الاختصاص فى هذا المجال. وليس لمنكر من بعد مقالهم مقال. فقد أجازوا التوسل بصالحى الموتى. وفى مقدمتهم. علامة الدنيا الإمام فخر الدين الرازى فى (المطالب العالية) وإمام البيان العلامة سعد الدين التفتازانى فى شرح (المقاصد) وإمام الإعجاز العلامة الشريف الجرجانى. فى حاشية (المطالع) ولهم فى ذلك توجيهات. وتفاصيل. ونقول وفلسفات تؤكد مايكون بين الزائر والمزور من المدد والإفاضة الروحانية. على نسبة منزلة كل منهما فى الحياتين وفى (مناسك) الإمام أحمد. رواية أبى بكر المروزى. فى التوسل إلى الله تعالى بالنبى (ص) فى قبره. وهناك صيغة طويلة للتوسل به (ص) عند الحنابلة ذكرها أبو الوفاء بن عقيل فى (التذكرة) فلا خلاف عند كبار الحنابلة على ذلك، وتوسل الإمام الشافعى بالإمام أبى حنيفةمذكور فى أوائل (تاريخ الخطيب) بسند صحيح.
والاحتجاج على منع التوسل بالموتى بقصة (ود وسواع) احتجاج، بما هو غريب عن مواطن النزاع فلا يلتفت إليه لأن المغالطة شئ غير العلم.
آية الوسيلة:
بعد كل ما تقدم يظهر لك بغاية الوضوح. والصراحة المطلقة علمياً وعاطفياً أن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ﴾ أمر عام يشمل الوسيلة بالأحياء والأموات. بقدر ما يشمل الوسيلة بالمعانى الرفيعة والأعمال الصالحة والقول بتخصيص الآية أو تحديدها. إنما هو تحكم فى دين الله. وشذوذ لم يقبله الجمهور من قبل. ولن يقبله من بعد. على علم وبصيره وإيمان ومنطق مقنع مسكت ملجم كما رأيت.
الفرق بين الوسيلة والوساطة:
ولابد من الإشارة هنا إلى أننا نفرق بين التوسل والوساطة.
فالتوسل هو الطلب من الله تعالى مباشرة مع الاستشفاع إليه بما يحب أو بمن يحب فالله تعالى هو المقصود والمتفرد بالعطاء وهو المطلوب منه وحده.
وقد ثبت عند أبى دوادٍ: أن الحصابى قال لرسول الله (ص) إننا نستشفع بك إلى الله. ويستشفع بالله إليك فأقر النبى الاستشفاع به إلى الله ونهى عن الاتشفاع إلى أحدٍ من الخلق بالله تعالى. فهذا هو التوسل: تقول اللهم إنى أسألك. أو أتوجه إليك. أو أتوسل إليك بك أو بأسمائك أو ببركة فلان أو بحبه أو إيمانه. أو يقينه أو نحو ذلك من عمله وعملك الصالح إلخ. والقائل اللهم إنى أسألك بفلان (مباشرة) إنما هو يريد التوسل إلى الله ببركته أو منزلته عند الله أو عمله الصالح فكلامه كما يقول علماء اللغة والنحو: (على حذف مضاف) ملحوظ فى نفس المتوسل. بقدر ما يناسب المقام. وبهذا يثبت المتوسل لله تعالى الفعل والترك المطلق. ويقرر الاستعانة به وحده فيما يبغى ويطلب. ويعترف له بالتوحيد المطلق الأكيد. مع اعترافه بالتفريط فى جنب الله. حتى لا يرى نفسه أهلاً للجرأة بالأنفراد فى الإقبال عليه. فهو لهذا يطلب الوسيلة إليه. أما الوساطة فشئ غير ذلك. ليس من المسلمين رجل واحد يقول بها. علم أو جهل فهى طلب من ذات الوسط، وإيمان بأنه قادر على الفعل والترك. دون التفات إلى الله تعالى من قريب أو بعيد. أو مع التفات هو أدنى إلى الشرك بالله. أو لعله الشرك بالله. وليس ف المسلمين إطلاقاً من يعتقد أن لأحد مع الله فعل أو ترك. أو خلق. أو رزق. أو إحياء. أو إماتة. وقول بعضهم: جهلا أو خطأ أو عادة. أو تقليداً (ياسيدى فلان). إنما يريد (يارب سيدى فلان) فكلامه كما قدمنا على حذف مضاف أو منادى. إذ أنه يريد الاستشفاع به إلى الله فيخطئه التعبير فقط. ولكن لا يخطئه التوحيد والإيمان وتسمية سوء التعبير شركاً جهل بالعلم والدين وإخراج لجمهور المسلمين من حظيرة الإسلام. بغير حق.
آية ليقربونا إلى الله:
وقد بين الله تعالى كفر القائلين بالوساطة بطلبهم من وسطائهم مباشرة. ولرفعهم إياهم إلى رتبة العبادة والفعل مع الله. قال الله تعالى: ﴿والَّذِينَ تَدْعُون مِنْ دُونِهِ أوْلَيَاء. مانَعْبُدُهُم إلاَّ لِيُقرِّبُونا إلّى اللهِ زُلْفَى﴾ فانظر إلى قوله: ﴿مانَعْبُدهم﴾ وانظر إلى قوله: ﴿لِيقرِّبُونا﴾ وتأمل!. فقد أثبت تعالى فى العبادة الأولى. أنهم يعبدونهم. وفرق كبير بين (نَعْبُدهم) وبين (نتوسل بهم. أو نستشفع بهم) فالتوسل والاستشفاع غير العبادة. لغة واصطلاحاً وعقلاً وشرعاً، وواقعاً وحقيقة. وهكذا أثبت أن الكفر والشرك كان بعبادتهم لوسطائهم ولم تتعرض الآية للتوسل ولا الاستشفاع بتاتاً. فثبت أنه غير ممنوع. ولا معنى لإقحامه فيما ليس منه تقليداً أو تعصباً. أو حمقاً. أو جهلاً. أو ضيق أفق.
وفى العبارة الثانية أثبت تعالى أنهم عبدوهم ليقربوهم فقولهم ليقربونا فيه إثباتهم قدرة الفعل والترك للمخلوقين الذين اتخذوهم وشطاء فجعلوهم آلهة بيدهم الأمر دون الله. ولا كذلك التوسل الذى هو كما قدمنا طلب مباشر من الله انفراداً. مع مزيد رجاء القبول بالتوسل والاستشفاع ثم مع التماس الأماكن التى قد يرجى فيها رفع الدعاء. وفيض السماء. مما تقل فيه المعاصى، كالمساجد والأضرحة. وبهذا تظهر المغالطة الكبرى. فى استشهاد بعضهم بهذه الآية على منع التوسل فإنما هى منع للشرك. وهو شئ غير التوسل. وعلى الناس أن يسموا الأشياء بأسمائها حتى لا يخونوا أمانة العلم والإنصاف والديانة، ثم إن هذه الآية. مما نزل نصاً فى المشركين فسحب حكمها على الموحدين نقل للحكم إلى غير موضعه بلا وجه حق. وقد نص البخارى على أن هذه الطريقة إنما استحدثها الخوارج فى دين الله. حينما عمدوا إلى ما أنزل الله فى الكفار فطبقوه على المسلمين تعصباً ومغالاةً بغير دليل.
من معنى قولهم: أهل التصريف:
والقائلون: بأن فلاناً من (أهل التصريف) ثلاً: يريدون أنه من أهل الوجاهة عند الله والقبول لديه. وأنه من أهل استجابة الدعاء. سواء كان نطقاً باللسان أو توجهاً بالقلب أو تحركاً للإرادة وكنه الهمة فى حدود ما جاء فى الحديث القدسى الصحيح: (ولئن سألنى لأعطينه. ولئن استعاذنى لأعيذنه) وحديث (أعطيته أفضل ما أعطى السائلين) أو كما قال (ص): (رب أشعث أغبر ذى طمرين مدفوع بالأبوب. لو أقسم على الله لأبره) وهو معنى قول السادة: (إن لله عباداً إذا أرادوا أراد) ترجمة لقوله تعالى: ﴿أدْعُونى أَسْتَجِبْ لَكُم﴾ فافهم! ! فالمراد بالتصريف هنا. هو تفضل الله تعالى على عبده بإيقاعه تعالى للأمر. (كما سبق فى علمه القديم) على مراد عبده الظاهرى. كما يجئ فى دعائه القولى، أو توجهه القلبى أو تحرك إرادته الروحية وذلك تنفيذاً لترتيب الأسباب والمسببات على مقتضى ما فى اللوح وأم الكتاب.
فليس العبد مصرفاً شيئاً مع الله. ولكن الله تعالى يتفضل فيصرف الأشياء كما هى فى علمه. على مراد أوليائه وأحبائه ظاهراً. تنفيذاً لسبق إرادته. فأهل التصريف يعنون بهم أهل الفضل الإلهى، الذين يكرمهم الله بتحقيق مرادهم فيما يطلبونه من الكونيات. سواء كان الطلب بالقول أو الفعل أو الهمة. والهمة يعنى بها كثير من الصوفية. تحرك الإرادة الروحية. التى يجعلها الله سبباً عادياً من أسباب انفعال الأكوان بقدرته تعالى، ليحقق بها المطلوب لعباده الصالحين وبطريقة أخرى: إن الله تعالى يجعل عبده الصالح نفسه. أداة من أدوات تنفيذ المراد الإلهى الأزلى. الذى قد يظهر فى صور مراد العبد البشرى ومثل ذلك: أن عيسى كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله: وكان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم. وهو ليس إلا عبد أنعم الله عليه وليس له فى الأمر شئ ككل عبد. لكن الله جعل إرادة العبد سبباً عادياً فى سابق علمه. وجعل هذا العبد أداة لتنفيذ المراد الإلهى الذى انفعلت به إرادة العبد البشرية ففاضت به من عالم الغيب إلى عالم الشهود وهذا المقام خاص بالربانيين. الذين هم على أقدام الأنبياء فكل ما يصدر عنهم ليس منهم. فقد ذابت بشريتهم وفنيت إرادتهم. وبقيت روحانيتهم أثراً لقيامهم فى مقام المحبوبية كما جاء فى الحديث القدسى عن الله يقول: (فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به. وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها) ومعنى هذا تجرده من كل شئ إلا من مظاهر انعكاس الصفات الإلهية عليه، فتظهر كأنها منه وما هى إلا من الله. وهو معنى قول السادة رضى الله عنهم على لسان الحق تعالى: (عبدى: أطعنى أجعلك ربانيا تقول للشئ كن فيكون). وقد بين الله طريق الدخول إلى هذا المقام فقال: (كونوا ربانين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون﴾ فافهم ذلك لئلا تخطئ أو تضل أو تتجنى. ولم تكن تعلم. من معنى قولهم: مدد ياسيدى والقائل: (مدد ياسيدى فلان) فهو إما بطلب المدد من الحى أو من الميت.
فطلب المدد من الحى معناه: طلب دعائه، وإرشاده وروحانيته وتوجيهه، وتربيته وبركة صلاحه وتقواه. وما هو من هذا السبيل.
وطلب المدد من الميت معناه: طلب التوسل به غلى الله. والاستشفاع به إليه تعالى فى قضاء الحوائج. ودفع الجوائح والتماس بركة مقامه عند الله.
والاستمداد من مدد الله الذى أعطاه (وللآخِرةُ أكْبر دَرَجَاتٍ وأَكْبُر تَفْضِيلاٍ﴾ وفى أول هذا البحث أثبتنا أن التوسل إلى الله بصالحى الأحياء والموتى ليس معناه التوسل بالذات المشخصة من اللحم والدم والعظم والعصب. وإنما هو التوجه إلى الله بالمعنى الطيب فى الإنسان الطيب والمعنى الطيب ملازم للروح سواء تعلقت الروح بالجسم فى الحياة! أو تخلصت من الجسم بالموت واستقرت فى برزخها على مقامها هناك ﴿وهُمْ دَرَجاتُ عِنْدَ اللهِ﴾ (زوَلِكلِّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ ﴿وَمَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ (أَمْ نَجْعَلُ المتَّقِينَ كالفُجَّارِ؟!﴾.
وهذا القدر من العلم البسيط هو الكم المشترك بين الجمهور المسلم ثم ينفرد الخاصة من أهل الله بما يقرره الدين والعلم القديم والحديث. من إثبات الطاقات والقوى والسالات والتيارات والأسرار الروحية. التى تنفعل لها الأشياء بقدرة الله كسبب من الأسباب الطبيعية فى سنة الله ونواميس الكون. ولهذه الطاقات والقوى والسيالات آثار إيجابية مسلم بها علماً وديناً. وتوجهها من الإنسان إلى الإنسان. أو منه إلى بعض الأكوان. له ماله من التأثير العجيب عند أهل العلم والمعرفة قديماً وحديثاً.
ولنضرب مثلاً بالحسد، أو بالتنويم المغناطيسى. وأثرهما محسوس مكرر مقرر فى العلم والشريعة. ويشهد لذلك مما ترى من قوة الشخصية وهيبتها وضعف الشخصية وتفاهتها. وانعكاس هذا وذاك على الاخرين. فهذا من بعض معانى المعدد عند المحققين. ولا يقولن قائل. عالم أو جاهل إن فى هذا دعاء لغير الله. أو طلباً من سواه. فطالب المدد طالب خير من الله. ملتمس منه بوسيلة مشروعة. وهو صاحب استشفاع مستحب. كما أسلفنا ذلك. وأساليب اللغة من حيث المجاز والاستعارة والكناية. والبلاغة فى حذف المضاف ثم واقع الأمر فى ذات طالب المدد كل ذلك يحمل عنه وزر الجهل والخطأ وحكم العادة. والنبى يقول: "كفوا عن أهل لا إله إلا الله. لا تكفروهم بذنب. ولا تخرجوهم من الإسلام بعمل" وبهذا ينضم الدين إلى جانب الجاهل والمخطئ فى التعبير بغير عمد ولا إصرر وقد قررنا أن الموسل والمستشفع وطالب المدد، كلهم معترف بذنوبه مقر بعيوبه. متجرد من حوله وقوته. فهو لا يرى نفسه أهلاً للمثول فى الحضرة العلية بما عليه من الأوزار والأوضار. وبخوفه حتى من أن تكون طاعاته مدخولة مردودة فهو يرجو أن يتقبله الله ويغفر له بتجرده من ظلمه علمه وعمله. ثم ببركة من يعتقد الخير فيه من أهل الله. فهو كما يتوجه إلى الله بخوفه من نفسه يتوجه إليه تعالى برجائه فى حبه لغيره. وهكذا يبدأ المتوسل (تذللاً وتواضعاً وانكساراً) من مقام الخوف من الله والفقر إليه. إلى مقام الرجاء فيه والثقة به فانيا عن ذاته وجهده فيتردد بين فضلين ربانيين لايخطئه أحدهما بإذن الله.
والأعمال أولاً وأخيراً بالنيات. ولكل امرئ ما نوى. والحديث النبوى يقول: "ألا هلك المتنطعون"! ! "سددوا وقاربوا". "ويسروا ولا تعسروا" وقد سئل رسول الله: أين التقوى؟ فأشار إلى صدره ثلاثاً يقول: التقوى ههنا.
التوسل بالجاه والحق للحى والميت:
يقول الألوسى. فى الجزء الثانى من تفسيره: أنا لا أرى بأساً فى التوسل إلى الله تعالى بجاه النبى (ص) حياً وميتاً. ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى مثل أن يراد به المحبة العامة، المستدعية عدم رده وقبول شفاعته. إلى أن قال: بل لا أرى بأساً بالإقسام على الله تعالى بجاهه (ص) بهذا المعنى والكلام فى الحرمة. كالكلام فى الجاه. اهـ.
قلنا: وقد جعل الله لخلقه عليه حقاً فضلاً منه ونعمة قال: ﴿وكانَ حَقًّا عَلينَا نَصْر المؤْمِنِينَ﴾ وقال: ﴿وَعْداً عَليهِ حَقًّا﴾ وقال: ﴿كَتَبَ رَبْكُم عَلَى نَفْسِه الرَّحْمَة﴾ لطفاً وتفضلاً. لا وجوباً ولا إلزاماً. ومن هنا جاز الإقسام على الله _بحقه وحق) أحيائه. استغلالاً للهدية التى أهداها الله من فضل لعباده، وليس من الدين أن ترد هدية الله عليه وعليه جاء حديث أبى سعيد عند ابن ماجه الذى يقول فيه (ص): "اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك" وقد رواه (ابن خزيمة) فى صحيحه. عن طريق فضيل بن مرزوق. وذكره (رزيق) ورواه (أحمد بن منيع) فى مسنده. ولعلك تلاحظ أن السائلين هنا تشمل الأحياء والموتى. وعليه جاء حديث عمر (رضى الله عنه): لما اقترف آدم الخطيئة. قال: "يارب أسألك بحق محمد إلا ما غفرت لى" أخرجه الحاكم فى المستدرك بسند صحيح. وأخرجه الطبرانى فى الأوسط والصغير. وهو مما قد قبله مالك رضى الله عنه فى مضمون ما روى ابن حميد من قصته مع أبى جعفر كما أخرجه عياض (رضى الله عنه) فى الشفاء بسند جيد. وعليه أيضاً جاء حديث الطبرانى فى الأوسط والكبير الذى يدعو فيه النبى لفاطمة بنت أسد أم الإمام على عند قبرها. فيقول (ص): "اللهم ارحم فاطمة بنت أسد بحق نبيك. والأنبياء من قبلى". قال علماؤنا ورجال هذا الحديث ثقات كلهم. واختلف بعضهم فى (روح بن صلاح) أحد رواته ولكن ابن حبان ذكره فى الثقات. وقال عنه الحاكم: ثقة مأمون. وكلا الحافظين صحح الحديث. وهكذا قال الهيثمى فى (مجمع الزوائد) ورجاله رجال الصحيح.
وتلاحظ هنا أيضاً أن الأنبياء الذين توسل النبى 0ص) بحقهم على الله فى هذا الحديث قد ماتوا فثبت جواز التوسل إلى الله (بالحق) وبأهل الحق أحياء وموتى. وعليه كذلك جاء حديث أبى سعيد "أسألك بحق السائلين عليك" وقد اختلف بعضهم فى (ابن الموفق وابن مرزوق) من رواته ولكن ابن الموفق لم ينفرد عن ابن مرزوق وابن مرزوق من رجال مسلم. وابن الموفق شاركه فى الرواية ابن منيع. وابن دكين وابن فضيل. والحديث أخرجه ابن السنى فى (عمل اليوم والليلة) عن بلال. بسند ليس فيه ابن الموفق ولا ابن مرزوق ولا عطية. وقد حسنه العراقى وابن حجر. وله شواهد ومتابعات شتى، وقوله (ص) هنا بحق السائلين شامل للأحياء والأموات جميعاً. ولك أن ترجع الحق إلى معنى آخر كالفضل والبركة ونحوه والباب واسع.
التوسل بالبهائم:
من طرائف مايذكر عن فضيلة السيد العالم الصوفى الشيخ "عبد ربه سليمان" قوله فى هذا الموضوع: إن الله قد شرع التوسل إليه (بالبهائم) فى صلاة الاستسقاء. كما شرع فيها التوسل إليه (بالأطفال) فهل يكون المؤمن الصالح حياً كان أو ميتاً. أقل عند الله منزلة من (المواشى والأطفال)؟! وهو ملحظ طريف بحق. وقياس منطقى ملجم.
الوسائل والمسائل:
نقول: إن فى قوله تعالى: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ إذ قدم القبادة على الاستعانة الندب إلى تقديم الوسائل بين يدى المسائل. فتكون الوسيلة عملاً تعبدياً من جانب وتكون سنة كونية كسبب يترتب عليه المسبب. من جانب آخر. ثم تكون الوسيلة أمراً مطلوباً. وشريعةً مفضلةً من قبل ومن بعد.
التزوير العلمى:
قوله تعالى: ﴿ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ وقوله: ﴿فَإنِّى قَريبٌ. أُجيبُ دَعْوةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ﴾ ونحو هذه الآيات. وما فى معناها من الحديث الشريف كقوله r: "إذا استعنت فاستعن بالله" له مفاهيم أساسية لا تقبل الجدل. منها أن الدعاء والاستعانة يجوز أن يكون بوسيلة وبغير وسيلة. لإطلاق الأمر فى النص بالدعاء والاستعانة دون قيد معين لا فى الكتب ولا فى السنة. ومنها أن التحكم فى الإلزام بالدعاء والاستعانة من غير وسيلة نوع من التعصب لم يقم عليه دليل من هذه النصوص ولا من غيرها، إذا الدليل مع غيره بل إن من أكبر أسباب القاق فى هذه المسألة. وما هو منها. أو نحوها بين جمهور المسلمين والمتمسلفة والوهابية. الإصرار على هذا التزوير العلمى. والإطلاقات المبهمة ومن ذلك تسمية الأشياء بغير أسمائها كما يسمون الزيارة: عبادة ويسمون التوسل شركاً. ويسمون سوء التعبير أو الفهم كفراً. وهكذا.
ومن ذلك تنقل الأحكام إلى غير مواضعها. فينقلون أحكام الحلال والحرام تعسفاً ومجازفة. إلى أحكام الكفر والإيمان. فى مثل مسائل الزيارة والتوسل ونحوهما. ومن ذلك مخاطرتهم بالمغالطة فى سحبهم الآيات التى نزلت نصاً فى الكافرين والمشركين والمنافقين على أهل القبلة مع الفارق الأكبر من كل الوجوه ليصلوا بالسفسطة إلى إخراجهم من دين الله بغير شرع ولا منطق، وليس ذلك غليهم ولا إلى أحدٍ أبداً، مهما كان شأنه. ولو أنا سمينا الأسماء باسمائها. وبحثنا بروح العلم والإنصاف حجج الآخرين وحقائق أحوالهم وترفعنا عن المجازفة والمهاترة لم يخرج موقفنا مع مسلم مهما كانت مخالفته لغيره. عن حد النصح أو العذر، ولكان من وراء ذلك جمع الشمل. وتوحيد الصف والتفرغ لمواجهة ما هو أخطر وأنكر.
التوسل بالأدنى:
ولا يشترط أبداً فيمن تتخذه وسيلة إلى الله. أن يكون أفضل منك أو من غيرك من المسلمين فقد صح أن النبى r لما استأذنه عمر فى العمرة قال r له: "لا تنسنا ياأخى من دعائك".
وكذلك صح أن النبى r أمر عمر أن يطلب الدعاء من أويس القرنى. رضى الله عنهما. وقد طلب النبى r من أمته أن تدعو له بالوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة والمقام المحمود. وفى هذه المسائل الثلاث طلب الأعلى ممن هو دونه وبهذا يندفع اعتراض بعضهم. حين يقول: لعل الذى نتوسل به إلى الله لم يكن شيئاً مذكوراً عند الله. ثم إن الأمر أولاً وأخيراً بحسب موضعه من النية والقلب وهبنى أحسنت الظن برجل مستور الحال. أو رجل غير ذى بال. فالله يجزينى على حسن ظنى ويجزيه على سوء فعله. والمسلم غير مأمور بأن ينقب عن قلوب الناس كما ورد عن رسول الله r، بل نحاسب على الظواهر والله يتولى السرائر.
معنى انقطاع عمل الميت:
حديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.. إلخ" لا ينفى أبداً جواز انتفاع الميت بعمل الغير. بل إن الحديث نفسه يثبت انتفاع الميت بعمل غيره. وهو الابن فإن الابن غير الأب. وقد ثبت انتفاع الأب به. وقد بوب إمام المتمسلفة الشيخ ابن تيمية لانتفاع الميت بعمل غيره. وأثبت ذلك إثباتاً كاملاً. عقلاً ونقلاً. كماأثبته تلميذه ابن القيم فى كتاب (الروح) ورد سوء فهم قوله تعالى: ﴿وأنْ لَيْسَ لِلإنْسانِ إلاَّ ما سَعَى﴾ فيرجع إليه.
والخلاصة أن انقطاع عمل الميت من الدنيا لا ينفى انتفاعه بعمل الغير فيها. وأقرب الأدلة المكررة على ذلك صلاة الجنازة والصدقة. والحج عنه. والدعاء له. وفى القرآن: ﴿رَبَّنا اغِفْرْ لَنا ولإخْوانِنا الَّذينَ سَبَقُونا باِلإيَمانِ﴾ وهو نص فى انتفاع الميت بعمل الحى. فانقطاع العمل لا يعنى انقطاع البركة والمدد ﴿هُمْ دَرجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ ﴿أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِم يُرْزَقُون﴾.
قصد المعالم المباركة:
وقصد الأماكن والمعالم المباركة التى يرجى فيها استجابة الدعاء والتوسل لسبب أو لآخر. شرع منصوص. كما حدث فى ليلة الإسراء لسيدنا المصطفى r حيث وهو فى طريقه إلى المسجد الأقصى. نزل عن براقه فصلى فى عدة أمكنة معينة فى كتب الحديث والسيرة. ومنها طور سيناء. ومولد عيسى. ثم إن فى مشاهد الحج واختيار أماكن معينة فيه للدعاء والتعبد ونحوه أكبر دليل على ذلك.
التبرك بآثار الصالحين:
التبرك بآثار الصالحين جائز, وقد نقل الحافظ العراقى فى (فتح المتعال) بسنده أن الإمام أحمد ابن حنبل أجاز تقبيل قبر النبى r وغيره تبركاً، وقال وعندما رأى ذلك الشيخ ابن تيمية عجب قال: وأى عجب فى ذلك وقد روينا أن الإمام أحمد تبرك بالشرب من ماء غسل قميص الإمام الشافعى. بل روى ابن تيمية نفسه تبرك أحمد بآثار الشافعى.
وفى (الحكايات المنثورة) للإمام الحافظ الضياء المقدسى. أن الحافظ عبد الغنى المقدسى الحنبلى أصيب بدمل أعجزه علاجه. فمسح به قبر الإمام أحمد بن حنبل تبركاً. فبرئ. وفى تاريخ الخطيب: أن الإمام الشافعى كان يتبرك بزيارة قبر الإمام أبى حنيفة مدة إقامته بالعراق.
ولعل أصل ذلك (أولاً) تبرك المسلمين بشعر النبى وضوئه وسوره وملابسه وإقراره r لذلك.و(ثانياً) ما جاء من أن (فاطمة) رضى الله عنها عندما زارت قبر أبيها سيدنا الرسول r قبضت قبضة من التراب. وقالت الشعر المشهور. ثم قبلت هذا التراب. و(ثالثاً) ماثبت من أن بلالاً مرغ خديه على عتبات الحجرة النبوية باكياً بين يدى الصحابة (رضى الله عنهم). ثم لم يرد أن أحداً من الصحابة أنكر عليه. ولا على فاطمة و(رابعاً) ما ورد عن ابن عمر من أنه كان يتبرك بوضع يديه مكان يدى رسول الله r على منبره. إلخ.
الحياة البرزخية:
حياة الموتى، عند الله، أتم وأكمل من حياة الأحياء على الأرض. ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ومِنْ وَرَائِهِم بَرْزَخُ إلَى يَوْم يُبْعَثُونَ﴾ ثم دليلة ما ورد فى الصحاح من اجتماع أرواح الأنبياء بالنبى r فى ليلة الإسراء. واحتفالهم المقدس به وما تبادلوه معه من خطب. وما حدث بينه وبينهم من أخذ ورد فى المعراج من سماء إلى سماء. مما يدل على أن حياة الأرواح موصولة بأهل الأرض ثم دليل آخر فى موقفه r على المشركين الذين قتلوا يوم بدر وسحبوا إلى القليب. وقد جعل يحدثهم فلما سئل عن ذلك قال: "ما أنتم والله بأسمع منهم" وكل هذا ثابت فى الصحاح لم يمار فيه أحد. فإذا كان المشركون بعد الموت أشد سماعاً من المسلمين فى الحياة فكيف يكون شأن موتى المسلمين؟ ذلك مضاف إلى حديث عرض الأعمال. وقد بلغ رتبة التواتر أو كاد. وتؤيده قوله تعالى: ﴿ويَسْتَبْشِرُونَ بالَّذينَ لَمْ يَلْحقُوا بِهمْ﴾ الآية. ودليل آخر فى أخبار القرآن عن عذاب آل فرعون بالقبور. ﴿النَّارُ يُعْرضُونَ عَلْيها غُدُوًّا وعشِيًّا﴾ ومقتضاه أن يكون هناك نعيم قطعى يعرض الصالحون عليه غدواً وعشياً عدلاً من الله وفضلاً. ولا يكون العذاب ولا النعيم. إلا للمدرك الحى. فالإنسان موجود فى الدنيا بصورة خاصة. وهو موجود كذلك بعد الممات، ولكن بصورة خاصة أيضاً وإنما الموت انتقال من حال إلى حال. ومن دار إلى دار. فالإنسان بكل خصائصه ومميزاته موجود سواء كان حياً أو ميتاً. ووجوده بعد الموت أكمل من وجوده الدنيوى. لتخلصه من قيود البشرية. وأغلال الحد والزمن وتمتعه بالانطلاق الذى لا يعرف القيد ولا الحد، ولا الأوقات. وقد ألف فى الحياة البرزخية غير واحد من علمائنا الأعلام. وفى صدرهم العلامة المحدث الشيخ اللكنوى فى (تذكرة الراشد) وقد قرر المرحوم الشيخ الكوثرى. أنه رأى فى مخطوطات دار الكتب المصرية كتاباً عجيباً اسمه (مصباح الظلام) للشيخ محمد بن موسى التلمسانى حقق فيه حياة أهل القبول وموضوع التوسل بالنبى r بمالا مزيد عليه.
الفاتحة لكذا أو لفلان:
أولاً: سورة الفاتحة قرآن والتوسل إلى الله بالقرآن لم يمنعه أحد. هو مندوب إليه. ولم يقل أحد إنه بدعه! !.
وثانياً: قراءة سورة الفاتحة (نفس حركة القراءة) عمل صالح. والتوسل إلى الله بالعمل الصالح لم يمنعه أحد. بل هو مستحب. ولم يستنكره مسلم.
وثالثاً: سورة الفاتحة هى الكم المشترك حفظه من القرآن من جميع المسلمين فى مختلف الأوطان. وعلى مختلف المستويات. وما جاء فى فضلها لم يجئ فى سورة سواها، ويكفى فى جلالها أن تكون أساس كل صلاة، ورقية رسول الله r وهذه القضايا الثلاث لم يختلف عليها أحد من الأمة. وهى أصول هذا الموضوع وملاكه. فالقائل: (الفاتحة لكذا وكذا) متوسل إلى الله تعالى بشئ من كتابه. ثم هو متوسل إليه بعمل صالح. هو قراءة الشئ من كتابه. رجاء أن يقضى الله له كذا وكذا مما يهمه من حاجته.
والقائل: (الفاتحة لفلان) حجياً كان أو ميتاً. متوسل إلى الله بعمل صالح. هو قراءة هذا الشئ من كتابه. رجاء أن يكرم الله الحى بما هو أهله. وأن يكرم الله الميت بما هو أهله فيقضى بنعمته حاجة الحى. أو يرفع درجة الميت وكما ترى هو أمر من حيث الفقه سائع مشروع. ومن حيث المنطق بالغ مرفوع. ثم هو مؤيد بالإجماع العام المجدد من الأمة وهى لا تجمع على ضلالة قط (وما رآه المسلمون حسناً. فهو عند الله حسن) فإنكاره هو المنكر الشنيع ونستغفر الله.
الدرس الثالث
يقول مولانا العارف بالله السيد برهانن الدين أبو الإخلاص عميد أهل التوحيد الإخلاصى: لما تم الديوان أتانا نفر من الخلان يقولون إن أحد المتنطعين يتهجم على سيد المرسلين وأهل بيته والمحبين فى بيت من بيوت رب العالمين، فقلت لهم: هلا قرأ قول عالم السر والنجوى ﴿قَلْ لاَ أَسْأَلكُم عَلْيهِ أَجْراً إلاَّ المَوَدَّةَ فى القُرْبَى﴾ قال أبو العباس عبد الله بن عباس رضى الله عنه لما نزلت هذه الآية قالوا يارسول الله من قرابتك الذين وجبت مودتهم؟ قال r: على وفاطمة وولداها.
وروى مسلم والترمذى والنسائى عن زيد بن أرقم أن رسول الله r قال: "أذكركم الله فى أهل بيتى" وروى ابن حبان والحاكم عن أبى سعيد قال: قال رسول الله r: "لايبغضن أهل البيت رجل إلا أدخله الله تعالى النار" وفى بعض الآثار ما يدل على عموم القربى وشمولها لبنى عبد المطلب. وقد أخرج الإمام أحمد والترمذى وصححه عن المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله r فقال: إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث فإن رأونا سكتوا فغضب رسول الله r ودر عرق بن عينيه ثم قال: "والله لايدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتى" وآثار تلك المودة التعظيم والاحترام والقيام بأداء الحقوق أتم قيام لقول الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: من سره أن يحيا حياتى ويموت مماتى وليسكن جنة عدن التى غرسها ربى فليوالى علياً من بعدى وليوالى وليه وليعتقد بأهل بيتى من بعدى خلقوا من طينتى ورزقوا فهمى وعلمى، فويل للمكذبين بفضلهم من أمتى القاطعين فيهم حليتى لا أنالهم الله شفاعتى. كذا فى الترمذى. وقال r: استوصوا بأهل بيتى خيراً فإنى أخاصمكم عنهم غداً ومن أكن خصمه خصمه الله. وأخرج البخارى. قال r: "إنى أوشك أن أدعى فأجيب. وإنى تارك فيكم الثقلين: كتاب الله حبل ممدود من الأرض إلى السماء. وعترتى أهل بيتى. وإن اللطيف الخبير أخبرنى أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض يوم القيامة، فانظروا بما تخلفونى فيهما" وروى الحاكم والترمذى وصححه على شرط الشيخين قال r: "أحبو أهل بيتى" وروى الطبرانى والدار قطنى (وصححه الهيثمى والسبكى) قال r: "ينقطع يوم القيامة كل سبب ونسب إلا سببى ونسبى" وروى أحمد والحاكم والبيهقى. عن حمزة بن أبى سعيد الخدرى قال: سمعت رسول الله r يقول: "ما بال رجال يقولون إن رحم رسول الله لاتنفع يوم القيامة بلى. والله إن رحمى لموصولة فى الدنيا والآخرة" قال عمر بن الخطاب: فتزوجت أم كلثوم بنت الإمام على رضى الله عنه رجاء أن يكون بينى وبينه r نسب وسبب (أو كما قال) وأخرج أحمد فى المناقب. قال r: "يامعشر بنى هاشم والذى بعثنى بالحق نبياً. لو أخذت بحلق الجنة. ما بدأت إلا بكم" وأخرج السرى والملا فى السيرة قال r: "لو أن رجلاً صف قدميه وصلى. ولقى الله وهو مبغض لأهل البيت لدخل النار" وأخرج الملا أيضاً عن أنس. قال r: "نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد" (تأمل كثيراً) ويجب أن يقف عند هذا الحديث كثير من المتعالمين الذين لا يعلمون! ! وأخرج الإمام الرضا عن على قال: قال r: "إن الله حرم الجنة على من ظلم أهل بيتى أو قاتلهم أو أغار عليهم أو سبهم" فتأمل يرحمك الله! وأخرج الترمذى وأبو حاتم. يقول r لآل بيته: "أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم".
من يــوم ألســت أوحــده إذ خاطــبنى وأمــجــده
يتعــرف لى بتــود ومــدى الأنفــاس تـودده
كــم يبعث لى مالا يحصى تتدفق إنعــامــاً يــده
يأتى بالليل ليســترنى وخطــايا زاد تعـــدده
أنظر للأفق وقد بزغت من فوق الجو فراقده
والبدر تبدى أوسطها يرمى بالنور يصعده
والليل على الأكوان رمى ثوباً غطاها أسوده
وعوالم مولانا سكنت وسكون الحادث مرقده
وإذا ما الفجر بدا يسعى خلف الديجور يشرده
والخلق جميعاً قد قاموا والكل جفاه مقعده
قد ساقهم لمقاصدهم إذ حاجة كل مقصده
يسعون لعيش منقسم ولكل أجل حدده
وأعد نظراً للأرض وما تحوى والكل موائده
شجرة ومياه ونبات والجبل العالى أطوده
والوحش به إذ يكفلها والبهم وكل وحده
من ردد فى الأشياء نظراً فبأية كيف يجحده
والأشيا حقا ناطقة وجميع الكون يوحده
يشهده عبد وفقه وبسير منه يشهده
كشف الأغيار بلا ريب عن قلب فيه تفرده
ماوسع المولى كرسى والعرش كذاك وأعمده
ووجود يبدو فى كون لوفى مولاى توجده
بل قلب العارف معمور يتجليه إذ يفرده
أثر يرويه أساتذة عرفوا والكل أماجده
فالزم إن شئت طريقهم يلزمها عبد يسعده
والذكر طريق الوصل به وسلاح فتى قد يقصده
من يجعله من ديدنه بشهود منه يفرده
فالهج بالذكر تجد عجباً من ربك فيما تقصده
تلج الملكوت وتدخلها والقلب تجلى شاهده
وتناجى من عالم قدس وتحل الصدق ومقعده
وهنالك تضرب آلات والعز تلوح وسائده
من يذكر ربى يذكره ويشــرفــه ويؤيـــده
ويهــذبــه ويطــهــره ويــحــادثـه ويــوادده
يفنــيه فــيه ويعــدمه يبـقـيه بصـحـو يردده
يتجــلى الله لــه دومـا بنـتعـيم فـيـه يخـلده
فـزمــان العـارف أعيــاد مــادام العــارف يشــهده
وطريق القـتوم صـراط الله يســير بـتها من يسـعده
وبـها قبــلا سلف سعدوا رفعــوا فى الهــو قواعده
فاحـذر أن تتبع غيرهــم أو تسمع مـمــن شـرده
فالحــق قديــما حـاربه بعـض والبــعض عانده
والسير إليه بوصفهم نــور يتلآلآ زائــده
رحماك إلهى ضـاع الحق وراح يقينــاً مرشـده
فبجاهــهم ربـى كرمــا هب لى وصــلا لا أفقده
وامنحنى نــوراً قدســيا يعلــو فى دينــك واجده
وأملأ سرى فيــضاً طهراً واكشف لى مــالا أشهده
وصلاة الله على طــه من تأتى مــنه فوائده
والآل وأصحــاب كرمــوا هــم عمد الدين وأعمده
يقول خويدم الفقراء: عذرى أكرره لأحبابى الصوفية الذين يبعثون إلى بأسئلتهم واستفتاءاتهم. ثم أجدنى مضطراً إلى تأجيل الإجابة عليها انشغالاً بتسجيل هذا العمل العلمى. رجاء قطع دابر نذالة التوقح على سيدنا رسول الله المصطفى. باسم الدين والإصرار على أذاه r فى قبره باسم السلفية. والتمكين لأعداء دعوته منه r، ومن دينه باسم السنة المظلومة والتمتع بغريزة الاستئساد على الموتى باسم التوحيد افخلاصى المفترى عليه. لكل هذا وهو خطر عميق عريض أرجو أن يعذرنى اصحاب الأسئلة والاستفتاءات. فإن الذى أحاوله الآن هو الحفاظ على الأصل العظيم. ووقايته من عوامل التحطيم بالحمق والغفلة، ومن أسباب التدمير بالوقاحة والتعالم. ومن وسائل التخريب فى سبيل شهوة الشهرة. وتحصيل المال الحرام، والمركز الدنيوى الفانى الذليل، وكل ذلك يهم إخوانى كما يهمنى أو يزيد. إن جوهر الإيمان والعقيدة لا يقدس غلا بقدسية مبلغ الإيمان والعقيدة وحاملهما إلى الناس فإن الطيب لا يحمل إلا الطيب. والخبيث لا يحمل إلا الخبيث. ومحاولة استنقاص النبى r تحت أى ستار كمحاولة اغتمازه r فى شخصه باسم البشرية. أوفى أبوية باسم التوحيد الإخلاصى فى خصائصه ومعجزاته باسم العلم. إنما كل ذلك بقية من حملات الزندقة والتبطن والقرمطة وميراث من الشعونبية والاستشراق والتبشير، وتلوث ببقايات التعالم والجهل والقشرية الفاضحة ولعبة خطيرة من أقذر ألعاب الاستعمار اللئيم. كما فصلنا ذلك فيما أسلفنا من مقال. وقد قدمنا فى كلماتنا السابقة الأدلة القاطعة (رغم التركيز والإجمال بحكم ضيق الوقت والصحة والمجال) على أن معجزاته 0ص) قطعية الثبوت واليوم نقدم بإذن الله مصرع دعوى كفر أبويه أو أنهما (كما يزعمون) فى النار حتى يكون اعتقاد بنجاتهما بمشيئة الله كذلك قطعى الثبوت ثم نقدم ذلك كله إلى الله ورسوله شفاعة نلتمس بها الستر والمغفرة والنجاة من النار. ونقدمه للمسلمين مدداً روحياً. يثبت الإيمان وينمى اليقين ويزيد الله به الذين اهتدوا هدى ﴿والَّذِين لا يُؤمِنونَ فى آذَانِهِم وَقْرٌ وهُوَ عَلْيهِم عَمّى﴾.
أصل هذه الفتنة:
أما أصل هذه الفتنة هو فى الحقيقة. ضيق الأفق العلمى وسوء الأدب الجبلى وتجميد المفاهيم على مستوى السطحية والسذاجة والاعتصام بنقيصة التعالم ومخالفة الجماهير لسبب لايرفع الخسيسة ولا يعذر به صاحبه. كل هذا عند حسن الظن. وإلا فنعوذ بالله من انحراق البواطن. والتواء الغايات. والزندقة فى مظهر الإيمان وكل مايملكه القائلون بكفر أبوى النبى وأنها فى النار بزعمهم: هو حديث مسلم عن أبى هريرة. أن النبى r عندما زار قبر أمه قال: "استأذنت ربى تعالى على أن أستغفر لها فلم يأذن لى. فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لى" وحديث مسلم عن أنس أن رجلاً قال: يارسول الله أين أبى؟ فقال r "إن أبى وأباك فى النار" أو نحو هذين الحديثين. وقد كان ممن سقط بهم الفهم الساذج فى هذا الجانب ملا على القارئ وآخرون غفر الله له ولهم. وقد لقى فى حياته وبعد مماته. ما كان ينبغى أن يكون عبرة لغيره رغم ما جاء من توبته ورجوعه عن سقطته فلم تحترم له ذات. ولم ينتفع له بعلم ولا ارتفع لأثره ذكر، وكان يكفينا وييقطع الألسنة من البلاعيم أن تقول: إن الدليل الظنى إذا عارضه دليل يقينى تعين أحد أمرين إما القول بالنسخ أو محاولة التوفيق بين الدليلين وإلا سقط الدليل الظنى وفقد اعتباره بقيام الدليل اليقينى. والخبران اللذان ذكرناهما، من أخبار الآحاد التى لا تفيد علمياً إلا الظن! ! وهما معارضان بالقرآن الذى لا يفيد علمياً إلا اليقين! ! فإن أبوى النى كانا من أهل الفترة لم تبلغهما رسالة ولم يبعث فى عهدهما رسول. والله تعالى يقول: ﴿وما كُنَّا مُعذِّبِينَ حتَّى نَبعَث رَسُولاً﴾ والآية محكمة من أمهات الكتاب. فهى ناسخة أو مسقطة لما عارضها من أخبار الآحاد. وإن صحت نسبة هذه الأخبار من الوجهة الفنية. وهذا هو رأى القسطلانى وقد أطبقت الأئمة الأشاعرة من أهل الأصول والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجياً. قال السيوطى وهذا مذهب لا خلاف عليه بين الأشاعرة والشافعية. كان يكفينا هذا إغلاق هذا الباب والوقوف مع الإيمان والأدب وقطع دابر البلبلة. ومنع إهدار أوقات الناس فيما لا خير معه ولا فيه على الإطلاق وبخاصة أن هذه المسألة ليست من المسائل التى يتعين العلم بها، ولا هى مما يضر الجهل به. ولا هى مما يسأل عنه فى القبر. ولا فى الحشر لحفظ اللسان على الأقل من الكلام فيها أحوط وأسلم.