هل رأيت أو سمعت عن مثل هذا الاحتفال في بلد آخر غير "مصر"؟
"المحمل المصري هو الموكب الذي كان يخرج من مصر كل عام حاملا كسوة الكعبة وظل هذا المحمل يخرج منذ عهد شجرة الدر وعهد المماليك حتى بداية عهد جمال عبد الناصر."
-الحلقة 12-
******
المحمل المصري

من جملة لطائف مصر في عصورها الإسلامية، أنه كان في كل عام قبل موسم الحج إلي بيت الله الحرام يتم إعداد ما يعرف ( بالمحمل ) و هو لقب يطلق علي قافله الحجيج قاصدي بلاد الحجاز و بصحبتهم الكسوه الشريفه التي كانت تكسي بها الكعبه و كذلك كان يلحق بتلك القافله سائر أنواع الخيرات من مطعم و ملبس و دواء مما يلزم تلك الرحلة الهامة و الشعيرة المقدسة في موضع يعرف بالخرنفش داخل القاهره, يوجد مشغل الكسوه و كان له مخصصات و أموال من أجل الإنفاق عليه حتي أن بعض السلاطين أوقف عليه اوقافاً, اما المسئول عن إتمام العمل بها فقد كان من موظفي الدوله و يعرف بناظر الكسوة.
تعتبر شجر الدر سلطانة مصر هى اول اللى بعت كسوة الكعبه من مصر لما راحت تحج فعملولها هودج مربع عليه قبه قعدت فيها و معاها الكسوه و وراها مشيت قافلة الحجاج المصراويه فإتسمى المحمل.
كسوة الكعبه كان بيشرف على تصنيعها و تطريزها مسئول بيتسمى " ناظر الكسوه " ، و نقلها للحجاز كان بيتم تحت إشراف امير كبير بيتسمى " أمير الحاج ".
لما كان المحمل بيقرب من مكه اميرها كان بيخرج يستقبل الجمل اللى شايله بإحترام كبير و كان بيبوس حافره احترام لهيبة الكسوه و لتعظيم سلطان مصر.

لوحه للرسام الروسي ماكفوسكي كونستنتين الذي زار مصر سنة 1870 م للمحمل بمنطقة بين القصرين و حوله الصوفيه بأعلامهم
* ذكر صفة المحمل و دورانه بالقاهرة
كانت مناسبة خروج المحمل من جملة أعياد المصريين فكانت العاده أن يطوف بالقاهره في مظهر إحتفالي مرتين قبل رحيله, مره في منتصف شهر رجب و فيها يطوف بالقاهره وصولاً للفسطاط و الأخري في شوال حيث يطوف بالقاهره و منها إلي الريدانيه ( العباسيه ) ثم تبدأ الرحله, و كان المنادون يجوبون شوارع القاهره و الفسطاط قبلها بثلاث أيام لدعوة الناس للمشاركه بالإحتفال .
و كان المحمل يشق القاهره من باب النصر وصولاً إلي ميدان الرميله ( القلعه ) حتي يطل عليه السلطان و قد دأب سلاطين مصر المماليك علي أن يجتهدوا في إضفاء مزيد من الفخامه الممزوجه بالبهجه في هذه المناسبه ففي طوفان المحمل كان يخرج جنود المماليك من الشبان المتميزين بكامل سلاحهم و حسن زينتهم يسيرون في المقدمه و هم يقومون بإستعراض مهارات الفروسيه و خصوصاً اللعب بالرمح متقدمين قبة المحمل المحموله علي ظهر الجمل و الذي هو رمز للمحمل
و كان القاهريون يستقبلون هذه المناسبه بتزيين بيوتهم و محالهم و يخرجون إلي الشوارع للفرجه و يبيتون الليالي و كانت الشوارع تزدحم بهم عن آخرها إبتهاجاً به.
وأترككم مع الصور التالية من أزمنة مختلفة لمصر المحروسة أم البلاد
صورة للمحمل المصري عام 1905

صوره من القاهره في العصر الخديوي و يظهر فيها العساكر المصريين بأزيائهم الرسمية و هم يتقدمون الموكب

.jpg)
لم يكن المحمل ليخرج بالمصريين و حسب بل كان يصحبه سائر الحجيج من بلاد المغرب الإسلامي بما فيه الأندلس و بلاد إفريقيا أو القادمين عن طريق البحر من البلاد العثمانيه و كذلك كان كثيراً ما يأتي أمراء و ملوك تلك البلاد قاصدين الحج فكانوا جميعاً يجتمعون بالقاهره ليتوقفوا بتلك المحطه الهامه التي كانت لها أثر كبير في صورة و شخصية مصر بمخيلة زوارها حتي أن التراث الإسلامي يحفل بالكثير من المؤلفات التي صنفها الرحاله و الأدباء المارين بمصر و كذلك فإن وفادتهم إلي القاهره و إختلاطهم بالمصريين كان له أثر فكري و ثقافي و إجتماعي عميق علي إمتداد التاريخ المصري.
طوفان المحمل

قارعي الطبول صحبة المحمل
لم يكن المحمل المصري هو الوحيد الذي يخرج للحج بالعالم الإسلامي بل كان هناك المحمل الشامي و كذلك المحمل العراقي و كذا اليمني, لكن ما كان يميز المحمل المصري هو خروج الكسوه معه و التي حرص عليها سلاطين المماليك أيما حرص, حتي أن الشيخ المقريزي يذكر أن السلطان ( شاه رخ ) بن تيمورلنك في ثلاثينيات القرن التاسع الهجري ألح علي السلطان المملوكي الأشرف برسباي في أن يكسو الكعبه فكان أن رفض السلطان بعض إستشارة قضاة الشرع و قد أورد الشيخ المقريزي بكتابه السلوك لمعرفة دول الملوك رد السلطان فقال " وأُجيب شاه رخ عن طلبه كسوة الكعبة باًن العادة قد جرت ألا يكسوها إلا ملوك مصر، والعادة قد اعتبرت في الشرع في مواضع وجُهزت إليه هدية ", كذلك فإنه بعد زوال دولة المماليك فإن بنو عثمان قد عهدوا إلي ولاة مصر بأن يجهزوا الكسوه و هي علي ذلك إلي إنقطاعها عن مصر في ستينيات القر العشرين الميلادي.

صناع الكسوه يستعرضونها مع بعض الضباط الإنجليز بدايات القرن العشرين

الجيش المصري يسير صحبة المحمل

إستعراض المحمل بميدان القلعه

المحمل تحميه الشرطة المصرية

معسكر المحمل

عودة المحمل من مكة لقصر محمد علي

مجموعه من النساء يزرن المحمل بالعباسية

المحمل أثناء المسير
* إنقطاع المحمل
أما عن إنقطاع المحمل, فقد كان بعد قيام حركة الضباط الأحرار بمصر إثر خلافات حكام المملكه الحجازيه و جمال عبد الناصر سنة 1961 و قد أعد آل سعود بالحجاز مشغلاً لكسوة الكعبه علي طريقتهم خلافاً للعاده المتبعه علي مدار أكثر من سبع قرون, و من المؤسف تبديعهم للاحتفالات المصاحبة للمحمل على الرغم من حضور هذا الاحتفال للكثير من أئمة الاسلام والشيوخ على مدار سبع قرون ولم يبدعه أحد قط غير الوهابية فعلى حد قولهم "أنه كان يصحب المحمل إلي الأراضي المقدسة ما هو محرم من مظاهر الإحتفال من طبل و زمر و هذا لم يكن لائقاً فضلاً عن كونه مبتدعاً، وأنه ليس من المعلوم أن هذا كان يحدث في أطوار المحمل المتقدمة لكن الثابت أنه حدث في مراحل تطوره المتأخره و خصوصاً في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي و كان يصحب بتلك البدع و التي أنكرها الأمير سعود بن عبد العزيز النجدي و الذي كان آخذاً بمنهج الإمام محمد بن عبد الوهاب حتي أنه أنكر صفة المحمل لدي السلطان العثماني سليم الثالث و طالبه بمنع والي مصر من مثل هذا الفعل", و كانت هذه فاتحة أبواب فتن و حروب في بدايات القرن التاسع عشر إلي أن أسر إبراهيم بن محمد علي سعوداً بن عبد العزيز و دمر عاصمته الدرعيه و كان إعدامه سنة 1814 بالآستانه ( إسطنبول ) و به إنتهي عصر الدوله السعوديه الأولي و لكن التوتر و الحذر تجاه المحمل ظل مستمرا حتي إبطاله و قد تجلي هذا التوتر في حادثة المحمل بمني سنة 1926 في عهد الملك عبد العزيز بعد سقوط الدوله العثمانيه