ورد في أحد الأسئلة لدار الافتاء المصرية والذي يقول : برجاء التكرم بإفادتنا رسميًّا وكتابيًّا عن مدى صحة هذه الأحاديث الشريفة:
1. عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: حدثني عمر رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر بعدي فاتخذوا فيها جندًا كثيفًا؛ فذلك الجند خير أجناد الأرض»فقال له أبو بكر: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال:«لأنهم في رباط إلى يوم القيامة».
2. «إذا فتح الله عليكم مصر استوصوا بأهلها خيرًا فإنه فيها خير جند الله».
3. «إن جند مصر من خير أجناد الأرض لأنهم وأهلهم في رباط إلى يوم القيامة».
المطلوب: حكم صحة الأحاديث معتمدة من حضرتكم:
وفي الاسطر القادمة يجيب الأستاذ الدكتور/ شوقي علام مفتي الديار المصرية :
مدار هذه الأحاديث على أن جند مصر هم خير أجناد الأرض؛ لأنهم في رباط إلى يوم القيامة، وعلى الوصية النبوية بأهلها؛ لأن لهم ذمة ورحمًا وصهرًا، وكلُّها معانٍ صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ تتابع على ذكرها وإثباتها أئمة المسلمين ومحدثوهم ومؤرخوهم عبر القرون سلفًا وخلفًا، ولا يقدح في صحتها وثبوتها ضعفُ بعض أسانيدها؛ فإن في أحاديثها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر الذي احتج به العلماء، وقد اتفق المؤرخون على إيراد هذه الأحاديث والاحتجاج بها في فضائل مصر من غير نكير.
ويجمع هذه المعاني: ما ذكره سيدُنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وما أورده من أحاديث مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خُطبته الشهيرة التي خطب بها أهلَ مصر المحروسة على أعواد منبر مسجده العتيق بفسطاط مصر القديمة، وكان ذلك في أواخر فصل الشتاء، بعد أيام قليلة من(حميم النصارى) وهو "خميس العهد" عند المسيحيين؛ حيث كان يحض الناس في أواخر شهر مارس أو أوائل شهر إبريل على الخروج للربيع، وكان يخطب بذلك في كل سنة.
وقد سمعها منه المصريون وحفظوها، وتداولوها جيلًا بعد جيلٍ، ودونوها في كتبهم ومصنفاتهم، وصدَّروا بها فضائل بلدهم، وذكروا رواتَها في تواريخِ المصريين ورجالِهم كابرًا عن كابرٍ، وأطبقوا على قبولها والاحتجاج بها في فضائل أهل مصر وجندها عبر القرون؛ لا ينكر ذلك منهم مُنكِرٌ، ولا يتسلط على القدح فيها أحدٌ يُنسَبُ إلى علمٍ بحديثٍ أو فقهٍ؛ بل عدُّوها من مآثر خُطَب سيدنا عمرو رضي الله عنه ونفيس حديثه، ولم يطعن فيها طاعن في قديم الدهر أو حديثه.
وقد أسند عمرو بن العاص رضي الله عنه في هذه الخطبة الحديثَ المرفوع في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مصر خيرًا،عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، يقول: «إِنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا بِقِبْطِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مِنْهُمْ صِهْرًا وَذِمَّةً».
وأسند أيضًا الحديثَ المرفوع في فضل جند مصر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِذَا فَتَحَ عَلَيْكُمْ مِصْرَ؛ فَاتَّخِذُوا فِيهَا جُنْدًا كَثِيفًا؛ فَذَلِكَ الْجُنْدُ خَيْرُ أَجْنَادِ الْأَرْضِ»، فقال أبو بكر الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: «لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ وأبناءَهم فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
- وقد روى هذه الخطبةَ قاضي مصر الإمامُ الحافظ عبد الله بن لهيعة،ورواها عنه الإمامان الحافظان: أبو نُعيم إسحاق بن الفرات التُّجِيبيُّ، وأبو زكريا يحيى بن عبد الله بن بُكَير المخزومي.فأخرجها مستوفاةً من طريق إسحاقَ بن الفرات عن ابن لهيعة:
الإمامُ الحافظ أبوالقاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم [ت257هـ] في "فتوح مصر والمغرب" (ص: 166-167، ط. مكتبة الثقافة الدينية) فقال: حدثنا سعيد بن ميسرة، عن إسحاق بن الفرات، عن ابن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميرى، عن بحير بن ذاخرالمعافري، قال:
"رحت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرًا، وذلك آخر الشتاء، أظنّه بعد حميم النّصارى بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع إذْ أقبل رجال بأيديهم السياط، يزجرون الناس، فذعرت، فقلت: يا أبت، من هؤلاء؟ قال: يا بنيّ هؤلاء الشُّرَطُ. فأقام المؤذّنون الصلاة،فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه على المنبر، فرأيت رجلًا ربعة قصد القامة وافر الهامة، أدعج أبلج، عليه ثياب مَوْشِيَّةٌ كأنّ به العِقْيَان تأتلق عليه حلّة وعمامة وجبّة، فحمد الله وأثنى عليه حمدًا موجزًا وصلّى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووعظ الناس، وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحضّ على الزكاة، وصلة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد، وينهى عن الفضول، وكثرة العيال.
وقال فى ذلك: يا معشر الناس، إيّاي وخلالًا أربعًا، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة،وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلّة بعد العزّة؛ إيّايَ وكثرةَ العيال، وإخفاضَ الحال، وتضييعَ المال، والقيلَ بعد القال، في غير درك ولا نوال، ثم إنه لا بدّ من فراغ يؤول إليه المرء فى توديع جسمه، والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقلّ، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه فيحور من الخير عاطلًا، وعن حلال الله وحرامه غافلًا.
يا معشر الناس، إنه قد تدلّت الجوزاء، وذَكَت الشِّعْرَى، وأقلعت السّماء،وارتفع الوباء، وقلّ الندى، وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرّجت السخائل، وعلى الراعي بحسن رعيّته حسن النظر. فحيَّ لكم على بركة الله إلى ريفكم؛ فنالوا من خيره ولبنه، وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها، فإنّها جُنّتكم من عدوّكم، وبها مغانمكم وأثقالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرًا، وإيّاي والمشمومات والمعسولات، فإنهنّ يفسدن الدّين ويقصّرن الهمم.
حدثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، يقول: «إِنَّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا بِقِبْطِهَا خَيْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مِنْهُمْ صِهْرًا وَذِمَّةً».
فعفّوا أيديكم وفروجكم، وغضّوا أبصاركم، ولا أعلمنّ ما أتى رجل قد أسمن جسمه، وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علّة حططتُه من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة، لكثرة الأعداء حوالكم وتشوّق قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.
وحدثني عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، يقول: «إِذَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِصْرَ، فَاتَّخِذُوا فِيهَا جُنْدًا كَثِيفًا؛ فَذَلِكَ الْجُنْدُ خَيْرُ أَجْنَادِ الْأَرْضِ» فقال له أبو بكر: ولم يا رسول الله؟ قال: «لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ».
فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم، فتمتّعوا في ريفكم ما طاب لكم؛ فإذا يبس العود، وسخن العمود، وكثر الذباب، وحمض اللبن، وصوّح البقل، وانقطع الورد من الشجر، فحيَّ على فسطاطكم، على بركة الله، ولا يقدَمَنَّ أحد منكم ذو عيال على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم.
قال: فحفظت ذلك عنه، فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل لمّا حكيتُ له خطبته: إنه يا بنيَّ يحدو الناس إذا انصرفوا إليه على الرباط، كما حداهم على الريف والدّعة".
وأخرجها مستوفاةً أيضًا: حافظُ عصره الإمامُ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني [ت385هـ] في "المؤتلف والمختلف" (2/1003-1004، ط. دار الغرب الإسلامي) فقال:
حدَّثَنا أبو الحسن علي بن أحمد بن الأزرق المعدل, قال: حدثَنا محمد بن موسى بن عيسى الحضْرميّ, قال: حدثنا أبو محمد وفاء بن سُهَيْل بن عبد الرحمن الكندي سنة ثلاث وستين ومائتين, قال: حدثنا إِسحاق بن الفرات, قال: حدثنا ابن لَهِيعَة, عن الأَسْود بن مالك الحميري, عن بَحِير بن ذَاخِرٍ المَعَافِريّ، قال: ركبتُ أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة.. فساقها بتمامها، غير أنه قال في حديثها: «لِأَنَّهُمْ فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ».
ومن طريق الإمام الدارقطني أخرجها الإمامان الحافظان: أبو عبد الله النميري [ت544هـ] في "الإعلام بفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام" (ص: 83، ط. دار الكتب العلمية) حيث ساق أولها، وأبو القاسم بن عساكر [ت571هـ] في "تاريخ دمشق" (46/162، ط. دار الفكر) حيث ساقها بتمامها.
وأخرجها مختصرةً: الإمام الحافظ أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي الحنفي [ت321هـ] في "شرح مشكل الآثار" (8/228، ط. مؤسسة الرسالة)؛ فقال:
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال: حدثنا إسحاق بن الفرات قال: حدثنا ابن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميري، عن بحير بن ذاخر المعافري، أنه سمع عمرو بن العاص رضي الله عنه في خطبته يوم الجمعة يقول: "يا معشر الناس، إياي وخلالا أربعًا؛ فإنهن يدعون إلى النصب بعد الراحة, وإلى الضيق بعد السعة, وإلى المذلة بعد العزة: إياك وكثرة العيال، وإخفاض الحال، والتضييع للمال، والقيل بعد القال، في غير درك ولا نوال".
وأخرجها مستوفاةً من طريق يحيى بن بُكَير عن ابن لهيعة: الإمامُ المؤرخ أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق الليثي الفقيه [ت387هـ] في "فضائل مصر وأخبارها" (ص: 83، ط. مكتبة الخانجي) فقال: حدثنا علي بن أحمد بن سلامة، قال: حدثني عبد الملك بن يحيى بن بكير قال:
حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن الأسود بن مالك الحميري، عن بحير بن ذاخر المعافري.. فساقها بتمامها، غير أنه قال فيها: «لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فِي رِبَاطٍ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ».. وقال في آخرها: "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم"، قال: فحفظتُ ذلك عنه، قال: فقال والدي بعد انصرافنا إلى المنزل لمّا حكَيْتُ له خطبته: يا بني! إنه يحدو الناس على الرباط كلما انصرفوا، كما حداهم على الريف والدعة. وكان يخطب بها في كل سنة.
وأخرجها الإمام الحافظ المؤرخ أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي [ت347هـ] في "تاريخ مصر"؛ حيث عزا إليه العلامة المقريزي في " إمتاع الأسماع" (14/185، ط. دار الكتب العلمية) تخريج الحديث المرفوع في فضل جندها، وعزا إليه الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 610، ط. دار الكتاب العربي) تخريج الحديث المرفوع في الوصية النبوية بأهلها.
وأخرجها مختصرةً: الإمام الحافظُ أبو القاسم بن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/161)؛ فقال: أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي، قال: أخبرنا أبو الحسين بن النقور، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن نصر بن طالب، قال: حدثنا أبو الوليد عبد الملك بن يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي المصري، قال: حدثنا أبي، عن ابن لهيعة، عن الأسود بن مالك، عن بحير بن ذاخر، قال: رحت مع أبي إلى الجمعة، فأقبل قوم معهم السياط ومعهم رجل قصير القامة عظيم الهامة عليه ثيابُ وَشْيٍ تأْتَلِق، وإذا هو عمرو بن العاص رضي الله عنه، فخطب؛ فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووعظ موعظة بليغة موجزة، ثم قال: "أيها الناس! إيايَ وقيل وقال، في غير درك ولا نوال"، وذكر عبد الملك خطبة طويلةً، وذكر فيها قال: "وحدثني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ»، قال: فقال لي أبي: يا بُنَيَّ هذا الأمير عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: فأعدتُ الخطبةَ على أبي فعجب مِن حفظي لها، أو فأُعجِبَ بحفظي.
ومدار إسناد هذه الخطبة على الإمام الكبير؛ قاضي مصر وعالمها، ومحدثها وفقيهها، العلّامة أبي عبد الرحمن عبد الله بن لَهِيعة بن عقبة الحضرمي [ت174هـ]، وكان من أوعية العلم وبحوره، وهو مقدَّمُ أهل مصر في الحديث والفقه والفتوى مع الإمام الليث بن سعد [ت175هـ] رحمهما الله تعالى، وكانا في الحديث كفرسَيْ رِهانٍ، بل إن ابن لهيعة فاق الليث في كثرة من أدركهم من التابعين؛ فقد كان طلّابًا للحديث جمّاعةً له، وهو صاحبُ حديث المصريين وأعلمُ الناس به، وقد وثَّقه أهل مصر وهم أدرى الناس به، وكان كبار المحدِّثين يتمنَّوْنَ الأخذَ عنه، وروَى عنه جماعةٌ من كبار الأئمة؛ كالإمام الأوزاعي، وسفيان الثوري، وأمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج، وإمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، وعمرو بن الحارث، وراوي "الموطأ" يحيى بن يحيى النيسابوري وغيرهم، ومنهم من لم يكن يروي إلا عن ثقة؛ كشعبة ومالك رحمهما الله تعالى، وروى عنه إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل بواسطةٍ، وروى له الشيخان البخاري ومسلم في "صحيحيهما" مقرونًا بغيره، ووثَّقه كثير من المحدِّثين، وضعّفه بعضهم.
والذي عليه التحقيق: أن رواياته مقبولة وأن حديثه حسنٌ أو صحيحٌ، وأن الضعف في بعض رواياته إنما أتى مِن جهة مَن روى عنه لا مِن قِبَله هو، ولو ادُّعِيَ أن بعض المحدثين أطلق القول بتضعيفه فهذا معارَضٌ بتوثيق كبار الأئمة له وروايتهم عنه:
فكان ابن لهيعة مشتغلًا بحديث المصريين وكل من ورد على مصر؛ حتى كان يقول: "كانت لي خريطة أضع فيها القراطيس والدواة والحبر، وأدور على القبائل والمساجد؛ أسأل رجلًا رجلًا: ممن سمعتَ؟ ومَن لَقِيتَ؟" اهـ أسنده المنتجالي في "تاريخه" عن قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة، ونقله الحافظ مغلطاي في "إكمال تهذيب الكمال" (8/148، ط. الفاروق الحديثة).
وقال رَوْحُ بن صلاح: "لقي ابن لهيعة اثنين وسبعين تابعيًّا، ولقي الليث بن سعد اثني عشر تابعيًّا" خرّجه الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/141).
وقيل لأحمد بن صالح: أيما أحب إليك: حديث ابن لهيعة الذي رواه الثقات، أو حديث يحيى بن أيوب؟ فقال: كان يحيى حافظًا وفي بعض أحاديثه شيء، وحديث ابن لهيعة أصح. فقيل له: فحديث الليث وابن لهيعة؟ فقال: "ابن لهيعة رَاوِيةُ المصريين، وأي شيء عند الليث من حديث مصر؟ كان ابن لهيعة من الثقات، إذا لقن شيئا يحدثه" اهـ نقلا عن "إكمال تهذيب الكمال" (8/144).
وعن قتيبة بن سعيد قال: حضرتُ موتَ ابنِ لهيعة فسمعت الليثَ يقول: "ما خلَّف مثلَه"، خرَّجه ابن حبان في "المجروحين" (2/12، ط. دار الوعي).
وعن إمام أهل العلل والجرح والتعديل الإمام الحافظ علي بن المديني أنه قال: "رجلان هما صاحبا حديث أهل بلدهما: إسماعيل بن عياش، وعبد الله بن لهيعة"، خرّجه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (7/186، ط. دار الغرب الإسلامي).
وروى الإمام النسائيُّ، عن الإمام أبي داود، عن الإمام أحمد بن حنبل قال: "مَن كان بمصر يشبه ابنَ لهيعة في ضبط الحديث وكثرته وإتقانه! ما كان محدثُ مصرَ إلا ابنَ لَهِيعة". خرَّجه الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/145)، وروى نحوَه أبو عُبيد الآجريُّ في "سؤالاته" عن الإمام أبو داود (2/175، ط. مؤسسة الريان)، وزاد: "وحدَّث عنه أحمد بحديث كثير" اهـ، وقد روى عنه الإمام أحمد في "المسند"أكثر من سبعمائة حديث.
وخرَّج ابن حبان في "المجروحين" (2/12) عن إبراهيم بن إسحاق قاضي مصر قال: "أنا حملت رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس، فجعل مالك يسألني عن ابن لهيعة وأُخبِرُه بحاله، فجعل يقول: فابن لهيعة ليس يذكر الحج؟ فيسبق إلى قلبي أنه يريد مشافهته والسماع منه" اهـ.
وقال الحافظُ البيهقي -كما في "النفح الشذي" للحافظ العراقي (2/853، ط. دار العاصمة)-: [كان مالكٌ يُحَسِّنُ القولَ في ابن لهيعة] اهـ. وكذا قال الإمامُ السهيلي في " الروض الأنف" (2/286، ط. دار إحياء التراث العربي).
وقد روى الإمام مالك عن ابن لهيعة ووثقه؛ فإنه روى في "الموطأ" حديثين عن (الثقة)، وصرح باسمه فيهما خارج "الموطأ":فأما الحديث الأول: فأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" عن الثقة عنده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ».
قال الحافظ ابن عدي في "الكامل" بعد أن أخرجه من طريق أبي مصعب الزهري عن مالك (5/252): [هكذا ذكره أبو مصعب عن مالك عن الثقة عن عَمْرو بن شُعَيب، وبعض أصحاب الموطأ يذكرون عن مالك قال: بلغني عن عَمْرو بن شُعَيب، ويقال: إن مالكًا سمع هذا الحديث من ابن لَهِيعَة عَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيب، ولم يُسمِّه لضعفه، والحديثُ عن ابن لَهِيعَة عَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيب مشهورٌ] اهـ.
وقال الحافظ ابن عبد البر في "الاستذكار" (6/263، ط. دار الكتب العلمية): [هكذا قال يحيى في هذا الحديث: عن مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب، وقال ذلك جماعة من رواة "الموطأ" معه. وأما القعنبي والتنيسي وابن بكير وغيرهم فقالوا فيه: عن مالك أنه بلغه أن عمرو بن شعيب، والمعنى فيه عندي سواء؛ لأنه كان لا يروي إلا عن ثقة.
وقد تكلم الناس في الثقة عند مالك في هذا الموضع، وأشبه ما قيل فيه: أنه ابن لهيعة والله أعلم؛ لأن هذا الحديث أكثر ما يعرف عند ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب] اهـ.
وقال البيهقي في "السنن الكبرى" (5/559، ط. دار الكتب العلمية): [ويقال: إن مالكًا سمع هذا الحديث من ابن لهيعة, عن عمرو بن شعيب. والحديث عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مشهور] اهـ.
وقد صرَّح الإمام مالك في هذا الحديث بالرواية عن ابن لهيعة؛ وذلك من طريقين عنه :
- من طريق عبد الله بن وهب، عن مالك؛ فيما أخرجه الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (24/177، ط. وزارة الأوقاف المغربية).
- ومن طريق محمد بن معاوية النيسابوري؛ فيما أخرجه الحافظ أبو أحمد الحاكم [ت378هـ] في "عوالي مالك" (1/189، ط. دار الغرب الإسلامي)، والإمام أبو موسى المديني [ت581هـ] في "اللطائف من علوم المعارف" (ص: 282، ط. مخطوط).
وأما الحديث الثاني: فأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" أيضًا: عن الثقة عنده، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عبد الرحمن بن الحُبَاب الأنصاري، عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُشرَب التمرُ والزبيبُ جميعًا، والزهوُ والرُّطَبُ جميعًا.
قال الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (24/205): [هكذا روى هذا الحديثَ عامةُ رُواةِ الموطأ كما رواه يحيى، وممن رواه هكذا: ابنُ عبد الحكم، والقعنبيُّ، وعبد الله بن يوسف، وابن بكير، وأبو المصعب، وجماعتهم.
ورواه الوليد بن مسلم عن مالك عن ابن لهيعة عن بكير بن الأشج.. ثم ساقه من طريقه] اهـ.وكذا أسنده الحافظ أبو القاسم المهرواني [ت468هـ] -فيما خرجه الحافظ الخطيب البغدادي في "المهروانيات" (2/553-554، ط. الجامعة الإسلامية)- من طريق الوليد بن مسلم عن الإمام مالك مصرحًا فيه بالرواية عن ابن لهيعة.
وتوثيق ابن لهيعة هو الذي اعتمده المالكية عن الإمام مالك رضي الله عنه؛ قال العلامة الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (1/195، ط. دار الفكر): [ابن حارث عن ابن وهب: رجع مالك عن إنكاره لوجوبه لما أخبرته بحديث ابن لهيعة «كان صلى الله عليه وآله وسلم يخللهما في وضوئه» انتهى -يعني: الأصابع-.. وفيما ذكره ابن وهب دليل على الاحتجاج بحديث ابن لهيعة] اهـ.
بل هذا هو الذي اعتمده أرباب المذاهب الفقهية المتبوعة؛ حتى قال الحافظ أبو محمد بن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (4/220، ط. دار الآفاق الجديدة): [ولا أحصي كم وجدتُ للحنفيين والمالكيين والشافعيين تصحيحَ روايةِ ابن لهيعة] اهـ.
وقال الحافظ ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (5/251، ط. الكتب العلمية)؛ مؤكِّدًا سماع الإمام مالك، وغيره من الأئمة؛ كشعبة، والثوري، والليث، من ابن لهيعة: [حديثه أحاديث حسان، وما قد ضعفه السلف هو حسن الحديث يكتب حديثه، وقد حدث عنه الثقات: الثوري، وشعبة، ومالك، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد] اهـ.
ومن المقرر أن الإمام مالكًا لم يكن يروي إلا عن ثقة، وكذا شعبة؛ قال الإمام علي بن المديني: قال سمعت سفيان بن عيينة يقول: "ما كان أشدَّ انتقادَ مالك للرجال وأعلمَه بشأنهم"، خرَّجه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/23، ط. دائرة المعارف العثمانية)، وخرّجه أبو نعيم في "الحلية" (6/322، ط. دار الفكر) عن علي بن المديني قال: حدثنا سفيان قال: "كان مالك ينتقي الرجال ولا يحدث عن كل أحد"، قال علي: "ومالكٌ أمانٌ فيمن حدَّث عنه من الرجال؛ كان مالكٌ يقول: لا يُؤخَذ العلم إلا عن من يَعرِف ما يقول"، وقال الإمام أحمد بن حنبل: "كان شعبةُ أمةً وحدَه في هذا الشأن"؛ يعني في الرجال، وبصره بالحديث، وتَثَبُّتِه، وتَنْقِيَتِه للرجال، رواه عنه ابنه عبد الله في "العلل" (2/539، ط. دار الخاني)، وقال الإمام الزركشي في "النكت على مقدمة ابن الصلاح" (3/370-371، ط. أضواء السلف): [الذي عادته لا يروي إلا عن ثقة ثلاثة:
يحيى بن سعيد، وشعبة، ومالك. قاله ابن عبد البر وغيره، وقال النسائي: ليس أحدٌ بعدَ التابعين آمَنَ على الحديث مِن هؤلاء الثلاثة، ولا أقل رواية عن الضعفاء منهم] اهـ.
وأخرج الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/143، ط. دار الفكر) عن الإمام سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث أنه قال: [عند ابن لهيعة الأصول، وعندنا الفروع] اهـ، وقال: [حججتُ حِجَجًا؛ لِأَلْقى ابنَ لهيعة] اهـ.