الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا معنا اليوم الحكمة الثلاثمائة والثامنة والثلاثون من الحكم العطائية لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى :
( إلهي حكمك النافذ ومشيئتك القاهرة , لم يتركا الذي حال حالاً , ولا لذي مقال مقالاً )
لا شك أن حكم الحق نافذ في خلقه لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه , يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
( لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون )
وهذا هو الذي حرك قلوب العارفين فلم يطمئنوا بحال ولم يعتمدوا على عمل ولا مقال , بل صاروا مضطرين إلى الله في كل حال , لأنهم قد علموا أن حكم الله نافذ كلمح البصر أو هو أقرب , ومشيئته قاهرة لا يصرفها عن إنفاذ مرادها صارف , ولا تردها همة ولي ولا عارف , ففي لحظة واحدة يقرّب البعيد ويبعد القريب , ويرفع الوضيع ويضع الرفيع , ويعز الذليل ويذل العزيز , ويغني الفقير ويفقر الغني , ويبسط المقبوض ويقبض المبسوط , ويمرض الصحيح ويصحح المريض فكيف يصح لعاقل أن يركن إلى حاله ومقامه أو يعتمد على علمه وأعماله , أو يغتر ببسط لسانه ومقاله , والله تعالى يقول : { واعملوا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون }
قال بعضهم : من أين للعبد ثبوت حال أو مقال وهو عين المقال في الحال ؟ ذرة جلة جالت على معناها فلم تبلغ منتهاها , فوالله ما بلغ العبد شفعية معناه فأنى به برترية معناه , جوهرة رامت فلاحت وأومضت فغمضت , وسكنت فتمكنت , فبرزت من قعر بحر الغيب فغار منها القدر , فأجناها في سواد عينها , خيفة أن تنال أو تسم أو تعرف , فلا كيف لها ولا أين ولا رحيم ولا عين ولا وصل ولا بين , ومعنى قوله : عين المقال في الحال , يعني أن أمر العبد بين الكاف والنون , فهو عين قول " كن " في أسرع حال , فالمراد بالمقال هو قول " كن " فيكون تصريف ذلك الأمر في لحال وقوله ذرة جلة الخ : الذرة النملة الصغيرة , وجلة عظيمة : أي ذرة صغيرة في الحس عظيمة في المعنى , جالت بفكرها في إدراك معناها فلم تبلغ منتهاها كناية عن عجائب صنعة الباري في أصغر شيء فكيف بالإنسان ؟ ولذلك قال : فوالله ما بلغ العبد شفعية معناه , وشفعية معنى العبد : هي بشريته الظاهرة لأنها محل العبودية التي هي شفع باعتبار الربوبية , ووترية معناه : هي روحانيته , لأنها واحدة وقوله جوهرة رامت : المراد بالجوهرة هي الروح , رامت : أي قصدت الظهور , فلاحت : أي ظهرت في هذا القالب البشرى وأومضت : أي أشرقت أنوارها على ذلك القالب فغمضت , أي استترت وانحجب فلم يعلمها إلا من يعلمها إلا من أوجدها ونفخها وسكنت في قفصها فتمكنت فيه وقوله : فبرزت من قعر بحر الغيب يشير إلى أصل بروزها من بحر الجبروت فلما برزت إلى عالم التكوين عالمة بأسرار الغيب وهي أسرار الملك غار منها القدر وخاف عليها أن تفشي أسرار الملك , فأجناها : أي أجنى عليها في سواد عينها فحجبها عن تلك الأسرار خيفة أن تنال تلك الأسرار أو تظهر أو تعرف , فلا كيف للروح ولا مكان ولا رحم لها بل هي درة يتيمة ولا عين لها تعرف , ولا وصل لها بشيء , ولا قطع لها عن شيء جل ربنا أن يتصل به شيء أو يتصل هو بشيء والله أعلم , وانشدوا :
فالكل يطلب نعمي حيث ضل وما يحظى بنعمي سوى فرد بأفراد
مهلاً عليك وعد من حيث جئت وسل في الدارئين غدا عن ساكن الوادي
عساك تلقى خبيرا عالماً بهم ينبيك عنهم ولم يلمم بميعاد
قال بعض الحكماء : تالله ما ظفر بسعدي إلا من تاه في أرض التقديس , وتنزه عن الخسيس والنفيس , فأصبح جسمه وروحه العصا ونفسه فرعون , فكلامه صمت وصمته كلام , ولسان حاله يخاطب جميع الأنام , فلو عرضت عليه الشهادة في باب الحجرة والموت داخلها على حسن الختام لترك الشهادة واختار الموت على أكمل التمام , عملاً على اليقين دون الشك والله خير وأبقى يا هذا ما أطيب عيش من وعي فأجاب : ما أعز قدر من لازم الباب ما أخس قدر من أبعد عن الجناب , ما أبخس قيمة من له على الغفلات انكباب , إذا غلب الطبع فلا تنفع الحيلة , ومن سبق له القضاء لم تنفعه الوسيلة , فسبحان من يعطي ويمنع ويضر وينفع جذبت العناية سلمان الفارسي من أرض فارس , ونودي بلال من بلاد الحبشة , وأبو طالب على باب التحقيق وقد حرم التوفيق وقع الحكم ونفذ الأمر وسبقت المشيئة وجف القلم
{ لو أنفقت ما في الأرض جيمعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } اهـ
وكما أن حكمه النافذ يهدم الاعتماد على الأحوال , كذلك عدله القاهر يهدم الاعتماد على الأعمال .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
|