[font=Tahoma] [align=justify]بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى أعز أولياءه المقربين الأبرار ، ووعدهم بالانتقام ممن آذاهم والانتصار ، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى المختار ، وعلى آله وصحبه السادة الأخيار .
وبعد : فإن الله خص هذه الأمة بما لم يعطِ أمة قبلها ، وأمطر عليها من سحائب كرمه طل نعمه وويلها ، وجعل فيها على مدى الدهر طائفة مخصوصة بولايته ، محبوة بأنهم صفوته من الخلق ومحل رعايته ، هم خيار الأمة ، والأنوار التى تضئ فى الظلمة ، وبهم تفرج كل غمة ، وتزاح كل ملمة كما قيل :[/align]
[align=center]نهاهم حبه لما سقــــــــاهم حميا الوصل عن حور حسان
له لم يعبدوا من خــوف نار ولا شوقا إلى ما فى الجنــــان
ولكن كان مولى ذا جــــلال له الإجلال فرضا فى الجنـــان
لهم شغل لمولاهم بذكــــــر وشكر و التهجد بالقــــــــرآن
نجاب فتية غر كــــــــــرام من العلياء فى أعلى مكـــــان
بحور العلم أوتــــاد لأرض ملوك الخلق أقمار الزمـــــان
وهم المكاشفون بلطائف المعارف ، والمطالعون بطرائف العوارف كما قيل :
كر بالقوم طيف أنس المناجـــا ة فأولاهم رقيق الكـــــــــلام
فصفت منهم السرائر حتــــــى لاح منها شواهد الأفــــــهام
فهم الغائصون بالعلم فى الفكـ ـر يتيهون فى مدى الاكتتام
وهم المكرمون حسا ومعنـــى فى حضور وفى حبور شان[/align]
[align=justify]وردت بذكرهم الأخبار ، ورُويت فى مآثرهم الأثار عن الأحبار ، وجاءت الأحاديث ، بأنهم السابقون والأخيار ، دونك ما رواه رواة الحديث الصادقون : "لكل قرن من أمتى سابقون" ، بهم يغاث الناس وبهم يُنصرون ، وبهم يُرزقون وبهم يُمطرون ، وبهم يُجارون وبهم يُدفع عن أهل الأرض ما به يُضارون ، وبهم يحيى الله ويميت ، ويُسقى عباده ويقيت ، وبهم ينزل الغيث ، وبهم يصلح العيث ، وبهم ينبت للخليقة منبتها ، وبهم تــُخرج الأرض بركتها ، وبهم يُنتصر على الأعداء ، ويُدفع أنواع البلاء ، ويُصرف العذاب والابتلاء ، كما قيل :[/align]
[align=center]بهم أضاءت الأرض وابتهجـــت فهم شموس سرت فيها وأقمار
تحيى بهم كل أرض ينزلون بها كأنهم لبقاع الأرض أمطـــــــار
هم الخواص وقد خــُصوا بهـــا جهرا وكم لهم فى الله أســـرار[/align]
[align=justify]لو أقسم أحدهم على الله لأبر قسمه ، ولو سأله أن يزيل جبلا عن مكانه لهدمه ، ولن تقوم الساعة حتى يُقبضوا كلهم ، وتــُفقد من جميعهم أمكنتهم ومحلهم ، ويُعدم من كل الأرض طللهم وطلهم وظلهم :[/align]
[align=center]لقد شمروا فى نيل كل عزيــــــــــزة ومكرمة مما يطول حسابــــــــــه
إلى أن جنوا ثمر الهوى بعد ما جنى عليهم وصار الحب عذبا عذابـــه
وحتى استحال المر فى الحال حاليــا وحتى دنا النائى وهانت صعابـــه
يسلون سيف العزم والصبر ترسهم وقد ركبوا شيئا يهول ارتكابــــــه
يهون عليهم والدماء خضابهــــــــم وفى نحرهم طعن الهوى وضرابه
أماتوا فأحيوا ما أهانوا فأكرمــــــوا بذبح إلى فعل الكرام انتسابـــــــه
إلى الله بالله احتساب نفوسهـــــــــم ولله مَن فى الله كان احتسابـــــــه
بترك الهوى أمسوا يطيرون فى الهوا ويمشون فوق الماء أمن جنابه
ملوك على التحقيق ليس لغيرهــــــــم مِن المُلك إلا اسمه وعقابـــــــه
شموس الهدى منهم ومنهم بـــــدوره وأنجمه منهم ومنهم شهابــــــه[/align]
[align=justify]طوبى لعبد الله نوَّر الله بصيرته ، وأصلح باطنه وسريرته ، فنظر لهديهم ليهتدى ، وبصر برأيهم ليقتدى ، وعرف مقامهم لئلا يعتدى ، كما قيل :[/align]
[align=center]والأولياء عرائس الله اتئد أنــّى يُجلــّيها لشخص أرمد[/align]
[align=justify]قد تولى الله تعالى نصرهم ، ورد على أعدائهم أذاهم ومكرهم ، وتوعد مَن آذاهم بحرب ليعظم أمرهم ، قال تعالى فيما رُوى من الأحاديث القدسية بين حُفاظ الشرق والغرب :" من آذى لى ولياً فقد آذنته بالحرب" وفى لفظ : "من آذى لى ولياً فقد استحل محاربتى وأنــّى له بالسلامة" وفى حديث مرفوع : "من عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة" رواه أهل الإمامة ، وفى آخر قدسى : "من أخاف لى ولياً فقد بارزنى بالعداوة وأنا الثائر لأوليائى يوم القيامة".
وفيما أوحى الله تعالى إلى موسى : "من أهان لى ولياً أو أخافه فقد بارزنى بالمحاربة وبارانى ، وعرّض لى نفسه ودعانى إليها وأنا أسرع شئ إلى نصرة أوليائى " ؟! أفيظن الذى يحاربنى أن يقوم لى ؟! أو يظن الذى يعادينى أن يُعجــِزنى ؟! أو يظن الذى يبارزنى أن يسبقنى أو يفوتنى ؟! وكيف وأنا الثائر لهم فى الدنيا والآخرة لا أكِل نـُصرتهم إلى غيرى ؟
وعن النبى : "أن موسى عليه السلام قال : " يا رب أخبرنى بأكرم خلقك عليك ، قال : الذى يُسرع إلى هواى إسراع النسر إلى هواه ، والذى يكلف بعبادى الصالحين كما يكلف الصبى بالناس ، والذى يغضب إذا انتهكت محارمى غضب النمر لنفسه ، فإن النمر إذا غضب لم يبال أقل الناس أم كثروا" هذه أحاديث وآثار ، فيها مقنع لذوى الأبصار من الأنصار .
ومن كلام العلماء ونصوص الحكماء : قال أبو القاسم اللبدى فى كتاب "الدلالة على الله" : "إن الله عز وجل لن يُخلى الأرض من قائم يقوم له بالحجة فى دينه رضيه لولايته ، واختاره لمعاملته فيبين به دلالته ، ويوضح به طرقه ، ومن عدو له مفتون يُضل الناس عن سبيله ويفتنهم عن دينه .
وقال : "أبى الله أن يفتح قلب عبد لحقيقة المعرفة به ، أو لفهم كتابه وهو يزرى بأوليائه ، كما حجب صاحب البدعة عن إصابة السُنة ما دام متبعاً لآرائه وأهوائه ، وإن الله لينتقم لأوليائه ممن آذاهم ، ويعاقب من لم ينصرهم فإياك وإياهم ، فإنهم حِمى الله فى أرضه وخزى الله واقع بمن عاداهم ، وإن الله ليغضب لغضبهم ويرضى لرضاهم ، وإن الله إذا أراد بقوم خيراً وفقهم للسُنة وحبب إليهم أولياءه ، وإذا أراد الله بقوم شراً أخذ لهم فى طريق البدعة وحبب إليهم أعداءه".
وقال : "إذا استهزأ مَن يدعى السُنة بأهل الحق من الزاهدين ، وصارت مجالس العلم والذكرى معادن الخوض فى أعراض المؤمنين ، وكانت المساجد مواطن لذكر الدنيا ولم تبال العامة ما نقص من دينها فى سلامة دنياها فهناك عمهم الله بالعقاب ، وسلط عليهم شرارهم فساموهم سوء العذاب ، ولا ينجلى ذلك عنهم إلا بمتاب ".
وقال : "إن الله حتم على نفسه لأوليائه أن يعز نصرهم ممن آذاهم بثلاث عقوبات أو واحدة منهن : إما بتفريق الهموم فى الدنيا بمحبة الفخر والتكاثر ، أو عمى القلب عن التصديق بمواهب أهل خاصة الله ، أو موالاة أعداء الله".
وقال : "إن الله أكرم بنى إسرائيل فى كل زمان بنبى يوحى إليه ، وخص هذه الأمة فى كل أوان بولى له يوفقه ويلهمه إصابة المعنى فى الدين والحقيقة فى الأحوال رشداً وتسديداً من الله تعالى ، يوضح به طرائقه ، ويرحم به عباده ، ردعا للعاصى ، ومزيد هداية للمطيع ، فإذا رأيتم الأرض قد خلت منهم ، فاعلموا أن الداهية قد عظمت ، وأن الآزفة قد اقتربت ، وهو من علم أشراط الساعة ".
وقال : "تبقى فى آخر الزمان طائفة من أولياء الله تعالى يُدفع بهم البلاء ويُصرف بهم المكاره ، فإذا عظمت فتنة أهل الأرض وكثر الفساد والبغى ، حجب الله أبصار العامة عن أوليائه ، وصرف قلوبهم عن محبتهم ، فعند ذلك يحل بهم السخط ".
عود إلى المقامة ، هذا ما اخترته من المقال مما يناسب المقام والتقطته من المظان لهذا النظام ، تنبيها على مقام الأولياء ، وإشارة إلى علو رتبة الأصفياء ، وتذكيرا للأتقياء ، وتحذيرا مما تأتيه طائفة الأغبياء ، الظانون أنهم فى عداد الأذكياء ، القادحون بأفهامهم الفاسدة فيما لا يفهمون والخائضون بقلة تقواهم فيما لا يعلمون :[/align]
[align=center]وقلتُ لأصحابى هى الشمس ضوءها قريب ولكن فى تناولها بُعد[/align]
[align=justify]هل أتاك حديث الغاشية ، الراشية الواشية ، اللاشية المتلاشية ، التى أضحت بتنقيص أولياء الله عاشية ، ولم تكن من عذاب الله خاشية ؟! إنما مثلها مثل الماشية ، فمزق الله منها الأصل والحاشية ، ولا نشأ منها ناشية .
أم هل أتاك حديث الفجرة ، اللئام النكرة ، والحُمر المستنفرة ، والكذبة المزورة ، الذين لا يخشون من تِرة ، ولا يرعون مأثرة ، ولا تنفع فيهم التذكرة ؟!.
أم هل أتاك نبأ الذين نبعوا من المراحض والمحارض ، وآذوا ولى الله الشيخ عمر بن الفارض ، وقرضوه بعد موته بزهاء ثلاثمائة سنة بالمقارض ، ولم يختشوا من سخط الجبار الذى هو للقلوب آرض ، وإن رأوا سحاب عذاب أظل عليهم قالوا هذا عارض ؟! لا هم وقفوا عند نص القرآن ولا هم امتثلوا ما ورد عن سيد ولد عدنان ، ولا هم عملوا بما قرره أئمة الشان ، ولا هم جنحوا إلى طريقة جارية على قانون الحق والفرقان ، وأنشدوا :[/align]
[align=center]ليت شعرى أى علم أتقنــــــــوه ليت شعرى أى فن أحكمـــــــوه
إن تسلهم عن معانى بعض ألفا ظ أتت فى شعره لم يفهمـــــــوه
صعدوا واحدة مـــــــــــــن درج فأرادوا علوها أن يقحمــــــــوه
كل شئ غاب عن أفهامهــــــــم حيثما يستمعوا ما سلمـــــــــوه
أجميع العلم يا من غلطـــــــــوا فى ضياء الشمس هل أوتيتموه
لم لا قلتم له معنـــــــــــــى ولم ندره للجهل هلا قلتمــــــــــــــوه
أنتم فى الدين أعلى من نجــوم وأعلام قديما قدمـــــــــــــــــــوه
وأناس شرحوا أبياتــــــــــــــه وأناس أولوا ما استبهمـــــــــوه
كالبساطى الذى مرقـــــــاه فى فى كل علم شاع ما أجللتمــــــوه
والكمال بن الهمام الحبر مــن نوره فى العلم ما أوقرتمــــــــوه
كل فدم منكم لـــــــــــو رام أن ن شعره يسرد ما أحسنتمــــــوه
تتعالون مقاماً وتغـــــــــــــــــا لون فى العلم مقالا ترجمـــــــوه
حسبكم أن تصمتوا عن عضل لا تقولوا الشئ حتى تعلمـــــــوه[/align]
[align=justify]قال تعالى فى كتابه العزيز محذرا ناطقا جهولا : "ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا" ، وقال النبى مرشداً إلى الدين ومعالمه : "إنما الأمور ثلاثة : أمر تبين لك رشده فاتبعه ، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالمه".
وقال عمر بن الخطاب محسنا للظن ومجملا : "لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها فى الخير محملا".
تضافرت النصوص والنقول على وجوب تحسين الظن بالمسلم ، وفتح باب التأويل لما أشكل من كلامه وأبهم ، خصوصا من اشتهر بالصلاح ، وبدا منه الخير ولاح ، وغدا ذكره وراح ، وشاع خبره فى البطاح.
وكان فى إقليم الإسلام ، بين العلماء الأعلام ، والملوك والأمراء ، والأعيان والكبراء ، ألم يجتمع به الشهاب السهروردى : وحلاه بالطراز اللازوردى ؟! ومقامه فى علمى الشريعة والحقيقة معروف ، ومحله بالعظمة والجلالة موسوم وموصوف ، وقد كان داعيا ومرشدا ، ومسلكا به يُقتدى ، هلا أنكر عليه ، أو حذر الناس مما لديه ؟! بل شهد له بالمحبة ودل عليه تلامذته وصحبه .
ألم يجتمع به حافظ عصره وزاهده الشيخ زكى الدين المنذرى ، وغيره من حفاظ الحديث ، وترجموه بما يقمع كل مزدرى ؟!.
وكم إمام كان فى عصره ، فى حجازه وشامه ومصره ، ما منهم أحد وجه إليه إنكارا ، ولا حط له مقدارا ، ولا هدم له منارا ، وذلك لما شاهده من سنى أحواله ، وتواتر عندهم من أنه محب عاشق واله.
وقد كان الشيخ قبل تجرده من الفقهاء الأعلام ، وولى القضاء والأحكام ، حكى الوادعى عن الشهاب محمود ، قال : "كان ابن الفارض قاضيا ، فدخل الجامع يوما لصلاة الجمعة والخطيب يخطب ، فوجد شخصا يغنى ، فنوى تأديبه سرا ، فلما انقضت الصلاة وانتشر الناس ، خرج ابن الفارض ، فناداه المذكور أن أقبل ، فلما أقبل أنشده هذا الشعر :[/align]
[align=center]قسم الإله الأمر بين عبــــاده فالصب يُنشِد والخلى يُسبح
ولعمرى التسبيح خير عبادة للناسكين وذا لقوم يصلـــح[/align]
[align=justify]وهذا كان سبب زهده ".
وأما محله من الأدب ، فكانت النكت الأدبية تنسل إليه إذا نظم من كل حدب ، انظر إلى شعره تجده دالا على تبحره فى حفظ اللغات وجمعه منها للشتات ، وأما الجناسات وأنواع البديع فكمّر السيل ، وكجر الذيل ، روض مفوف ، وطباع قط ما تكلف ، وما زالت الأعلام وغيرهم يلحظونه بعين التعظيم ، ويحلونه محل التبجيل والتكريم .
وإن غرك دندنة الذهبى فقد دندن على الإمام فخر الدين بن الخطيب ذى الخطوب ، وعلى أكبر من الإمام وهو أبو طالب المكى صاحب : قوت القلوب" ، وعلى أكبر من أبى طالب المكى وهو الشيخ أبو الحسن الأشعرى الذى ما زال ذكره يجول فى الآفاق ويجوب ، وكتبه مشحونة بذلك : "الميزان" ، و "التاريخ" و "سير النبلاء" ، أفقابل أنت كلامه فى هؤلاء ؟ كلا والله لا نقبل كلامه فيهم ، بل نوصلهم حقهم ونوفيهم.
وقد سئل الشيخ البلقينى عن الشيخ ، فقال : "ما أحب أن أتكلم فيه" ، وسئل عن الأبيات التى أنكرت عليه ، فأنكرها خوفا ممن يعتقد ظاهرها ويقتفيه ، فما يلزم من إنكار القول تنقيص صاحبه ، ولا الإزراء بمقامه والتفريط فى واجبه .
وقد نــُقل عن شيخ الإسلام ، عز الدين بن عبد السلام : أنه وجه إلى كلام ابن عربى القدح ، ثم مدحه هو غاية المدح ، فسئل عن وجه الجمع ، فقال : حتى أصون ظاهر الشرع ، حكى ذلك وأشاد ، اليافعى فى "الإرشاد" ، وما ذاك إلا لأن الكلام قد يكون ظاهره فى الشرع منكراً وصاحبه منزه عن اعتقاده مورداً ومصدراً ، وإنما صدر عنه مرادا به معنى خلاف الظاهر ، مؤولا بتأويل حسن باهر.
قال الغزالى رضى الله عنه وعنا به : "كلام القوم شبيه بما فى القرآن والسُنة من المتشابه".
وقد سأل بعض علماء الكلام ، بعض كبار الصوفية عن هذا الذى يقع عليه الملام ، فشرحه له بأبين جواب ، وأبان له صوب الصواب ، فقال له : فما حملكم على أن اصطلحتم على هذه الألفاظ التى ظاهرها يستشنع ؟! فقال : غيرة على طريقنا أن يدعيه من لا يحسنه ويدخل فيه من ليس من أهله ويرتع .
نعم ما على الناس - فى ذلك - أضر من مسلك لا يحسن التصرف ، وأولع قلبه بأن يُشهَر عنه علم التصوف ، يأتيه من حكمه حكم الجنين الذى ما نطق بعد ولا استهل ، ولا مشى ولا قام ولا شرب ولا أكل ، فيسأله عن شئ من هذه العبارات المُشكلة فيخوض معه فى شرحها ، وهو جماد لا يحسن مدحها من قدحها ، فيخرج هذا نافخا أشداقه ، رافعا أحداقه ، كأنما جُعل فى قبضته الفلك ، أو نزل إليه بسجل الولاية ملك ، ما أحوجه فى مثل هذه الحالة إلى صكة فى عنقه ، تخفض من أنفاسه وتسكن من خلقه !.
ما لهذا إلا من يدير عليه من أدوار العبادة حجر الطاحون ، ويقدعه من مخالفة النفس بما هو أحد من الطاعون ، ويأخذه بالجوع وترك الهجوع ، ويُلزمه الذكر والصوم ، ويحرمه لذيذ الطعام والنوم ، حتى يذوب كبده ويتفطر ، وتسيل مهجته وتتقطر ، وإن سأله عن شئ من ذلك ، أو رام الخوض فى هذه المسالك ، أنكر عليه باللسان والقلب ، وقال : اقعد مزجر الكلب ، ثم زاد عليه وزبره ، وأغلظ عليه وزجره ، وقال : مالك ولهذا ؟! اسلك طريقاً يكون لك ملاذا ، والزم حصناً يكون لك معاذا ، "قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً" ، لو فعل معه ذلك كان عين النصح فى حقه ، وكان أبعد له من عقه ، وأقرب إلى فك رقه ما أحسن قول أبى عبد الله القرشى - أحد أئمة التحقيق - : "من طلب الغايات فى المبادئ فقد أخطأ الطريق".
نعوذ بالله من سوء الظن ما أحوجنا إلى هذا الكلام إلا بيان أن الضرر ممن تشبه بأهل الفن ، إنما كان يجارى بهذا الكلام ، من أهل الحضرة وشهود المقام ، فيتذاكرون ما هم له عارفون ، ويتحاورون فيما هم فيه متصفون ، وله واصفون ، كل قرن مع قرينه ، وكل ليث مع أهل عرينه ، رضى الله عن أستاذنا الشيخ كمال الدين ابن الهمام ، وأمطر على مضجعه وابل الغمام ، سأله رجل عن شئ من كلام القوم بين الملأ ، فقال : "حتى نصحح إسلامنا أولاً" ، ورضى الله عن شيخنا عبد الكبير ، ونشر من ثنائه فى الخافقين ما هو أضوع من العبير ، سأله رجل أن يقرأ عليه التائية مع طائفة ارتأوا ، فقال : "ما هذه طريقة القوم لا من دنوا ولا من نأوا ، من جاع جوع القوم وسهر سهرهم رأى ما رأوا".
ولما شرع البساطى فى شرح التائية ردا للفاتك ، أرسل منها نسخة إلى ابن الهمام ، وقال له : "حش لى هذه من عندياتك".
عود وانعطاف ، ووصف لما نحن بصدده واتصاف ، ما أحسن ما وقع لإمام أصحاب المذهب أبى العباس سريج الملقب بالباز الأشهب ، إذ سئل عن الحسين الحلاج ، وقد اضطربت فيه من آراء العلماء الأمواج ، فقال : "هذا رجل خفى علىّ حاله ، ولا أقول فيه شيئا يؤثر عنى مقاله" ، هذا وهو حى عنده فى بلده ، مشاهد لحاله حالٌّ بمشهده.
فكيف بمن مرت عليه الدهور ، وتطاولت منذ موته السنون والشهور ؟! التسليم أسلم ، والصمت عما لا يعنى الإنسان أحلم ، والخائض فيما لا يعنيه أظلم ، والله سبحانه بأحوال الخلائق أعلم .
فإن قلتَ : قد نقل عن القونوى من "المحتوم" : "أنه لا يؤول إلا كلام المعصوم" ، قلتُ : لم نجد فى كتب القونوى هذه الإضافة ، بل رأينا فى كتابه "حسن التصرف فى شرح التعرف" خلافه ، فإنه أكثر فيه من التأويلات ، لمشكلات للقوم مقولات ، وأول فيه لابن عربى وغيره أشياء عديدة ، وخرجها على محامل سديدة .
ثم إن غيره من الأئمة كالمطبقين على التأويل ، وكالمتفقين على عدم التحول عن ذلك والتحويل ، وهذه نبذ من نقولهم بنصها ، وفلذ من كلماتهم بفصها ، يحتمل إيرادها خلال المقامة ، وإن لم تكن مفقرة ، لأن الحاجة داعية إليها فى هذه المقامة ومفتقرة ، ولو شئتُ لفقرتها لكن قصدتُ إيراد مقالهم بلفظه ، فإنه أدعى للقبول إذا لحظه المنكِر بلحظه .
قال النووى رضى الله عنه فى كتابه "بستان العارفين" - وقد حكى عن أبى الخير التيناتى شيئا ظاهره الإنكار - : "قد يتوهم من يتشبه بالفقهاء ولا فقه عنده أنه ينكر على أبى الخير هذا ، وهذه جهالة وغباوة ممن يتوهم ذلك ، وجسارة منه على إرسال الظنون فى أولياء الرحمن ، فليحذر العاقل من التعرض لشئ من ذلك ، بل حقه إذا لم يفهم حكمهم المستفادة ، ولطائفهم المستجادة ، أن يتفهمها ممن يعرفها ، وكل شئ رأيته من هذا النوع مما يتوهم من لا تحقيق عنده ، أنه مخالف ، ليس مخالفا بل يجب التأويل لأولياء الله تعالى .
وقال ابن السبكى فى كتابه "معيد النعم ومبيد النقم" : الله الله فى ألفاظ جرت من بعض سادات القوم ، لم يعنوا بها ظواهرها وإنما عنوا بها أمورا صحيحة ، فلا ينبغى للشيخ ذكرها للمريد فإنه يضله ، وألفاظ ربما جرى بعضها فى حال السُكر فإنها مما لا يقتدى بها ، ولا توجب القدح فى قائلها ، بل نسلم إليه حاله ، ونقيم عذره فيما سقط من بين شفتيه حال الغيبة ، فإن الشارع لم يكلف غائب الذهن ، هذا إذا فــُقدت أسباب التأويل لكلامه بالكلية ، ولن تجد ذلك إن شاء الله فى كلام أحد من المعتبرين بل قد نزه الله ألفاظهم عن الأباطيل وما لهم كلمة إلا ولها محمل حسن".
ثم قال : "ومن الفقهاء فرقة متنسكة تجرى على ظواهر الشرع ، وتحسن امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، إلا أنها تهزأ بالفقراء وأهل التصوف ، ولا تعتقد فيهم شيئا ، ويعيبون عليهم السماع وأمورا كثيرة ، والسماع قد عُرف اختلاف الناس فيه ، وتلك الأمور قل أن يفهمها من يعيبها ، والواجب تسليم أحوال القوم إليهم ، فإنا لا نأخذ أحدا إلا بجريمة ظاهرة ، ومتى أمكننا تأويل كلامهم وحمله على محمل حسن لا نعدل عن ذلك ، لا سيما من عرفناه منهم بالخير ولزوم الطريقة ، ثم ندرت منه لفظة عن غلطة أو سقطة ، فإنها لا تهدم عندنا ما مضى ، وقد جربنا فلم نجد فقيها ينكر على الصوفية إلا ويهلكه الله وتكون عاقبته وخيمة ، وهؤلاء القوم لا يعاملون بالظواهر ولا يفيد معهم إلا الباطن ومحض الصفاء ، وهم أهل الله وخاصته - نفعنا الله بهم - وأكثر من يقع فيهم لا يفلح". انتهى .
وقال اليافعى فى "الإرشاد" : ما نــُقل ونــُسب إلى المشايخ رضى الله عنهم مما يخالف العلم الظاهر فله محامل :
الأول : إنا لا نسلم نسبته إليهم حتى يصح عنهم.
الثانى : بعد الصحة يُلتمس له تأويل موافق فإن لم يوجد له تأويل قيل : لعل له تأويلا عند أهل العلم الباطن العارفين بالله تعالى .
الثالث : صدور ذلك عنهم فى حال السُكر والغيبة ، والسُكر إن سكراً مباحا غير مؤاخذ ، لأنه غير مكلف فى ذلك الحال ، فسوء الظن بهم بعد هذه المخارج من عدم التوفيق ، نعوذ بالله من الخذلان وسوء القضاء ، ومن جميع أنواع البلاء".
عود إلى المقامة ، هذا ما أردت إيراده فى هذه المقامة ، من كلام أهل الجلالة والإمامة وإن لم يكن مفقرا فهو كجملة معترضة رأيت تأديتها مفترضة ، فقد رأيتَ كيف تضافرت نصوص الأئمة على التحذير من الإنكار ، والرجوع إلى حُسن التأويل والاعتذار ، أو عدم تسليم ثبوته عن هؤلاء الأخيار هذه ثلاثة محامل ، يتعين سلوكها فى كل كامل ، فإن قبلتَ وما ذاك بعجيب ولا بغريب ، فقد رجع قديما عن الإنكار على هذا الشيخ كل لبيب أريب ، حين لاحت عليهم من شعره لوائح الأنس ، وراحت عليهم إذ سكروا من سماعه روائح القدس ، من أهل مصر والشام والحجاز والقدس ، فهنالك تطالع من قوله لك البشارة ، ويقول لسان حالك إذا نظمتك الدائرة : أنا ابن دارة ، وإن أبيتَ فدونك ورأيك ، واسع فيما شئت سعيك ، فوالله ما تضر إلا نفسك ، وستعلم عاقبتك الوخيمة إذا حللت رمسك ، وأما أولياء الله فلا يضرهم سوء الظنون ، ولا ينقصهم ما يأتيه إليهم ذوو الحمق والجنون ، يُسرون ذلك أو يعلنون ، "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
قال الأديب أبو الحسين الجزار يرثى الشيخ رحمه الله تعالى :[/align]
[align=center]لم يبقَ صيب مزنة إلا وقـــــــد فــُرضت عليه زيارة ابن الفارض
لا غرو أن يُروَى صداه ولحده أبداً ليوم العرض تحت العـــارض[/align]
[align=justify]تمت المقامة ونقلها من خط مصنفها أفقر العباد محمد صفى الدين الحكوى الحنفى فى آخر صفر الخير سنة 983 ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه إلى يوم الدين.[/align][/font]
_________________ رضينا يا بني الزهرا رضينا بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا
يا رب
إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ
|