الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا معنا اليوم الحكمة التاسعة و الأربعون بعد المائة من الحكم العطائية لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى :
( لو أشرق لك نور اليقين لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها , ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفناء عليها )
اليقين هو العلم الذي لا يزاحمه وهم , لا يخالطه ريب ولا يصحبه اضطراب مشتق من يقن الماء : إذا حبس ولم يجر , شبه به العلم إذا صحبته الطمأنينة , ولم يبق للقلب فيه تحرك ولا اضطراب وإشراق نوره و هو ظهور أثره على الجوارح , فيظهر فيها الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة , ويظهر منه الانحياش إلى الله والاشتياق إلى حضرة جماله , والسكون والخضوع تحت قهر جلاله , والمسارعة إلى ابتغاء مرضاته , والمبادرة إلى مظان محابه ولهج اللسان بذكره , وشغل القلب بالفكرة في عظمته , وهيمان الروح في حضرة قربه , وسكرها من شارب حبه , واغتمارها بشهود قربه , فهذه علامة إشراق نور اليقين في القلب ومن علامته أيضاً أن يصير الآجل عاجلاً , والبعيد حاصلاً والغيب شهادة : { إن ما توعدون لأت وما أنتم بمعجزين }
ولنا في هذا المعنى :
فلا ترضى بغير الله حباً ... وكن أبداً بعشق واشتياق ترى الأمر المغيب ذا عيان ... وتحظى بالوصال وبالتلاق
كنت ذيلت بهما قول القائل :
فلا دهش وحام الحي حي ... ولا عطش وساقي القوم باق فما الدنيا بباقية لحي ... وما حي على الدنيا ببــــــــــــــاق
فلو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة الآتية حاضرة لديك أقرب إليك من أن ترحل إليها , إذ هي الراحلة إليك والمدركة لك ولرأيت محاسن الدنيا الوهمية الفانية , قد ظهرت كسفة الفناء عليها : أي قد انكسف نور وجودها بظهور ظلمة فنائها فصار ما كان ظاهراً باطناً , وما كان ظاهراً باطناً , وما كان كثيفاً صار لطيفاً , وما كان لطيفاً صار كثيفاً , وما صار شهادة صار غيباً وإنما بعد ذلك عن الخلق ضعف إيمانهم وقلة نور إيقانهم ولو أشرق نور اليقين في قلوبهم , لرأوا الدنيا مكسوفة أنوارها بادية عوارها , كما رآها حارثة رضي الله عنه حين أخبر عن حقيقة إيمانه
فقد روى عن أنس رضي الله عنه قال :
" بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشي إذا استقبله شاب من الأنصار , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال : أصبحت مؤمناً بالله حقاً , فقال له : انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال : يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا أي أدبرت وهربت فأسهرت ليلى , وأظمأت نهاري , فكاني بعرش ربي بارزاً وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها , وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاون فيها , فقال له : أبصرت فالزم عبد نور الله الإيمان في قلبه , قال رسول ادع الله لي بالشهادة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم بدر شهيداً فجاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله قد علمت منزلة حارثة منى , فإن يكن في الجنة أصبر , وإن لم يكن في الجنة ترى ما أصنع , فقال : أوهبلت ؟ أجنة هي ؟ إنها جنان , وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى , فرجعت وفي تضحك وتقول بخ بخ يا حارثة " اهـ
وكما رآها معاذ بن جبل رضي الله عنه حين دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له : " كيف أصبحت يا معاذ ؟ قال : أصبحت مؤمناً , فقال أن لكل قول مصداقاً , ولكل حق حقيقة , فما مصداق ما تقول ؟ فقال : يا رسول الله ما أصبحت صباحاً قط إلا ظننت لا أمسي , وما أمسيت قط إلا ظننت لا أصبح , ولا خطوت خطوة قط إلا ظننت أني لا أتبعها بأخرى , وكأني أنظر إلى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها معها نبيها وأوثانها التي كانت تعيد من دون الله وكأني أنظر إلى عقوبة أهل النار وثواب أهل الجنة فقال صلى الله عليه وسلم عرفت فالزم "
فهذان الرجلان الأنصاريان أشرق نور الإيقان في قلوبهما وشرح الله به صدورهما فرأيا ما كان آجلاً عاجلاً , وما كان آتياً واصلاً . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" إن النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح , قيل يا رسول الله هل لذلك من علامة يعرف بها ؟ قال : نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود , والاستعداد للموت قبل نزوله " أو كما قال عليه السلام
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي رحمه الله : اليقين نور يجعله الله في قلب العبد حتى يشاهد به أمور آخرته ويخرق به كل حجاب بينه وبينها حتى يطالع الآخرة كالمشاهدة لها اهـ
فإذا تكامل إشراق الإيقان غطى وجود الأكوان , ووقع العيان على فقد الأعيان , ولم يبق إلا نور الملك الديان .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
|