[font=Arial] فحصل مما أوردناه أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم من عهد إبراهيم إلى كعب بن لؤي كانوا كلهم على دين إبراهيم وولد كعب مرة الظاهر أنه كذلك لأن أباه أوصاه بالإيمان وبقي بينه وبين عبد المطلب أربعة آباء وهم كلاب وقصي وعبد مناف وهاشم ولم أظفر فيهم بنقل لا بهذا ولا بهذا. وأما عبد المطلب ففيه ثلاثة أقوال: أحدها وهو الأشبه أنه لم تبلغه الدعوى لأجل الحديث الذي في البخاري وغيره. والثاني أنه كان على التوحيد وملة إبراهيم وهو ظاهر عموم كلام الإمام فخر الدين وما تقدم عن مجاهد وسفيان بن عيينة وغيرهما في تفسير الآيات السابقة. والثالث أن الله أحياه بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى آمن به وأسلم ثم مات حكاه ابن سيد الناس وهذا أضعف الأقوال وأسقطها وأوهاها لأنه لا دليل عليه ولم يرد قط في حديث لا ضعيف ولا غيره ولا قال هذا القول أحد من أئمة السنة إنما حكوه عن بعض الشيعة ولهذا اقتصر غالب المصنفين على حكاية القولين الأولين وسكتوا عن حكاية الثالث لأن خلاف الشيعة لا يعتد به قال السهيلي في الروض الأنف وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أبي طالب عند موته وعنده أبو جهل وابن أبي أمية فقال يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال له أبو جهل وابن أبي أمية أترغب عن ملة عبد المطلب فقال أنا على ملة عبد المطلب قال فظاهر هذا الحديث يقتضي أن عبد المطلب مات على الشرك قال ووجدت في بعض كتب المسعودي اختلافا في عبد المطلب وأنه قد قيل فيه مات مسلما لما رأى من الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلم أنه لا يبعث إلا بالتوحيد فالله أعلم غير أن في مسند البزار وكتاب النسائي من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة وقد عزت قوما من الأنصار عن ميتهم لعلك بلغت معهم الكدى فقالت لا فقال لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك قال وقد خرجه أبو داود ولم يذكر فيه حتى يراها جد أبيك قال وفي قوله جد أبيك ولم يقل جدك تقوية للحديث الضعيف الذي قدمنا ذكره أن الله أحيا أباه وأمه وآمنا به فالله أعلم. قال ويحتمل أنه أراد تخويفها بذلك لأن قوله صلى الله عليه وسلم حق وبلوغها معهم الكدى لا يوجب خلودا في النار هذا كله كلام السهيلي بحروفه.
وقال الشهرستاني في الملل والنحل : ظهر نور النبي صلى الله عليه وسلم في أسارير عبد المطلب بعض الظهور وببركة ذلك النور الهم النذر في ذبح ولده وببركته كان يأمر ولده بترك الظلم والبغي ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيات الأمور وببركة ذلك النور كان يقول في وصاياه أنه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبه عقوبة إلى أن هلك رجل ظلوم لم تصبه عقوبة فقيل لعبد المطلب في ذلك ففكر وقال والله إن وراء هذا الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه ويعاقب فيها المسيء بإساءته وببركة ذلك النور قال لأبرهة إن لهذا البيت ربا يحفظه ومنه قال وقد صعد أبا قبيس:
[poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""] لا هم إن المرء يمنع * رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم * ومحالهم عدوا محالك فانصر على آل الصليب * وعابديه اليوم آلك [/poet]
انتهى كلام الشهرستاني، ويناسق ما ذكره ما أخرجه ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس قال كانت الدية عشرا من الإبل وعبد المطلب أول من سن دية النفس مائة من الإبل فجرت في قريش والعرب مائة من الإبل واقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وينضم إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم انتسب إليه يوم حنين فقال:
أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
وهذا أقوى ما تقوى به مقالة الإمام فخر الدين ومن وافقه لأن الأحاديث وردت في النهى عن الانتساب إلى الآباء الكفار. روى البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي بن كعب ومعاذ بن جبل أن رجلين انتسبا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما أنا فلان ابن فلان أنا فلان بن فلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انتسب رجلان على عهد موسى فقال أحدهما أنا فلان بن فلان إلى تسعة وقال الآخر أنا فلان بن فلان ابن الإسلام فأوحى الله إلى موسى هذان المنتسبان أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة آباء في النار فأنت عاشرهم في النار وأما أنت أيها المنتسب إلى اثنين فأنت ثالثهما في الجنة. وروى البيهقي أيضا عن أبي ريحانة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وشرفا فهو عاشرهم في النار. وروى البيهقي أيضا عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تفتخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية فوالذي نفسي بيده لما يدحدح الجعل بأنفه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية. وروى البيهقي أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وأوضح من ذلك في التقرير أن البيهقي أورد في شعب الإيمان حديث مسلم : أن في أمتي أربعا من أمر الجاهلية ليسوا بتاركيهن الفخر في الأحساب - الحديث. وقال عقبة فإن عورض هذا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في اصطفائه من هاشم فقد قال الحليمي لم يرد بذلك الفخر إنما أراد تعريف منازل المذكورين ومراتبهم كرجل يقول كان أبي فقيها لا يريد به الفخر وإنما يريد به تعريف حاله دون ما عداه قال وقد يكون أراد به الإشارة بنعمة الله عليه في نفسه وآبائه على وجه الشكر وليس ذلك من الاستطالة والفخر في شيء انتهى. فقوله أراد تعريف منازل المذكورين ومراتبهم أو الإشارة بنعمة الله عليه في نفسه وآبائه على وجه الشكر فيه تقوية لمقالة الإمام وإجرائها على عمومها كما لا يخفى إذ الاصطفاء لا يكون إلا لمن هو على التوحيد ولا شك أن الترجيح في عبد المطلب بخصوصه عسر جدا لأن حديث البخاري مصادم قوي. وأن أخذ في تأويله لم يوجد تأويل قريب والتأويل البعيد يأباه أهل الأصول ولهذا لما رأى السهيلي تصادم الأدلة فيه لم يقدر على الترجيح فوقف وقال فالله أعلم وهذا يصلح أن يعد قولا رابعا فيه وهو الوقف واكثر ما خطر لي في تأويل الحديث وجهان بعيدان فتركتهما وأما حديث النسائي فتأويله قريب وقد فتح السهيلي بابه وأن لم يستوفه وإنما سهل الترجيح في جانب عبد الله مع أن فيه معارضا قويا وهو حديث مسلم لأن ذاك سهل تأويله بتأويل قريب في غاية الجلاء والوضوح وقامت الأدلة على رجحان جانب التأويل فسهل المصير إليه والله أعلم. ثم رأيت الإمام أبا الحسن الماوردي أشار إلى نحو ما ذكره الإمام فخر الدين إلا أنه لم يصرح كتصريحه فقال في كتابه أعلام النبوة لما كان أنبياء الله صفوة عباده وخيرة خلقه لما كلفهم من القيام بحقه والإرشاد لخلقه استخلصهم من أكرم العناصر واجتباهم بمحكم الأواصر فلم يكن لنسبهم من قدح ولمنصبهم من جرح لتكون القلوب لهم أصفى والنفوس لهم أوطا فيكون الناس إلى إجابتهم أسرع ولأوامرهم أطوع وأن الله استخلص رسوله صلى الله عليه وسلم من أطيب المناكح وحماه من دنس الفواحش ونقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام منزهة وقد قال ابن عباس في تأويل قول الله (وتقلبك في الساجدين) أي تقلبك من أصلاب طاهرة من أب بعد أب إلى أن جعلك نبيا فكان نور النبوة ظاهرا في آبائه ثم لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت لانتهاء صفوتهما إليه وقصور نسبهما عليه ليكون مختصا بنسب جعله الله للنبوة غاية ولتفرده نهاية فيزول عنه أن يشارك فيه ويماثل فيه فلذلك مات عنه أبواه في صغره. فأما أبوه فمات وهو حمل وأما أمه فماتت وهو ابن ست سنين. وإذا خبرت حال نسبه وعرفت طهارة مولده علمت أنه سلالة آباء كرام ليس في آبائه مسترذل ولا مغموز مستبذل بل كلهم سادة قادة وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة انتهى كلام الماوردي بحروفه.
وقال أبو جعفر النحاس في معاني القرآن في قوله (وتقلبك في الساجدين) روى عن ابن عباس أنه قال تقلبه في الظهور حتى أخرجه نبيا. وما أحسن قول الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى: [poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""] تنقل أحمد نورا عظيما * تلألأ في جباه الساجدينا تقلب فيهم قرنا فقرنا * إلى أن جاء خير المرسلينا [/poet]
وقال أيضا:
[poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""] حفظ الآله كرامة لمحمد * آباءه الأمجاد صونا لاسمه تركوا السفاح فلم يصبهم عاره * من آدم وإلى أبيه وأمه [/poet]
وقال الشرف البوصيري صاحب البردة: [poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""] كيف ترقى رقيك الأنبياء * يا سماء ما طاولتها سماء لم يساووك في علاك وقد حا * ل سنى منك دونهم وسناء إنما مثلوا صفاتك للناس * كما مثل النجوم الماء أنت مصباح كل فضل فما تصدر * إلا عن ضوئك الأضواء لك ذات العلوم من عالم الغيب * ومنه لآدم الأسماء لم تزل في ضمائر الغيب تختار * لك الأمهات والآباء ما مضت فترة من الرسل إلا * بشرت قومها بك الأنبياء تتباهى بك العصور وتسمو * بك علياء بعدها علياء وبدا للوجود منك كريم * من كريم آباؤه كرماء نسب تحسب العلا بحلاه * قلدتها نجومها الجوزاء [/poet] ومنها: [poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""] فهنيئا به لآمنة الفضل * الذي شرفت به حواء من لحواء أنها حملت أحمد * أو أنها به نفساء يوم نالت بوضعه ابنة وهب * من فخار ما لم تنله النساء فأتت قومها بأفضل مما * حملت قبل مريم العذراء [/poet]
" فائدة": قال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أبي ثنا موسى بن أيوب النصيبي ثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين آدم تسعة وأربعون أبا. الأمر الثالث: أثر ورد في أم النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. أخرج أبو نعيم في دلائل النبوة بسند ضعيف من طريق الزهري عن أم سماعة بنت أبي رهم عن أمها قالت شهدت آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في علتها التي ماتت فيها ومحمد غلام يفع له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه ثم قالت: [poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""] بارك فيك الله من غلام * يا ابن الذي من حرمة الحمام نجا بعون الملك المنعام * فودى غداة الضرب بالسهام بمائة من إبل سوام * أن صح ما أبصرت في المنام فأنت مبعوث إلى الأنام * من عند ذي الجلال والإكرام تبعث في الحل وفي الإحرام * تبعث بالتحقيق والإسلام دين أبيك البر إبراهام * فالله أنهاك عن الأصنام أن لا تواليها مع الأقوام [/poet] ثم قالت كل حي ميت وكل جديد بال وكل كبير يفنى وأنا ميتة وذكرى باق وقد تركت خيرا وولدت طهرا ثم ماتت فكنا نسمع نوح الجن عليها فحفظنا من ذلك:
[poet font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""] نبكي الفتاة البرة الأمينة * ذات الجمال العفة الرزينه زوجة عبد الله والقرينة * أم نبي الله ذي السكينة وصاحب المنبر بالمدينة * صارت لدى حفرتها رهينة. [/poet] فأنت ترى هذا الكلام منها صريحا في النهى عن موالاة الأصنام مع الأقوام والاعتراف بدين إبراهيم ويبعث ولدها إلى الأنام من عند ذي الإجلال والإكرام بالإسلام. وهذه الألفاظ منافية للشرك وقولها تبعث بالتحقيق كذا هو في النسخة وعندي أنه تصحيف وإنما هو بالتخفيف ثم إني استقرأت أمهات الأنبياء عليهم السلام فوجدتهن مؤمنات فأم إسحاق وموسى وهرون وعيسى وحواء أم شيث مذكورات في القرآن بل قيل بنبوتهن ووردت الأحاديث بإيمان هاجر أم إسماعيل وأم يعقوب وأمهات أولاده وأم داود وسليمان وزكريا ويحيى وشمويل وشمعون وذي الكفل. ونص بعض المفسرين على إيمان أم نوح وأم إبراهيم ورجحه أبو حيان في تفسيره.
وقد تقدم عن ابن عباس أنه لم يكن بين نوح وآدم والد كافر ولهذا قال : (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا) وقال إبراهيم (رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) ولم يعتذر عن استغفار إبراهيم في القرآن إلا لأبيه خاصة دون أمه فدل على أنها كانت مؤمنة. وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه عن ابن عباس قال كانت الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة نوح. وهود. وصالح. ولوط. وشعيب. وإبراهيم. وإسماعيل. وإسحاق. ويعقوب. ومحمد عليهم السلام. وبنو إسرائيل كلهم كانوا مؤمنين لم يكن فيهم كافر إلى أن بعث عيسى فكفر به من كفر فأمهات الأنبياء الذين من بني إسرائيل كلهم مؤمنات. وأيضا فغالب أنبياء نبي إسرائيل كانوا أولاد أنبياء أو أولاد أولادهم فإن النبوة كانت تكون في سبط منهم يتناسلون كما هو معروف في أخبارهم. وأما العشرة المذكورون من غير بني إسرائيل فقد ثبت إيمان أم نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبقي أم هود وصالح ولوط وشعيب يحتاج إلى نقل أو دليل والظاهر إن شاء الله تعالى إيمانهن فكذلك أم النبي صلى الله عليه وسلم وكان السر في ذلك ما يرينه من النور كما ورد في الحديث. أخرج أحمد والبزار والطبراني والحاكم والبيهقي عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني عبد الله لخاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم عن ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين وأن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام. ولا شك أن الذي رأته أم النبي صلى الله عليه وسلم في حال حملها به وولادتها له من الآيات أكثر وأعظم مما رآه سائر أمهات الأنبياء كما سقنا الأخبار بذلك في كتاب المعجزات. وقد ذكر بعضهم أنه لم ترضعه مرضعة إلا أسلمت قال ومرضعاته أربع أمه وحليمة السعدية وثويبة وأم ايمن انتهى. فإن قلت فما تصنع بالأحاديث الدالة على كفرها وأنها في النار وهي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال ليت شعري ما فعل أبواي فنزلت (ولا تسال عن أصحاب الجحيم) وحديث أنه استغفر لأمه فضرب جبريل في صدره وقال لا تستغفر لمن مات مشركا، وحديث أنه نزل فيها (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) وحديث أنه قال لابني مليكة أمكما في النار فشق عليهما فدعاهما فقال إن أمي مع أمكما. قلت : الجواب أن غالب ما يروى من ذلك ضعيف ولم يصح في أم النبي صلى الله عليه وسلم سوى حديث أنه استأذن في الاستغفار لها فلم يؤذن له ولم يصح أيضا في أبيه إلا حديث مسلم خاصة. وسيأتي الجواب عنهما. وأما الأحاديث التي ذكرت فحديث ليت شعري ما فعل أبواي فنزلت الآية لم يخرج في شيء من الكتب المعتمدة. وإنما ذكر في بعض التفاسير بسند منقطع لا يحتج به ولا يعول عليه ولو جئنا نحتج بالأحاديث الواهية لعارضناك بحديث واه أخرجه ابن الجوزي من حديث علي مرفوعا هبط جبريل علي فقال إن الله يقرئك السلام ويقول إني حرمت النار على صلب أنزلك وبطن حملك وحجر كفلك ويكون من باب معارضة الواهي بالواهي إلا أنا لا نرى ذلك ولا نحتج به، ثم إن هذا السبب مردود بوجوه أخرى من جهة الأصول والبلاغة وأسرار البيان وذلك أن الآيات من قبل هذه الآية ومن بعدها كلها في اليهود من قوله تعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) إلى قوله (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) ولهذا ختمت القصة بمثل ما صدرت به وهو قوله تعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) الآيتين فتبين أن المراد بأصحاب الجحيم كفار أهل الكتاب. وقد ورد ذلك مصرحا به في الأثر: أخرج عبد بن حميدو الفريابي وابن جرير وابن المنذر في تفاسيرهم عن مجاهد قال من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين ومن أربعين آية إلى عشرين ومائة في بني إسرائيل إسناده صحيح. ومما يؤكد ذلك أن السورة مدنية وأكثر ما خوطب فيها اليهود. ويرشح ذلك من حيث المناسبة أن الجحيم اسم لما عظم من النار كما هو مقتضى اللغة والآثار.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله تعالى أصحاب الجحيم قال الجحيم ما عظم من النار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله تعالى (لها سبعة أبواب) قال أولها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية قال والجحيم فيها أبو جهل إسناده صحيح أيضا فاللائق بهذه المنزلة من عظم كفره واشتد وزره وعاند عند الدعوة وبدل وحرف وجحد بعد علم لا من هو بمظنة التخفيف وإذا كان قد صح في أبي طالب أنه أهون أهل النار عذابا لقرابته منه صلى الله عليه وسلم وبره به مع اداركه الدعوة وامتناعه من الإجابة وطول عمره فما ظنك بأبويه اللذين هما أشد منه قربا وآكد حبا وابسط عذرا وأقصر عمرا فمعاذ الله أن يظن بهما انهما في طبقة الجحيم وأن يشدد عليهما العذاب العظيم هذا لا يفهمه من له أدنى ذوق سليم. وأما حديث أن جبريل ضرب في صدره وقال لا تستغفر لمن مات مشركا فإن البزار أخرجه بسند فيه من لا يعرف. وأما نزول الآية في ذلك فضعيف أيضا والثابت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب وقوله صلى الله عليه وسلم له لاستغفرن لك مالم أنه عنك. وأما حديث أمي مع أمكما فأخرجه الحاكم في مستدركه وقال صحيح. وشأن المستدرك في تساهله في التصحيح معروف وقد تقرر في علوم الحديث أنه لا يقبل تفرده بالتصحيح. ثم إن الذهبي في مختصر المستدرك لما أورد هذا الحديث ونقل قول الحاكم صحيح قال عقبه قلت لا والله فعثمان بن عمير ضعفه الدار قطني فبين الذهبي ضعف الحديث وحلف عليه يمينا شرعيا وإذا لم يكن في المسالة إلا أحاديث ضعيفة كان للنظر في غيرها مجال.
"الأمر الرابع": مما ينتصر به لهذا المسلك أنه قد ثبت عن جماعة كانوا في زمن الجاهلية أنهم تحنفوا وتدينوا بدين إبراهيم عليه السلام وتركوا الشرك فما المانع أن يكون أبوا النبي صلى الله عليه وسلم سلكوا سبيلهم في ذلك. قال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في التلقيح تسمية من رفض عبادة الأصنام في الجاهلية: أبو بكر الصديق، زيد بن عمرو بن نفيل، عبيد الله بن جحش، عثمان بن الحويرث ورقة بن نوفل، رياب بن البراء، اسعد أبو كريب الحميري، قس بن ساعدة الأيادي، أبو قس بن صرمة انتهى. وقد وردت الأحاديث بتحنف زيد بن عمرو وورقة وقس، وقد روى ابن إسحاق وأصله في الصحيح تعليقا عن أسماء بنت أبي بكر قالت لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مستندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معشر قريش ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري ثم يقول اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم. قلت وهذا يؤيد ما تقدم في المسلك الأول أنه لم يبق إذ ذاك من يبلغ الدعوة ويعرف حقيقتها على وجهها. وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة عن عمرو بن عبسة السلمي رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية ورأيت أنها الباطل يعبدون الحجارة.
يتبع ان شاء الله [/font]
_________________ يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمـم
و لن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلـى باسـم منتقـم
|