الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا
شيخنا الكريم أشكرك جداً وربنا يحفظك ويبارك لنا فى حضرتك يارب ======================================
معنا اليوم الحكمة المائتان والسابعة والستون من الحكم العطائية لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى :
(لا يعلم قدر أنوار القلوب والأسرار إلا في غيب الملكوت كما لا تظهر أنوار السماء إلا في شهادة الملك )
اعلم أن الناس كلهم عندهم النور في قلوبهم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة أي على أصل النشأة الأولية وهي القبضة النوارنية , وقال تعالى :
{ الله نور السموات والأرض } قال أهل تفسير الظاهر : أي نور أهل السموات والأرض وهو عام في كل موجود فيهما , فقد تحقق أن النور سار في الجميع , فمن الناس من حجب عن هذا النور وعمي عنه وهو من وقف مع ظاهر الملك , وهو قشر الكون وحسه الظاهر , ويسمي عالم الأشباح ولم ينفذ إلى باطن وهو الملكوت , ويسمي عالم الأرواح , فهذا محجوب عن نوره الباطني لا يرى إلا النور الحسي , لأنه مسجون في سجن الأكوان , محصور في ظلمة الحس والوهم ومن الناس من نفذت بصيرته إلى شهود النور الباطني فيه , ولم يقف مع القشر , بل نفذ إلى شهود اللب وهو نور الملكوت وأسرار الجبروت وهو الذي أشار إليه في المباحث بقوله :
مهما تعديت عن الأجسام ... أبصرت نور الحق ذا ابتسام
وهذا النور ايضاً هو الذي تراه قلوب العارفين دون الغافلين كما أشار إليه الحلاج بقوله :
قلوب العارفين لها عيون ... ترى مالا يرى للناظرين
فإذا تحقت هذا علمت انه لا يعلم بالنباء للمفعول : أي لا يظهر قدر أنوار القلوب الغيبية وشرفها , وأنوار الأسرار القدسية وكمالها إلا في غيب الملكوت والجبروت فأنوار القلوب لا يعلم قدرها إلا في غيب الملكوت وهي الأنوار المتدفقة من بحار الجبروت , فمن لم ينفذ إلى شهود الملكوت لم يعلم قدرها , بل لم يعرفها أصلاً وأنوار الأسرار لا يعلم قدرها إلا في عيب الجبروت وهي الأنوار الأصلية الأزلية , وهو ما لم يدخل عالم التكوين , فمن كان محجوباً في عالم الملك لا يعلم قدر أنوار الملكوت ولا يحس بها , بل ينكرها كما شهدناه ممن يدعي الخصوصية وهو بعيد منها , ومن كان واقفاً مع أنوار الملكوت لا يعلم قدراً أنوار الجبورت , ومن نفذ منهما شهد الجميع , وكما لا تظهر الأنوار الغيبية إلا في غيب الملكوت أو الجبورت , كذلك لا تظهر أنوار الملك وهي الأنوار الحسية إلا في عالم الشهادة وهو عالم الحس ويسمى عالم الملك .
والحاصل : أن أنوار القلوب هي أنوار الملكوت وأنوار الأسرار هي أنوار الجبروت وهي غيبية لا يعلم قدرها من ترقى إلى عالم الملكوت أو الجبروت , فحينئذ يدركها ويعلم قدرها علماً وحالاً , والله تعالى أعلم .
تنبيه : قد رأيت كثيراً ممن شرح هذا الكتاب غلط في تفسير الملك والملكوت والجبروت , فزعموا أن الملك هو عالم الدنيا , والملكوت هو عالم الآخرة , والجبروت ما لا يعلمه أحد وهذا غلط , إذ لو كان كما زعموا ما صح الترقي من ملك إلى ملكوت وإلى جبروت , إذ يلزم على تفسيرهم أن الملك لا يرجع ملكوتاً والملكوت لا يصير جبروتاً وهو غير سديد , إذ قد نص كثير من المحققين أن أهل الملكوت لا يرون الملك أصلاً , وأهل الجبروت يحجبون عن الملكوت , هكذا ذكره النقشبندي في شرح الهائية .
والصواب : أن المحل واحد وهو الوجود الأصلي والفرعي فما لم يدخل علام التكوين من عظمة الباري تعالى فهو عالم الجبروت , وما دخل التكوين فمن ألحقه بأصله وجمع فيه فهو في حقه ملكوت , ومن فرقه وحجب به فهو في حقه ملك , فتحصل أن المحل واحد والأمر إنما هو اعتباري تختلف التسمية باختلاف النظرة وتختلف النظرة باختلاف الترقي في المعرفة فمن وقف مع الكون كان في حقه ملكاً , ومن نفذ إلي شهود النور الفائض من الجبروت إلا أنه رآه كثيفاً نورانياً ولم يضمه إلى أصله في اللطافة سمي في حقه ملكوتاً ومن ضمه إلى أصله ولم يفرق بين النور الكثيف سمى جبروتاً , وقد حققت ذلك في قصيدتي التائبة وتقدم بعضها وكذلك في شرح التصلية المشيشية , والله تعالى أعلم .
ولا بد لمن أراد أن تكشف له هذه الأنوار ويردك هذه المقامات من وجود أعمال ومقاسات أحوال فإذا عمل عملاً وذاق حلاوته فليستبشر بالفتح الذي هو جزاء السائرين .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
|