موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 4 مشاركة ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به . رد على أكاذيب المتمسلفة
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء أكتوبر 07, 2008 3:42 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[font=Tahoma][align=justify]
وأما اعتراض هذا المعترض على قوله :

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم

فهو سوء فهم وعدم علم ، وذلك أنه يقرأ البيت :

"مالي من ألوذ به سواك" …

فإذا سمع العامي -الذي هو معه في الفهم سواء-ذلك ، قال : كيف هذا الحصر ؟ فيفهم منه أن قائله قاله على الإطلاق.

وليس ذلك مراداً ، و لا هو معنى البيت . بل معناه ظاهر لمن عرف و أنصف ، فإن معنى البيت على ما يعطيه اللفظ ، مع قطع النظر عن مراد الناظم ، و عن قرائن الأحوال والأقوال، أنه يقول :
يا أكرم الخلق على ربه : مالي من ألوذ به غيرُك وقت حلول الحادث العام الذي يعمّ الخلائق كلها ، وهو يوم القيامة في الموقف .

كما ورد في الأحاديث الصحيحة أن الناس ذلك اليوم تدنو الشمس منهم مقدار ميل ، و يزدحمون حتى يصير على كل قدم سبعون ألف قدم ، ويلجمهم العرق ، وتسعّر جهنم ، ويغضب الجبار جل جلاله، وكل الأنبياء والرسل يقول كل واحد : "نفسي نفسي …" ، ثم يطلب الناسُ من يشفع لهم كما في " البخاري " فيستغيثون بآدم ، ثم بإبراهيم ، ثم بموسى ، ثم بعيسى . فيأتون نبينا صلى الله عليه و على آله وسلم فيقول : " أنا لها، أنا لها "! فيشفع لجميع الخلائق من ذلك الموقف المهول الشديد الذي يشتهي الناس أن يخلصوا من شدّته ولو يُؤمر بهم إلى النار !!كما في صحيح الأخبار .

فهل ترى أن أحداً من الرسل يُلاذ به ، أو واحداً من المخلوقات يُلاذ به، إلا هو صلى الله عليه و على آله وسلم في هذا الحادث العام ، -لا في سائر الأحوال- ، بل في هذه الحال ؟!!

و "العَمِمِ" ، اسم فاعل كـ : حذِر وحفِل ، وليس مراده : مالي من ألوذ به سواك مطلقاً ، بل مقيّد بهذا الوقت الذي وردت الأحاديث الصحيحة أنه ما يكون غيره له ، بل أُوْلُوا العزم يعتذرون للناس ذلك اليوم .

فمقصوده : اللوْذ به من طرف الشفاعة ، بدليل قوله في البيت الذي بعده :

ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي
إذا الكريم تجلّى باسم منتقم

إذ الجاه راجع للشفاعة ، وهكذا قرّر جميع من شرح هذه القصيدة من العلماء الأكابر .

قال الشيخ خالد الأزهري في " شرحه " على هذه القصيدة : {ألوذ : ألتجئ ، سواك : غيرك ، وحلول الحادث العمم : هول يوم القيامة الشامل لجميع الخلق . والمعنى : يا أكرم كل مخلوق ، مالي أحد غيرك – يعني من المخلوقين – ألتجئ إليه يوم القيامة من هوله العميم والناس يتطاولون إلى جاهك الرفيع ، ولن يضيق بي جاهك إذا اشتد الأمر و عيل الصبر ، فإنك أعظم الخلق على الله ، المعوّل في الشفاعة عليه }. انتهى .وكذلك قال غيره من الشُراح .

بقي أن يعترضوا-أي الوهابية- على قوله : "يا أكرم الخلق …" ، فإن هذا عندهم دعاء-و دعاء غير الله شرك- . [لكن الحق أن ]هذا نداء ، فلا وجه للتكفير به ، لأن النداء إذا كان ضاراً و عبادة كما يزعمون ، للزم أنه لا يُنادَى أحدٌ حي ولا ميت ، لأن كون الشيء الواحد بالنسبة للحي يكون طاعةً ، وللميت والغائب يكون عبادةً ، لم يُعهد هذا شرعاً و عرفاً . إنما الدعاء الذي هو عبادة ، فهو اتخاذ غير الله ربا وإلها ، وهذا لا يقصده أجهل المسلمين فضلا عن أكابر العلماء العاملين .

والدليل على أن النداء والطلب من الأموات والغائبين ليس بعبادة بل هو مأمور به شرعاً : آياتٌ وأحاديث وآثار ، وأقوال العلماء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة الأخيار كما ستحيط به علماً ، ولكن لا تعجلْ ، بل تصبّرْ وتبصّرْ ، واستوعب الأدلة التي تقرأ ، وتقرر ، وأنصفْ ,لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله :

الدليل الأول : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } " المائدة 35 " ، قال البغوي في تفسير قوله تعالى في الآية الأخرى { يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه } " الإسراء 57 " :

{ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الوسيلة كل ما يُتقرب به إلى الله ، أي ينظرون أيهم أقرب إلى الله ، فيتوسلون به} اهـ

فالوسيلة عامةٌ شاملة للذوات والأفعال والأقوال ، وتخصيصُها بالأفعال تحكّم لا دليل عليه ، مع أن الذوات الفاضلة أفضل من الأفعال الصادرة عنها ، لا سيما نبينا صلى الله عليه و على آله وسلم .

الدليل الثاني : قوله تعالى : { لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً } " مريم 87" ،

قال المفسرون : العهد هو قول : لا إله إلا الله محمد رسول الله .و قيل معناه : لا يشفع الشافعون إلا لمن اتخذ عند – أي – مع الرحمن عهدا ، يعني المؤمنين أهل لا إله إلا الله .و قيل : ملّك الله المؤمنين الشفاعة ، فلا يشفع إلا من شهد لا إله إلا الله . أي لا يشفع إلا مؤمن .

وعلى كل حال ، فقد أخبر الله تعالى أنه ملّك المؤمنين الشفاعة ، فطلبُها ممّن يملكها -بتمليك الله- لا مانع منه ، كمن طلب المال وغيره ممن ملّكه الله له .

و مراد المنادي له والمتوسل به صلى الله عليه و على آله وسلم ، إنما هو الشفاعة ، وشفاعته صلى الله عليه و على آله وسلم هي الدعاء [للمتوسّل]، وهو حاصل له ولسائر الموتى من المؤمنين ، كما ورد في الأحاديث الصحيحة .

قال ابن رجب الحنبلي : {وقد صحّ عرْضُ الأعمال كلها على رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم لأنه لهم بمنزلة الوالد ، خرّج البزار في " مسنده " ، قال رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم : " حياتي خير لكم تُحدثون ويحدث لكم ، و وفاتي خير لكم ، تُعرض عليّ أعمالكم ، فما رأيت من خير حمدت الله عليه ، وما رأيت من شر استغفرتُ الله لكم "} .

والدعاء من الحي و الميت هو شفاعةٌ ،كما ورد في صلاة الجنازة أن الداعي يقول : " وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له بين يديك " . واستغفارهم شفاعة و دعاء ، كما هو ظاهر .

وأما الأحاديث الصحيحة في طلب الصحابة الكرام منه صلى الله عليه و على آله وسلم ولم ينكرها عليهم ، فكثيرة شهيرة ولم يقل لهم : حتى يأذن الله لي ، وأنتم طلبتم مني قبل الإذن فقد أشركتم !!.

فدلّ على أن ذلك جائز مطلقاً في حال حياته وموته صلى الله عليه و على آله وسلم ، لأنه صلى الله عليه و على آله وسلم بعد موته حيّ في قبره بالاتفاق .

الدليل الثالث :

الحديث الأول : أخرج الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : { قلت : اشْفَعْ لي يا رسول الله يوم القيامة. فقال صلى الله عليه و على آله وسلم : " أنا فاعل " ، قلت : فأين أطلبك ؟ قال صلى الله عليه و على آله وسلم : " أول ما تطلبني على الصراط " ، قلت : فإن لم ألقك هناك ؟ قال صلى الله عليه و على آله وسلم : " فاطْلُبني عند الميزان " ، قلت : فإن لم ألقك هنالك ؟ ، قال صلى الله عليه و على آله وسلم : " فاطْلبني عند الحوض ، فإني لا أخطئ هذه المواطن الثلاثة "}.اهـ

فإن قال قائل : إن هذا الطلب للشفاعة في حال حياته ، وهو جائز .

قلنا : لا ، بل طلب منه ما ليس في حياته ، وهو الشفاعة يوم القيامة ، وما جاز أن يُطلب منه في الحياة ، جاز أن يُطلب بعد الممات ، ومن ينفي فعليه الدليل أن النبي صلى الله عليه و على آله وسلم نهى عن ذلك في حديث. بل على قولكم (إن الطلب نفسه عبادة )، يقتضي أن لا فرق بين الحياة والممات، لأن العبادة ممنوعة في الحالتين !!

وما تقولون في قوله صلى الله عليه و على آله وسلم لمّا قال الصدّيق رضي الله تعالى عنه : " قوموا نستغيث برسول الله من هذا المنافق ، فقال صلى الله عليه و على آله وسلم : " إنه لا يُستغاث بي ، إنما يستغاث بالله ".اهـ وهو حيّ قادر - على قولكم- ، وقد أخبر الله عن موسى عليه السلام : { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه } ؟! .

الحديث الثاني:

وهو الدليل الرابع : قال الإمام أحمد في " مسنده " عن أنس رضي الله تتعالى عنه قال :" ما شممتُ عبيرا قطّ ولا مسكاً قط ،ولا شيئاً قط أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم " .قال ثابت رضي الله تعالى عنه فقلت : يا أبا حمزة ألست كأنك تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم ، وكأنك تسمع إلى نغمته ؟ . فقال رضي الله تعالى عنه : بلى والله ، إني أرجو أن ألقاه يوم القيامة فأقول : يا رسول الله ، خويدمك أنس ..". الحديث .

وفي " الجامع الصغير " للإمام السيوطي : عَنْ خَادِمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَقُولُ لِلْخَادِمِ: أَلَكَ حَاجَةٌ ؟ ، قَالَ: حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَاجَتِي! قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ ؟ قَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: وَمَنْ دَلَّكَ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: إِمَّا لَا فَأَعِنِّي بِكَثْرَةِ السُّجُودِ" .اهـ

الدليل الخامس : روى الترمذي ، والنسائي ، و البيهقي وصحّحه، والحاكم وقال : (على شرط البخاري ومسلم) وأقرّه الحافظ الذهبي ، عن عثمان بن حنيف ، قال :{ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال : يا رسول الله ليس لي قائد وقد شقّ عليّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ائت الميضأة فتوضأْ ، ثم صلّ ركعتين ، ثم قُلْ : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلّي لي بصري ، اللّهم شفّعْه فيَّ وشفّعْني في نفسي » ، قال عثمان : فوالله ما تفرّقنا ولا طال الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضرّ قط.}.اهـ .

أقول : ولا يخفى أن هذا الحديث من دلائل نبوته صلى الله عليه و على آله وسلم ومعجزاته ، حيث أن رجلا أعمى أبصر ببركته صلى الله عليه و على آله وسلم كما كان عيسى بن مريم يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله .

وترجم له المحدّثون بـقولهم: " باب من له إلى الله حاجة ، أو إلى أحد من خلقه " .

وذكره الحافظ الجزري في " الحصن الحصين " ، والحافظ السيوطي في " الجامع الصغير " ،

وشرْحه للمناوي ، و قال العلامة علي القاري الحنفي :{ " قوله ( " يا محمد " ) : إلتفات وتضرع لديه ، ليتوجه النبي صلى الله عليه و سلم بروحه إلى الله تعالى ، ويُغني السائل عما سواه ، وعن التوسل إلى غير مولاه، قائلاً : " إني أتوجه بك " أي بذريعتك ، الذريعة :الوسيلة ، والباء للاستعانة ،و " إلى ربي في حاجتي هذه " ، وهي المقصودة المعهودة " لتُقضى لي " . ويمكن أن يكون التقدير : ليقضي الله الحاجة لأجلك ، بل هذا هو الظاهر . وفي نسخة : " لتَقضي " بصيغة الفاعل ، أي : لتقضي أنت يا رسول الله الحاجة لي . والمعنى : لتكون سبباً لحصول حاجتي و وصول مرادي ، فالإسناد مجازي .}.انتهى .

قال المجوّزون[ و هم جمهور العلماء] : فقوله في الحديث : " يا محمد ، إني أتوجه بك في حاجتي لتقضى .. " : نداء وطلب منه صلى الله عليه و على آله وسلم ،واستغاثة به وتوسل ، والنبي صلى الله عليه و على آله وسلم كان غائباً وقال له : " وإن كانت لك حاجة ، فمثل ذلك " ، وحاشا رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم أن يعلّم أمّته الشرك وقد بُعث لهدمه !!.

فدلّ أن النداء له والطلب منه صلى الله عليه و سلم ليس بشرك ، كما يعنيه الخوارج .

وأجاب ابن تيمية عن هذا الحديث:{ بأن الأعمى صوّر صورة النبي صلى الله عليه و على آله وسلم[في ذهنه] وخاطَبها كما يخاطب الإنسان من يتصوره ممن يحبه أو يبغضه ، وإن لم يكن حاضراً }. انتهى .

وهو عجيب !! فإن نداء الصورة والطلب منها مع كونها وهمية خيالية ، أقوى في الحجة على المانع .

فهذا الحديث الصحيح [المجمع على صحته]هو الدليل لمن يجوّز نداء النبي صلى الله عليه و على آله وسلم في غيبته وبعد موته ، والناظم ممّن يرى ذلك .

والدليل على أن هذا الحديث عامّ [للحياة و بعدها] : ما رواه البيهقي ، والطبراني بسند صحيح عن عثمان بن حنيف راوي الحديث الأول : أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأْ ثم ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثم قلْ: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي ،وتذكر حاجتك، و رُحْ إليّ حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان، فجاء البوّاب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له؛ ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلمتَه فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمتُه ولكن شهدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادْعُ بهذه الكلمات. فقال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط.}.اهـ

وسيأتي في كلام ابن تيمية أن للناس في الحديث قولين : قولاً بجواز التوسل به ، بمعنى طلب دعائه في حياته . وقولاً بجواز ذلك في حياته و مماته ، وحضوره ومغيبه .

وعلى كلا القولين لا مانع من طلب صاحب " البردة " للشفاعة منه صلى الله عليه و على آله وسلم؛ لأنه -على الرأي الأول- يكون طالباً لدعائه وهو حيّ في قبره ، وعلى الثاني فظاهر .
وسيأتي أقوال السلف والخلف ، وتواطئهم على جوازه .

الدليل السادس : روى الحاكم في " المستدرك " ، وأبو عوانة في " صحيحه " ، والبزار بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه و على آله وسلم أنه قال : { إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة ، فلْيناد : يا عباد الله احْبِسوا ، فإن لله حاضراً سيجيبه } .اهـ

وقد ذكر هذا الحديث: ابنُ تيمية في كتاب " الكلم الطيب "( فصل: في الدابة تنفلت) عن أبي عوانة ، و ابن القيم في " الكلم الطيب " له أيضا ، و الإمام النووي في " الأذكار " ، والحافظ الجزري في " الحصن الحصين " وغيرهم ممن لا يُحصى من المحدّثين ، وهذا اللفظ رواية ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعاً .

وأما قول هذا النجدي : "إن هذا نداء لحاضر" . فكذب ظاهر ، فإن عباد الله المدعُوّين - و إن كانوا حاضرين بالنسبة لعلم الله الذي لا يغيب عنه شيء- ، فهم غائبون بالنسبة لمن يناديهم .وكذلك الأنبياء والصالحون وأهل القبور ، فإنهم أحياء في قبورهم، وأرواحهم موجودة [و لكن غائبون بالنسبة لمن يناديهم] .ولهذا أمر النبي صلى الله عليه و على آله وسلم أمته أن ينادوهم ويخاطبوهم مخاطبة الحاضرين مع أنهم غائبون عن العين ، بل ربما يُسمع منهم ردّ السلام وقراءة القرآن والأذان من داخل قبورهم ، كما ذكر ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " .

فليس نداء النبي صلى الله عليه و على آله وسلم وخطابُه أقل من عباد الله الذين أَمر نبينا صلى الله عليه و على آله وسلم أن نناديهم ونستعين بهم في ردّ الدابة ، ولكن مقصوده صلى الله عليه و على آله وسلم هو التسبّب ، فإن الله ربط الأمور بالأسباب ، والنبي صلى الله عليه و على آله وسلم أفضل الوسائل والأسباب ، خصوصاً يوم القيامة .

ولكون النبي صلى الله عليه وسلم حاضراً مع موته، شُرع لنا خطابُه والتسليم عليه في الصلاة ، وهو قولنا : "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" . ولولا ذلك لكان هذا الخطاب عبثاً ، وحاشا هذه الشريعة الغراء العبث فيها .

فهو على قولين : إما أنه يسمع سلام المسلّمين عليه ويعرفهم حيث ما كانوا ، أو أنه موكَّل بقبره صلى الله عليه و على آله وسلم مَلَك يبلّغه عن أمته السلام .

الدليل السابع : قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": { (باب ما يقول إذا انفلتت دابته أو أراد غوثا أو أضل شيئا) عن عتبة بن غزوان عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أضل أحدكم شيئا أو أراد عونا وهو بأرض ليس بها أنيس فلْيقل: يا عباد الله أعينوني [و في نسخة:أغيثوني]، فإن لله عبادا لا نراهم ". وقد جُرّب ذلك.

رواه الطبراني و رجاله وُثّقوا على ضعف في بعضهم إلا أن يزيد بن علي لم يدرك عتبة.

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فلْيناد: أعينوا عبادَ الله" .رواه الطبراني ورجاله ثقات.}.اهـ

فهبْ أن عباد الله المدعُوّين حاضرون –كما قال- ، ولكن لماّ لم يرهم الداعي لهم ، كيف يهتدي إلى الطريق؟ ، أو كيف يحصل له مقصوده في مثل الهداية إلى الطريق وهو لم يرهم ؟ وكيف حصلت له الهداية بمجرد هذا الكلام لولا أنهم وسيلة و سبب ، و الله هو الفعال ؟!

فكذلك خطاب النبي صلى الله عليه و على آله وسلم ، أقل مراتبه أن يكون كالجن أو رجال الغيب[الملائكة] ، مع أنه صلى الله عليه و على آله وسلم أفضلهم وأقربهم وسيلة عند ربه تعالى .

الدليل الثامن : روى البيهقي و ابن أبى شيبة عن مالك الدار رضي الله تعالى عنه - وكان خازن عمر رضي الله تعالى عنه- قال : {أصاب المدينة قحط في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فجاء رجل إلى قبر رسول الله صلى الله عليه و على آله وسلم فشكا له فقال : يا رسول الله إسْتسق لأمتك فإنهم قد هلكوا .

فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال : " ائت عمر وأقْرئه السلام وأخبره أنهم مُسْقَوْن" الحديث .}اهـ
و
قد ذكر ابن تيمية هذا الحديث في " اقتضاء الصراط المستقيم " ونقله النجدي في رسالته عنه ، وأقرّه ولم ينكره .

و هاك نصه في " اقتضاء الصراط المستقيم" : { وكذلك أيضا ما يُروى : " أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فشكا إليه الجدب عام الرمادة ، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر ، فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس" ؛ فإن هذا ليس من هذا الباب . ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه و سلم ، و أعرِف من هذا وقائع.

وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم [ يعني في قبره] - أو لغيره من أمته- حاجةً فتُقضى له ، فإن هذا قد وقع كثيرا ، وليس هو مما نحن فيه . وعليك أن تعلم : أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لهؤلاء السائلين ، ليس مما يدل على استحباب السؤال ، فإنه هو القائل صلى الله عليه وسلم : « إن أحدهم ليسألني المسألة فأعطيه إياها ، فيخرج بها يتأبطها نارا " ، فقالوا : يا رسول الله ، فلم تعطيهم؟ قال : " يأبون إلا أن يسألوني ، ويأبى الله لي البخل ».

وأكثر هؤلاء السائلين الملحّين [عند قبره]-لِماَ هم فيه من الحال- لو لم يُجابوا لاضطرب إيمانهم ، كما أن السائلين به في الحياة كانوا كذلك ، وفيهم من أُجيب وأُمر بالخروج من المدينة ..}. اهـ كلامه.

ولا يخفى أن هذه المسألة والسؤال والشكوى للنبي صلى الله عليه و على آله وسلم وقعت في زمن الصحابة وخير القرون ، فلو كان ذلك ممنوعاً لم يفعله الصحابي الذي هو أعلم بالدين من سائر علماء المسلمين ، ولم يُنكَر عليه مع وجود الصحابة الكرام ، فعُلم أن هذا أمر معلوم عندهم جوازُه واستحبابه ، و إلا لنُقل عن واحد منهم إنكاره.

الدليل التاسع : ذكر الحافظ ابن عساكر في " تاريخه " ، و ابن الجوزي في " مثير الغرام الساكن " ، والإمام هبة الله في " توثيق عرى الإيمان " عن العُتبي التابعي الجليل : أن أعرابياً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه و على آله وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله ، [ وفي رواية ذكرها الطبري أنه قال : ويا خير الرسل سمعتُ الله يقول : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما } وقد جئتُك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً[أي متوسلا] بك إلى ربي .

ثم أنشد :

يا خير من دُفنت في القاع أعظمه ***** فطاب من طيبهن القاع و الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ****** فيه العفاف وفيه الجود و الكرم

قال العُتبي : فحملتني عيناي ، فرأيت النبي صلى الله عليه و على آله وسلم في النوم وقال : " يا عُتبيّ ، إلْحق الأعرابي فبشّرْه بأن الله غفر له " .اهـ

و قدتلقى علماء الأمة كلها هذا الأثر بالقبول ، وذكره أئمة المذاهب الأربعة في المناسك مستحسنين له . وفيه نداء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم و طلب الشفاعة منه في الدنيا .

وسيأتي نقل نصوص العلماء سيما من الحنابلة لهذا الأثر.

و قال ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم ":{ .. ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي و أحمد ، مثلَ ذلك ، واحتجوا بهذه الحكاية[ حكاية العتبي] التي لا يثبت بها حكمٌ شرعي ، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعا مندوبا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم ، بل قضاء حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب قد بُسطت في غير هذا الموضع .[...].. وقد يفعل الرجل العملَ الذي يعتقده صالحًا ، ولا يكون عالمًا أنه منهيّ عنه ، فيُثاب على حسن قصده ، ويُعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع .[...].. ثم الفاعل قد يكون متأوّلا أو مخطئا مجتهدا أو مقلّدا ، فيُغفر له خطؤه ويُثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع ، كالمجتهد المخطئ ، وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع. }. اهـ كلامه.

و ذكر مثل ذلك في بعض الفتاوى ، وذكره ابن عبد الهادي- تلميذُه- عنه في "الصارم المنكي".

فلو فرضنا أن صاحب البردة رحمه الله تعالى لم يتّبع تلك الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة في طلبه منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الدنيا والآخرة ، وقلنا بقول الشيخ ابن تيمية أنه منهيّ عنه أَوْ ليس مستحباً كما قال في " اقتضاء الصراط"، لكن أليس ابن تيمية أعذر المتأوّل والمخطئ والمجتهد والمقلّد وقال إنه يُغفر له ويثاب على فعله ؟! فمالكم تكفّرون مخالفيكم؟!!

فلْنجعل هذا الرجل من هذا القبيل فلا نكفّره ، فكيف يحلّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكفّر رجلاً أقدم من ابن تيمية ، بل تلاميذه[أي تلاميذ البوصيري] من شيوخه ومعاصريه كالإمام أبى حيان النحوي المفسر ، و الإمام العز بن جماعة و غيرهما ؟؟!! .

فقبّح الله تعالى الجهل و الجرأة أين تصل بصاحبها !! .

الدليل العاشر : ذكر الإمام القسطلاني في " المواهب اللدنية " ، و السمهودي في " الوفا" قالا :{ روى أبو سعد السمعاني عن علي كرم الله وجهه أن أعرابياً قدم علينا بعد دفن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره ، وحثا من ترابه على رأسه وقال : يا رسول الله ، قلتَ فسمعنا قولك ، و وعيت عن الله فوعينا عنك . وكان فيما أنزل إليك : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي . فنودي من القبر : " غُفر لك " }.اهـ

أقول : و يعضد هذا الأثرَ ، الأثرُ المتقدم الذي تلقاه الأئمة بالقبول.

يتبع إن شاء الله

من كتاب :[نحت حديد الباطل وبرده بأدلة الحق الذابة عن صاحب البردة ( 53-66 )] للإمام داود بن سليمان النقشبندي البغدادي
[/align]
[/font]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء أكتوبر 07, 2008 5:11 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[font=Tahoma][align=center]
للأخوة الأفاضل المشرفين

برجاء نقل هذا الموضوع إلى قسم كشف شبهات ابن تيمية

فقد وضعته في هذا القسم سهوا

فبرجاء التكرم بالاستجابة والنقل وحذف هذه الشاركة لو تفضلتم

وجزاكم الله خيرا [/align]
[/font]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء أكتوبر 07, 2008 3:11 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[align=justify][font=Tahoma]
[تابع]

الدليل الحادي عشر : ذكر القاضي عياض في " الشفا " بسند حسن أن الإمام مالك بن أنس تناظر مع أبي جعفر المنصور ، فقال الإمام مالك : يا أمير المؤمنين ، إن الله أدّب أقواماً فقال : { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي .. } ، ومدح قوماً فقال : { إن الذين يغضون أبصارهم عند رسول الله …} .وإن حُرمته ميتاً كحرمته حياً . فاستكان لها أبو جعفر و قال : يا أبا عبد الله ، أستقبلُ القبلة فأدعو ، أم أستقبل رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ ، فقال مالك رحمه الله تعالى : و لِم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم ؟! بل استقْبِلْه وتشفّعْ به فيشفّعْه الله ، قال الله تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } الآية .}.اهـ

نقل هذا الأثرَ شيخُ الإسلام السُّبكي في " شفاء السقام " ، و القسطلاني في " المواهب اللدنية " ، والسمهودي في "الوفا" و " خلاصة الوفا " ، و ابن حجر المكي في " الجوهر المنظّم " وغيرهم .

الدليل الثاني عشر : ذكر ابن الجوزي في كتابه " الوفا في فضائل المصطفى" صلى الله عليه وسلم، بسنده إلى أبي بكر المقرئ والطبراني وأبي الشيخ قالوا :

" كنا في حرم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكنا في حالة قد أثّر فينا الجوع ، فواصلنا ذلك اليوم .

فلما كان وقت العشاء ، حضرتُ قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقلت : يا رسول الله الجوع الجوع ، وانصرفت . قال أبو بكر : فنمت وأبو الشيخ ، والطبراني جالس ينظر في شيء ، فحضر بالباب علويّ فدقّ الباب ، ففتحنا له ، فإذا معه غلامان مع كل غلام زنبيل فيه شيء كثير ، فجلسنا فأكلنا ، فولى وترك الباقي عندنا . فلما فرغنا من الطعام ، قال العلوي : يا قوم ، شكوتم إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ فإني رأيته في المنام فأمرني بحمل شيءٍ إليكم .}. انتهى .

وذكر هذا الأثر جماعةٌ من المحدّثين ، وذكر مثله ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " فقال : { وكذلك حُكي لنا أن بعض المجاورين بالمدينة ، جاء إلى عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاشتهى عليه نوعا من الأطعمة ، فجاء بعض الهاشميين إليه ، فقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لك ذلك وقال لك : اخرجْ من عندنا ، فإن من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا . وآخرون قُضيت حوائجهم ولم يقل لهم مثل هذا ، لاجتهادهم أو تقليدهم ، أو قصورهم في العلم ، فإنه يُغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره ..}. انتهى .

الدليل الثالث عشر : ذكر ابن الجوزي في كتابه " صفة الصفوة " بسنده إلى أبى الخير التيناتي قال : {دخلت مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنا بفاقة[ أي بفقر] فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقاً ، فتقدّمت إلى القبر الشريف وسلّمت على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقلت : أنا ضيفك الليلة يا رسول الله . وتنحّيت فنمت خلف المنبر ، فرأيت في المنام النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن شماله ، وعلي بن أبي طالب بين يديه . فحرّكني علي رضي الله تعالى عنه وقال : قُم ، لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فقمت فقبّلت بين عينيه ، فدفع إليّ رغيفاً فأكلت بعضه ، فانتبهت فإذا النصف الآخر بيدي. } . انتهى .

الدليل الرابع عشر : ذكر ابن تيمية في " الكلم الطيب " والحافظ ابن أبي جمرة في " شرح مختصر البخاري " [و غيرهما] أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه خدرت رجله ، فقيل له : اذْكُر أحب الناس إليك. فقال : يا محمد ، فذهب الخَدَر عن رجله .

فلو كان نداء الغائب و الميت ممنوعاً ، لكان هذا الصحابي الجليل أحق بالمنع من ذلك ! ولهذا ذكر مثل هذا الأثر ابنُ تيمية وابنُ القيم و غيرهما في الأذكار التي يُسن استعمالها .

وذكر ابن الأثير في " تاريخه "[الكامل في التاريخ] -الذي ذكر أنه اختصره من تاريخ ابن جرير السني[الطبري]- : أن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم كان شعارهم في الحرب : " يا محمد " .
وذكر مثله الواقدي في كتابه " فتوح الشام " .

وذكر السيوطي في " شرح الصدور " عن ابن الجوزي بسنده إلى بعض التابعين : أنهم لما أمرهم الكفار و راودهم على الكفر وامتنعوا ، غلوا لهم زيتاً في قِدْر فألقوهم فيه ، فنادوْا : " يا محمداه " .

ولا شك أن هذا النداء في هذه المواضع المهلكة ، ما هو إلا توسل به صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وطلب لشفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، و إلا فلا معنى لندائه .

وفي ترجمة سعيد بن عامر بن حذيم الصحابي رضي الله تعالى عنه قال :{ شهدت مصرع خبيب وقد بضعت قريش لحمه ، ثم حملوه على جذعه ، ثم نادى : " يا محمد " . فما ذكرت ذلك و تركي نصرتَه وأنا مشرك إلا ظننت أن الله لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً ، فتصيبني تلك الغنطة ..} إلى آخر الأثر .

فهذا يدل على أن نداء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الشدائد أمر معهود ، لأن خبيباً رضي الله تعالى عنه فعل ذلك في مكة والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة حينئذ ، والله تعالى أعلم .

وأما الألفاظ التي صدرت في زمانه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما فيها حصر الشفاعة به وأمثال ذلك مما هو مثل قول البوصيري :

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم

فكثيرة جداً ، منها ما ذكره القسطلاني في " المواهب اللدنية " في ( باب الاستسقاء ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : {جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال : يا رسول الله ، أتيناك وما لنا صبي يغطّ ، وبعير يئطّ ، وأنشد :

أتيناك والعذراء يدمي لبانها
وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
وليس لنا إلا إليك فرارنا
و أين فرار الناس إلا الرُسْل

فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجرّ رداءه و رفع يديه إلى السماء ثم قال : " اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريعاً غدقاً طبقاً نافعاً غير ضار عاجلاً " . قال رضي الله تعالى عنه : فما ردّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يديه إلى نحره ، حتى ألقت السماء بأبراقها ، وجاء أهل البطانة يضجّون : الغرق الغرق!! .فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " حوالينا ولا علينا "، فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل ، وضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى بدت نواجذه ، ثم قال : " لله درّ أبي طالب ، لو كان حياً لقرّت عيناه، من ينشدنا قوله ؟ .فقال علي رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله ، كأنك تعني قوله :

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه
ثِمال اليتامى عصمةٌ للأرامل
يلوذ به الهُلاّك من آل هاشم
فهم عنده في نعمة و فواضل

فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أجل "، قال: وقام رجل من كنانة ، فقال :

لك الحمد والحمد ممن شكر سُقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوة إليه وأشخص منه البصر
رقاق العوالي جم البعاق أغاث به الله عينا مضر
به الله يسقي الغمام وهذا العيان لذاك الخبر

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن يك شاعر يحسن فقد أحسنت » }.اهـ. رواه البيهقي في "دلائل النبوة" .

قال القسطلاني رحمه الله تعالى : {والثمال - بكسر الثاء - : اللجاء والغياث في الشدة . وعصمة للأرامل : يمنعهم عن الضياع والحاجة ، والأرامل : المساكين .}.

وروى ابن عبد البر في " الإستيعاب " في ترجمة سواد بن قارب الصحابي رضي الله تعالى عنه وقوله في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :

و كُن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة
بِمُغنٍ فتيلاً عن سواد بن قارب

ونقل ذلك جميع أهل السير في معجزاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لأن الجن أمروا سواداً بالإيمان به صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فأتاه وأسلم وأنشد النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبياتاً ، هذا البيت منها .. ومنها :

وأشهد أن الله لا رب غيره
وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة
إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب

فلم ينكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم طلَبَ الشفاعة منه في القيامة ، وجعْلَه وسيلة ، وأنه مأمون على كل غائب .

وعن ابن عساكر من طريق أبي الزبير ، عن جابر رضي الله تعالى عنه ، أن امرأة من قريش عارضت سعد بن عبادة ، فأنشدت النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم :

يا نبي الهدى إليك لجائي
لقريش و لات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأرض
وعاداهم إله السماء
إن سعداً يريد قاصمة الظهر
بأهل الحجون والبطحاء
فلما سمع هذا الشعر صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، دخلته رأفة لهم ورحمة ، فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابن قيس .

وذكر القسطلاني في " المواهب " أن عمّته صفية رضي الله تعالى عنها رثته بمراثي ، منها قولها :

ألا يا رسول الله كنتَ رجاءنا
وكنت بنا برّاً و لم تك جافياً
وكنت رحيماً هادياً ومعلماً
ليبك عليك اليوم من كان باكياً
إلى آخر كلامها رضي الله تعالى عنها ..

وذكر ابن القيم في " كتاب الكبائر" و في "السنة والبدعة " في بيان بدعة الرفض : {قال الشيخ الحافظ السِّلْفي نزيل الإسكندرية بسنده إلى يحيى بن عطاف المعدل ، حكى عن شيخ دمشقي جاور بالحجاز سنين قال :كنت بالمدينة المنورة في سنة مجدبة ، فخرجت يوماً إلى السوق لأشتري دقيقاً برباعي ، فأخذ الدقّاق الرباعي وقال لي : إلْعن الشيخين[أبا بكر و عمر] حتى أبيعك الدقيق . فامتنعت من ذلك ؛ فراجعني مرات وهو يضحك . فضجرت منه و قلت : لعن الله من يلعنهما .قال : فلطم عيني فسالت على خدي ؛ فذهبت إلى صاحب لي فأخبرته ، فرجعت إلى المسجد فجئت الحجرة[أي حجرة النبي] فقلت : "السلام عليك يا رسول الله قد جئناك مظلومين فخُذْ بثأرنا" . ثم رجعنا . فلما جنّ الليل نمت ، فلما استيقظت وجدت عيني صحيحة أحسن ما كانت ...}. إلى آخر ما قال .

وذكر ابن القيم في هذين الكتابين عن كمال الدين بن العديم في : " تاريخ حلب " قال : {أخبرني أبو العباس أحمد بن عبد الواحد ، عن شيخ من الصالحين يُعرف بـعمر بن الرعيني قال : كنت مقيماً بمدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخرجت بعض السنين في يوم عاشوراء الذي تجتمع فيه الإمامية لقراءة المصرع في قبة العباس ، فوقفت على باب القبة فقلت : أريد شيئاً في محبة أبى بكر [أي من أجل حُبكم له].

قال : فخرج إليّ واحد منهم وقال : إجلسْ حتى أفرغ . قال : فلما خرج ، أخذ بيدي ومضى بي إلى داره وأنا أظن أنه يريد أن يعطيني شيئاً فقال : ادخل . فدخلت فسلّط علي عبدين فكتّفاني وأوجعاني ضرباً ، ثم أمرهما فقطعا لساني ، ثم قال : اخرج إلى الذي طلبت لأجله ليردّ عليك لسانك .

قال : فخرج من عنده مقطوع اللسان ، فجاء وهو يستغيث من الوجع إلى حجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجعل يقول : يا رسول الله قُطع لساني في محبة صاحبك . فإن كان صاحبك حقاً فأحبُّ أن تُرجع عليّ لساني . وبات يستغيث بقلبه .

قال : فأخذتني سنة من النوم ، فاستيقظ فوجد لسانه في فيه صحيحاً كما كان ، وأن الذي قطع لسانه من الرافضة انقلب قرداً . وفي السنة الثانية ذهب إلى ذلك المكان فوجد ابنه ، فأسلم هو وأهله وولده وتابوا من الرفض.}اهـ.

فهذان النقلان لابن القيم عن أكابر المحدّثين و إقرارهما و رضاه بهما ولم يتعرّض لهما باعتراض، وكفى بنقله و معلومٌ تشديده في مثل هذه الأمور،مع أن في هذين النقلين: النداء له صلى الله عليه وعلى آله وسلم والسؤال منه ما هو عظيم خارق للعادة.

يتبع إن شاء الله
[/font][/align]

[align=center]من كتاب[ نحت حديد الباطل وبرده بأدلة الحق الذابة عن صاحب البردة (67 - 75 )] للإمام داود بن سليمان النقشبندي البغدادي .[/align]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس أكتوبر 09, 2008 5:00 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[font=Tahoma]
[align=center][تابع ][/align]

[align=justify]وقال الموفّق بن قدامة الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه " المغني " شرح " الخرقي " -وهو شيخ [شيوخ] ابن تيمية- : { .. و يُروى عن العتبي رحمه الله تعالى قال : كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فجاء أعرابي فقال : " السلام عليك يا رسول الله ، سمعت الله يقول : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } وقد جئتك مستغفراً من ذنبي ، مستشفعاً بك إلى ربي .[/align]

[align=center]ثم أنشد يقول :

يا خير من دُفنت في الأرض أعظُمه
و طاب من طيبهن القاع و الأكم
روحي فداءٌ لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
[/align]

[align=justify]فانصرف الأعرابي فحملتني عيني ، فرأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال : " يا عُتبيّ ، إلْحق الأعرابي فبشِّره أن الله قد غفر له " [...] إلى أن قال : ثم تأتي القبر فتولّي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه وتقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه وعباده، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أشهد أنك قد بلّغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فصلّى الله عليك كثيرا كما يحب ربنا ويرضى، اللهم اجز عنّا نبينا أفضل ما جزيت أحدا من النبيين والمرسلين وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه الأولون والآخرون، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم انك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم و آل ابراهيم انك حميد مجيد، اللهم إنك قلتَ وقولك الحق: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفَروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وقد أتيتُك[يا رسول الله] مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربي، فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم اجعلْه أوّل الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الأولين والآخرين برحمتك يا أرحم الراحمين.

ثم يدعو لوالديه و لإخوانه وللمسلمين أجمعين، ثم يتقدم قليلا ويقول: السلام عليك يا أبا بكر الصدق، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم و ضجيعيه و وزيريه ورحمة الله وبركاته، اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيرا (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار). اللهم لا تجعله آخر العهد من قبر نبيك صلى الله عليه وسلم ومن حرم مسجدك يا أرحم الراحمين".}.اهـ

فقوله : " مستشفعاً بك " : أي طالباً منك الشفاعة ، لأن ( السين ) للطلب ، فخطابه لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وطلب الشفاعة منه ، دليل على أن ذلك مستحب عند السادة الحنابلة .

وذكر شمس الدين بن قدامة الحنبلي في " الشرح الكبير " (وهو شرح " المقنع ") في آخر الحج في " باب زيارة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم " هذه الرواية عن العتبي ، وذكر للزائر أن يخاطب النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويطلب منه الشفاعةَ.[/align]

[align=justify]وقال ابن مفلح الحنبلي في " شرح المقنع " : { قال في المذْهب : يجوز أن يُستشفع إلى الله تعالى برجلٍ صالح ، وقيل : يستحب . قال أحمدبن حنبل في " منسكه " الذي كتبه للمروذي : " يتوسل بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في دعائه"، وجزم به في " المستوعب " وغيره}. انتهى .

وذكر في " المستوعب " رواية العتبي ، وذكر الآية ، وقال كما في " المغني " و " الشرح الكبير " و زاد عليهما: { اللهم إني أتوجه إليك بنبيك صلى الله عليه وعلى آله وسلم نبي الرحمة ، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي . اللهم إني أسألك بحقه أن تغفر لي ذنوبي }. انتهى .

وهذا الذي ذكره الإمام أحمد في " منسكه " للمروذي ، كما قال في " المبدع " وجزم به في " المستوعب "، وهذه العبارة التي تقدمت هي عبارة " المستوعب " .

و في " منسك " الشيخ سليمان بن علي ، مثْلُ ما في " المغني " و "الشرح الكبير" من طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، و في "حاشية الزاد" للعتيلي الحنبلي : (( التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين جائز)).اهـ

وفي " مغني ذوي الأفهام " لابن عبد الهادي الحنبلي رحمه الله – وهو من تلاميذ ابن تيمية- : { ويجوز التوسل بالصالحين أحياءً وأمواتاً } اهـ.وجعل عليه علامة المذاهب الأربعة [أي أنه مجمع عليه ].

وفي " الرعاية الكبرى " لابن حمدان الحنبلي في " باب الاستسقاء " : { و يباح التوسل بمن يُرجى الإجابة به من الصلحاء والعلماء وغيرهم. قلتُ : وإن بعُدوا أو قرُبوا ولم يخرجوا مع الناس[للاستسقاء].} اهـ

و قال في "مطالب أُوْلي النُّهى شرح غاية المنتهى" في باب الحج :{ ( فَصْلٌ ) ( وَسُنَّ زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرَيْ صَاحِبِيهِ ) أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ( رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا )..

إلى أن قال: ( ثُمَّ يَأْتِي الْقَبْرَ الشَّرِيفَ فَيَقِفَ قُبَالَةَ وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ ) وَيَسْتَقْبِلُ جِدَارَ الْحُجْرَةِ وَالْمِسْمَارِ الْفِضِّيِّ فِي الرُّخَامَةِ الْحَمْرَاءِ ، وَيُسَمَّى الْآنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ ، وَيَكُونُ ( مُطْرِقًا غَاضَّ الْبَصَرِ خَاضِعًا خَاشِعًا مَمْلُوءَ الْقَلْبِ هَيْبَةً ، كَأَنَّهُ يَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فَإِنَّهُ اللَّائِقُ بِالْحَالِ ( فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَانَ ) عَبْدُ اللَّهِ ( ابْنُ عُمَرَ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ زَادَ ) عَلَيْهِ ( فَحَسَنٌ كَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ ).

قَالَ فِي " الشَّرْحِ " وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى " : وَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْك يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، وَخِيرَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ ، [..] إلى أن قال: اللَّهُمَّ إنَّك قُلْتَ وَقَوْلُك الْحَقُّ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وَقَدْ أَتَيْتُك مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذُنُوبِي مُسْتَشْفِعًا بِك إلَى رَبِّي فَأَسْأَلُك يَا رَبِّ أَنْ تُوجِبَ لِي الْمَغْفِرَةَ كَمَا أَوْجَبْتهَا لِمَنْ أَتَاهُ فِي حَيَاتِهِ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ أَوَّلَ الشَّافِعِينَ ، وَأَنْجَحَ السَّائِلِينَ ، وَأَكْرَمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ بِرَحْمَتِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .

ثُمَّ يَدْعُو لِوَالِدَيْهِ وَإِخْوَانِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ [..] اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ قَبْرِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ حَرَمِ مَسْجِدِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .}.اهـ

و قال الشيخ البهوتي-شيخ الحنابلة بمصر-(ت1051هـ) في "كشف القناع عن متن الإقناع": { ( فَصْلٌ :وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْحَجِّ اُسْتُحِبَّ لَهُ زِيَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرَيْ صَاحِبَيْهِ ) أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ( رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ) لِحَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } .وَفِي رِوَايَةٍ { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ سَعِيدٌ .
"
تَنْبِيهٌ " ؛ قَالَ ابْنُ نَصْرِ اللَّهِ : لازِمُ اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِحْبَابُ شَدِّ الرِّحَالِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ زِيَارَتَهُ لِلْحَاجِّ بَعْدَ حَجِّهِ لَا تُمْكِنُ بِدُونِ شَدِّ الرَّحْلِ فَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ بِاسْتِحْبَابِ شَدِّ الرَّحْلِ لِزِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .}.اهـ

ثم ذكر التوسل و الإستشفاع بالنبي صلى الله عليه و سلم عند زيارة قبره كما مرّ في "المغني" و غيره.

و قال ابن مفلح في "الفروع " أيضا: { ويجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في دعائه. قال أحمد في " منسكه " الذي كتبه للمروذي : ( و يتوسل بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في دعائه) ، وجزم به في " المستوعب " وغيره. وجعلها شيخنا[ابن تيمية] كمسألة اليمين به صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛فقال : والتوسل بالإيمان به صلى الله عليه وعلى آله وسلم وطاعته ومحبته و بدعائه و شفاعته ونحوه مما هو من فعله أو أفعال العباد المأمور بها في حقه ، مشروع وهو من الوسيلة المأمور بها في قوله تعالى : « اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة » }. انتهى .

ولا شكّ أن صاحب " البردة " متوسّل بشفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قوله :[/align]

[align=center]يا أكرم الخلق ما لي ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم[/align]


[align=justify]وهو [ أي الحادث العمم ] الشفاعة يوم القيامة ، ولهذا قال بعده :[/align]

[align=center]ولن يضيق رسول الله جاهك بي
إذ الكريم تجلى باسم منتقم[/align]


[align=justify]وأما صفة التوسل الذي كتبه الإمام أحمد للمروذي رحمهما الله تعالى و جزم به في " المستوعب " ، فهو ما ذكرناه عنه سابقاً ، وليس في " المستوعب " غيره؛ وهو قوله : (( يا رسول الله ، إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ...)).

وفي " الغنية " لسيدنا الشيخ عبد القادر الجيلاني الحنبلي في " باب الزيارة " : {[يقول الواقف أمام القبر]: اللهم إني أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة ، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي ، اللهم إني أسألك بحقه أن تغفر لي .} اهـ

وذكر الإمام يحيى الصرصري الحنبلي -في شعره- الاستغاثةَ برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو من أقران مجد الدين جدّ الشيخ تقي الدين بن تيمية، وأثنى عليه ابنُ تيمية في كتابه " الانتصار" فقال : ( الفقيه الصالح صاحب الشعر المشهور) ، وذكر شيئاً في مدح الإمام أحمد رحمه الله تعالى ، وهي القصيدة اللامية التي فيها العقيدة و في آخرها :[/align]

[align=center]ولستُ من الخطْب الملمّ بخائف
وأنت لدى كل الحوادث لي وليّ

بعدما خاطبه بقوله :

لأنت إلى الرحمن أقوى وسيلة
إليها بها في الحادثان توسّلي
وسلْ لي ربَّ العالمين يُميتني
على السُنة البيضاء غير مبدّل
وقال في قصيدة أخرى :
ألا يا رسول الله أنت وسيلتي
إلى الله إن ضاقت بما رمت حيلتي

إلى أن قال :

وأنت نصيري في خطوب تتابعت
عليّ و ذخري عند فقري و عَيْلتي

وقال في أخرى :

يا سيدي يا رسول الله يا سندي
في كل خَطْب ثقيل موجع الألم
يا من إذا فرّ مطلوب أخو رهب
إليه من فاقرات الدهر لم يضم
فاستغْفر الله لي يا من إذا نزلت
بيَ شدة فبه أنجو من النقم
واقبلْ تضرع عبد واثق بك في
دفع الخطوب العوادي عنه معتصم

وقال في أخرى :

أتوخّى بها رضاك فعجّلْ
جبر يحيى بن يوسف الحنبلي

وقال :

بك أستجير وأستغيث وأرتجي
إني بجاهك في المعاد أفوز
[/align]

[align=justify]وكل ديوانه هكذا ، وديوانه مشهور في أقطار الدنيا من قبل زمان ابن تيمية إلى يومنا هذا ، فلم يعترضْ عليه أحد ، بل مدحه تقي الدين بن تيمية بقوله : (الفقيه الصالح صاحب الشعر المشهور) .

فلو كان نداء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والسؤال منه وطلب شفاعته شركاً وكفراً ، لتكلّم الأئمة الأعلام عليه وذمّوه وحذّروا الناس من شعره والتكلّم به والنظر فيه.

فلمّا لم يتكلم عليه أحد من جميع العلماء من زمانه إلى يومنا هذا ، دلّ على أن هذه الأمور ليست من الشرك الأكبر ، بل ولا من الشرك الأصغر ، لأن الشرك الأصغر - وإن لم يكن مخرجاً عن الملة- فهو محرّم أو مكروه مسْقطٌ للعدالة .

بل قد أثنى العلماء الأعلام على الصرصري رحمه الله تعالى ومدحوه على الشعر ، منهم ابن رجب الحنبلي في " ذيل الطبقات " ، ومنهم ابن العماد الشامي الحنبلي في كتابه " شذرات الذهب " وغيرهم من العلماء و الأئمة الحفاظ و المؤرخين.

قال الإمام ابن رجب في " ذيل طبقات الحنابلة " في ترجمته : { يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعمر بن عبد السلام الأنصاري الصرصري، الزريراني الضرير الفقيه الأديب اللغوي الشاعر الزاهد، جمال الدين، أبو زكريا، شاعر العصر، وصاحب الديوان السائر في الناس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، كان حسّان وقته. ولد في سنة ثمان وثماني وخمسمائة.

وقرأ القرآن بالروايات على أصحاب ابن عساكر البطايحي، وسمع الحديث من الشيخ علي بن إدريس اليعقوبي الزاهد صاحب الشيخ عبد القادر [الجيلاني]، وصحبه وسلك به، ولبس منه الخرقة. وأجاز له الشيخ عبد المغيث الحربي وغيره، وحفظ الفقه واللغة. ويقال: إنه كان يحفظ "صحاح" الجوهري بكماله.

وكان يتوقد ذكاء، ونظْمُه في الغاية[من الحسن]، ويقال: إن مدائحه في النبي صلى الله عليه وسلم تبلغ عشرين مجلداً. وقد نظم في الفقه " مختصر الخرقي" ونظم " زوائد الكافي " على الخرقي، ونظم في العربية، وفي فنون شتى.

وكان صالحاً قدوةً، عظيم الاجتهاد، كثير التلاوة، عفيفاً صبوراً قنوعاً، محباً لطريقة الفقراء[أي الصوفية] ومخالطتهم. وكان يحضر معهم السماع، ويرخّص في ذلك. وكان شديداً في السُنّة، منحرفاً على المخالفين لها. وشعره مملوء بذكر أصول السُنّة، ومدح أهلها، وذمّ مخالفيها. وله قصيدة طويلة لامية في مدح الإِمام أحمد وأصحابه. و قد ذكرنا بعضها مفرّقاً في تراجم بعض الأصحاب الذين ذكرهم فيها.

وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه و بشّره بالموت على السُنّة، ونظم في ذلك قصيدة طويلة معروفة. وقد حدث. و سمع منه الحافظ الدمياطي، وذكره في معجمه، وعلي بن حصين الفخري. وأجاز للقاضي سليمان بن حمزة، وأحمد بن علي الجزري، وزينب بنت الكمال.
ولما دخل هولاكو وجنده الكفار إلى بغداد كان الشيخ يحمى بها. فلما دخلوا عليه قاتلهم. ويقال: إنه قتل منهم بعكازه. ثم قتلوه شهيداً رضي الله عنه سنة ست وخمسين وستمائة برباط الشيخ علي الخباز بالعقبة، وحمل إلى صرصر فدفن بها. و زرتُ قبره بها حين توجّهنا إلى الحجاز سنة تسع وأربعين وسبعمائة.}.اهـ

وقال الشيخ شبيب بن حمدان أخو صاحب " الرعايتين" الحنبلي الحراني- وهو ابن عم مجد الدين بن تيمية- : {عارض الإمامُ الصرصري قصيدةَ " بانت سعاد " [لكعب بن مالك] بقصيدة عظيمة، منها قوله يخاطب النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم :[/align]

[align=center]فاشفعْ لقائلها يا من شفاعتُه
تفكّ من هو مكبوت و مكبول[/align]


[align=justify]وطبقته سنة خمس وتسعين وست مئة(665هـ) ..}.اهـ

وهذه النصوص في كتبٍ عندي مع قصر باعي و قلة اطّلاعي ، وقد تركتُ كثيراً منها خوف السآمة والملامة ، ومن لم ينفعه الله تعالى ، لم ينفع نصح الملأ له .

فهذه نصوص ابن تيمية وعلماء الحنابلة ، بل نصُّ الإمام أحمد رحمه الله تعالى في " منسكه " للمروذي .

فقد أطبق متقدّموهم و متأخّروهم على ندائه وخطابه وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم .

فكيف يصحّ أن يقال : هذا كفر و شرك ؟؟!! ، فهل هذا إلا جهل و إفك على العلماء الأعلام ؟!!

أما نصوص الأئمة الحنفية ، فقد ذكروا ذلك في باب الزيارة وغيرها ولا أعلم خلافاً عنهم في هذه المسألة .

قال المجد الموصلي صاحب "المختار للفتوى" وشرحه -وهو من متقدّمي الحنفية- في آخر الحج في "باب الزيارة" :{ فيقول : يا رسول الله ، نحن وفدك و زُوّار قبرك، جئنا من بلاد شاسعة ونواحي بعيدة، قاصدين قضاء حقك ، والنظر إلى مآثرك و التيمّن بزيارتك ، و الاستشفاع بك إلى ربنا ، فإن الخطايا قد أثقلت ظهورنا ، وأنت الشافع المشفّع الموعود بالشفاعة والمقام المحمود ، وقد قال تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك... }الآية، وقد جئناك ظالمين لأنفسنا مستغفرين لذنوبنا ، فاشفعْ لنا عند ربنا ، واسْأله أن يميتنا على سُنّتك . الشفاعةَ يا رسول الله ، الشفاعةَ يا رسول الله ، الشفاعةَ يا رسول الله.. }. انتهى .

وقد أطبق علماء الحنفية على مثل هذه العبارة .

قال العلاّمة علي القاري رحمه الله تعالى في كتابه في زيارة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
{ ويتوسل به صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حق نفسه ويتشفع به إلى ربه . قال أهل المناسك من جميع المذاهب : ومن أحسن ما يقول ، ما جاء عن العتبي – أي أثر الأعرابي الذي جاء إلى قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقد تقدم - .. قال : وينبغي أن يكثر الاستغفار ويستدعي منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يستغفر له فيقول : نحن وفدك و زوار قبرك يا رسول الله ، جئنا لقضاء حقك والتبرك بزيارتك و الإستشفاع بك مما أثقل ظهورنا وأظلم قلوبنا ، فليس لنا شفيع غيرك نؤمّله ، ولا رجاء غير بابك نطلبه ، فاستغْفرْ واشفع لنا إلى ربك يا شفيع المذنبين ، واسْأله أن يجعلنا من عباده الصالحين} . انتهى . و زاد في "المناسك": { الشفاعةَ ، الشفاعةَ، الشفاعةَ يا رسول الله } اهـ.

و قال الشيخ زاده الحنفي في "مَجْمَعِ الْأَنْهُرِ فِي شَرْحِ مُلْتَقَى الْأَبْحُرِ" : { وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَفُ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَأَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا سِوَاهَا. وَمِنْ أَحْسَنِ الْمَنْدُوبَاتِ بَلْ يَقْرُبُ مِنْ دَرَجَةِ الْوَاجِبَاتِ زِيَارَةُ قَبْرِ نَبِيِّنَا وَسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَرَّضَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى زِيَارَتِهِ وَبَالَغَ فِي النَّدْبِ إلَيْهَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي }..إلى أن قال:

..وَيَقِفُ كَمَا يَقِفُ فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، [..]..إلى أن قال:
ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حَاجَتَهُ ، وَأَعْظَمُ الْحَاجَاتِ: سُؤَالُ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ وَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ؛ وَيَقُولُ:
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُكَ الشَّفَاعَةَ الْكُبْرَى وَأَتَوَسَّلُ بِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ أَمُوتَ مُسْلِمًا عَلَى مِلَّتِكَ وَسُنَّتِكَ وَأَنْ أُحْشَرَ فِي زُمْرَةِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ، [...]

قال: ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى حِيَالِهِ وَجْهَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ بِأَفْضَلِ مَا يُمْكِنُ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَيَسْتَشْفِعُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِجَمِيعِ أَهْلِ الْإِيمَانِ .

إلى أن قال: .. فَإِذَا عَزَمَ إلَى السَّفَرِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوَدِّعَ فِي الْمَسْجِدِ بِصَلَاةٍ، وَيَدْعُو بَعْدَهُ بِمَا أَحَبَّ وَأَنْ يَأْتِيَ الْقَبْرَ الشَّرِيفَ وَيَدْعُوَ بِمَا أَحَبَّ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِإِخْوَانِهِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُدْخِلَهُ دَارَ النَّعِيمِ وَيُوَصِّلَهُ إلَى أَهْلِهِ سَالِمًا غَانِمًا بِخَيْرِ عَاقِبَةٍ وَحُسْنِ عَافِيَةٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يُمْكِنُ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ الْجِيرَانِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ بَاكِيًا حَزِينًا عَلَى فِرَاقِ الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ..}.اهـ

و قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار" :{ قَوْلُه: (( وَزِيَارَةُ قَبْرِهِ مَنْدُوبَةٌ )) أَيْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي "اللُّبَابِ" ، وَمَا نُسِبَ إلَى الْحَافِظِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَنْبَلِيِّ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ بِالنَّهْيِ عَنْهَا فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ لا أَصْلَ لَهُ ، وَإِنَّمَا [هو] يَقُولُ بِالنَّهْيِ عَنْ شَدِّ الرِّحَالِ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثِ ،أَمَّا نَفْسُ الزِّيَارَةِ فَلَا يُخَالِفُ فِيهَا كَزِيَارَةِ سَائِرِ الْقُبُورِ . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ رَدَّ كَلَامَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلِلْإِمَامِ السُّبْكِيّ فِيهِ تَأْلِيفٌ مَنِيفٌ[و هو "شفاء السّقام بزيارة خير الأنام"]..

.. قَوْلُهُ (( بَلْ قِيلَ وَاجِبَةٌ )): ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ اللُّبَابِ وَقَالَ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي "الدُّرَّةِ الْمُضِيئَةِ فِي الزِّيَارَةِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ"، وَذَكَرَهُ أَيْضًا الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْمِنَحِ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ وَقَالَ : وَانْتَصَرَ لَهُ . نَعَمْ عِبَارَةُ "اللُّبَابِ" وَ "الْفَتْحِ" وَ "شَرْحِ الْمُخْتَارِ" أَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنْ الْوُجُوبِ لِمَنْ لَهُ سَعَةٌ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْفَتْحِ[أي "فتح القدير" لابن الهمام] مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الزِّيَارَةِ وَذَكَرَ كَيْفِيَّتَهَا وَآدَابَهَا وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَا فِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ وَاللُّبَابِ فَلْيُرَاجِعْ ذَلِكَ مَنْ أَرَادَهُ.}اهـ

و هذا نصّ ما ذكره العلامة الإمام الكمال بن الهمام الحنفي في "فتح القدير بشرح الهداية": {[ الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ : فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] قَالَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : مِنْ أَفْضَلِ الْمَنْدُوبَاتِ؛ وَفِي مَنَاسِكِ الْفَارِسِيِّ وَشَرْحِ الْمُخْتَارِ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنْ الْوُجُوبِ لِمَنْ لَهُ سِعَةٌ .

وَإِذَا تَوَجَّهَ إلَى الزِّيَارَةِ يُكْثِرُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ الطَّرِيقِ ، وَالْأَوْلَى فِيمَا يَقَعُ عِنْدَ الْعَبْدِ الضَّعِيفِ تَجْرِيدُ النِّيَّةِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إذَا حَصَلَ لَهُ إذَا قَدَّمَ زِيَارَةَ الْمَسْجِدِ أَوْ يَسْتَفْتِحُ فَضْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي مَرَّةٍ أُخْرَى يَنْوِيهِمَا فِيهَا لِأَنَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةَ تَعْظِيمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْلَالِهِ ،[...] وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَكُونُ الْوَاقِفُ مُسْتَقْبِلًا وَجْهَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبَصَرَهُ فَيَكُونُ أَوْلَى .

ثُمَّ يَقُولُ فِي مَوْقِفِهِ :

السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا خَيْرَ خَلْقِ اللَّهِ [..].. إلى أن قال: وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حَاجَتَهُ مُتَوَسِّلًا إلَى اللَّهِ بِحَضْرَةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .وَأَعْظَمُ الْمَسَائِلِ وَأَهَمُّهَا سُؤَالُ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَالْمَغْفِرَةِ . ثُمَّ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّفَاعَةَ فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُك الشَّفَاعَةَ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُك الشَّفَاعَةَ وَأَتَوَسَّلُ بِك إلَى اللَّهِ فِي أَنْ أَمُوتَ مُسْلِمًا عَلَى مِلَّتِك وَسُنَّتِك ، وَيَذْكُرُ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعْطَافِ وَالرِّفْقِ بِهِ ، وَيَجْتَنِبُ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِدْلَالِ وَالْقُرْبِ مِنْ الْمُخَاطَب فَإِنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ .

وَعَنْ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ قَالَ : سَمِعْت بَعْضَ مَنْ أَدْرَكْت يَقُولُ : بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } الْآيَةَ ، ثُمَّ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مُحَمَّدُ سَبْعِينَ مَرَّةً ، نَادَاهُ مَلَكٌ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْك يَا فُلَانُ وَلَمْ تَسْقُطْ لَهُ حَاجَةٌ .

هَذَا وَلْيُبَلِّغْ سَلَامَ مَنْ أَوْصَاهُ بِتَبْلِيغِ سَلَامِهِ فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَوْ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ يُسَلِّمُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ .[...] ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى حِيَالِ وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي وَيُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّهِ وَيَدْعُو وَيَسْتَشْفِعُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِمَنْ أَحَبَّ ، وَيَخْتِمُ دُعَاءَهُ بِآمِينَ وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ .

وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الزِّيَارَةِ يَأْتِي الرَّوْضَةَ فَيُكْثِرُ فِيهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتٌ تُكْرَهُ فِيهِ الصَّلَاةُ .
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ } وَفِي رِوَايَةٍ { قَبْرِي وَمِنْبَرِي } وَيَقِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَيَدْعُو ، فَفِي الْحَدِيثِ { قَوَاعِدُ مِنْبَرِي رَوَاتِبُ فِي الْجَنَّةِ } وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ } وَكَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى رُمَّانَةِ الْمِنْبَرِ النَّبَوِيِّ الَّتِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْخُطْبَةِ ، وَهُنَاكَ الْآنَ قِطْعَةٌ تُدْخِلُ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مِنْ طَاقَةٍ فِي الْمِنْبَرِ إلَيْهَا يَتَبَرَّكُونَ بِهَا يُقَالُ إنَّهَا مِنْ بَقَايَا مِنْبَرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .}اهـ

و كذا ذكر الطرابلسي رحمه الله تعالى في " مناسكه "، ونقل صاحب " الدر المختار" في الحج عنه ، فذكر مثل عبارة شرح " المختار " المتقدمة ، وكذا في " مناسك " الكرماني الحنفي ، وفي " مناسك " الفارسي عن أبي الليث السمرقندي .

وقال الإمام العلامة شيخ الإسلام خير الدين الرملي رحمه الله تعالى في " الفتاوى الخيرية ": { وأما قولهم : (شيء لله يا عبد القادر)؛ فهو نداء ، و إذا أضيف شيء لله ، فما الموجب لحرمته ؟ !..}اهـ

و ردّ على المنكر لهذه الكلمة بأبلغ الردّ .

وقال السيد أحمد الحموي الحنفي محشي " الأباه " في رسالته "نفحات القرب والاتصال" قال :{ وأما بعد مماتهم[يعني الأولياء] ، فتصرفهم إنما هو بإذن الله تعالى وإرادته ، لا شريك له خلقاً وإيجاداً ، أكرمهم الله به وأجراه على أيديهم وبسببهم خرقاً للعادة ، تارةً بإلهام ، وتارة بدعائهم ، وتارة بفعلهم و اختيارهم ، وتارة بغير اختيارهم ، وتارة بالتوسل بهم إلى الله تعالى في حياتهم وبعد مماتهم ، مما يمكن في القدرة الإلهية .

ولا يقصد الناس -بسؤالهم ذلك منهم قبل الموت و بعده- نسبتََهم إلى الخلق والإيجاد والاستقلال بالأفعال ، فإن هذا لا يقصده مسلم ، ولا يخطر ببال أحد من العوام ، فضلاً عن غيرهم .فصرْفُ الكلام إليه و منْعُه ، من باب التلبيس في الدين ، وتشويش على عوام موحدين . وكيف يُحكم بالكفر على من اعتقد ثبوت التصرف لهم في حياتهم وبعد مماتهم ، حيث كان مرجع ذلك إلى قدرة الله تعالى خلقاً وإيجاداً ؟! كيف وكُتب جمهور المسلمين طافحة به ، وأنه جائز و واقع لا مرية فيه البتة ، حتى يكاد أن يلحق بالضروريات ، بل بالبديهيات ؟! وذلك لأن جميع كرامات هذه الأمة في حياتهم وبعد مماتهم تصرفاً أو غيره ، هي من جملة معجزات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الدالّة على نبوته وعموم رسالته الباقية بعد موته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لا ينقطع دوامها ولا تجدّدها، بتجدّد الكرامات في كل عصر من الأعصار إلى يوم القيامة}.اهـ

ونقل البرماوي رحمه الله تعالى في " الدلائل الواضحات في إثبات الكرامات في الحياة وبعد الممات " ممّن نصَّ على ثبوتها بعد الممات: شيخُ الإسلام ابن الشحنة الحنفي ، والشيخ عبد الباقي المقدسي في " السيوف الصقال " والشيخ أحمد [ ؟ ] الحنفي ، وعبارتهم كعبارة الشيخ أحمد الحموي . و زادوا : ( ولا يُنكرها إلا مخذول فاسد الإعتقاد في أولياء الله تعالى.)اهـ .

فهذا كما ترى في الأولياء ، فما بالُك بسيد الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإمام الأولياء؟!! . فطلب الشفاعة منه والتوسل به صلى الله عليه وعلى آله وسلم جائز عندهم بلا مرية و لا ريب .

و ذكر الشيخ حسن الشرنبلالي الحنفي في " إمداد الفتاح " شرح كتابه " نور الإيضاح " من بحث الزيارة ، ما ذكره الشيخ صاحب " الاختيار " والشيخ علي القاري، مما تقدّم نقله من الطلب منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتوسل به وطلب الشفاعة . فلا حاجة إلى إعادة العبارة، فإن الحرّ تكفيه الإشارة .

وأما الأئمة الشافعية ، فقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في " الأذكار " و " المناسك " و "المجموع شرح المهذب " في بحث الزيارة النبوية : { فصل: (في زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكارها) : إعلم أنه ينبغي لكل من حج أن يتوجه إلى زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سواء كان ذلك طريقه أو لم يكن ، فإن زيارته صلى الله عليه وسلم من أهم القربات وأربح المساعي وأفضل الطلبات. فإذا انصرف الحُجّاج والمعتمرون من مكة استُحب لهم استحبابا متأكدا أن يتوجهوا إلى المدينة لزيارته صلى الله عليه وسلم. وينوي الزائر -مع الزيارة- التقرّبَ و شدّ الرحل إليه والصلاة فيه وإذا توجه فليكثر من الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه و سلم.. [...] فإذا صلى تحية المسجد أتى القبر الكريم فاستقبله واستدبر القبلة على نحو أربع أذرع من جدار القبر ، وسلّم مقتصدا لا يرفع صوته ، فيقول : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا خيرة الله من خلقه ، السلام عليك يا حبيب الله ، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين ، السلام عليك وعلى آلك وأصحابك وأهل بيتك وعلى النبيين وسائر الصالحين ; أشهد أنك بلغت الرسالة ، وأديت الأمانة ، ونصحت الأمة ، فجزاك الله عنا أفضل ما جزى رسولا عن أمته.[...].. ثم يرجع إلى قبالة وجه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويتوجه به في حق نفسه ويستشفع به صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى . ويدعو لنفسه ولوالديه وأصحابه وأحبابه ومن أحسن إليه وسائر المسلمين ، وأن يجتهد في إكثار الدعاء ، ويغتنم هذا الموقف الشريف ويحمد الله تعالى ويسبّحه ويكبّره ويهلّله ، ويصلّي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكثر من كل ذلك ، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيكثر من الدعاء فيها..[...].. و مِن أحسن ما يقول ، ما ذكره أصحابنا عن العتبي - مستحسنين له- قال : كنت جالساً عند قبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله ، سمعتُ الله يقول : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك .. } الآية ، وقد جئتك مستغفرا من ذنبي ، مستشفعاً بك إلى ربي.. }. انتهى .

وقال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في " شُعَب الإيمان " :{ ولا يُقرّب الملِكُ[يعني الله تعالى] من حضرته إلا من يرى أنه يصلح لآداب حضرته ، وهم عباده المقرّبون الصادقون الطاهرون الزاهدون المؤثرون المكرمون المطهرون ، ونحن الفقراء المساكين الناظرون إلى تحت أقدامهم بعين الفقر والمسكنة ، المتعلقون بأطراف أذيالهم ، راغبين بالضراعة في شفاعتهم ، لعل قلوبهم الرحيمة تنظر إلينا لرأفتهم ورحمتهم ، فيرانا مولانا في قلوبهم ، لأنهم مواضع نظره من الخلق ، فيرحمنا بنفحة من نفحاتهم ، وينفعنا بمحبتهم ..} إلى آخر كلامه رحمه الله .

وهذا كما ترى في سائر عباد الله الصالحين ، فكيف بشفاعة المرسلين ؟! لا سيما سيدهم على الإطلاق ، وفخر الأنبياء بالاتفاق .

وقال العلامة المجتهد شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني في جواب سؤال رُفع إليه فيمن قال في مدح النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:[/align]

[align=center]فاشْفعْ لقائلها يا من شفاعتُه
تفكّ مَن هو مكبوت ومكبول
[/align]

[align=justify]فاعترض معترض بأن السؤال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يَرِد .

فقال البلقيني رحمه الله تعالى في الجواب : { الله الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، نعوذ بالله من الفتن ، ما ظهر منها وما بطن. لقد ارتكب هذا المعترض قبائح أتى بها على أنها نصائح ، فجاءت عليه فضائح .لقد أخطأ وما أصاب ، وكثر به وبأمثاله المُصاب ...[إلى أن قال] : ولقد جهل جهلاً قبيحاً بقوله ، فأما سؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه ، فكيف لا نسأله وهو وسيلتنا ووسيلة أبينا آدم من قبلنا إلى ربنا ، وقد سأله عكاشة وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما ثبت في " الصحيح " ..}. إلى آخر كلامه رحمه الله .


وقال الإمام المجتهد شيخ الإسلام تقي الدين السبكي كما ذكره في " شفاء السقام " ونقله المناوي وغيره في " شرح الجامع الصغير " ما نصه :

{ ويحسُن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى ربه ، ولم يُنكر أحدٌ من السلف والخلف ذلك حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك و عدل عن الصراط المستقيم ، وابتدع مالم يقُلْه عالم قبله ، وصار بين الأنام مُثْلَه }اهـ

و قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "فتح الوهاب شرح منهج الطلاب" في باب الزيارة: {.. و سُنّ لمن قصد المدينة الشريفة لزيارته أن يُكثر في طريقه من الصلاة والسلام عليه (صلى الله عليه وسلم)، فإذا رأى حرم المدينة وأشجارها زاد في ذلك وسأل الله أن ينفعه بهذه الزيارة، ويتقبلها منه. ويغتسل قبل دخوله ويلبس أنظف ثيابه، فإذا دخل المسجد قصد الروضة وهي بين قبره ومنبره كما مر، وصلى تحية المسجد بجانب المنبر وشكر الله تعالى بعد فراغها على هذه النعمة، ثم وقف مستدبر القبلة مستقبل رأس القبر الشريف ويبعد منه نحو أربعة أذرع ناظرا لأسفل ما يستقبله، فارغ القلب من علق الدنيا، ويسلّم بلا رفع صوت وأقلّه: السلام عليك يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم يتأخر صوب يمينه قدر ذراع فيسلّم على أبي بكر ثم يتأخر قدر ذراع فيسلّم على عمر رضي الله عنهما، ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه النبي (صلى الله عليه وسلم) ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه ثم يستقبل القبلة ويدعو بما شاء لنفسه وللمسلمين. وإذا أراد السفر ودّع المسجد بركعتين وأتى القبر الشريف وأعاد نحو السلام الأول.}اهـ

وقال العلاّمة القسطلاني رحمه الله تعالى شارح البخاري في كتابه " المواهب اللدنّية " :{ ويجوز الاستغاثة والتشفع والتوسل به صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فجدير لمن استشفع به أن يشفّعه الله ، فلا فرق بين أن يعبّر بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو التشفع أو التوجه ، فكلٌّ من هذه الأشياء واقعة منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما ذكره في " تحقيق النصرة " ،و " مصباح الظلام " قبل خلقه وبعده ، في حياته وبعد مماته في مدة البرزخ ، وبعد البعث ، و في عرصات يوم القيامة.} اهـ. ثم ذكر الأدلة على ذلك.

وقال أيضا في هذا الكتاب في بحث معجزاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم : { وأما القسم الثاني وهو ما وقع بعد وفاته صلى الله عليه و سلم ، فكثير جداً إذ في كل حين يقع لخواصّ أمته من خوارق العادات بسببه- مما يدل على تعظيم قَدْره الشريف- ما لا يُحصى من الاستغاثة به ، وغير ذلك مما يأتي في المقصد الأخير في أثناء الكلام على زيارة قبره الشريف المنير صلى الله عليه وعلى آله وسلم}. انتهى.

وقال أيضاً في بحث الزيارة بعد ذكر الأدلة على حسن التوسل به صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتشفع : {فعليك أيها الطالب إدراكَ السعادة والمؤمّل لحسن الحال في عالم الغيب والشهادة ، بالتعلق بأذيال عطفه وكرمه ، والتطفّل على موائد نعمه ، والتوسل بجاهه الشريف ، والتشفّع بقدْره المنيف ، فهو الوسيلة إلى نيل المعالي ، واقتناص المرام ، والمفزع يوم الجزع ، و اطّلعْ لكافة الرسل الكرام ، واجْعَلَْهُ أمامك فيما نزل بك من النوازل ، وإمامك فيما تحاول من القُرَب والمنازل ، فإنك تظفر من المراد بأقصاه ، وتدرك رضا من أحاط بكل شيء علما وأحصاه }.اهـ
وقال قبل هذه العبارة بقليل :{ وأما التوسل به صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عرصات يوم القيامة ، فمما قام عليه الإجماع وتواترت به الأخبار في حديث الشفاعة} . انتهى .

وقال الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه " المستقصى في فضائل المسجد الأقصى " في بحث زيارة الخليل عليه السلام ما نصه :{ ويقول الزائر : يا نبي الله ، إني متوجه بك إلى ربي في حوائجي لتُقضى لي ... إلى أن قال : ثم يتوجه إلى الله تعالى بجميع أنبيائه ، خصوصاً بسيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم} . انتهى.

وقال العلامة السمهودي في " خلاصة الوفاء " : { وإذا جاء التوسل بالأعمال كما صحّ في حديث الغار ، وهي مخلوقة ، فالسؤال به صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَوْلى [لأنه أفضل المخلوقات] ، ولا فرق بين التعبير بالتوسل أو الاستغاثة أو التشفع أو التوجه به صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحاجة ، وقد يكون ذلك بمعنى طلب أن يدعو الله في قبره- كما كان في حال الدنيا- ، إذ هو غير ممتنع مع علمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسؤال من سأله ...}اهـ .ثم ذكر حديث عام الرمادة وغيره ، إلى آخر كلامه .

وقال في الزيارة من هذا الكتاب :

{ ثم يقول : يا رسول الله ، إن الله قال فيما أنزل عليك : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك .. } الآية ، وقد وفدتُ عليك زائراً ، وبك مستجيراً سائلاً منك أن تشفع لي إلى ربي ، فأنت شفيع المذنبين ، الوجيه المقبول عند رب العالمين ، وها أنا معترف بذنبي ، متوسل بك إلى ربي ، أتشفّع بك إليه لعله يرحم عبده وإن أساء ، ويعفو عما جنى ، ويعصمه ما بقي في الدنيا ببركاتك وشفاعتك ، يا خاتم النبيين وشفيع المذنبين .[/align]

[align=center]أنت الشفيع وآمالي معلّقة
وقد رجوتك يا ذا الفضل تشفع لي
هذا نزيلك أضحى لا ملاذ له
إلا جنابك يا سُؤْلي ويا أملي }.انتهى[/align]


[align=justify]وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه " الجوهر المنظّم في زيارة القبر المعظّم " :
{و من خرافات ابن تيمية التي لم يقلها عالم قبله و صار بها بين أهل الاسلام مثلة: أنه أنكر الاستغاثة والتوسل به صلى الله عليه و سلم..[إلى أن قال:].. و الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه و سلم، [و لكن] المستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى ، والنبي صلى الله عليه و سلم واسطة بينه و بين المستغيث ، فهو سبحانه مستغاث به و الغوث و الإغاثة منه خلقا و إيجادا
أي حقيقةً- ،و النبي مستغاثٌ و الغوثُ منه سببا و كسبا فهو مستغاثٌ به مجازا .فالتوجّه و الاستغاثة به صلى الله عليه و سلم و بغيره ليس لهما معنى في قلوب المسلمين غير ذلك، ولا يقصد بهما أحدٌ منهم سواه، فمن لم ينشرح صدرُه لذلك فلْيبْكِ على نفسه! نسأل الله العافية! . وبالجملة ، إطلاق لفظ "استغاثة" لمن يحصل منه غوثٌ- ولو نبياًأو ولياً كسباً- أمرٌ معلوم لا شك فيه لغة وشرعاً ،فإذا قلتَ:يا الله أغثني، فالمقصود به الإسناد الحقيقي باعتبار الخلق و الايجاد، و إذا قلتَ: أغثني يا رسول الله، فالمقصود به الاسناد المجازي باعتبار الكسب و التوسط والتسبب بالشفاعة و الدعاء ..}. إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

و في "تحفة المحتاج بشرح المنهاج" لابن حجر الهيثمي و حاشيته للشيخ الطبلاوي المصري :{ ( وَ ) يُسَنُّ بَلْ قِيلَ يَجِبُ وَانْتَصَرَ لَهُ، وَالْمُنَازِعُ فِي طَلَبِهَا ضَالٌّ مُضِلٌّ [وهو السفر من أجل] ( زِيَارَةُ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) لِكُلِّ أَحَدٍ كَمَا بَيَّنْتُ ذَلِكَ مَعَ أَدِلَّتِهَا وَآدَابِهَا وَجَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي كِتَابٍ حَافِلٍ لَمْ أُسْبَقْ إلَى مِثْلِهِ سَمَّيْته "الْجَوْهَرَ الْمُنَظَّمَ فِي زِيَارَةِ الْقَبْرِ الْمُكَرَّمِ" }.. قال في الحاشية شارحا لهذا: { قَوْلُهُ : ( وَالْمُنَازِعُ ... ) ، وَهُوَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ الْفِرْقَةِ الضَّالَّةِ الْمَشْهُورَةِ فِي زَمَنِنَا بِالْوَهَّابِيَّةِ خَذَلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى . ( قَوْلُهُ : أَنَّهَا لِلْحَجِيجِ آكَدُ ) وَحُكْمُ الْمُعْتَمِرِ كَالْحَاجِّ فِي تَأَكُّدِهَا لَهُ [أي الزيارة]، وَتُسَنُّ زِيَارَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَزِيَارَةُ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَيُسَنُّ لِمَنْ قَصَدَ الْمَدِينَةَ الشَّرِيفَةَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكْثِرَ فِي طَرِيقِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَزِيدَ فِيهِمَا إذَا أَبْصَرَ أَشْجَارَهَا مَثَلًا وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَهُ بِهَذِهِ الزِّيَارَةِ وَيَتَقَبَّلَهَا مِنْهُ[...] ثُمَّ يَأْتِي الْقَبْرَ الشَّرِيفَ فَيَسْتَقْبِلُ رَأْسَهُ وَيَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ، [...] إلى أن قال: ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَوْقِفِهِ الْأَوَّلِ قُبَالَةَ وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَسَّلُ بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلِيَسْتَشْفِعَ بِهِ إلَى رَبِّهِ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ شَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.} .اهـ

ومثله في " حاشية الإيضاح " لابن حجر أيضا ، و في " مناسكه " .

وقال الإمام العلامة الشهاب الرملي ما نصه :{ الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين جائزة، وللأنبياء والمرسلين والعلماء والصالحين إغاثةٌ بعد موتهم ، لأن معجزة الأنبياء وكرامة الأولياء لا تنقطع بموتهم}.اهـ

وقال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" : { .. ثُمَّ يَأْتِي الْقَبْرَ الشَّرِيفَ فَيَسْتَقْبِلُ رَأْسَهُ ، وَيَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ، [..] إلى أن قال:{.. ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَوْقِفِهِ الْأَوَّلِ قُبَالَةَ وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَسَّلُ بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَيَسْتَشْفِعَ بِهِ إلَى رَبِّهِ لِمَا رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا اقْتَرَفَ آدَم الْخَطِيئَةَ قَالَ : يَا رَبِّ أَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَا غَفَرْتَ لِي ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَكَيْفَ عَرَفْت مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ؟ قَالَ : يَا رَبِّ لِأَنَّك لَمَّا خَلَقْتَنِي وَنَفَخْت فِي مِنْ رُوحِك رَفَعْتُ رَأْسِي ، فَرَأَيْتُ فِي قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، فَعَرَفْت أَنَّك لَمْ تُضِفْ إلَى نَفْسِك إلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَيْك ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: صَدَقْت يَا آدَم إنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ ، إذْ سَأَلْتَنِي بِهِ فَقَدْ غَفَرْت لَك ، وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُك } قَالَ الْحَاكِمُ :هَذَا صَحِيحُ الْإِسْنَادِ . وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَقُولُهُ الزَّائِرُ بَعْدَ ذَلِكَ :[/align]

[align=center]يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ
رُوحِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ
أَنْتَ الْحَبِيبُ الَّذِي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْحِسَابِ إذَا مَا زَلَّتْ الْقَدَمُ [/align]


[align=justify]ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ شَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .} اهـ

و كذلك ذكر الرملي الصغير في " المناسك " ما ذكر النووي رحمهما الله تعالى فيما تقدم من طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتوسل به ، وأنه من المستحبات .

وقال الشوبري محشي[أي صاحب الحاشية على] " شرح المنهاج " في جواب سؤال رُفع له :{ويجوز التوسل إلى الله تعالى والاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والعلماء والصالحين بعد موتهم ، وأما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يصلّون ، كما وردت الأخبار، و الأولياء لا تنقطع كراماتهم بموتهم و قد وردت في ذلك آثار و وقائع } . انتهى.

وقال الإمام المناوي رحمه الله في " مناسكه " التي على المذاهب الأربعة : {ويتوسل بالمصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم لنفسه وليستشفع به إلى ربه } . انتهى .

و قال شيخ الإسلام خاتمة الحُفّاظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في قصائده المسمّاة "النيرات السبع":[/align]

[align=center]يا سيد الرُسْل الذي منهاجُه حاوٍ كمالَ الفضل و التهذيب

إلى أن قال:

فاشفعْ لمادحك الذي بك يتّقي أهوالَ يوم الدين و التعذيبِ
قد صحّ أنّ ضناه زادَ و ذنبَه أصلُ السّقام و أنت خير طبيبِ

و قال في أخرى:

يا سيدي يا رسول الله قد شرُفت قصائدي بمديحٍ فيك قد رُصِفا
ببابِ جُودك عبدٌ مذنب كَلِفٌ يا أحسنَ الناس وجْها مُشرقا وَ قفا
بكم توسّل يرجو العفوَ عن زلل مِن خَوْفه جَفْنُه الهامي لقد ذَرَفا

و قال في أخرى:

اصدحْ بمدح المصطفى و اصْدَعْ به قلبَ الحسود و لا تخفْ تفنيدا
و اقْصدْ له و اسْألْ به تُعْطَ المُنى و تعيشُ مهْما عشْت فيه سعيدا
خير الأنام مَن ْ لجا لِجَنابِه لا بِدْعَ أن أضحى به مسعودا

و قال في أخرى:

نبيَّ الله يا خير البرايا بجاهك أتّقي فصْلَ القضاء
و أرجو يا كريمُ العفوَ عمّا جنتهُ يداي يا رب الحباء
فقلْ: يا أحمدَ بن عليٍّ اذهبْ إلى دار النعيم بلا شقاء
عليك سلام رب الناس يتلو صلاة في الصبح و في المساء

و قال في أخرى:

يا سيّد الرُّسْل الذي فاق الورى بأْسًا سَمَا كلَّ الوجود وجودا
هَـذِي ضراعةُ مذنبٍ متمسّك بوَلائكم منْ يومِ كان وليدا
يرجو بك المَحْيا السعيدَ و بعْثه بعد الممات إلى النعيم شهيدا
صلّى عليك و سلّم اللهُ الذي أحيا بك الإيمان و التوحيدا[/align]


[align=justify]و ذكر تلميذه الإمام الحافظ السخاوي في "وجيز الكلام في الذيل على دول الاسلام" قصيدة قرأها أمام سيد الأولين و الآخرين صلى الله عليه و سلم و منها:[/align]

[align=center]أكرّرُ تسليمي مدى الدهر إنه شفاءٌ لِقلْبي مِن أليم فِراقِهِ
و أُهْدي إلى القبر الشريف تحيةً على قَدْر حالي في عظيم اشتياقِهِ
عسى تبلغُ الآمالُ منه بنظرةٍ إليَّ فإن يفعلْ بفوْزٍ أُلاقِهِ[/align]


[align=justify]وللإمام العلامة المجدد للقرن السابع تقي الدين بن دقيق العيد في شعره قطعةٌ من هذا أيضا.

و للإمام الحافظ السيوطي شيء منه في شعره ، و كثيرٌ غيرهم من الأئمة يذكرون التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه و سلم في نثرهم و شعرهم .

وأما الفقهاء المالكية ، فقد نقل القاضي عياض في " الشفا بتعريف حقوق المصطفى " عن إمام دار الهجرة مالك رحمه الله تعالى أنه قال لأبي جعفر المنصور لما سأله عن استقبال النبي صلى الله عليه و سلم حين الدعاء ، فقال الإمام مالك له : و لِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم من قبلك ؟ ، بل استقبِلْه واستشفعْ به فيشفّعْك الله .} انتهى . و قد مرّ الكلام عليه. ومعنى " استشفعْ به " أي : اطْلُبْ منه الشفاعة.

وقال الإمام ابن الحاج المالكي في كتابه " المدخل " : { وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فيأتي إليهم الزائر فيتوسل إلى الله تعالى في قضاء مآربه ، ومغفرة ذنوبه ، ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم ، ويجزم بالإجابة ببركتهم ، ويقوّي حسن ظنه في ذلك وأنهم باب الله المفتوح . وجُرّبت سنّة الله بقضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم ، ومَن عجز عن الوصول إليهم ، فلْيرسلْ بالسلام عليهم ، ويذكر ما يحتاجه إليه من حوائجه وغَفْر ذنوبه وسَتْر عيوبه ، إلى غير ذلك ، فإنهم السادة الكرام ، والكرام لا يردّون من سألهم ولا من توسل بهم ، ولا من لجأ إليهم . هذا في زيارة سائر الأنبياء والمرسلين .

وأما في زيارة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم سيد الأولين والآخرين ، فيزيد على ذلك أضعافاً مضاعفة ، لأنه الشافع المشفّع الذي لا تردّ شفاعته ، ولا يخيب مَن قصده ولا مَن نزل بساحته ، ولا من استعانه أو استغاث به ، لما شهدت به المعاينة والآثار، و حديث "الصحيحين " : { إنما مَثَلي ومَثَلكم ، كمَثَل الفراش تقعون في النار وأنا آخذ بحُجُزكم} دليل على استحباب التوسل والاستغاثة به ، فإن الدليل عامّ ولا يختص بزمان دون زمان ، كما لا يختص بشخص دون شخص}.اهـ

وقال العلامة أبو عبد الله ابن النعمان المالكي رحمه الله تعالى في كتابه " مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام " : { إن الإستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، واقعٌ في كل حال قبل خلقه وبعد خلقه ، في مدة حياته وبعد موته ، في البرزخ ، وفي عرصات القيامة }اهـ .

وذكر جملة صالحة من قصص المستغيثين بالنبي صلى الله عليه و سلم ، وهو كتاب نفيس ، عشرون كراساً فيما رأيته .

وذكر أبو داود المالكي في كتابه " البيان والانتصار " شيئاً كثيراً مما وقع للعلماء والصلحاء من الشدائد فالتجأوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحصل لهم الفرج بإذن الله تعالى .

وقال الشيخ المحدّث ابن أبي جمرة المالكي - مختصِر البخاري وشارحُه -: { لما دخلتُ مسجد المدينة ، ما جلست إلا الجلوس للصلاة ، وما زلت واقفاً هناك حتى رحل الركْب ، ولم أخرج للبقيع ولا غيره ، ولم أر غيره صلى الله عليه وعلى آله وسلم . وقد خطر لي أن أخرج إلى البقيع ، فقلتُ: إلى أين أذهب ! هذا باب الله المفتوح للسائلين والطالبين ، والمنكسرين والمضطرين ، والفقراء والمساكين ، وليس ثَمّ من يُقصد مثله!} .اهـ .و هو يعني النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .

و قال الإمام الكبير - صاحب المتن الشهير- عبد الواحد بن عاشر رحمه الله في "المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" :[/align]

[align=center]و سِرْ لقبر المصطفى بأدبِ و نيّةٍ تُجَبْ لكل مطلبِ
سلِّمْ عليه سِرْ إلى الصدّيقِ ثم إلى عمر تفوز بالتوفيقِ
و اعلمْ بأنّ ذا المقامَ يُستجابْ فيه الدُّعا فلا تملَّ منْ طِلابْ
و سَلْ شفاعةً و ختْمًا حَسَنَا و عجّلْ الأوبةَ إذ نلتَ المنا[/align]


[align=justify]قال شارحه العلامة الشيخ محمد بن أحمد الفاسي المالكي (المعروف بـ"مياره") في "الدر الثمين و المورد المعين": { إذا خرج الحاج من مكة يُستحب له الخروج من "كدا"، و لْتكن نيته و عزيمته و كليته: زيارته صلى الله عليه و سلم و زيارة مسجده و ما يتعلق بذلك ، لا يشرك معه غيره لأنه صلى الله عليه و سلم متبوع لا تابع فهو رأس الأمر المطلوب و المقصود الأعظم، فإن زيارته صلى الله عليه و سلم سنّة مجمع عليها و فضيلة مرغّب فيها ..[إلى أن قال]: ثم يتقدّم إلى القبر الشريف و لا يلتصق به، و يستقبله و هو متّصف بكثرة الذل و المسكنة و الانكسار و الفقر و الاضطرار، و يشعر نفسه أنه بين يديه صلى الله عليه و سلم إذ لا فرق بين موته و حياته صلى الله عليه و سلم، فيبدأ بالسلام عليه ..[إلى أن قال]: و لْيحذرْ الزائر من الطواف بالقبر الشريف على ساكنه أفضل الصلاة والسلام و التمسح بالبناء و إلقاء المناديل و الثياب عليه، ومِن تقرّب العامة بأكل التمر في الروضة و إلقاء شعورهم في القناديل ، و هذا كله من المنكرات . و يستحب أن يزور البقيع و القبور المشهورة فيه و مسجد قباء و يتوضأ من بئر أريس و يشرب منها ، و هذا في حق من كثرت إقامته ، و إلا فالمُقام عنده صلى الله عليه و سلم أحسن ليغتنم مشاهدته صلى الله عليه و سلم، و قد قال ابن أبي جمرة:[و نقل الكلام السابق الذي نقلناه عن الإمام ].ثم قال: اللهم إنا نتوسل إليك بقدْره عندك و جاهه لديك أن تغفر لنا ...} .اهـ

و انظر إلى أمر العلامة ابن عاشر للزائر بطلب و سؤال الشفاعة و الخاتمة الحسنة من النبي صلى الله عليه و سلم تعلم أن ذلك الطلب مما أجمع على استحبابه السادة المالكية إذ أن متن ابن عاشر هو عمدة المالكية المتأخرين باتفاق بينهم .

وقال العلامة الفيشي المالكي رحمه الله تعالى في " شرح العزية " نقلاً عن الشيخ خليل صاحب "المختصر " المشهور في مذهب مالك رحمه الله تعالى في " منسكه " عن القابسي ، وأبي بكر بن عبد الرحمن وغيرهما. قال : { تأتي القبر وأنت متّصف بكثرة الذل والسكينة والانكسار والفقر والفاقة والاضطرار والخضوع ، وتُشعر نفسك أنك واقف بين يديه عليه وآله الصلاة والسلام ، إذ لا فرق بين حياته ومماته ، وقد ورد أن أعمال أمّته تُعرض عليه غدوة وعشية ، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم . ولْيتوسل به صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويسأل الله بجاهه ، إذ هو محطّ جبال الأوزار وأثقال الذنوب ، لأن بركة شفاعته وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب . ومن اعتقد خلاف ذلك ، فهو المحروم الذي أطمس الله بصيرته ، وأضل سريرته . ألم ير قوله تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } ؟!.}. انتهى .

فهؤلاء الذين نقلنا عنهم من أئمة المذاهب الأربعة هم عمدة أهل كل مذهب وغيرهم مثلهم، ولكنا لو أردنا أن ننقل كل من ذكر ، لضاق النطاق ونفدت الأوراق . وهؤلاء هم فقهاء المذاهب و نَقَلة الدين ، والناس عنهم أخذوا أقوال أئمتهم من المذاهب جيلا بعد جيل.

وقد نقل الذهبي عن ابن تيمية في " مختصر منهاج الاعتدال " :

{ إن جميع أرباب الفنون يجوز عليهم الخطأ إلا الفقهاء و المحدّثون؛ فلا هؤلاء يجوز عليهم الاتفاق على مسألة باطلة ، ولا يجوز على هؤلاء التصديق بكذب ولا التكذيب بصدق }انتهى .

وهؤلاء الخوارج جعلوا رأسَ مالهم الطعنُ في نَقَلة الدين ،وسوء الظن بهم وعدم الرضا بأقوالهم المخالفة لهواهم . فإن كانوا عندك مرضيّين أيها المعترض ، فبها ونعْمَت ، و إلا فأنت مدّعٍ لك رتبةً لا تُسلّم لك، أو تموت فيقال لك : من أين أخذت علمك هذا ؟ فإن كان عن الله ورسوله فما أظن هؤلاء جميعا عدلوا عنه ، وإن حظيتَ به و جهلوه وأنتَ علمْته ، فقد قدّمنا لك من الآيات والأحاديث والآثار ما هو ردّ عليك ، إذ يكفي ورود ذلك حجة عليك ودلالة ظاهرة للأمة المحمدية .

بل كيف يكون هؤلاء جميعا لم يعلموا الشرك من التوحيد، و علمَتْه شرذمةٌ من الخوارج ؟! و النبي صلى الله عليه و سلم يقول:

(إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم) ؟؟!!

وعن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وأمتي تزيد عليهم فرقة، كلهم في النار إلا السواد الأعظم) .

و يقول صلى الله عليه و سلم: (من أراد منكم بحبوحة الجنة فلْيلزمْ الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ). أخرجه الترمذي و قال: حديث حسن صحيح.

و روى الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في "تلبيس إبليس" عن أسامة بن شريك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يد الله على الجماعة فإذا شذّ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الذئب الشاة من الغنم). قال: وبالإسناد قال الإمام أحمد: ثنا روح ثنا سعيد عن قتادة قال ثنا العلاء بن زياد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشّعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد) .

قال: وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة؛ فعليكم بالجماعة فإن الله عز وجل لم يجمع أمتي إلا على الهدى) .
وعن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يد الله مع الجماعة والشيطان مع من خالف يركض ) .

قال: وروى أحمد و الطبراني و الحاكم في المستدرك من حديث معاوية بن أبي سفيان أنه قام فقال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: ( ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبيه).اهـ

و قال الإمام الحافظ المناوي رحمه الله في "فيض القدير بشرح الجامع الصغير":{ (إن أمتي) أي أمة الإجابة (لن) وفي لفظ: لا (تجتمع على ضلالة) ومن ثَم[كان] إجماعهم حجة (فإذا رأيتم اختلافا) في أمر الدين كالعقائد، والدنيا كالتنازع في شأن الإمامة العظمى أو نحو ذلك، (فعليكم بالسواد الأعظم) من أهل الإسلام أي: الْزموا متابعة جماهير المسلمين فهو الحق الواجب والفرض الثابت الذي لا يجوز خلافه، فمن خالف مات ميتة جاهلية (رواه ابن ماجة عن أنس) بن مالك ورواه عنه أيضا الدارقطني في الأفراد وابن أبي عاصم و اللالكائي. قال ابن حجر رحمه الله تعالى: حديث تفرّد به معاذ بن رفاعة عن أبي خلف ومعاذ صدوق فيه لين وشيخه ضعيف.} .اهـ لكن يشهد له الأحاديث الكثيرة التي نقلناها قبل.

قلت: هذا مع قطع النظر عن إجماعهم ، فإن ادّعيتَ أن الإجماع [ معك ] ، فأْتنا بدليل واحد وقول واحد ممن خالف ما ذكرتُه من هؤلاء الأمة و أولئك الأئمة .

فإن كنت تقول : ( إن ابن تيمية خالف الإجماع) .

فيقال لك : قد تقدّم أن الشيخ ابن تيمية لم يخالف في طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، بل قال في فتياه : ( وأما أن يطلب من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما هو اللائق بمنصبه ، فالمنكر لهذا إما كافر أو ضال) اهـ .

وقد قرّر هو أن الشفاعة هي من منصبه اللائق به . فطلبُها وطلب غيرها- مما يقدر عليها المخلوق- جائز ، وإنما حرّم ما لا يقدر عليه إلا الله ، كغفران الذنوب وإنزال الغيث ، وإنبات النبات ، وهذا مع كونه لا يقصده مسلم ، فقد قال الشيخ أن الذي يقصده يُعذر إذا كان مجتهداً أو مقلّداً أو جاهلاً أو له شبهة أو غير ذلك مما قيّده الشيخ في جميع كتبه .

ولو فرضنا أن ابن تيمية قال كما تقول من أنه شرك مخرج عن الملة ، فلا يلزم الناسَ الأخذُ بقوله وتركُ أقوال جميع العلماء من الأمة ، وترك الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة وأقوال السلف .

فقد قال هو وتلميذه ابن القيم : { مَن ألزم الناسَ بمذهب معين أو بقول عالم واحد و ترْك غيره : يُستتاب ،فإن تاب و إلاّ قُتل }.اهـ.

وقال ابن تيمية في " الفرقان " : {والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف : منهم مَن إذا اعتقد بشخص أنه ولي لله ، وافقه في كل ما يظن أنه حدّث به قلبه عن ربه ، وسلّم له جميع ما يفعله ، ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع ، أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهداً مخطئاً . وخيرُ الأمور أوسطُها: وهو أن لا يجعله معصوماً و لا مأثوماً إذا كان مجتهدا مخطئاً . وإذا خالف الشخصُ قولَ بعض الفقهاء و وافق قولَ آخرين ، لم يكن لأحد أن يُلزمه قولَ المخالف أويقول : هو خالف الشرع } . انتهى .

هذا ، و المشتكى إلى الله تعالى من زمان صار أهلُه يروج عليهم قولُ مثل هذا الأعرابي الذي لا يعرف البناء من الإعراب ، ولا يميز بين القشر واللباب ،و أعظم من ذلك أنه يدّعي الاجتهاد ، وهو لم يتقن ألفاظ كتاب الله فضلاً عن معانيه ، ولا يفهم عبارة الفقهاء الأكابر ، ولم يطّلع على أقوال الأئمة الأفاخر، بل قصارى أمره جمودُه على كلمات لبعض أسلافه كان مخموراً بحجى جهله وسُلافه ، فكلامه عنده كوحي الكتاب ، وحديثه هو الحديث المستطاب ، فاتفق له أتباع رعاع يتّبعون مثل هذا الناعق ، فكل ما يقوله يعتقدون أنه للحق مطابق ، مع أن كلامه لو حققتَه كهذيان ذي حمى مطبقة ، وأتباعه مثله فوافق شن طبقة.

وليس بعجب تكفيرُ هذا الجاهل لصاحب " البردة " ، فإنه كفّر الصحابة الكرام وحَكَم عليهم بالردّة ، فعياذاً بك اللهم من هذا الداء العضال ، وضراعة إليك من سبيل هؤلاء الطغام الجهّال!!.

اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك ، وحب عمل يقربنا إلى حبك ، ولا تكلْنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك يا نعم المجيب ، وارحمنا بوسيلة حبيبك الأعظم ورسولك المفخّم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، واجعلنا من المتبعين لسنته العاملين بسننه ، وأخسئْ الحاطّين من قَدْره بسفاسفهم، الحابطين أعمالهم بالغضّ من مقامه الشريف بوساوسهم ، فلا تُظهر –اللهم- لهم ظاهرة ، وخيّبهم إن لم يرجعوا عن ذلك في الدنيا والآخرة .

فقُطع دابرُ القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وصحبه الغر الميامين ، واختم لنا بحسن الختام ، آمين آمين آمين ..[/align]
[/font]

[font=Tahoma][align=center]من كتاب [ نحت حديد الباطل ةبرده بأدلة الحق الذابة عن صاحب البردة ( 82 - 103 ) ]للإمام داود بن سليمان النقشبندي البغدادي [/align][/font]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 4 مشاركة ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 1 زائر


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط