الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا معنا اليوم الحكمة المائتان وأربع وعشرون من الحكم العطائية لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى :
( الحقائق ترد في حال التجلي مجملة , وبعد الوعي يكون البيان فإذا قرأناه فابتع قرآنه ثم أن علينا بيانه )
الحقائق هي ما يرد على قلب العارف من تجليات العلوم والحكم والمعارف , فتارة تكون علوماً , وتارة تكون حكماً ومعارفاً وتارة تكون كشفاً بغيب كان أو سيكون . وحكمة ذلك الروح إذا تخلصت وتصفت من غبش الحس كان غالب ما يتجلى فيها حقاً , ثم إن هذه الحقائق قد رد في حال التجلي مجملة فيقيدها الإنسان كما تجلب ثم يتفكر فيها فيتبين معناها فبعد الوعي وهو الحفظ يكون البيان . ثم استدل بآية الوحي لأن الوحي على أربعة أقسام : وحي وإلهام , ووحي إعلام , ووحي أحكام فشاركت الأولياء الأنبياء فى ثلاثة : وحى إلهام , ووحى منام , ووحى إعلام وهو الفهم عن الله وانفردت الأنبياء بوحى الأحكام فالأولياء لهم وحي الإلهام ويكون أولاًً مجملاً في القلب , فإذا قرأه , وأظهره تتبعه وبينه , قال تعالى : { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } كما قرأناه عليك { ثم إن علينا بيانه } .
حتى تفهمه وتبينه للناس , كان عليه الصلاة والسلام يعالج من التنزيل شدة مخافة أن ينساه , فلما نزلت الآية كان يستمع لجبريل , فإذا فرغ قرأه كما أنزل فالوحي الذي هو وحي أحكام , مصون فلا ينسى , بخلاف وحي الإلهام فلذلك ينبغي للولي ان يقيد تلك الواردات قريباً , فإن الحكمة في حال التجلي تكون كالجبل , فإذا غفل عنها ترجع كالجمل فإذا غفل عنها بعد رجعت كالثور, ثم كالكبش , ثم كالبيضة ثم تغيب , ولذلك كان شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه لا تفارقه الدواة والقلم والقرطاس ليقيد المواهب , وكذلك كان أشياخنا وكانوا يأمورن بذلك .
وجل هذا الشرح الذي نقيده إنما هو مواهب , لأني أكتب الحكمة ولا أدري ما اكتب فأقف مفتقراً إلى ما عند الله , فإذا ورد شيء من عند الله كتبته أولاً , ثم أنظر في كتب القوم إن وجدت نقلاً غريباً موافقاً لما أفاض الله على كتبته , وإلا تركته واكتفيت بما أتى الله , وكثيراً ما نكتب الكلام ثم نطالعه ونستغرب أني كتبته أو صدر مني , وذلك كله ببركة صحبة أشياخنا فجزاهم الله عنا أحسن جزائه .
ولقد كنت في حال الرياضة والمجاهدة إذا أردت أن نتكلم في التفسير أو غيره , نشرع في الكلام ثم نغيب , فكنت أحس بالكلام يخرج منى من غير اختيار كأنه السحاب , فتصدر مني علوم وحكم , فإذا سكت لم يبق منها إلا القليل . ولقد حضر معنا ذات يوم رجل صالح كبير السن فسمع ذلك , فقال والله لقد حضرت مجالس العلماء والصالحين والله ما رأيت مثل هذه الجواهر واليواقيت التي تخرج من سيدي فلان , فبقيت كذلك مدة غير أني لم نكن نقيد شيئاً , ثم انتقل ذلك إلى حال التقييد فصار القلم عندي أفصح من عبارة اللسان وكان بعض العارفين يقول لأصحابه : إذا كنت اتكلم عليكم أكون أستفيد من نفسي ما يجزيه الله على لساني كما تستفيدون أنتم منى , وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه :
ولا تك ممن طيشته طروسه ... بحيث استخفت عقله واستفزت فثم وراء النقل علم يدق عن ... مدارك غايات العقول السليمة تلقيته منى وعنى أخذته ..... ونفسى كانت من عطائى ممدتى
وكان الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه إذا استغرق فى الكلام وفاضت عليه العلوم يقول : هلا رجل يقيد عنا هذه الأسرار هلموا الى رجل صيره الله بحر العلوم أو كلاماً نحوه , وكان يحضر مجلسه أكابر وقته كعز الدين بن عبد السلام وابن الحاجب وابن عصفور وابن دقيق العيد وعبد العظيم المنذرى , وكان عز الدين بن عبد السلام إذا سمع كلامه يقول قريب عهد بالله .
وكان الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد يقول : والله ما رأيت أعرف بالله من أبى الحسن الشاذلى رضى الله عنه . وكان فى كل سنة يطلع الى القاهرة ويجتمع عليه مشايخ القاهرة ومصر ومن بتلك الناحية , فيفيض عليهم بالعلوم ومواهب الربانية والأسرار اللدنية , فلما مات رضى الله عنه واستخلفه أبو العباس المرسى جعل يطلع الى القاهرة كما يقعل شيخه , فاجتمع إليه جماعة من أكابرمصر وعلمائها وقالوا ياشيخ كان الشيخ أبو الحسن إذا جاء الى هذا الموضع يجىء عندنا ونتبرك بقدومه وما نسمع منه من مواهب الله تعالى , وأنت قد أقامك الله مقامه , فنحب أن نتبرك بكلامه , فقال لهم : إذا كان صبيحة غد نجىء إليكم إن شاء الله , فلما كان صبيحة غد أمر أصحابه بالمسير الى مصر وأمر بحمل رسالة القشيرى رضى الله عنه . قال ابن الصباغ فحملتها ووصلنا الى جامع عمرو بن العاص , فوجدناه قد امتلأ بأكابر أهل مصر وعلمائها , فقال لى منتقد ومعتقد , قال : فجلسنا بشرقى الجامع , فقال أخرج رسالة القشيرى فأخرجتها فقال اقرأ , فقلت وما أقرأ ؟ قال : الذى يظهر لك , ففتحنا الكتاب فوجدنا باب الفراسة , فقرأت أول الباب فلما فرغت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لى : اغلق الكتاب , ثم قال : الفراسة تنقسم الى أربعة أقسام : فراسة المؤمنين وفراسة الموقنين , وفراسة الأولياء , وفراسة الصديقين فأما المؤمنين فحالها كذا ومددها من كذا ثم تكلم بكلام عظيم ثم انتقل الى فراسة الموقنين فتكلم بطبقه أعلى . ثم قال : وأما فراسة الاولياء فمددها من كذا وحالها من كذا , وتكلم فى ذلك بكلام موهوب غير مكسوب أذهل عقول الحاضرين واستغرق بذلك إلى آذان الظهر والناس يبكون ورأيت العرق ينحدر من جبينه حتى ينحدر على لحيته وكانت لحيته كبيره اهـ .
يتبع إن شاء الله تعالى .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
|